الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

وبه يظهر أن هذا الحمل ليس بشي‌ء ، لرجوعه من حيث التقييد الى الحمل الأخر.

وأما الحمل الثاني وهو أن يستأجرها بالثلث والربع ويؤجرها بالنصف ، فهو أيضا وان دل عليه الخبران المذكوران ، الا أن ما ذكرنا من الاشكال المتقدم جار فيهما ، فإن الإجارة لا تصح بالحصة كما عرفت ، وان حمل الخبران على المزارعة فإنها هي التي يصح فيها ذلك ، خرجا عن موضع البحث ، فلا يصح الاستدلال بهما كما لا يخفى.

وأما الحمل الثالث ـ فقد عرفت الكلام فيه ، وأما الحمل الرابع ففيه انه لا يظهر بهذا فرق بين الأرض وبين تلك الثلاثة المعدودة في تلك الأخبار ، فان كلا منهما متى عمل به كذلك صح ، أرضا كان أو بيتا أو غيرهما ، وأنت قد عرفت دلالة الأخبار الثلاثة على أنه ليست الأرض مثل تلك الثلاثة في حد الزائد ، وجواز المؤاجرة به ، بمعنى أنه يحل في الأرض دون تلك الثلاثة.

وما ذكره في هذا الحمل مشترك في الجميع ، فأي معنى في الجمع به بين تلك الاخبار ، وبما أوضحناه من بطلان هذه المحامل من كل من الطرفين تبقى المسئلة في قالب الإشكال ، فإن الروايات الثلاثة المتقدمة ظاهرة في جواز الزيادة في مؤاجرة الأرض وان لم يحدث شيئا ، وما عداها من الاخبار الكثيرة ظاهر في المنع ، وبعضها كما عرفت صريح في التحريم ، ولا يحضرني الان مذهب العامة في هذه المسئلة ، فلعل أخبار أحد الطرفين انما خرج مخرج التقية والله العالم.

الثاني من الشروط الثلاثة المتقدم ذكرها تعيين المدة ، وهو المشهور في كلام الأصحاب ، وفيه وجه بالعدم ، قال المحقق في الشرائع : ولو اقتصر على تعيين المزروع من غير ذكر المدة فوجهان : أحدهما يصح ، لان لكل زرع أمدا فيبني على العادة كالقراض ، والأخر يبطل كالإجارة وهو أشبه.

قال في المسالك : الأقوى اشتراط تعيين المدة على الوجه السابق ، لان مقتضى العقد اللازم ضبط أجله ، والفرق بينها وبين القراض واضح ، لانه عقد

٣٠١

جائز لا فائدة في ضبط أجل له لو شرط ، لجواز الرجوع قبله ، بخلاف المزارعة فكان إلحاقها بالإجارة أشبه.

أقول : لم أظفر في الاخبار بما يدل صريحا على اشتراط المدة في هذه المعاملة ، واليه يشير هنا الاستناد في الاشتراط إلى الإلحاق بالإجارة ، وفي العدم إلى الإلحاق بالقراض ، ولو كان هنا دليل من الاخبار لم يحتج إلى الإلحاق بالإجارة ، ومجرد كونه عقدا لازما كما ذكره في المسالك مع تسليمه لا يستلزم المدة ، لما علم من أن الغرض المترتب عليه حصول الحصة المشترطة ، فيناط حينئذ بالأمد المتعارف لذلك الزرع ، وحصول الحصة المشترطة ، وأى مانع من ذلك فاشتراط ما زاد على ذلك يحتاج الى دليل واضح.

وربما استدل على اعتبار الأجل فيها بما رواه في الكافي عن يعقوب بن شعيب (١) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث قال : «وسألته عن الرجل يعطى الرجل الأرض فيقول : اعمرها وهي لك ثلاث سنين أو خمس سنين أو ما شاء الله؟ قال لا بأس».

ورواه الصدوق والشيخ نحوه وعن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا بأس بقبالة الأرض من أهلها عشرين سنة ، وأقل من ذلك أو أكثر ، فيعمرها ويؤدى ما خرج عليها ، ولا يدخل العلوج في شي‌ء من القبالة ، فإنه لا يحل».

وبهذا الاسناد (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام)؟ قال : ان القبالة أن يأتي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ج ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٩ ح ٢٥ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٩ ح ٣ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢١٩ ح ٣.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩٧ ح ٢٠ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٤ ح ٢.

٣٠٢

الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة أو أقل من ذلك ، أو أكثر فيعمرها ويؤدى ما خرج عليها فلا بأس به».

وما رواه الشيخ عن الحلبي (١) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «أنه قال : في القبالة أن يأتي الرجل الأرض الخربة فيتقبلها من أهلها عشرين سنة ، فان كانت عامرة فيها علوج فلا يحل له قبالتها ، الا أن يتقبل أرضها فيستأجرها من أهلها ولا يدخل العلوج في شي‌ء من القبالة فإنه لا يحل».

وعن أبى الربيع الشامي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبلها فأي وجوه القبالة أحل؟ قال : يتقبل الأرض من أربابها بشي‌ء معلوم الى سنين مسماة فيعمر ويؤدى الخراج ، قال : فان كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالة الأرض ، فإن ذلك لا يحل».

وأنت خبير بما فيه ، فان غاية ما يدل عليه ما عدا الخبر الأخير هو أن مالك الأرض يعطى أرضه شخصا آخر ليعمرها ، ويأكل حاصلها ويؤدى خراجها كما هو صريح الخبر الأول ، وان عبر عن ذلك في غيره بلفظ القبالة ، ولهذا قال المحدث الأمين الأسترآبادي في حاشية له على صحيحة الحلبي الثانية : وقوله فيها «ان القبالة أن يأتي الأرض» الى آخره كأنه إشارة إلى قبالة متعارفة في بلد الراوي أو بلده وليس المقصود حصر القبالة في ذلك انتهى.

