الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

البينة بمقتضى القاعدة المذكورة وثبوت قول العامل في دعوى التلف لدليل خارج لا يقتضي ثبوت قوله مطلقا.

وأما ما علل به من أنه أمين كالمستودع وكل أمين يجب قبول قوله ، ففيه منع كلية الكبرى ، والفرق بين العامل هنا وبين المستودع ظاهر ، فان العامل هنا قبض لنفع نفسه والمستودع قبض لنفع المالك ، وهو محسن محض ، فلا يناسب إثبات السبيل عليه بعدم قبول قوله ، لما فيه من الضرر.

وأما ما علل به هنا من الضرر لو لم يقدم قوله ، فإنه مدفوع بأن الحكم بذلك لما ثبت شرعا كما عرفت من أنه مقتضى القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، فلا يلتفت الى هذا الاستبعاد ، وهذا الضرر ، فإنه لو تم ذلك لجرى في كل مدعى عليه ، وهو خلاف الإجماع نصا وفتوى.

قال في المسالك بعد ذكر نحو مما ذكرناه : لكن يبقى في المسئلة بحث ، وهو أنه إذا لم يقبل قوله في الرد يلزم تخليده في الحبس لو أصر على إنكاره ، خصوصا مع إمكان صدقه ، وهم قد تحرجوا من ذلك في الغاصب حيث يدعى التلف ، فكيف بثبوته في الأمين ، الا أن يحمل على مؤاخذته ومطالبته به ، وان أدت إلى الحبس للاستظهار به ، الى أن يحصل اليأس من ظهور العين ، ثم يؤخذ منه البدل للحيلولة ، الا أن مثل هذا يأتي في دعوى التلف ، خصوصا من الغاصب ، وليس في كلامهم تنقيح لهذا المحل ، فينبغي النظر فيه انتهى.

أقول : ما ذكره من أنه إذا لم يقبل قوله ـ في الرد يلزم تخليده في الحبس الى آخره ـ لا أعرف له وجها وجيها بحسب نظري القاصر ، وفكرى الفاتر ، وأى موجب للحبس هنا ، وذلك فان المسئلة هنا أحد أفراد مسئلة المدعى والمنكر ، ولا ريب أن الحكم الشرعي فيها هو البينة على المدعى ، والا فاليمين على المنكر ، فإن أقام المدعى البينة على الرد انقطعت الدعوى والا حلف المالك ووجب على مدعى الرد دفع الحق اليه. والنظر الى كونه أمينا غير ملتفت اليه

٢٤١

هنا ، لما عرفت آنفا ، وكذا احتمال صدقه ، فإنه جار في كل دعوى ، وكونه كذلك بحسب الواقع لا يوجب الخروج عن مقتضى الحكم الشرعي ظاهرا ، فان الشارع حكم بثبوت الحق مع قيام البينة مطلقا ، أعم من أن تطابق الواقع أم لا وحكم بسقوطه مع حلف المنكر مطلقا ، والحق المدعى هنا هو الرد ، فبالبينة يثبت ، فينبغي المطالبة ، وباليمين يسقط ، وتتوجه المطالبة بالمال ، وان احتمل بحسب الواقع براءة ذمته لصحة دعواه.

وبالجملة فهذا الحبس الذي ذكره في المقام لا أعرف له وجها ولا ذكره غيره من الاعلام ، ومقتضى الحكم الشرعي في المسئلة انما هو ما ذكرناه ، هذا بالنسبة إلى كلام الأصحاب في المسئلة.

وأما بالنسبة الى الاخبار فالذي وقفت عليه مما يتضمن الحبس ، الروايات المتقدمة في كتاب الدين (١) ، وموردها كلها أن الامام (عليه‌السلام) يحبس في الدين إذ التوى الغريم حتى تبين له حاله من ملائه أو إفلاس ، فإذا تبين إفلاسه خلا عنه ، وفي رواية يدفعه إلى غرمائه ، وان تبين ملائته استوفى الحق منه ، وما نحن فيه لا تعلق له بما دلت عليه هذه الاخبار.

