الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

ثم ذكر جملة من الحيل في ذلك ، ومنها جعل البذر منهما قال (رحمة الله عليه) فلو اتفق اثنان على المعاملة في مثل ذلك في الأرض الخراجية فطريق الصحة الاشتراك في البذر ، بحيث يمتزج على الوجه المقرر في باب الشركة ، ويجعلان باقي الأعمال بينهما على نسبة المال ، ولو اتفقا على زيادة عمل من أحدهما نوى به التبرع ، فلا رجوع له بالزائد ، ولو أرادا جعل الحاصل مختلفا مع التساوي في البذر أو بالعكس ، بنى على ما تقرر في الشركة من جواز ذلك ، وقد عرفت أن المختار جواز الزيادة في القدر للعامل ، أو من له زيادة في العمل ، فليلحظ ذلك أو غيره من الحيل الشرعية على توسيع هذه المعاملة ، لأنها متداولة في كثير من البلاد التي أرضها غير مملوكة ، فيحتاج فيها الى وجه مجوز ويمكن فرضه بأمور ، ثم عد جملة من الحيل في ذلك.

وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من حقيقة المزارعة وصيغتها وتعريفها هو أولوية أحدهما بمنفعة تلك الأرض ، أعم من أن يكون بالملك الطلق لرقبة الأرض ، ومنفعتها بالإجارة ، أو الأولوية الحاصلة في الأرض الخراجية أو المباحة بالتحجير أو الإحياء ، وان لم نقل بحصول الملك به.

وبالجملة فما يدل على كون المنفعة له بأي نحو كان ، ويدل على ذلك الأخبار الواردة في مزارعة أرض الخراج من غير اشتراط شي‌ء مما ذكره.

ومنها صحيحة يعقوب ابن شعيب (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له الأرض من أرض الخراج فيدفعها الى رجل على أن يعمرها ، ويصلحها ويؤدى خراجها وما كان من فضل فهو بينهما ، قال : لا بأس».

وصحيحة الحلبي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث «أنه سئل عن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث؟ قال : لا بأس به» الحديث.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٨ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٣ ح ٢ وص ٢٠٠ ح ٨.

٢٨١

على أنه قد صرح هو وغيره بل الظاهر انه لا خلاف فيه ، الا من بعض متأخري المتأخرين كما تقدم ذكره بأنه يجوز بيع الأرض الخراجية تبعا للآثار ، ومتى جاز البيع جازت المزارعة بطريق أولى ، وبذلك يظهر أن إطلاقه المنع من المزارعة في الأرض الخراجية بناء على أنها ملك للمسلمين قاطبة ، وان هذا الزارع لا يملكها ، ومن شرط المزارعة الملك لأحدهما كما ذكره غير جيد.

فان قيل : ـ انه بعد حصول الآثار فيها كما يجوز بيعها يجوز المزارعة أيضا ، والمدعى أنما هو قبل حصول الآثار فيها ـ قلنا : هذه الآثار التي يترتب عليها جواز البيع انما حصلت بعد الفتح ، وثبوت كونها خراجية ، فالمجوز لهذه الآثار مجوز للمزارعة عليها ، وهو ظاهر.

الرابعة ـ قد عرفت أن عقد المزارعة عندهم من العقود اللازمة التي لا تبطل الا بالتقايل ، أما كونه من العقود اللازمة فلأنه مقتضى الأصل ، إذ الأصل لزوم العقد الا ما خرج بدليل ، وللخبر المشهور «المؤمنون عند شروطهم» (١). وآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) ونحو ذلك من الأدلة العامة.

وأما كونه لا يبطل الا بالتقايل ، فالمراد به بالنظر الى اختيار المتعاقدين يعنى ليس كالعقود الجائزة التي لكل من المتعاقدين فسخها ، والا فإنه يبطل أيضا بغير التقائل كانقطاع الماء عن الأرض ، وفساد منفعة الأرض ، فالحصر في التقائل ليس حصرا حقيقيا ، وانما هو بالإضافة إلى المتعاقدين.

والظاهر أن المستند في بطلانه بالتقايل هو الإجماع ، ولا يبطل بالبيع ولا بموت أحد المتعاقدين : لعدم المنافاة بين البيع أو الموت وبين بقاء المزارعة كما سيأتي مثله في الإجارة على الأظهر ، وان كان فيه ثمة قول بالبطلان بالموت.

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ١.

٢٨٢

أما هنا فالظاهر أنه لا خلاف في عدم البطلان بالموت ، عملا بلزومه وأصالة بقائه ودوامه ، وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المختلف في حجيته ، لان مرجع هذا الاستصحاب الى عموم الدليل حتى يقوم وجود الرافع كما في البيع ونحوه ، ثم انه ان كان الميت العامل قام مقامه ورثته ، في العمل ، والا رفع الأمر إلى الحاكم فيستأجر الحاكم من يقوم بالعمل من مال الميت أو من حصته من الغلة ، وان كان الميت المالك بقي العامل على عمله ، وعليه القيام بتمام العمل ، وربما استثنى من الأول ما لو شرط عليه المالك العمل بنفسه ، فإنها تبطل بموته ، كما قيل مثله في الإجارة ، وهو متجه لو كان الموت قبل ظهور الحاصل ، أما بعد ظهوره فيشكل ذلك ، فإنه قد ملك الحصة ، وان وجب عليه بقية العمل ، والحكم بخروجها عن ملكه بالموت ـ بعد دخولها كما عرفت ـ الظاهر بعده.