وقال شيخنا المجلسي في حواشيه على صحيحة الحلبي الأولى : كأنه استأجره لإعمال معلومة ، من تنقية القنوات وكرى الأنهار ، والعمل في الأرض وغيرها ، وجعل وجه الإجارة منفعة الأرض أو أجرة مثلها ، ولما كان بعقد القبالة لا تضر الجهالة ، ويمكن حمله على الجعالة.

وقال والده في حاشية له على صحيحة يعقوب بن شعيب : يمكن حمله على الجعالة في العمل بحاصل الملك ، فلا تضر الجهالة أو على أن يؤجره الأرض

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠١ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٣ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠١ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٤ ح ٥.

٣٠٣

بشي‌ء ثم يستأجره للعمل بذلك الشي‌ء والأول أظهر انتهى.

وأنت خبير بأنه حيث كان ظاهر الاخبار المذكورة ما قدمناه من إعطاء الأرض تلك المدة ليعمرها ، ويأكل حاصلها وهذا بحسب ظاهره غير منطبق على شي‌ء من المعاملات الموجبة لحل أكل حاصل الأرض المذكورة ، فتارة حملوه على الجعالة من حيث عدم صحة حمله على الإجارة ، لجهالة الأجرة وعدم معلوميتها ، ومنهم من جعلها معاملة متعارفة كانت في ذلك الزمان ونحو ذلك من هذه التكلفات التي ذكروها ، وكيف كان فهي من الدلالة على ما ادعاه هذا القائل بمعزل.

وأما الأخير من الاخبار المذكورة فإنه ظاهر في الإجارة فلا اشكال فيه ، وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا في هذه المسئلة على اشتراط الأجل في المزارعة ، ولا موجبا لفسادها بدونه ، الا مجرد ظاهر اتفاقهم على الحكم المذكور ، وما علل به في المسالك قد عرفت ما فيه ، على أن في دعوى كونها عقدا على الوجه الذي تقدم نقله عنه في صدر الكتاب مناقشة ظاهرة قد تقدمت الإشارة إليها.

وغاية ما يفهم من الاخبار وقوع التراضي من الطرفين على المزارعة بالنصف أو الثلث أو نحوهما على حسب ما يتفقان عليه من البذر والعوامل والخراج عليهما معا ، أو على أحدهما ، أو بالتفريق ، والأرض من أيهما كان.

فمن الاخبار في هذا المقام رواية إبراهيم الكرخي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أشارك العلج ، فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر ، ويكون على العلج القيام والسقي والعمل في الزرع حتى يصير حنطة وشعيرا ويكون القسمة فيأخذ السلطان حقه ، ويبقى ما بقي على أن للعلج منه الثلث ، ولي الباقي ، قال : لا بأس بذلك ، قلت : فلي عليه أن يرد على مما أخرجت الأرض البذر ويقسم الباقي قال : انما شاركته على ان البذر من عندك ، وعليه السقي والقيام.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ ح ١.

٣٠٤

وعن يعقوب بن شعيب (١) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له الأرض» الخبر.

وقد تقدم في الفائدة الثالثة من الفوائد المذكورة في صدر الكتاب وعن يعقوب بن شعيب (٢) في خبر قال : وسألته عن المزارعة؟ قال : النفقة منك والأرض لصاحبها ، فما أخرج الله تعالى منها قسم على الشرط ، وكذلك أعطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أهل خيبر حين أتوه ، فأعطاهم إياها على أن يعمروها ، ولهم النصف.

وعن سماعة (٣) في الموثق «قال سألته عن مزارعة المسلم المشرك فيكون من عند المسلم البذر والبقر ، وتكون الأرض والماء والخراج والعمل على العلج؟ قال : لا بأس». الى غير ذلك من الاخبار التي من هذا القبيل ، وليست المزارعة فيها إلا عبارة عن تراضيهما على هذه الوجوه بأي نحو اتفق ، ولا عقد كما يدعونه ولا صيغة خاصة بالكلية ، وليس في شي‌ء منها على كثرتها إشارة إلى أجل ولا مدة ، بل المناط فيها ادراك الحاصل كما يشير اليه قوله في رواية الكرخي (٤) «حتى يصير حنطة وشعيرا». بقي الكلام في أنه لو ذكرت المدة في العقد مع كونها كما عرفت لا دليل عليها ، فهل يترتب عليها أثر أم تكون لغوا من القول؟ ووجوده كعدمه ، الظاهر الثاني والله العالم.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور :

الأول ـ هل يعتبر في المدة المذكورة امتدادها إلى إدراك الزراعة علما أو ظنا غالبا ، فلو اقتصر على ما دون ذلك بطل العقد أم لا؟ ظاهر إطلاق جملة من عبارات الأصحاب الثاني ، ومنهم المحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد وصريح جملة منهم الأول ، واستشكل في القواعد.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٢ ح ١.

٣٠٥

قال في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المشار إليها : مقتضى إطلاق العبارة عدم الفرق مع ضبط المدة بين كونها وافية بإدراك الزرع فيها وقاصرة ومحتملة وهو أحد الوجهين في المسئلة ، والأقوى اعتبار مدة يدرك فيها الزرع علما أو ظنا غالبا ، فلو اقتصر على ما دون ذلك بطل العقد ، لان الغرض في المزارعة هو الحصة من النماء ، فإذا لم يتحقق في المدة غالبا بقي العقد بلا عوض ، وانه خلاف وضع المزارعة ، والاعتذار بإمكان التراضي بعد ذلك على بقائه لا ينفع لأن التراضي غير لازم ، فلا يعلق عليه شرط لازم ، انتهى.