نعم روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (٢) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : كان على (عليه‌السلام) لا يحبس في السجن إلا ثلاثة : الغاصب ، ومن أكل مال اليتيم ظلما ، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها ، وان وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا» ،.

وهذا الخبر على ظاهره غير معمول عليه بين الأصحاب فيما أعلم ، ولذا حمله الشيخ على الحبس على سبيل العقوبة أو الحبس الطويل ، قال (قدس‌سره) : هذا الخبر يحتمل وجهين : أحدهما ـ انه ما كان يحبس على وجه العقوبة ، إلا الثلاثة الذين ذكرهم ، والثاني ـ انه ما كان يحبس طويلا إلا الثلاثة الذين

__________________

(١) ج ٢٠ ص ١٩٩.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩ ح ٤٣ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٨١ ح ٢.

٢٤٢

استثناهم ، لان الحبس في الدين انما يكون مقدار ما يتبين حاله ، انتهى ، وهو جيد.

وبالجملة فإن مقتضى النظر فيما نحن فيه هو إدراجه في قاعدة الدعوى الواقعة بين كل مدع ومنكر ، والعمل فيه بما تقتضيه القاعدة المذكورة شرعا والله العالم.

الثانية : إذا اشترى العامل من ينعتق بالشراء على المالك ، فهنا مقامان : الأول ـ أن يكون ذلك باذن المالك وعلم العامل أنه أبو المالك مثلا ولا ريب في صحة الشراء لوجود شرائطها ، ولا ريب أيضا في انعتاقه على ابنه ، كما لو اشتراه الابن بنفسه ، أو وكيل له غير العامل.

وحينئذ فإن بقي من مال المضاربة شي‌ء بعد الثمن كان الباقي مضاربة ، والا بطلت المضاربة في الثمن ، والوجه في ذلك عندهم هو أن مبنى المضاربة على طلب الربح وتحصيل الانتفاع بتقليب المال في الشراء والبيع ، وحينئذ فكل تصرف ينافي ذلك يكون باطلا ، ومن جملته شراء من ينعتق على المالك ، لانه موجب للخسارة ، فضلا عن الاشتمال على الغرض الذاتي من القراض ، فتبطل المضاربة في ثمنه ، لأنه بمنزلة التالف ، فإن بقي هناك مال بعد الثمن استمرت المضاربة فيه ، والا بطلت كما لو تلف جميع مال المضاربة.

وهل للعامل هنا أجرة المثل أم لا شي‌ء له؟ قولان : الثاني منهما للشيخ في المبسوط ، وبالأول صرح العلامة في المختلف ، والشهيد الثاني في المسالك (١) وهذا في ما لو لم يكن في العبد المشترى ربح واما لو حصل فيه ربح فهل يكون العامل شريكا في العبد بما استحقه من حصته من الربح أو أنه لا يترتب على هذا

__________________

(١) هذا الخلاف انما يتجه على تقدير القول المشهور بأن حصة العامل يتملك بالظهور كما هو المؤيد المنصور ، وأما على القول بأنها تملك بالإنضاض أو القسمة فلا ريب في عدم استحقاق الربح حينئذ لانتفائهما ، منه رحمه‌الله.

٢٤٣

الربح أثر ، وانما للعامل أجرة المثل؟ قولان : الأول منهما للشيخ في المبسوط وبالثاني صرح العلامة في المختلف.

قال في المبسوط : إذا اشترى من ينعتق على رب المال باذنه ، وكان فيه ربح انعتق ، وضمن للعامل حصته من الربح ، وان لم يكن ربح انصرف العامل ولا شي‌ء له.

قال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه ، الأجرة على التقديرين ، لبطلان القراض بالشراء المأذون فيه ، والوجه في القول الأول من هذين القولين هو ثبوت حصة العامل في العبد ، لتحقق الملك بالظهور كما هو الصحيح المشهور وان وجب ضمانها على المالك ، من حيث سريان العتق في العبد كما أشار إليه الشيخ في عبارته بقوله : وضمن للعامل حصته من الربح ، ولا يقدح في استحقاقه الحصة المذكورة ، عتقه القهري لصدوره باذن المالك.