الخامسة ـ قال الشيخ في النهاية : لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع أو أقل أو أكثر ، ويكره أن يزارع بالحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وليس ذلك بمحظور ، فان زارع بشي‌ء من ذلك فليجعله من غير ما يخرج من تلك الأرض مما يزرعه في المستقبل ، بل يجعل ذلك في ذمة الزارع.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : قوله ويكره أن يزارع بالحنطة والشعير : ان قصد بذلك المزارعة فهو ممنوع وان قصد الإجارة فهو حق ، ثم نقل عن الشيخ المفيد أنه قال : المزارعة بالربع والثلث والنصف جائزة ، كما يجوز بالذهب والفضة ، ثم اعترضه فقال : وهذه العبارة أشكل من الأولى ، لأنه ان قصد بالمزارعة الإجارة لم تصح بالحصة ، وان قصد المزارعة لم تصح بالذهب والفضة ، والظاهر أن قصده بالأول المزارعة ، وبالثاني الإجارة انتهى.

أقول : والوجه في ذلك ظاهر مما تقدم في تعريف المزارعة من أنها بحصة من الحاصل من ثلث أو نصف أو نحوهما ، فلا يجوز بالدراهم والدنانير ، ولا غيرهما من العروض الخارجة عن الحاصل ، والإجارة انما تكون بالدراهم والدنانير

٢٨٣

والعروض المعينة ، لا بالحصة من الحاصل من ربع أو ثلث أو نحو ذلك ، وهاتان العبارتان مضطربتان في ذلك كما عرفت ، الا أنه قد وقع مثل ذلك في بعض الاخبار أيضا كما في رواية أبي بصير (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا تستأجر الأرض بالتمر ولا بالحنطة ولا بالشعير ولا بالأربعاء ولا بالنطاف ، قلت : وما الأربعاء قال الشرب والنطاف فضل الماء ، ولكن تقبلها بالذهب والفضة ، والنصف والثلث والربع».

فان هذه القبالة ان حملت على المزارعة لم تجز بالذهب ولا بالفضة ، وان حملت على الإجارة لم تجز بالنصف والثلث والربع ، واحتمال ما ذكره العلامة (رحمه‌الله عليه) في عبارة الشيخ المفيد بعيد في العبارة المذكورة ، وفي الخبر المذكورة ، ولا يحضرني الان وجه في المخرج عن ذلك ، الا أنه يمكن أن يقال : ان القبالة أعم من المزارعة والإجارة ، فيطلق على كل منهما ، وحينئذ فيكون المعنى في الخبر ولكن تقبلها بالذهب والفضة يعنى استأجرها ، وبالنصف والثلث والربع يعنى زارع عليها ، هذا أقصى ما يمكن أن يقال والله العالم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن البحث في هذا المطلب يقع في مقامين : أحدهما في الشروط وهي ثلاثة :

الأول ـ أن يكون النماء مشاعا بينهما تساويا فيه أو تفاضلا ، والظاهر أن دليله الإجماع ، وهو ظاهر الاخبار أيضا مثل قوله (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (٢) «لا تقبل الأرض بحنطة مسماة ، ولكن بالنصف والثلث والربع والخمس لا بأس به». وقال : لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس ، وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي (٣) أيضا أو حسنة «لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع والخمس» ،.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ٨ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٧ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٩٩ ح ٣.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩٤ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٠ ح ٧.

٢٨٤

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ، ولكن تقول ازرع فيها كذا وكذا ان شئت نصفا وان شئت ثلثا». ونحوها رواية أبي الربيع المتقدمة أيضا إلى غير ذلك من الاخبار.

وبالجملة فالذي دلت عليه الاخبار في المقام هو الإشاعة في الحصة فتقف الصحة في ما عداه على الدليل ، وليس فليس وعلى هذا فلو شرطه أحدهما لم يصح ، وكذا لو اختص أحدهما بنوع من الزرع دون صاحبه ، كما لو شرط أحد هما ما حصل أولا فهو له ، ويسمى ذلك الهرف ، والأخر ما يحصل أخيرا ويسمى الأفل.

قال في المسالك (الهرف) : ساكن الوسط ، المتقدم من الزرع والثمر يقال : أهرفت النخلة : أى عجلت إتاءها قاله الجوهري (١) : والأفل بالتسكين أيضا خلاف الهرف ، وهو المتأخر عنه انتهى.

أقول : قد تتبعت ما حضرني من كتب اللغة كالقاموس والمصباح المنير فلم أظفر في شي‌ء منهما بهذا المعنى لهذين اللفظين ، واحتمل التحريف في اللفظين المذكورين بأن يكونا على غير ما كتبناه ممكن ، إلا أنا تتبعنا أيضا جملة من الألفاظ التي ربما وقع التحريف عنها فلم أظفر بذلك.

وكيف كان فالنقل المذكور لا شك فيه ، وانما الشك في تعيين المادة في كل من اللفظين وضبطها ، فليراجع ذلك ، ووجه البطلان في الاشتراط المذكور في الصورتين المذكورتين هو ما عرفت من خروج ذلك عن وضع المزارعة الذي دلت عليه الاخبار ، ومثلها أيضا ما لو شرط أحدهما ما يزرع على الجداول ، والأخر ما زرع على غيرها ، لمنافات جميع ذلك الإشاعة التي دلت عليه الاخبار وقام عليها الإجماع.