أقول : وقد عرفت أنه لا دليل على اشتراط المدة في المزارعة ، وانما الظاهر من الاخبار التي قدمناها ونحوها هو اناطة ذلك بإدراك الحاصل ، بمعنى أن يتراضيا على المعاملة المذكورة بالشروط المقررة بينهما ، والعمل فيها حتى يدرك الحاصل ويقتسماه ، فان الغرض من المزارعة انما هو تحصيل الحاصل منها لكل من المالك والمزارع ، فيأخذ المزارع حصته ويأخذ المالك حصته الباقي ، وحينئذ فلو فرضنا قيام دليل على اشتراط الأجل فيها ، فإنه لا معنى لجعله أقل من وقت ادراك الحاصل ، فالقول به أو الاستشكال من أجله لا أعرف له وجها بالكلية.

الثاني ـ انهم قالوا : بناء على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط المدة في العقد المذكور لو مضت المدة والزرع باق بأن ذكر مدة يظن الإدراك فيها فلم يحصل ، فهل لمالك الأرض إزالته أو ليس له ذلك ، أو له الإزالة مع ضمان الأرش أقوال ثلاثة ، قالوا : وجه الأول انقضاء المدة التي يستحق عليه فيها التبقية ، والأصل تسلط المالك على ملكه كيف شاء ، ولان الزارع بعد المدة لا حق له ، فيكون إبقاءه بدون اذن المالك ظلما.

ووجه الثاني أنه قد حصل في الأرض بحق فلم يكن للمالك قلعه : ولان للزرع أمدا معينا غير دائم الثبات ، فإذا اتفق الخلل لا يسقط حق الزارع كما لو استأجر مدة للزرع فانقضت قبل إدراكه.

٣٠٦

ووجه الثالث الجمع بين الحقين ، وأورد عليه بأنه يشكل فيما لو كان التأخير بتقصير الزارع.

وبالأول صرح المحقق في الشرائع ، واختاره في المسالك ، قال : وما اختاره المصنف أقوى ، لزوال حق الزارع بانقضاء المدة ، فلا أرش له ولا استحقاق وهو جيد لو ثبت دليل على اعتبار المدة.

ويا لله والعجب أنه إذا كان الغرض من المزارعة انما هو الحاصل من الزرع والانتفاع به ، فلو فرضنا أن مالك الأرض هو صاحب القسط الأعظم من الحاصل وصاحب الحصة انما هو العلج مثلا وانقضت المدة قبل الإدراك كما فرضوه فكيف يقدم المالك على ضرر نفسه بقلع الزرع ، ويتصور النزاع بينه وبين العلج في ذلك ، ويترتب عليه هذا الخلاف ، واين هذا من ذلك الغرض الباعث على المزارعة وخسران ما صرفوه من بذر وعوامل وعمل ونحو ذلك ، وهل يتصور في عقل عاقل القدوم على مثل ذلك والحال كما عرفت.

وكيف كان فان البناء على هذه التعليلات التي ذكروها لكل من هذه الأقوال بمحل من الاشكال ، لما عرفت في غير مقام مما تقدم ، والمسئلة غير خالية من الاشكال والالتباس ، خصوصا لما عرفت من عدم البناء فيها على أساس.

نعم لو جعل هذا الخلاف بعد إدراك الغلة لكان أقرب الى الصواب وعلى تقديره فالأظهر هو القول الأول من الأقوال المتقدمة ، قيل : وعلى تقدير القول الأول فينبغي أولا تكليف المزارع بالإزالة ، والا فرفع الأمر إلى الحاكم ثم بعد تعذره مباشرة المالك بنفسه.

واختار في القواعد أن للمالك الإزالة مع الأرش ، أو التبقية بأجرة للمالك ، وحينئذ يصير هذا قولا رابعا في المسئلة وأورد عليه بأنه يلزم منه إيجاب عوض في ذمة المزارع بدون رضاه ، وذلك غير معقول.

ثم انه على تقدير جواز القلع بأرش أولا به ، فالمقلوع مشترك بينهما بناء

٣٠٧

على أن الزارع يملك الحصة ، وان لم ينعقد الحب ، خلافا لابن زهرة.

ثم انه على تقدير ثبوت الأرش بقلعه قال في المسالك : طريق تحصيله أن يقوم الزرع قائما بالأجرة إلى أو ان حصاده ومقلوعا ، ثم انه على تقدير القول الأول لو اتفقا معا على التبقية ، جاز بعوض كان أم لا ، الا أنه متى كان بعوض افتقر في لزومه الى تعيين مدة زائدة.

وعلى تقدير القول الثاني وهو القول بوجوب إبقائه فهل تجب الأجرة أم لا؟ قولان : أولهما للعلامة في التذكرة ، وثانيهما له أيضا في القواعد ، قالوا : وعلى تقدير اتفاقهما على البقاء بأجرة تكون إجارة الأرض حقيقة ، لانقضاء مدة المزارعة ، فلا بد من ضبط المدة كالإجارة ، فإن جاز الإطلاق في المزارعة فلو لم يضبطاها أو اتفقا على الإبقاء بالأجرة ، وأطلقا وجب أجرة المثل.

الثالث ـ قالوا : إذا عقد المزارعة إلى مدة معينة فشرط في متن العقد تأخير الزرع الى أن يدرك أو الى مدة أخرى أن بقي الزرع بعد المدة المشترطة غير مدرك بطل العقد ، لانه يعود إلى الجهالة في المدة ، لأن المدة في الحقيقة تصير هي المجموع مما وقع عليه الشرط ، ومما عين أولا في متن العقد ، والذي عين في متن العقد ، وان كان مدة مضبوطة الا أن المذكورة في الشرط مجهولة وشرطها في متن العقد من جملة العوض ، فإذا تضمن جهالة بطل العقد ، كما لو كان جميع المدة مجهولا.