والوجه في القول الثاني وهو اختيار العلامة كما عرفت ، ومثله الشهيد الثاني في المسالك (١) أيضا والظاهر أن المشهور ما أشار إليه العلامة فيما تقدم من كلامه بقوله ، لبطلان القراض وتوضيحه ما قدمنا ذكره من أن هذا الشراء خارج عن مقتضى المضاربة ، فإن متعلق الاذن فيها اشتمل على تقليب المال بالأخذ والعطاء مرة بعد أخرى لتحصيل الربح ، وهذا انما تضمن الخسارة لتعقب العتق له ، وحينئذ فإذا بطلت المضاربة فيه لم يترتب على ذلك الربح أثر ، وانما للعامل أجرة المثل عوض عمله خاصة.

فإن قيل : انه إذا كان هذا الشراء ليس من مقتضيات عقد القراض ، فإنه كما لا يستحق شيئا من الربح فكذا لا يستحق أجرة ، لأنه خلاف مقتضى العقد ،

__________________

(١) قالوا : فكأنه استرد طائفة من المال بعد ظهور الربح وأتلفها حينئذ فيسري على العامل مع يسار المالك ان قلنا بالسراية في مثله من العتق القهري أو مع اختيار الشريك السبب ، ويقوم له نصيبه مع يساره والا استسعى العبد فيه ، منه رحمه‌الله.

٢٤٤

فالجواب أن استحقاق الأجرة ليس باعتبار هذا الأمر بخصوصه بل بالنظر اليه والى غيره من المقدمات ، كالسفر للتجارة ، ونحو ذلك من الحركات والسكنات التي انما أتى بها لذلك ، ومع تسليم الانحصار في ما ذكر ، فإنه ان كان من الأمور التي تثبت في مثلها أجرة المثل يثبت الأجرة ، والا فكيف كان فالمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح الذي ينقطع به مادة القيل والقال.

الثاني : أن يكون الشراء بغير اذن المالك ، وحينئذ فإن وقع الشراء بعين المال ، فالظاهر أن المشهور بطلانه ، بناء على ما تقدم من منافاته للغرض الذاتي المطلوب من عقد القراض ، بل اشتماله على الإتلاف المحض.

ورد ذلك بأن غايته التصرف في مال الغير بغير اذنه ، ومقتضى ذلك هو كونه فضوليا فان قلنا بصحة الفضولي فهو صحيح هنا ، وان وقف في اللزوم على اجازة المالك ، هذا مع علمه بالنسب ، وعلمه بالحكم ، وأنه ينعتق عليه قهرا.

وأما مع جهله فإنه يحتمل كونه أيضا كذلك ، لأن الاذن في هذا الباب انما ينصرف الى ما يمكن بيعه وتقليبه في التجارة للاسترباح ، ولا يتناول غير ذلك ، فلا يكون ما سواه مأذونا فيه : غاية ما في الباب أنه قد التبس الأمر على العامل هنا ظاهرا من حيث الجهل ، وهو لا يقتضي الاذن ، وانما يقتضي عدم الإثم.

وبالجملة فالذي يترتب على الجهل انما هو عدم الإثم والمؤاخذة ، لا الصحة ويحتمل صحة البيع ويحكم بعتقه على المالك قهرا ، ولا ضمان على العامل ، لان مقتضى عقد القراض شراء ما يترتب عليه الربح بحسب الظاهر ، لا بحسب نفس الأمر ، وهذا من حيث الجهل كذلك ، وظهور كونه في نفس الأمر ليس كذلك لا يمنع من الصحة التي وقع عليها عقد الشراء ، ويترتب عليها العتق لاستحالة توجه الخطاب الى الغافل والا لزم التكليف بما لا يطاق.

وبالجملة فإن الأحكام الشرعية انما تترتب على الظاهر لا على نفس الأمر والخطابات والتكليفات انما تناط بما هو الظاهر في نظر المكلف من حل وتحريم

٢٤٥

وطهارة ونجاسة ونحوها ، لا ما كان كذلك في الواقع ، ولعل هذا الاحتمال أقرب من الأول.