__________________

(١) الصحاح ج ٤ ص ١٤٤٢ وفي أقرب الموارد هرفت النخلة : تهريفا عجلت اتاءها أى : ثمرتها وأهرفت النخلة : عجلت اتاءها مثل هرفت.

٢٨٥

نعم وقع الخلاف هنا في موضعين ، أحدهما لو شرط أحدهما قدرا من الحاصل والزائد عليه يكون مشتركا بينهما ، فالظاهر ـ وبه صرح جملة من الأصحاب أيضا ـ أنه لا يصح ، لجواز أن لا يزيد شي‌ء ، ولان ظاهر الاخبار المتقدمة هو الاشتراك في جميع ما يحصل من النماء الا ما خرج بالشرط ، ولا فرق بين ذلك من كون القدر المشروط هو البذر وغيره ، ولا بين كون الغالب على تلك الأرض أن يخرج منها ما يزيد على الشروط عادة أم لا ، لاشتراك الجميع في الخروج عن قاعدة المزارعة ، مضافا الى حصول الجهل في العوض الموجب لكون العقد على خلاف الأصل فيبطل حينئذ ، ونقل عن الشيخ في النهاية وجماعة جواز استثناء البذر من جملة الحاصل ، وفي المختلف جواز استثناء شي‌ء من الحاصل مطلقا ، والأشهر الأظهر الأول.

وثانيهما ـ لو شرط أحدهما شيئا يضمنه كعمل يعمله مضافا إلى الحصة ، فقيل : أيضا بالصحة ، وهو المشهور لعموم ما دل على وجوب الوفاء بالشروط ، مع عدم منافاته لمقتضى العقد ، لخروجه عن النماء الذي اقتضى العقد ، إشاعته كما عرفت ، وقيل : بالبطلان وهذا القول نقله المحقق في الشرائع ، إلا أنه في المسالك قال : لا نعلم القائل به ، واستدل في الكفاية للقول المشهور زيادة على ما ذكر من العمومات برواية محمد بن سهل عن أبيه عن أبى الحسن موسى (عليه‌السلام).

والظاهر أنه أراد بها ما رواه المشايخ الثلاثة عن الراوي (١) المذكور قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن رجل يزرع له الحراث الزعفران ، ويضمن له أن يعطيه في كل جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهما ، فربما نقص وغرم ، وربما زاد واستفضل قال : لا بأس به إذا تراضيا». أقول :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٦ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٦ ح ١.

٢٨٦

وما ذكره وان احتمل باعتبار أحد الاحتمالين في الرواية الا انه غير متعين.

وتوضيح ذلك أن قوله (عليه‌السلام) «وزن كذا» الظاهر أنه مفعول «يعطيه» ويكون المعنى أنه يعطيه من الزعفران وزن كذا وكذا درهما ، ويحتمل أن يكون «وكذا» الثانية معطوفا على الوزن ، لا على كذا ، ويكون المعنى ويعطيه وزن كذا من الزعفران ، ويعطيه كذا درهما ، فيكون الدراهم ضميمة إلى الزعفران ، وعلى هذا المعنى الثاني مبنى الاستدلال بالخبر المذكور.

وأنت خبير بأن الظاهر انما هو المعنى الأول فإنه هو المتبادر من هذه العبارة حيثما تذكر.

قال في المسالك : وعلى القول بالجواز يكون قراره مشروطا بالسلامة كاستثناء أرطال معلومة من الثمرة في البيع ، ولو تلف البعض سقط منه بحسابه لانه كالشريك ، وان كانت حصته معينة ، مع احتمال أن لا يسقط منه شي‌ء بتلف البعض متى بقي قدر نصيبه ، عملا بإطلاق الشرط ، انتهى.

إلحاق :

قد اختلف الأصحاب في إجارة الأرض للزراعة بالحنطة والشعير ، إذا كان الزرع حنطة أو شعيرا ، وأن يؤاجرها بأكثر مما استأجرها ، وحق هذه المسئلة انما هو كتاب الإجارة ، الا أن الأصحاب حيث ذكروها في هذا المقام جرينا على حذوهم.

وكيف كان فمحل الخلاف والبحث هنا في مواضع ثلاثة :

الأول ـ هل يجوز أن يستأجر الأرض بالحنطة ، ويزرعها حنطة أم لا؟ المشهور الأول على كراهة ، وقال ابن البراج : لا يجوز على كيل معين من جنس ما زرع الأرض ، مثل أن يستأجر بحنطة ويزرع فيها حنطة ، احتج الأصحاب بالأصل ، وعموم الأدلة الواردة في الإجارة بنقد كان أو عرض وافق ما زرع فيها أم لم يوافق.

٢٨٧

احتج ابن البراج بصحيحة الحلبي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا تستأجر الأرض بالحنطة ، ثم تزرعها حنطة.