ويحتمل على هذا القول صحة الشرط المذكورة ، وان تضمن الجهالة ، لأن المدة المذكورة في العقد مضبوطة ، وما تضمنه الشرط انما هو من قبيل التابع ، ذكر احتياطا ، لاحتمال الحاجة ، وجهالة التابع غير مضر ، كما تقدم نظيره في الضمائم الا أن المشهور بينهم هناك هو البطلان متى كان المقصود بالبيع الجميع ، وانما يصح عندهم فيما إذا كان المقصود المعلوم ، وجعل المجهول تابعا وقد بينا ضعفه ثمة ومن هنا رجح في المسالك القول الأول بناء على ما اختاره هناك من القول المشهور.

٣٠٨

الرابع ـ من فروع اعتبار المدة في هذا العقد ما لو ترك العامل المزارعة حتى انقضت المدة ، فإنه تلزمه أجرة المثل ، كما لو استأجرها مدة معلومة ، فإنه تلزمه الأجرة ، لأن منفعتها قد صارت مستحقة له ، حيث لا يتمكن المالك من استيفاءها ، وقد فوتها عليه فتلزمه الأجرة لذلك.

والأكثر على أنه لا فرق في لزوم أجرة المثل للمزارع بين تركه العمل والانتفاع بالأرض اختيارا أو غيره ، وقيل : بالفرق بين الأمرين ، لعدم التقصير على تقدير الثاني ، ومقتضى العقد لزوم الحصة خاصة ، ولم يحصل منه تقصير في عدم حصولها يوجب الانتقال الى ما لا يقتضيه العقد ، وهو أجرة المثل الذي ذكروه.

أقول : ويأتي على ما ذكرناه : من عدم دليل على اعتبار التأجيل في هذه المعاملة وعدم اعتبار المدة فيها وان ذكرها في حكم العدم هو عدم لزوم شي‌ء للعامل ، لأصالة براءة الذمة ، والفرق بينهما وبين الإجارة ظاهر ، لأنه بالإجارة ينتقل المنفعة إلى المستأجر ، وترتفع يد المالك عن الأرض بالكلية تلك المدة ، فتلزمه الأجرة بلا اشكال بالتقريب المتقدم.

وعلى ذلك دلت جملة من الاخبار الاتية ـ إنشاء الله تعالى ـ في كتاب الإجارة بخلاف ما نحن فيه ، فان للمالك متى لم يزرع فيها العامل فسخ العقد ودفعها الى غيره ، ومنفعة الأرض لم تنتقل له بالعقد ، وانما هي مشتركة مع العمل فيها ، وللعامل الحصة المقررة ، فإذا أخل بالعمل فيها كما لو شرط عليه فللمالك فسخه ، بل الظاهر انفساخ العقد بنفسه والله العالم.

الثالث ـ من الشروط الثلاثة المشار إليها آنفا أن يكون الأرض مما يمكن الانتفاع بها في الزرع ، بأن تكون من أرض الزراعة ، وأن يكون لها ماء معتاد تسقى به من نهر أو بئر أو عين أو نحوها ، ومن ذلك الأرض في بلد تسقيها الغيوث والأمطار عادة ، وكثير منهم حصر والماء في الافراد السابقة. وذكروا الغيوث في مسئلة على حدة ، والحق أن الجميع من باب واحد ، لان المراد أن يكون

٣٠٩

الماء ماء يعتاد سقيها به ، أعم من أن يكون من الله تعالى أو من جهة العمال فيها ، بحفر السواقي والأنهار ، والضابط إمكان الانتفاع بها في الزراعة ، فلو لم يكن كذلك بطلت المزارعة.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ قال العلامة في القواعد بعد ذكر الشرط المذكور : ولو زارعها أو آجرها له ولا ماء لها تخير العامل مع الجهالة لا مع العلم ، لكن في الأجرة يثبت المسمى ، وهو ظاهر في صحة المزارعة مع علمه بعدم الماء ، وأما مع الجهل فيتخير بين الرضا بالعقد وفسخه ، ومرجعه الى اللزوم مع العلم وعدم اللزوم مع الجهل ، دون البطلان في شي‌ء من الموضعين ، ففي صورة العلم لا خيار له حيث أقدم على ذلك ، بخلاف صورة الجهل ، فيكون له الخيار ، ويأتي بناء على ما قدمناه من البطلان في الموضعين لفوات الشرط الذي هو إمكان الانتفاع ، وهو الأقوى بالنظر الى قواعدهم.

وربما حمل كلام العلامة هنا على أنه متى أمكن الانتفاع بتلك الأرض في غير المزارعة التي تحتاج الى الماء ، فإنه يجوز أن يزرع ما لا يحتاج الى الماء فعدم الماء لا يستلزم عدم إمكان الانتفاع ، مع القول باشتراط إمكان الانتفاع بغير الزرع إذا تعذر ، ولا يخفى تعسفه ، فان الظاهر من الاخبار وكلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أن المزارعة المبحوث عنه في هذا المقام انما هي عبارة عن زرع ما يتوقف على الماء من حنطة وشعير وأرز ونحوها من الحبوب ، على انا لا نعرف هنا زرعا يقوم بغير الماء بالكلية.

وربما حمل كلامه أيضا على أن المراد لا ماء لها غالبا ، لا أنه لا ماء لها أصلا ويؤيده تصريحه بذلك في التذكرة حيث نقل عنه فيها التردد فيما لو كان لها ماء نادرا هل يصح المزارعة عليها أم لا ، ومنشأ التردد من عدم التمكن من إيقاع ما وقع عليه العقد بالنظر الى الغالب ، ومن إمكان الزرع ولو نادرا ، وهو وان كان أقل تعسفا من الأول ، الا أن الظاهر ضعف المبنى عليه ، وان تردد

٣١٠

فيه في التذكرة ، لما عرفت في غير مقام مما تقدم أن الأحكام المودعة في الاخبار انما تحمل على الافراد الشائعة الغالبة المتكثرة ، دون الشاذة النادرة.