وان وقع الشراء في الذمة لم تقع المضاربة ، لما تقدم في المسئلة الخامسة من المقصد الأول (١) من ان مقتضى إطلاق الإذن هو الشراء بعين المال ، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة فلا يخلو اما أن لا يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه ، وحينئذ يكون الشراء له ظاهرا وباطنا ، وان عينه لنفسه تعين له كذلك ، وان عينه للمالك لفظا فهو فضولي على القول بصحة الفضولي ، وان عينه له نية وقع للعامل بحسب الظاهر ، وبطل باطنا ، فلا ينعتق ، ويجب التخلص منه على وجه شرعي ، إذ ليس مملكا له في الواقع ونفس الأمر للنية المذكورة الصارفة عنه والله العالم.

الثالثة : ـ إذا كان مال القراض لامرأة فاشترى العامل زوجها فلا يخلو اما أن يكون الشراء بإذنها ، وحينئذ يكون الشراء صحيحا ، وينفسخ نكاحها لما قرر في محله من امتناع اجتماع الملك والنكاح.

أولا يكون الشراء بإذنها ، وفيه قولان : فقيل : بالصحة ، الا أنه ذكر في المسالك أن القائل به غير معلوم ، وانما ذكره المصنف بلفظ قيل : ولم يعلم قائله.

أقول : وهذا القول قد نقله العلامة أيضا في القواعد في المسئلة ، وعلل وجه الصحة هنا بأنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه ، ولا يتلف به رأس المال ، فيجوز حينئذ كما لو اشترى ما ليس بزوج.

وقيل : ببطلان الشراء المذكور لحصول الضرر على المالك به ، ويكون ذلك دليلا على عدم الرضا ، وتقييدا لما أطلقت من الاذن بدليل منفصل عقلي.

أقول : وهذان القولان حكاهما المحقق في الشرائع ، واختار منهما القول بالبطلان ، معللا له بأن عليها في ذلك ضررا ، وبينه في المسالك بما قدمنا ذكره ،

__________________

(١) ص ٢١٣.

٢٤٦

والعلامة في الإرشاد اقتصر مع عدم الاذن على القول بالبطلان جازما به من غير نقل قول آخر غيره.

وفي القواعد قال : قيل : يبطل الشراء لتضررها به ، وقيل : يصح موقوفا ، وقيل : مطلقا ، وأنت خبير بأن ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وكذا ظاهر الأردبيلي في شرح الإرشاد أن مقتضى التعليل الذي ذكر في وجه البطلان هو الرجوع الى العقد الفضولي ، لما عرفت من تعليل ذلك بحصول الضرر على المالك وموجب ذلك أنه لو رضى المالك زال المانع ، فيكون التعبير بالعقد الفضولي أنسب من الحكم بالبطلان مطلقا ، وظاهر العلامة في القواعد أن المشابهة بالعقد الفضولي والحمل عليه انما هو في جانب القول بالصحة ، حيث عبر عنه بأنه يصح موقوفا ، يعنى على الإجازة ، وفيه إشارة الى أن المراد بالقول بالبطلان انما هو مطلقا ، لا باعتبار عدم الإجازة كما فهمه في المسالك ، ثم انه ذكر القول بالصحة مطلقا.

وبالجملة فإنه قد تلخص أن أقوالهم في المسئلة ثلاثة ، صحة القول بالشراء مطلقا ، وبطلانه مطلقا ، والقول بكونه كالعقد الفضولي ، ونسب في المسالك نقل الأقوال الثلاثة إلى العلامة ، وهو كذلك كما سمعته من كلامه في القواعد ، الا أنه اقتصر على مجرد نقلها ، ولم يرجح شيئا منها ، وفي الإرشاد ظاهره الجزم بالبطلان مطلقا.

والظاهر أن المراد بالضرر الذي جعلوه حجة للإبطال هو انفساخ النكاح ، مع صحة الشراء ، والافاق العبد بعد الحكم بصحة الشراء يكون من جملة أموال القراض ، يترتب عليه ما يترتب عليها من جواز البيع ، وتحصيل الربح.