أجاب الأصحاب عنها بالحمل على ما إذا اشترط ذلك من حاصل تلك الأرض أما لو أطلق أو اشترط من غيره فلا بأس ، واستندوا في ذلك الى رواية الفضيل بن يسار (٢) «قال سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن إجارة الأرض بالطعام قال : ان كان من طعامها فلا خير فيه». وفي رواية أبي بردة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن إجارة الأرض المحدودة بالدراهم المعلومة؟ قال : لا بأس ، قال : وسألته عن إجارتها بالطعام؟ فقال : ان كان من طعامها ، فلا خير فيه». وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك المناقشة في ذلك ، والميل الى ما ذكره ابن البراج هنا ، قال بعد إيراد صحيحة الحلبي حجة لابن البراج ، والنهى حقيقة في التحريم ، وأجيب بحمله على اشتراطه مما يخرج منها ، لدلالة رواية الفضيل عليه ، وبحمل النهى على الكراهة ، وفيه نظر لأن النهي مطلق ، ولا منافاة بينه وبين تحريم شرطه من طعامها ، حتى يجمع بينهما بحمله عليه ، والتحقيق أن المطلق والمقيد متى كانا منفيين لا يلزم الجمع بينهما ، بل يحمل المطلق في إطلاقه ، بخلاف المثبتين ، وبملاحظته يتخرج فساد كثير مما قرروه في هذا الباب ، وقد مضى مثله في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، مع ورود نص آخر بتحريم بيع المكيل والموزون كذلك ، حيث جمع الأكثر بينهما بحمل المطلق على المقيد ، وليس بشي‌ء الى أن قال : وقول ابن البراج بالمنع لا يخلو من قوة ، نظرا إلى الرواية الصحيحة ، الا أن المشهور خلاف قوله ، انتهى.

أقول : لا ريب أن مفهوم روايتي الفضيل وأبى بردة أنه إذا كان إجارة الأرض

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٠٩ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ١٠ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ٦٣ وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٥ و ٩.

٢٨٨

بغير طعامها ، ففيه خير ، يعنى جائز وصحيح ، وهو ظاهر في جواز إجارة الأرض بالحنطة ، وان زرعت حنطة إذا لم يشترطه منها ، وهذا المفهوم مفهوم شرط ، وهو حجة عند المحققين ، وعليه دلت الاخبار أيضا كما حققناه في مقدمات الكتاب من مجلد كتاب الطهارة (١) ومخالفته لظاهر ما دلت عليه صحيحة الحلبي واضحة ، وحينئذ فلا بد من الجمع ، وليس الا ما ذكره الأصحاب أولا أو حمل النهى على الكراهة ، والثاني منهما قد عرفت ما فيه في غير موضع مما تقدم ، فلم يبق إلا الأول.

ويعضد الروايتين المذكورتين حسنة الوشاء (٢) قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن الرجل اشترى من رجل أرضا جربانا معلومة بمأة كر على أن يعطيه من الأرض ، قال : حرام ، فقلت له : فما تقول جعلني الله فداك أن اشترى منه الأرض بكيل معلوم وحنطة من غيرها؟ قال : لا بأس» ، على أنه يمكن حمل حسنة الحلبي التي استند إليها ابن البراج على المزارعة ، حسب ما دلت حسنة المتقدمة في صدر الكلام في الشرط المتقدم ، ويكون حاصل المعنى فيهما معا واحد ، وهو أنه لا يزارع بالحنطة المسماة بينهما ، وانما يزارع بالحصة الشائعة من النصف أو الثلث أو نحوهما ، وان عبر في هذه بلفظ الإجارة كما عبر في الأولى بلفظ القبالة وباب التجوز أوسع من ذلك.

ومما يعضد ما ذكرناه من حمل الإجارة على المزارعة وأن المراد بها ذلك تجوزا ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبى المغراء (٣) قال : «سأل يعقوب الأحمر أبا عبد الله (عليه‌السلام) وأنا حاضر فقال : أصلحك الله انه كان لي أخ فهلك فترك في حجري يتيما ولى أخ يلي ضيعة لنا وهو يبيع العصير ممن يصنعه خمرا ، ويؤاجر الأرض بالطعام : وأما ما يصيبني فقد تنزهت ، فكيف أصنع

__________________

(١) ج ١ ص ٥٥.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ١١ ، الكافي ج ٥ ص ٢٦٥ ح ٨.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٧ ، ص ٢٣ ح ٢.

٢٨٩

بنصيب اليتيم فقال : أما إجارة الأرض بالطعام فلا تأخذ نصيب اليتيم منه الا أن يؤاجرها بالربع والثلث والنصف ، وأما بيع العصير مما يجعله خمرا فليس به بأس خذ نصيب اليتيم منه».

فإن الإجارة في الخبر لا يصح حملها على المعنى المعهود من هذا اللفظ فإنها لا تصح بالحصة من الحاصل ، وانما تصح بأجرة معلومة ، وبهذا عرفوا المزارعة كما تقدم بأنها معاملة على الأرض بحصة من الحاصل ، قالوا : والمعاملة تشمل الإجارة والمساقات ولكن خرجت الإجارة بقيد الحصة من الحاصل ، لأنها انما تصح بأجرة معلومة ، وخرجت المساقات بالأرض ، فإنها معاملة على الأصول بحصة من حاصلها ، وحينئذ فلا إشكال في حمل حسنة الحلبي على المزارعة ، كما ذكرنا بقرينة الروايتين المذكورتين كما عرفت.