وما ذكره العلامة في القواعد من هذا الحكم المتقدم نقله عنه قد سبقه اليه المحقق في الشرائع أيضا مع أنهما معا قد ذكرا قبل هذا الكلام الشرط المشار اليه ، وقد عرفت أن قضية الشرط المذكور بطلان المزارعة مع عدمه.

وبالجملة فإن كلامهما هنا مع ما عرفت لا يخلو من الإشكال.

الثاني ـ حيث قد عرفت أن إمكان الانتفاع شرط في صحة المزارعة ، وأنها بدونه تكون باطلة ، فلو وجد الشرط المذكور ثم تجدد انقطاع الماء فمقتضى القواعد بطلان العقد ، لفوات الشرط في المدة الباقية ، فإن الظاهر شرطيته ابتداء واستدامة ليترتب عليه الغرض المطلوب من المزارعة ، الا أن ظاهر المحقق والعلامة الصحة ، وان للزارع الخيار ، حيث أطلقا القول بعدم البطلان ، وانما حكما بتسلطه على الفسخ.

قيل : وكأنهما نظرا إلى صحة العقد ابتداء ، فتستصحب والضرر اللاحق للمزارع بانقطاع الماء ينجبر بتسلطه على الفسخ ، والظاهر ضعفه ، لعدم حجية الاستصحاب على هذا الوجه كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب في صدر جلد كتاب الطهارة (١).

الثالث ـ ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من البحث والخلاف مخصوص بالمزارعة ، وكذا الإجارة بشرط الزراعة ، لاشتراكهما في المعنى ، أما لو استأجرها مطلقا ولم يشترط الزراعة فإنهم قد صرحوا هنا بصحة الإجارة ، لإمكان الانتفاع بها بغير الزراعة ، فليس له الفسخ حينئذ ، والظاهر أن هذا الحكم مخصوص بالجاهل بكون الأرض لا ماء لها ، والا فإنه متى علم أنه لا ماء لها ، واستأجرها مع علمه بذلك فإنه لا معنى لتخييره ، بل اما أن يكون العقد باطلا ، أو صحيحا ، والوجه حينئذ

__________________

(١) ج ١ ص ٥٢.

٣١١

في صحة الإجارة مع الجهل ، وعدم جواز الفسخ متى علم أنه استأجرها مطلقا لا بشرط الزراعة ، ووجوه الانتفاعات لا تختص بالزراعة بخصوصها ، لأنها نوع من أنواع الانتفاعات ، فإنه يمكن الانتفاع بها في وضع المتاع ، وكونها مراحا ومسرحا وغير ذلك ، كذا ذكروه.

ويشكل بأنه متى كانت الأرض إنما أعدت للزراعة ، وأن الغالب عليها انما هو الاستعمال والانتفاع بها في الزرع لا في غيره ، وقد عرفت في غير موضع مما تقدم أن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الغالبة المتكررة ، فالحكم بالصحة واللزوم والحال هذه مشكل ، فيحتمل تسلطه على الفسخ حملا على المعتاد والغالب.

الرابع ـ قد عرفت من مذهبي المحقق والعلامة أن للمزارع والمستأجر الفسخ في المسألتين المتقدمتين ، قالوا : فلو فسخ فعليه في المزارعة أجرة ما سلف ، وعليه المسمى في الإجارة ، والوجه فيه أن كلا من المزارع والمستأجر فسخ العقد باختياره ، فبطل العقد بفعله ، ولم تحصل الحصة المعينة في المزارعة ، والأرض لا بد لها من أجرة ، فعليه في المزارعة أجرة ما مضى من الزمان قبل الفسخ ، والمسمى بالنسبة إلى الإجارة ، ويشكل بأن الفسخ انما وقع بسبب انقطاع الماء الذي هو شرط لوجود الحصة ، وصحة الإجارة.

وبالجملة فإن إثبات ما ذكروه يحتاج الى دليل ، والا فالأصل عدمه ، هذا ان فسخ ، وان لم يفسخ فان حصل شي‌ء فهو لهما ، والا لم يكن لأحدهما على الأخر شي‌ء ، وهو ظاهر والله العالم.

المقام الثاني في الأحكام

وفيه مسائل المسألة الأولى ـ قالوا : لا يخلو الحال في المزارعة من أمرين أحدهما ـ أن يطلق المزارعة على المشهور فله أن يزرع ما شاء ، والظاهر ان

٣١٢

المراد بالإطلاق هنا ما قابل التعيين ، سواء كان ما يدل على العموم وضعا من الألفاظ الموضوعة له ، أو ما يدل على الفرد المنتشر وضعا ، وعلى التقديرين فإنه ظاهر في جواز أن تزرع ما شاء سواء أضر بالأرض أم لا.

أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلان تجويز فرد منتشر تجويز لكل واحد بدلا من الأخر ، ولهذا أن الأمر بالكلي أمر بواحد أى واحد كان من أفراد الماهية ، بمعنى براءة الذمة والإتيان بالمأمور به بأي فرد فعل ، والا لزم الإجمال والتكليف بالمحال.

واستشكل بعض محققي متأخري المتأخرين في صحة هذا العقد ، قال : لاشتماله على الغرر ، كما يمنع بعتك هذا بما تريد ، أو بأي شي‌ء تعطى ، ثم قال : وقد يفرق بالنص والإجماع ، وبأنه لا شك في جواز زراعة ما هو الأضر للمالك ، فله أن يعطيه غيره أن يفعل ذلك له بأجرة وغيرها انتهى.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قوى وجوب التعيين لتفاوت ضرر الأرض ، باختلاف جنس المزروعات فيلزم بتركه الغرر ، وهو الذي أشار إليه المحقق المذكور في صدر كلامه.