وفي ثبوت الضرر بذلك على إطلاقه إشكال ، فإن ثبت دليل على أن هذا ضرر يوجب بطلان الشراء ترتب عليه ما قالوه ، والا فالظاهر أن الشراء صحيح وان فسد النكاح ، وجرى العبد في مال المضاربة كغيره من أموالها.

٢٤٧

ثم انه على تقدير كون ذلك ضررا يوجب البطلان ، فالظاهر انه يرجع الى العقد الفضولي ، لا كما هو ظاهر القائل بذلك من البطلان مطلقا ، نظرا الى تلك القرينة المدعاة آنفا ، وحينئذ فإن قلنا ببطلان العقد الفضولي كما هو الأظهر وان كان خلاف الأشهر ، فالأمر واضح ، وان قلنا بصحته مع وقوفه في اللزوم على اجازة المالك ، رجع الأمر إلى الإجازة ، فان أجازته المرأة كان حكمه ما تقدم في صورة ما إذا كان الشراء بإذنها ، والا وقع باطلا.

إذا تقرر ذلك فاعلم أنه على تقدير القول بالبطلان مطلقا أو مع عدم الإجازة فالحكم واضح ، وأما على تقدير القول بالصحة ، فإن كان مستند الصحة انما هو اذن المرأة في الشراء ، أو إجازتها ذلك ، بناء على كون العقد فضوليا لم يضمن العامل ما فاتها من المهر والنفقة ، لأن فواته مستند إلى اذنها ورضاها.

وأما على القول بالصحة مطلقا وان لم يستند إلى اذنها أو رضاها كما هو أحد الأقوال الثلاثة المتقدمة ، فإن العامل يضمن المهر مع علمه بالزوجية ، وهو الذي صرح به في القواعد ، وغيره في غيره ، وربما قيل ، بضمانه في هذه الصورة ما فات مطلقا من مهر ونفقة ، وهو في المهر كما ذكرنا ظاهر ، فإنه جاء التفويت من قبله لعلمه بالزوجية ، وأن ملكها له موجب لبطلان النكاح وذهاب المهر ، ومع هذا شراه.

أما في النفقة فمشكل كما ذكره في المسالك ، قال : لأنها غير مقدرة بالنسبة إلى الزمان ، ولا موثوق باجتماع شرائطها ، بل ليست حاصلة لان من جملتها التمكين في الزمان المستقبل ، وهو غير واقع الآن ، الى أن قال : والظاهر اختصاصه بالمهر على هذا القول ، وهو الذي ذكره جماعة ، انتهى وهو جيد ، والله العالم.

المسئلة الرابعة : لو اشترى العامل أباه أو من ينعتق عليه ، فان ظهر فيه ربح حال الشراء ، فالأشهر الأظهر انه ينعتق نصيب العامل من العبد بقدر ماله من

٢٤٨

الربح فيه ، ويستسعى العبد في الباقي ، وهو حصة المالك سواء كان العامل مؤسرا أو معسرا.

وعلى هذا يدل صحيحة محمد بن قيس (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل دفع الى رجل ألف درهم مضاربة ، فاشترى أباه وهو لا يعلم؟ قال : يقوم فان زاد درهما واحدا أعتق واستسعى في مال الرجل». والحكم المذكور مبنى على تملكه الربح بمجرد الظهور ، كما هو مدلول الصحيحة المذكورة ، وهو الأشهر الأظهر.

وأما على القول بأن الملك انما يحصل بالقسمة أو الانضاض فإن البيع صحيح ، الا أنه لا ينعتق لعدم الملك حينئذ ، وإطلاق الحكم بالاستسعاء شامل لما لو كان العامل مؤسرا أو معسرا ، فان عدم الاستفصال دليل على العموم في المقال ، حيث حكم (عليه‌السلام) بالاستسعاء ، ولم يفصل فيه بين كون العامل مؤسرا أو معسرا وهو ظاهر.