بقي في المقام ما رواه لصدوق (رحمة الله عليه) في العلل عن إسماعيل بن مرار (١) «عن أبى جعفر وأبى عبد الله (عليهما‌السلام) أنهما سئلا ما العلة التي من أجلها لا يجوز أن تؤاجر الأرض بالطعام ، وتؤاجرها بالذهب والفضة؟ قال : العلة في ذلك ان الذي يخرج منها حنطة وشعير ، ولا يجوز إجارة حنطة بحنطة ، ولا شعير بشعير».

وهذا الخبر وان كان ظاهره مما يؤيد ما ذكره ابن البراج لإطلاقه الا أنه يجب تقييده بما عرفت من خبري الفضيل وأبى بردة ، لدلالتهما كما تقدم على الجواز ، بما إذا لم يكن من الأرض.

ويؤيد ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى بصير (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا تؤاجر الأرض بالحنطة ولا بالشعير ولا بالتمر ولا بالأربعاء

__________________

(١) العلل ص ٥١٨ باب ٢٩١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١١ ح ١١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٦٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢١٠ ح ٦.

٢٩٠

ولا بالنطاف ولكن بالذهب والفضة ، لأن الذهب والفضة مضمون ، وهذا ليس بمضمون».

والتقريب فيهما أن عدم المضمونية في الحنطة والشعير هنا انما يتجه فيما إذا كان مال الإجارة من حاصل تلك الأرض ، فإنه يجوز أن لا يخرج منها شي‌ء ، بخلاف الذهب والفضة الثابتين في الذمة بمجرد العقد ، والحنطة والشعير الخارجان عن الحاصل في حكم الذهب والفضة في صحة المضمونية أيضا ، فلا وجه لإدخالهما فيما لا يكون مضمونا والله العالم ، وبالجملة فالأقرب هو القول المشهور ، لما عرفت والله العالم.

الثاني ـ هل يجوز أن يستأجر الأرض بحنطة منها أم لا؟ ظاهر المشهور التحريم ، استنادا إلى روايتي الفضيل وأبى بردة المتقدمتين ، بل لا أعلم قائلا بخلافه صريحا.

وقال في الشرائع : ويكره إجارة أرض للزراعة بالحنطة والشعير مما يخرج منها والمنع أشبه ، ووجه القول بالجواز وان كان على كراهة عدم صراحة الروايتين في التحريم ، لأن غاية ما يدلان عليه ، انه لا خير فيه ، وهو انما يشعر بالكراهة ، وعلل القول بالمنع أيضا بأن خروج ذلك القدر منها غير معلوم ، فربما لا يخرج منها شي‌ء أو يخرج بغير ذلك الوصف ، ومن ثم لم يجز السلم في حنطة من قراح معين لذلك. وأجيب بأنه على إطلاقه ممنوع ، إذ ربما كانت الأرض واسعة لا تحبس بذلك القدر عادة فلا يتم إطلاق المنع.

أقول : الظاهر هو القول المشهور ، أما على القول بالتحريم في المسئلة المتقدمة كما نقل عن ابن البراج فظاهر ، وأما على القول بالجواز ثمة فلظاهر الخبرين المذكورين المؤيد بحسنة الوشاء المتقدمة الصريحة في التحريم إذا كان من حاصلها وموردها ، وان كان البيع وما نحن فيه انما هو الإجارة ، الا أن الظاهر أن الوجه الجامع الذي أوجب البطلان في الكل من حيث عدم صحة المعاوضة بما كان من الحاصل في بيع كان أو

٢٩١

إجارة لخروج ذلك عن الشروط المعتبرة في ثمن المبيع ومال الإجارة من معلومية حصوله وكميته عددا أو كيلا أو وزنا وقد عرفت ان ما كان من الأرض غير مضمون ، ولا ثابت في الذمة ولا هو معلوم الحصول كما عرفت وحينئذ فلا يجوز الإجارة به ولا البيع.

الثالث : لا خلاف بين الأصحاب في جواز إجارة الأرض وغيرها من الأعيان المستأجرة بأقل مما استأجرها به وبالمساوي وان لم يحدث فيها شيئا ، وكذا بأكثر مما استأجرها به إذا كان قد أحدث فيها عملا.

وانما الخلاف فيما لو استأجرها بالأكثر ولم يحدث فيها شيئا ، فقيل : بالتحريم ، وقيل : بالجواز على كراهة ، وبالأول قال الشيخان ، وهو ظاهر المرتضى واختيار سلار وابن الجنيد ، وبه قال الصدوق في المقنع وأبو الصلاح وابن البراج في المهذب ، وهو ظاهر العلامة في الإرشاد ، والظاهر أنه المشهور بين المتقدمين ، وبالثاني قال : ابن إدريس والعلامة في المختلف والمحقق ، ونقله العلامة في المختلف عن والده واليه ذهب سلار في موضع آخر وابن البراج في الكامل ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين ومنشأ الخلاف اختلاف الاخبار في المسئلة المذكورة ، ولا بأس بنقلها أولا ثم الكلام فيها بما وفق الله عزوجل لفهمه منها.

فمنها ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمهم‌الله) عن أبى الربيع الشامي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين فيؤاجرها بأكثر مما يتقبلها ، ويقوم فيها بحظ السلطان؟ قال : لا بأس به ، أن الأرض ليست مثل الأجير ، ولا مثل البيت ان فضل الأجير والبيت حرام».