لكنه قد أورد عليه أيضا بأنه منظور فيه بدخول المالك وقدومه على أضر الأنواع من حيث دخوله في الإطلاق المستلزم لذلك ، فلا غرر حينئذ ، وكيف كان فالأقرب القول المشهور.

ثم ان ما ذكروه من العبارة التي صدرنا بها الكلام لا يخلو من حزازة ، فإن الظاهر أن ضمير يزرع في قوله فله أن يزرع ، ما شاء راجع الى العامل الزارع وهو انما يتم لو كان البذر من عنده ، أما لو كان من عند المالك فالتخيير يرجع اليه ، لا الى الزارع.

وثانيهما أن تعين العين المراد زرعها تعينا نوعيا كالحنطة ، أو شخصيا كهذه الحنطة ، أو صنفيا كالحنطة الفلانية ، سواء كان ما عدل إليه أضر مما عين

٣١٣

في العقد ، أو أقل ضررا ، أو مساويا ، فإن قضية التعيين والاشتراط هو عدم جواز التعدي لما عين مطلقا ، ولو خالف فمقتضى كلام جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الأردبيلي هو أن للمالك أجرة المثل.

قال المحقق المذكور : لا شك في انه يلزمه أجرة المثل على تقدير التعدي ، وينفسخ العقد ، الا أن تكون مدة الانتفاع باقية ، لانه قد ضيع منفعة الأرض بغير اذنه ، فيلزمه عوضها ، وهو أجرة المثل كما في غيرهما انتهى.

ومقتضى كلام المحقق والعلامة التخيير بمعنى أنه يتخير مالك الأرض في فسخ العقد وأخذ أجرة المثل وعدمه ، فيأخذ المسمى والأرش أيضا ان نقصت الأرض وحصل لها ضرر بذلك.

قال العلامة في القواعد ويتعين بالتعيين ، فان زرع الأضر فللمالك الخيار بين المسمى مع الأرش ، وبين أجرة المثل ، ولو زرع الأخف تخير المالك بين الحصة مجانا ، وأجرة المثل.

وقال المحقق في الشرائع : فإن عين الزرع لم يجز التعدي ، ولو زرع الأضر والحال هذه كان لمالكها أجرة المثل ان شاء ، والنماء مع الأرش ، ولو كان أقل ضررا جاز انتهى.

وفيه نظر من وجهين الأول ان مقتضى التعيين والعمل بالشرط عدم جواز العدول عنه ، وأنه ينفسخ العقد بالتعدي كما تقدم في كلام المحقق الأردبيلي ، فكيف يتم ما ذكره في الشرائع من أنه لو كان أقل ضررا جاز ، وما ربما يقال في الجواب ـ والاعتذار عن المنافاة في كلامه ـ بأن الرضا بزرع الأضر على الأرض يقتضي الرضا بالأقل ضررا بطريق أولى ـ مردود بأن غرض المالك ربما كان الانتفاع بالزرع ، لا مصلحة الأرض ، فإنه المقصود الذاتي ، ومصلحة الأرض انما هي تابعة ولا شك أن الأغراض تختلف في أنواع المزروع ، فربما كان غرضه في الأشد ضررا من حيث يزيد نفعه ، أو الحاجة اليه ، وان تضررت الأرض به.

٣١٤

ثم انه على تقدير ما ذكره من الجواز يلزم من ذلك أخذ المالك الحصة من ذلك المزروع مجانا ، وهو باطل ، لانه غير داخل في العقد ، فكيف يستحق فيه المالك شيئا ، وعين البذر مال العامل وملكه ، ولا دليل على انتقال شي‌ء منه عن ملكه إلا بالمزارعة عليه ودخوله في عقد المزارعة ، والمفروض أنه ليس كذلك.

وبه يظهر أيضا ما في عبارة القواعد هنا من التخيير بين أخذ الحصة مجانا وبين أجرة المثل ، فإنه لا وجه لأخذ الحصة مجانا كما عرفت ، بل الحق انما هو أجرة المثل وانفساخ العقد.

الثاني ـ أن ما ذكراه من التخيير في صورة زرع الأضر بين المسمى مع الأرش ، وبين أجرة المثل ، منظور فيه بأن الحصة المسماة إنما وقعت في عقد المزارعة بالنسبة الى ذلك المعين في العقد ، والذي زرعه العامل لم يتناوله العقد ، ولا الاذن ، فكيف يستحق منه المالك حصته ، فإذا زارعه على حنطة بأن يكون للمالك نصف حاصلها ، وبذر العامل شعيرا فبأي وجه يستحق المالك حصته من ذلك الشعير ، وهو غير داخل في العقد ، ومقتضى ملك العامل له أن يكون نماؤه وما يخرج منه لمالكه خاصة ، وبه يظهر أن الأقوى انما هو أجرة المثل في الموضعين المذكورين ، هذا بالنسبة إلى المزارعة.

أما في الإجارة فإنه لو استأجر منه الأرض لزراعة نوع معين ، مثلا فان زرع الأضر فالكلام عندهم كما تقدم في المزارعة ، وان زرع الأخف ضررا فإنهم صرحوا هنا بالفرق بين العقدين في ذلك ، وأنه يصح في الأول ، دون الثاني.

قال في المسالك في تعليل ذلك : فان عدول المستأجر إلى زرع ما هو أخف ضررا منه متجه ، لان الغرض من الإجارة للمالك تحصيل الأجرة ، وهي حاصلة على التقديرين ، وتبقى معه زيادة تخفيف الضرر عن أرضه ، وأولى منه لو ترك

٣١٥

الزرع طول المدة ، فإنه لا اعتراض للمالك عليه ، حيث لا يتوجه ضرر على الأرض ، لحصول مطلوبه ، وهو الأجرة ، بخلاف المزارعة ، فإن مطلوبه الحصة من الزرع ، فلا يدل على الرضا بغيره ، ولا يتناوله بوجه ، انتهى.