وقيل : بأنه مع اليسار يقوم على العامل ، لاختياره السبب ، وهو موجب للسراية ، لأن اختيار السبب اختيار المسبب ، وحملت الرواية على إعسار العامل جمعا بين الأدلة ، أو على تجدد الربح بعد الشراء.

وفيه أن الرواية المذكورة دلت على أنه اشترى أباه وهو لا يعلم أى لا يعلم بكونه أباه ، فكيف يتم اختياره للسبب ، وهو لا يعلم حال الشراء.

نعم يحتمل صحة ما ذكروه على تقدير العلم ، الا أنه خارج عن مورد الخبر ، فلا يحتاج الى الجمع بما ذكروه ، وقيل : ببطلان البيع لانه مناف لمقصود القراض ، إذ الغرض هو السعي للتجارة التي تقبل التقليب للاسترباح وهذا الشراء بتعقب العتق له ينافي ذلك ، فيكون مخالفا للتجارة ، فيكون باطلا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ٨ وفيه عن محمد بن ميسر ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٣ الوسائل ج ١٣ ص ١٨٨ ح ١.

٢٤٩

لعدم الاذن فيه ، أو موقوفا على الإجازة.

وفيه أنه اجتهاد في مقابلة النص الصحيح ، فإنه دل على الصحة ، لكن مورده كما عرفت جهله بكونه ممن ينعتق عليه ، والعجب أنه لم يتنبه أحد من الأصحاب لهذا القيد في الخبر ، بل جعلوا الحكم فيه مطلقا كما سمعت من كلامهم ، وكأنهم بنوا على أنه إذا كان كذلك مع الجهل ، فمع العلم بطريق أولى.

وفيه أنه يمكن مع العلم أنه لا يجوز له الشراء ، لما فيه من المخالفة للغرض المقصود من القراض ، كما علل به القول بالبطلان في المسئلة كما سيأتي ذكره ، ويؤيده ما تقدم في المقام الثاني من المسئلة الثانية (١) ، فيما إذا اشترى من ينعتق على المالك بغير إذنه.

أما مع الجهل فيصح ويترتب عليه ما ذكر في الخبر ، وعلى هذا ينبغي إجراء الخلاف المذكور في غير مورد الخبر ، وهو العلم بكونه أباه ، فإنه لخلوه من النص حينئذ قابل لهذه الاحتمالات والأقوال المتعددة ، والحكم في هذه الصورة محل اشكال لما عرفت من خروجها عن مورد النص ، مع عدم دليل واضح على شي‌ء مما ذكروه ، سيما مع تدافع هذه التعليلات التي عللوا بها كلا من هذه الوجوه المذكورة ، هذا كله إذا كان ظهور الربح حال الشراء.

أما لو كان بعد ذلك كتجدده بارتفاع السوق ، ونحوه فإشكال ، لعدم النص الدال على حكم يكون المعول عليه في هذا المجال ، الا أنه يمكن أن يقال : انه بعد ظهور الربح بناء على التملك بمجرد الظهور كما هو الظاهر المشهور فإنه يجري فيه الحكم المذكور في الخبر المتقدم ، من أنه ينعتق نصيب العامل منه ، ويستسعى في الباقي ، لأن الظاهر من الخبر ترتب الحكم على ظهور الربح أعم من أن يكون وقت الشراء أو بعد ذلك ، فإنه هو السبب في العتق ، لكن

__________________

(١) ص ٢٤٥.

٢٥٠

ينبغي التقييد بصورة الجهل كما أشرنا إليه آنفا إذ مع العلم لا يبعد القول بالبطلان كما عرفت أيضا ، والله العالم.

الخامسة : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لما كان القراض من العقود الجائزة ، فلكل من المالك والعامل فسخه بقوله فسخت القراض ، أو أبطلته أو رفعته أو نحو ذلك مما يؤدى هذا المعنى أو بقول المالك للعامل لا تتصرف بعد هذا ، أو يقول رفعت يدك ، وكذا يحصل ببيع المالك المال لا بقصد اعانة العامل وحينئذ فإن كان هناك ربح يقسم بعد إخراج رأس المال ، وان لم يكن ثمة ربح فللعامل أجرة المثل الى ذلك الوقت الذي حصل فيه الفسخ.