ومنها ما رواه في التهذيب والكافي في الصحيح أو الحسن عن أبى المغراء (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يستأجر الأرض ثم يؤاجرها بأكثر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤٠ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ح ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٩ ح ٢ و ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤١ وص ٢٠٢ ح ٣٩ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٣ و ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٠ ح ٤ و ٥.

٢٩٢

مما استأجرها ، قال : لا بأس ان هذا ليس كالحانوت ، ولا كالأجير ، فإن فضل الحانوت والأجير حرام».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن إبراهيم بن ميمون (١) «ان إبراهيم بن المثنى سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وهو يسمع عن الأرض يستأجرها الرجل ثم يؤاجرها بأكثر من ذلك ، قال : ليس به بأس ان الأرض ليست بمنزلة البيت والأجير ، ان فضل البيت حرام وان فضل الأجير حرام».

وهذه الروايات الثلاثة هي حجة المتأخرين على القول بالجواز ، الا أن ذلك انما هو في الأرض خاصة ، لأنها صريحة في التحريم بالنسبة إلى الأجير ، والبيت ، والحانوت ، والمدعى أعم من ذلك كما عرفت في فرض المسئلة ، فلا تكون وافية بتمام المطلوب.

وينبغي أن يعلم أن تحريم الفضل بالنسبة الى هذه الثلاثة ليس على الإطلاق بل مخصوص بما إذا لم يعمل في ذلك عملا قبل أن يؤجره ، لما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : لو أن رجلا استأجر دارا بعشرة دراهم ، فسكن «ثلثيها» وآجر ثلثها بعشرة لم تكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به الا أن يحدث فيها شيئا».

ورواه في الفقيه عن ابى الربيع (٣) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) لو أن رجلا» الحديث.

وعن الحلبي (٤) أيضا في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤١ وص ٢٠٢ ح ٣٩ ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٣ و ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٠ ح ٤ و ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٩ ح ١ ولكن بدل «ثلثيها وثلثها» «بيتا منها» ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٣.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ذيل حديث ١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٩ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٤.

٢٩٣

في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها قال : لا يصلح ذلك الا أن يحدث فيها شيئا».

أقول : وعلى هذا فيكون الفرق في الروايات الثلاثة المتقدمة بين الأرض والثلاثة المعدودة فيها هو أنه يجوز إجارة الأرض بالأكثر ، أحدث فيها شيئا أم لم يحدث ، وفي الثلاثة المذكورة لا تجوز الا مع إحداث شي‌ء فيها.

وبه يظهر ما في الجمع بين هذه الاخبار وبين ما سيأتي مما يدل على التحريم مع إحداث شي‌ء فيها ، بتقييد إطلاق هذه الاخبار بتلك من الاشكال ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى ، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصلح له ذلك؟ قال : نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك ، فله ذلك قال : وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم ، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشي‌ء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ، ولا ينفق شيئا أو يؤاجر تلك الأرض قطعا قطعا على أن يعطيهم البذر والنفقة ، فيكون له في ذلك فضل على إجارته ، وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال : إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت».

ورواه في الفقيه مرسلا (٢) «قال سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٣ ح ٤٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٣ و ٤.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦١ ح ٣ و ٤.

٢٩٤

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أتقبل الأرض بالثلث أو الربع فأقبلها بالنصف؟ قال : لا بأس ، قلت : فأتقبلها بألف درهم فأقبلها بألفين؟ قال : لا يجوز ، قلت : كيف جاز الأول ولم يجز الثاني ، قال : لان هذا مضمون وذاك غير مضمون».

قال الفاضل المحدث الأمين الأسترآبادي قوله «لان هذا مضمون» الى آخره أقول : يعنى في الصورة الأولى لم يضمن شيئا ، بل قال : ان حصل شي‌ء يكون ثلثه أو نصفه لك ، وفي الثانية ضمن شيئا معينا ، فعليه أن يعطيه ولو لم يحصل شي‌ء ، انتهى.

وهو جيد فان الغرض بيان علة الفرق واقعا وان لم يعلم سبب عليتها ، ولا يخفى على هذا أن ذكر الدراهم انما خرج مخرج التمثيل ، ويكون الغرض الفرق بين المزارعة والإجارة فإن المزارعة لا تصح إلا بالحصة الشائعة من نصف أو ثلث أو نحوهما ، بخلاف الإجارة ، فإنها لا تصح كذلك ، بل لا بد من كون مال الإجارة دنانير أو دراهم ، أو عروضا مضمونة أو منقودة.

وقال الفاضل المشهور بخليفة سلطان في حواشيه على الفقيه : المراد أن ما أحدث شيئا زائدا مما دفعت من الذهب والفضة فهو مضمون وأنت ضامن له يجب دفعه الى صاحبه ، فهو نقل للحكم ، لا بيان للحكمة ، ولا يخفى بعده ، وهذه الاخبار ونحوها ـ مما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ ظاهرة في عدم الجواز مطلقا الا مع القيود المذكورة فيها.

ولهذا ان الشيخ في الاستبصار بعد أن نقل الأخبار الثلاثة الأول قال : قال محمد بن الحسن : هذه الاخبار مطلق في جواز إجارة الأرض بأكثر مما استأجرها ، وينبغي أن يقيدها بأحد أشياء ، اما أن نقول يجوز له إجارتها إذا كان

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٠٤ ح ٤٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٠ ح ١.