وأما المساوي فاحتمالان.

الثانية : قيل : لو استأجر للزراعة أرضا لا ينكشف عنها الماء لم يجز ، لعدم الانتفاع ، ولو رضى بذلك المستأجر جاز ، ولو قيل : بالمنع لجهالة الأرض كان حسنا ، وان كان قليلا يمكن معه بعض الزرع جاز ، ولو كان الماء ينكشف عنها تدريجا لم يصح لجهالة وقت الانتفاع.

أقول : وتفصيل هذا الإجمال ـ بما يتضح به المراد من هذا المقال ـ هو أن يقال : إذا كانت الأرض مغمورة بالماء بالكلية في جميع الأوقات ، فإنه لا ريب في بطلان إجارتها ، لعدم إمكان الانتفاع بها فيما استوجرت له ، وهو ظاهر ، وأما لو كان الماء ينكشف عنها وقت الانتفاع عادة ، فإن كانت مغمورة به حال العقد ، فإنهم صرحوا بالصحة إذا كان قد رأى الأرض أولا قبل استيلاء الماء عليها ، وأن الماء المجلل لها صافيا لا يمنع من رؤيتها ، هذا إذا كان الاستيجار للزراعة.

أما لو كان الاستيجار مطلقا أو لغير الزراعة مما يمكن استيفاؤه منها ، فإن الإجارة صحيحة ، وينتفع بها فيما شاء ، ولو باصطياد السمك ان كان ، ومع تعذر الانتفاع بها بوجه من الوجوه ، فالظاهر هو البطلان ، لان شرط الصحة إمكان الانتفاع ، ولو رضى المستأجر بالإجارة مع فرض الانغمار بالماء جاز ، وهو مما لا اشكال فيه ، الا أنه لا بد من تقدم رؤية الأرض قبل الانغمار بالماء ، أو إمكان الرؤية حال وجود الماء لصفائه ، كما تقدم ذكره.

وبه يظهر أن تعليل المنع من الصحة في هذه الصورة بجهالة الأرض لا يصح على إطلاقه.

٣١٦

نعم لو فرض الجهل بها على كل حال اتجه المنع ، وبالجملة فإنه إذا رضي المستأجر بذلك مع العلم بالأرض بأحد الوجوه جاز ، وأما مع الجهل مطلقا وعدم العلم بوجه فلا ، ولو كان الماء قليلا يمكن معه بعض الزروع جاز ، لإمكان الانتفاع في الجملة ، سواء أمكن الزرع في جميع الأرض على النقصان ، أو أمكن في بعض دون بعض ، مع إلحاق ما لا يمكن فيه من الأرض بالجميع.

وكيف كان فلا بد من علم المستأجر بذلك والا تسلط على الفسخ للعيب ، وأما لو كان الماء ينكشف عن الأرض تدريجا فإن الإجارة لا تصح ، لجهالة وقت الانتفاع ، والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين رضاء المستأجر بذلك وعدمه ، لان رضاه بعقد غير صحيح لا يوجب صحته ، لما عرفت من أن العقد باطل من حيث جهالة وقت الزرع.

وفي القواعد قيد المنع بعدم رضا المستأجر ، فلو رضى بذلك صح ، ورد بأن هذا انما يتم في العيب ، فإنه يتخير بالرضاء والخيار ، لا في الجهالة التي هو موجبة لبطلان العقد ، ولو قيل : ـ بإلحاق هذا الفرد بما ذكر نظرا إلى إمكان الانتفاع في الجملة ـ قلنا : لا ريب ان ما يوجبه انقطاع الماء تدريجا نقصان المنفعة ، واللازم من ذلك تخير المستأجر مع الجهل ، لا الحكم بعدم الصحة ، مع أنه قد حكم بعدم الصحة مع عدم الرضا.

وبالجملة فما نقلناه أولا أوفق بالقواعد المقررة بينهم.

قال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك : وهذه الأحكام آتية في المزارعة على الأرض المذكورة ، فكان ذكرها في بابها أولى من استطراد الحكم الأجنبي ، أو التعميم ، وربما قيل : في هاتين المسألتين أن المنع مخصوص بالإجارة ، أما المزارعة عليها فجائزة ، والفرق ابتناء الإجارة على المعلومية ، لانضباط الأجرة ، فلا بد من انضباط المنفعة في مقابلتها ، بخلاف المزارعة ، فإن النفقة التي هي الحصة لما كانت مجهولة ، تسومح في مقابلتها من العوض بما لا يتسامح في غيرها ، ولا بأس به ، انتهى.

٣١٧

الثالثة ـ قالوا : إذا اشترط في استيجار الأرض الغرس فيها والزرع معا فلا بد من تعيين مقدار كل واحد منهما.

أقول : والوجه في لزوم الشرط المذكور عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء به ، والوجه في وجوب التعيين في الزرع والغرس هو اشتراط العلم ، وعدم الجهل الموجب للغرر لما علم من تفاوت ضرريهما ، فان الغرس أضر على الأرض وافراد المغروسات ، وكذا افراد المزروعات متفاوتة في الضرر شدة وضعفا ، وحينئذ فلا بد من تعيين أفرادها ، وكذا لو استأجر لغرسين أو لزرعين ، فإن الحنطة أضر من الشعير ، والمغروسات تختلف باعتبار سريان العروق في الأرض ، ونحو ذلك فلا بد من التعيين لما عرفت ، قيل : واشتراطه في الإجارة ظاهر ، كما إذا آجره الأرض للزراعة والغرس.