ولو كان في المال عروض فهل للعامل أن يبيعها بغير اذن المالك؟ قولان : ولو طلب منه المالك الانضاض هل يجب عليه أم لا؟ قولان : أيضا ، وان كان سلفا كان عليه جبايته.

قال في التذكرة : قد بينا أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين كالوكالة والشركة ، بل هو عينهما ، فإنه وكالة في الابتداء ، ثم يصير شركة في الأثناء ، فلكل واحد من المالك والعامل فسخه ، والخروج منه متى شاء ، ولا يحتاج فيه الى حضور الأخر ورضاه ، لان العامل يشترى ويبيع لرب المال باذنه فكان له فسخه كالوكالة ، الى أن قال : إذا ثبت هذا فان فسخا العقد أو أحدهما فإن كان قبل العمل عاد المالك في رأس المال ، ولم يكن للعامل أن يشترى بعده وان كان قد عمل فان كان المال ناضا ولا ربح فيه أخذه المالك أيضا ، وكان للعامل أجرة عمله الى ذلك الوقت ، وان كان فيه ربح أخذ رأس ماله وحصته من الربح ، وأخذ العامل حصته منه ، وان لم يكن المال ناضا فان كان دينا بأن باع نسية باذن المالك ، فان كان في المال ربح كان على العامل جبايته ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وان لم يكن هناك ربح ، قال الشيخ (رحمة الله عليه) يجب على العامل جبايته ، وبه قال الشافعي إلى آخر كلامه.

٢٥١

أقول : والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ قولهم أنه متى فسخ المالك وكان المال ناضا ولا ربح فيه فللعامل أجرة المثل ، قيل ووجهه من حيث أن عمله محترم باذن المالك ، وليس على وجه التبرع بل في مقابلة الحصة ، وحيث أنه فاتت بفسخ المالك قبل ظهور الربح فإنه يستحق أجرة عمله الى حين الفسخ.

وفيه نظر ، لانه لم يدخل الا على تقدير الحصة من الربح على تقدير وجودها ، ومن الجائز أن لا يحصل ربح بالكلية ، أو يحصل مع فواته بجبر نقص رأس المال ، فلا يحصل له شي‌ء بالكلية ، والحصة فيما نحن فيه غير موجودة ، وإثبات أجرة المثل يتوقف على الدليل ، فان قيل : أنه انما جعل له الحصة على تقدير استمراره الى أن يحصل ، وهو يقتضي عدم عزله قبل حصولها ، فان خالف فقد فوتها عليه ، فيجب عليه أجرته ، قلنا : لا يخفى أن مقتضى عقد القراض حيث كان من العقود الجائزة هو جواز فسخه في كل وقت منهما ، أو من أحدهما ، فدخول العامل في هذا العقد مع علمه بما يقتضيه ويترتب عليه رضا منه بذلك فقول هذا القائل : أن العقد يقتضي عدم عزله قبل حصول الحصة ، ليس في محله على أنك قد عرفت أنه يجوز أن يستمر العقد ، ولا يحصل ربح بالكلية ، أو يحصل ولكن يفوت بجبر نقصان رأس المال.

وبالجملة فإن إثبات هذه الأجرة المذكورة يحتاج الى دليل واضح ، وليس فليس ، والتعليل المذكور عليل بما عرفت.

وهذا البحث يأتي أيضا فيما لو لم يكن المال ناضا لا ربح فيه ، فان الكلام المذكور جار فيه أيضا ، هذا كله فيما إذا كان الفسخ من المالك.

أما لو كان الفسخ في هذه الحال من العامل ، فإنه لا شي‌ء له كما هو ظاهر بعضهم ، والوجه فيه ظاهر ، لقدومه على ذلك ، وعدم صبره الى أن يحصل الربح وأجرة المثل انما أوجبوها على المالك في الصورة الأولى حيث أنه كان سببا في تفويت الأجرة ، وحينئذ فلا شي‌ء له.