٢٩٥

استأجرها بدراهم ودنانير معلومة أن يواجرها بالنصف أو الثلث أو الربع ، وان علم بأن ذلك أكثر يدل على ذلك ما رواه محمد بن يحيى ، ثم ساق رواية الهاشمي المتقدمة إلى آخر السؤال الأول خاصة ، وهو قوله فله ذلك ، ثم قال : والثاني أنه يجوز مثلا إذا استأجرها بالثلث والربع أن يوجرها بالنصف ، لان الفضل انما يحرم إذا كان استأجرها بدراهم ، وآجرها بأكثر منها ، وأما على هذا الوجه فلا بأس ، يدل على ذلك ما رواه أحمد بن محمد ، ثم ساق رواية الحلبي المتقدمة التي بعد رواية الهاشمي ، ثم أردفها بما رواه عن إسحاق بن عمار (١) في الموثق عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا تقبلت أرضا بذهب أو فضة فلا تقبلها بأكثر مما تقبلتها به ، وان تقبلتها بالنصف أو الثلث فلك أن تقبلها بأكثر مما تقبلتها به ، لان الذهب والفضة مضمونان». ومنها أنه انما جاز ذلك إذا أحدث فيها حدثا ، وأما قبل ذلك فلا ينبغي ذلك وهو الأحوط ، يدل على ذلك ما رواه محمد بن يحيى ، ثم ساق تتمة رواية الهاشمي من قوله : «وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسماة». الى آخرها ثم قال : ومنها أنه يجوز له أن يؤاجرها بعضا منها بأكثر من مال إجارة الأرض ويتصرف هو في الباقي من ذلك بجزء من ذلك وان قل.

يدل على ذلك ما رواه في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار فيكري نصفها بخمسة وتسعين دينارا ويعمر هو بقيتها قال : لا بأس». انتهى.

ونقل في التذكرة عن الشيخ أنه قال : لا يجوز أن يؤجر المسكن ولا الخان ولا الجير بأكثر مما استأجره ، الا أن يؤجره بغير جنس الأجرة ، أو يحدث ما يقابل التفاوت ، وكذا لو سكن بعض الملك لم يجز أن يؤجر الباقي بزيادة عن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٢ ح ٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٥ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٢ ح ١.

٢٩٦

الأجرة والجنس واحد ، ويجوز بأكثرها لرواية الحلبي (١) عن الصادق (عليه‌السلام) «استأجر دارا بعشرة دراهم» الحديث كما قدمناه ، والظاهر أنه من أجل هذا النقل خص بعض مشايخنا المتأخرين خلاف الشيخ بهذه الثلاثة ، والذي يظهر من العلامة في المختلف أنه أعم ، حيث قال : قال الشيخان : إذا استأجر شيئا لم يجز أن يؤجره بأكثر مما استأجره به الا أن يحدث فيه حدثا من مصلحة ونفع إذا اتفق الجنس الى آخره.

وكيف كان فالذي يظهر من تتبع الاخبار هو العموم ، وانما الإشكال في كون ذلك على جهة التحريم أو الكراهة ، أما العموم فقد عرفت من الروايات الثلاث المتقدمة أولا الدلالة على البيت والأجير والحانوت ، ومنها الدار كما تقدم في صحيحة الحلبي أو حسنته ، ومنها الأرض كما تقدم في رواية الهاشمي ورواية الحلبي التي بعدها وموثقة إسحاق بن عمار المذكورة في كلام الشيخ.

ومنها الرحا لما رواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (٢) قال : «قال : أبو عبد الله (عليه‌السلام) : انى لأكره أن استأجر رحا وحدها ثم أؤاجرها بأكثر مما استأجرتها به ، الا أن يحدث فيها حدثا أو يغرم فيها غرامة».

ومنها السفينة مع بعض ما تقدم لما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) ان أباه كان يقول : لا بأس بأن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إذا أصلح فيها شيئا».

ومنها العمل لما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (٤) في الصحيح عن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٧٢ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٤ ح ٤٦ ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٩ ح ٤ وفيه عن سليمان بن خالد ، الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٢٣ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٣ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢٧٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

٢٩٧

أحدهما (عليهما‌السلام) أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ويدفعه الى آخر فيربح فيه ، قال : لا ، الا أن يكون قد عمل فيه شيئا».

وما رواه في التهذيب (١) عن أبي حمزة في الصحيح عن أبى جعفر (عليه‌السلام) الحديث المتقدم الى قوله «لا» ، ولم يذكر الاستثناء.

وما رواه المشايخ الثلاثة عن حكم الخياط (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انى أتقبل الثوب بدرهم وأسلمه «بأقل» من ذلك لا أزيد على أن أشقه قال : لا بأس بذلك ، ثم قال : لا بأس فيما تقبلته من عمل استفضلت فيه».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن مجمع (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أتقبل الثياب أخيطها ثم أعطيها الغلمان بالثلثين فقال : أليس تعمل فيها؟ قلت : أقطعها وأشترى لها الخيوط قال : لا بأس».

وما رواه في الكتابين المذكورين عن على الصائغ (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أتقبل العمل ثم أقبله من الغلمان يعملون معى بالثلثين؟ فقال لا يصلح ذلك الا أن تعالج معهم فيه ، قلت : فإني أذيبه لهم» «قال : فقال : ذلك عمل فلا بأس».