وأما في المزارعة فبان يكون شرط في المزارعة غرس أشجار له ، كما نقل عن المحقق الثاني ، وربما قيل : بأنه كما يجب التعيين في المتفاوتين في الضرر ، يحتمل أيضا في غير المتفاوتين ، خصوصا في المزارعة لما تقدم ، من أن الغرض المطلوب منها الحصة ، ومعلوم تفاوتها بتفاوت أفراد المزروعات.

قال في المسالك : ويمكن حمل الإطلاق على جعل كل واحد منهما في نصف الأرض ، لأن المتبادر من لفظ الشريك التسوية كما في نظائره ، ولان مقتضى الإجارة لهما أن يكون المنفعة المطلوبة من كل واحد منهما نصف فضل الجميع بحسب التنصيف لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح ، وهذا هو الأقوى وحينئذ فلا يجب التعيين ، انتهى.

وما ادعاه من أن المتبادر من لفظ الشريك التسوية ، وأن اشتهر ذلك في كلام غيره أيضا ، الا أنه قد تقدم ضعفه ، بل هو أعم مما ذكروه ، وقوله أيضا فلا يجب التعيين ، بناء على الفرض الذي ذكره محل اشكال ، مع تفاوت أفراد المغروسات والمزروعات ، فإنه مع فرض نصف تلك الأرض للغرس ، والنصف الأخر للزرع

٣١٨

متى كانت أفراد كل منهما متفاوتة في الضرر ، جرى في هذا النصف ما جرى في أصل الأرض المفروضة في الكلام السابق مما اقتضى وجوب التعيين ، ثم انه قال : هذا كله إذا استأجرها مطلقا ، أما لو استأجرها لينتفع بها بما شاء منها ـ صح وتخير ، لان ذلك تعميم في الافراد ، وقدوم على الرضا بالأضر ، ويبقى الكلام في تعيين النوع الواحد من الزرع والغرس وإطلاقه ما تقدم ، انتهى.

الرابعة ـ اختلف الأصحاب فيما إذا استأجر أرضا مدة معينة ليغرس فيها ما يبقى بعد المدة غالبا ، فقيل : انه يجب على المالك إبقاؤه ، يعنى بالأجرة ، أو إزالته مع الأرش.

وقيل : انه له إزالته كما لو غرس بعد المدة ، وبالأول صرح المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد ، ونقل عن فخر المحققين ، وبالثاني صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.

وعلل الأول من القولين المذكورين بأن المستأجر غير معتد بالزرع ، لانه مالك المنفعة تلك المدة ، فله الزرع ، وذلك يوجب على المالك إبقاءه ، لمفهوم قوله (١) (عليه‌السلام) «ليس لعرق ظالم حق». قال فخر المحققين : أجمع الأصوليون على دلالة المفهوم من هذا الحديث ، وان اختلفوا في دلالة مفهوم الوصف في غيره ، لكن لما لم يكن له في الأرض حق بعد المدة ، لانقضاء الإجارة ، جمع بين الحقين بإبقائه ، بالأجرة أو قلعه بالأرش.

وعلل القول الثاني بأن المستأجر دخل على أن لا حق بعد المدة ، لأن منفعة المدة هي المبذولة في مقابلة العوض ، فلا يستحق بالإجارة شيئا آخر ، فللموجر قلعه مجانا كما لو غرس المستأجر بعد المدة.

قال في المسالك : هذا هو الأقوى ، ثم قال في الجواب عما تقدم : وعدم تعدى المستأجر بزعمه في المدة لا يوجب له حقا بعدها مع اسناد التقصير اليه ، والمفهوم ضعيف ، والإجماع على العمل هنا لم يثبت ، وعلى تقدير صحته نمنع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣١١ باب ٣ ح ١.

٣١٩

من كونه بعد المدة غير ظالم ، لانه واضع عرقه في أرض لا حق له فيها ، وإلزام المالك بأخذ الأجرة على الإبقاء ، أو تكليفه بالأرش على خلاف الأصل ، فلا يصار اليه بمثل ذلك انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي بعد نقل القول الأول عن المحقق ، والثاني عن الشهيد الثاني «وهو غير بعيد» يعنى القول الثاني ثم نقل كلام فخر المحققين ودعواه الإجماع على العمل بمفهوم الوصف في الخبر المذكور ما لفظه ، وكان هذا الحديث ثابت عند الكل ، وهو موجود في التهذيب بسند غير صحيح في باب المزارعة فهو دليل على الأول ، لعل منشأ اعتبار المفهوم هنا هو ما ثبت بالعقل والنقل «أن لعرق المحق وغير ظالم حق» وهو كاف ، ولا يحتاج الى هذا المفهوم ، وان ذلك ظاهر ولا شك أن العامل غير ظالم ، فلعرقه حق ، أما بأن يخلى بالأجرة أو يقلع بالأرش ، وهو جميع بين المصلحتين أيضا فإن لكل منهما دخلا في الإبقاء ، ونقضه بمنع الإجماع غير جيد ، وكذا منع كونه بحق بأنه بعد المدة ظالم ، كما فعله في شرح الشرائع ، لأنه ثبت بحق ، وان كان المنع الثاني أولا ، ووجه الثاني لا يخلو من قوة لما تقدم ، الا أن الأول أحوط وبالنصف أقرب فتأمل انتهى.

أقول : الخبر المشار إليه في كلامهم هنا هو ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : من أخذ أرضا بغير حقها أو بنى فيها قال : يرفع بناؤه ، ويسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق ثم قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها الى المحشر.

وأنت خبير بأن مورد الخبر وسياقه من أوله الى آخره انما هو من اغتصب أرضا فتصرف فيها ببناء أو غرس مع كونها مملوكة لغيره ، فإنه لا يملكها بذلك ، بل هي ملك لمن سبق إليها أولا ، وانه يجب عليه أن يدفع بناءه ويزيل غرسه ،

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣١١ باب ٣ ح ١.

٣٢٠