وما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم (٥) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل؟ قال : لا بأس قد عمل فيه».

هذه جملة ما وقفت عليه من أخبار المسئلة ، وهذه الاخبار كلها متفقة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٧٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٥ ح ٢.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٢١١ ح ٨ ، الفقيه ج ٣ ص ١٥٩ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٧.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٢١٠ ح ٦ ، ٨ الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٦ ح ٥.

٢٩٨

الدلالة واضحة المقالة على النهى عن الإجارة بأكثر مما يستأجره في كل شي‌ء الا أن يعمل فيه شيئا ، وإذا ضممت بعضها الى بعض ظهر لك العموم في الحكم فان ذكر هذه الأشياء المخصوصة في الاخبار انما هو من قبيل التمثيل. بمعنى أن كل فرد فرد من هذه الأفراد المذكورة ، سئل عن حكمه في الإجارة بأكثر مما استوجر عليه أجيب فيه بذلك ، والعموم كما يحصل بالأداة الموضوعة له ، كذا بتتبع الافراد والجزئيات على نحو القواعد النحوية المبتنية على تتبع أقوال العرب ، وظاهرها الاكتفاء بعمل ما ، وان قل ، فلا يشترط فيه المقاومة لما يأخذه زائدا ، ونظيره ما تقدم في الضمائم.

وأما وجه الاشكال فمن حيث دلالة الأخبار الثلاثة المتقدمة في صدر البحث على الجواز في الأرض ، وما ذكره المتأخرون في الجمع بينها وبين هذه الاخبار من حمل هذه الاخبار على الكراهة ، قد عرفت ما فيه مما قدمناه في غير مقام من البحث معهم في هذه القاعدة التي بنوا عليها في جميع أبواب الفقه من الجمع بين الاخبار بحمل الأمر على الاستحباب ، والنهى على الكراهة.

على أن بعض هذه الاخبار المذكورة قد اشتمل على ما هو صريح في التحريم ، مثل قوله (عليه‌السلام) في رواية الحلبي فيمن تقبل الأرض بألف وقبلها بألفين «لا يجوز» ، وقوله (عليه‌السلام) في الروايات الثلاثة المتقدمة في صدر البحث وفيها «ان فضل الأجير والبيت والحانوت حرام» :

وبذلك يظهر ضعف ما استند اليه بعض محققي متأخري المتأخرين في تأييد الكراهة بقوله (عليه‌السلام) في رواية أبي بصير الواردة في الرحى «أنه لأكره أن استأجرها» فإن فيه ان استعمال الكراهة في الاخبار بمعنى التحريم أكثر كثير ، واستعمالها في هذا المعنى العرفي انما هو اصطلاح متأخر.

وبالجملة فإن المتأمل في ما ذكرناه سيما مع تصريح الاخبار بالتحريم لا يخفى عليه ضعف الحمل المذكور.

٢٩٩

وأما الجمع بتقييد إطلاق الاخبار الثلاثة ـ بما دلت عليه هذه الاخبار من عمل شي‌ء قبل الإجارة كما ذهب اليه الشيخ وجمع من الأصحاب فمعنى نفى البأس عن إجارة الأرض بأكثر مما استأجرها التقييد بما إذا عمل فيها شيئا.

ففيه ما أشرنا إليه آنفا من أن التحريم في البيت والأجير والحانوت انما هو مع عدم احداث عمل ، وأما مع احداث العمل فالفضل ليس بحرام ، بل هو جائز ، واى فرق على هذا بين الأرض وهذه الثلاثة ، حتى أنه يقول : في تلك الاخبار ان الأرض ليست كالأجير والبيت ، والعجب من أصحابنا حيث لم يتنبه منهم أحد لذلك ، والإجماع قائم منهم على أنه مع احداث عمل فإنه يجوز.

وبالجملة فإنه متى قيد التحريم في الثلاثة المذكورة بعدم إحداث شي‌ء كما أوضحناه سابقا ، وقيد الجواز في الأرض بما إذا أحدث فيها شيئا كما ذكروه رجع الجميع إلى أمر واحد ، ولم يبق فرق مع أن ظاهر الاخبار المذكورة أنها ليست سواء ، وهذا انما يتجه على تقدير جواز إجارة الأرض مع الفضل وان لم يحدث فيها شيئا ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، وان لم يتنبه أحد من الأصحاب اليه.

وأما باقي محامل الشيخ التي تكلفها في كتاب الاستبصار كما قدمنا نقله عنه فإنها لا تخلو من اشكال ، وان لم أقف على من تنبه له من علمائنا الأبدال.

أما الأول وهو أن يستأجرها بدراهم ودنانير ويجوز له مؤاجرتها بالنصف والثلث والربع وان علم أن ذلك أكثر ، فهو وان دل عليه الخبر الذي ذكره الا أنه لا يخلو من الاشكال ، لدلالته على جواز الإجارة بالحصة من نصف أو ثلث ونحوهما ، وهو مما لا قائل به ، وقد تقدم في الفائدة الخامسة من الفوائد المتقدمة التنبيه على ذلك ، على أن الخبر المذكور قد دل مع ذلك على التقييد بما إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم ، وبذلك ترجع الرواية إلى غيرها من الروايات الدالة على التقييد بعمل شي‌ء ، وترجع الى ما ذكرناه من التأويل المتقدم ،

٣٠٠