٢٥٢

وفي التذكرة أطلق الحكم بثبوت الأجرة لو فسخا العقد أو أحدهما ، وكان ناضا لا ربح ، والظاهر بعده.

الثاني ـ ما ذكروه فيما إذا كان الفسخ قبل الانضاض ، وكلامهم هنا مجمل يحتاج الى توضيح وتنقيح ، فإنه لا يخلو في هذه الصورة اما أن يكون في المال ربح ، أو لا ، فعلى الأول متى قلنا بأن الربح يملك بمجرد الظهور كما هو الصحيح المشهور ، والمؤيد المنصور ، فان اتفقا على أن العامل يأخذ حصته من تلك العروض فلا بحث ، وكذا ان اتفقا على الانضاض ، وأخذ العامل حصته بعد الانضاض.

أما لو طلب المالك من العامل الانضاض من غير إرادته ذلك ، فظاهرهم وجوب ذلك على العامل ، قالوا : لان استحقاقه الربح وان ثبت بالظهور الا أن استقراره مشروط بالإنضاض ، لاحتمال ما يقتضي سقوطه.

وعندي فيه إشكال ، لأن ذلك انما يتم قبل الفسخ ، حيث أنه مقتضى عقد القراض ، وأما بعده وصيرورة العامل كالأجنبي الشريك في ذلك المال ، فإلزامه بما قالوه يتوقف على دليل واضح ، سيما مع إمكان أخذ الحصة من العروض ، فان غايته أنه يكون شريكا في تلك العروض ، والشريك لا يجب عليه الانضاض بطلب شريكه.

وهكذا باقي الكلام فيما لو طلب العامل الانضاض ، فهل يجب على المالك إجابته أم لا؟ قولان : والظاهر العدم لما عرفت أيضا.

وبالجملة فإن إثبات الوجوب على أحدهما بعد فسخ المعاملة يحتاج الى دليل واضح ، والتمسك في دفعه بالأصل أقوى مستمسك.

وعلى الثاني فإن للمالك أن يأخذه ان شاء ، وهل عليه أجرة المثل للعامل هنا أم لا؟ قولان : والكلام هنا كما تقدم فيما إذا كان المال ناضا ولا ربح ، كما أشرنا إليه آنفا.

٢٥٣

وهل للعامل أن يبيعه ان أراد بغير رضا المالك أم لا؟ قولان : أظهرهما الثاني ، لأن هذه العروض ملك للمالك ، ولا تعلق للعامل فيها بوجه إذ المفروض عدم الربح والتصرف فيها بغير اذن المالك محرم بلا ريب.

وأما ما تعلق به القائل بالجواز من تعلق حق العامل به ، واحتمال وجود زبون يزيد في الثمن ، فيحصل الربح مردود. بأن تعلق حق العامل به انما يتم مع وجود شي‌ء من الربح ، إذ لا حق له في رأس المال ، والمفروض هنا عدم وجود ربح بالكلية ، واحتمال وجود زبون أضعف.

نعم لو كان الزبون موجودا بالفعل اتجه ما ذكره ، وكان من قبيل ما لو ظهر فيه ربح كما قدمنا ذكره.

وهل للمالك في هذه الصورة إلزام العامل بالإنضاض أم لا؟ قولان : أيضا ، واستدل على الأول بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وقد أخذه نقدا فيجب رده اليه ، ولحدوث التغيير في المال بفعله ، فيجب رده.

ولا يخفى ما فيه ، فان الأخذ والتصرف بالشراء انما حصل باذن المالك ، والتغيير انما نشأ عن اذنه ، فلا يستعقب ضررا على العامل ، والأصل عدم الوجوب ، والخبر المذكور لا عموم فيه على وجه يشمل محل البحث ، ومع تسليمه فإن الأداء أعم من أن يكون بالمثل أو العوض.

وبالجملة فالأصل العدم ، وهو أقوى دليل في المقام ، فلا يخرج عنه الا بنص واضح ، وكذلك أيضا الأصل بعد ارتفاع العقد ، البراءة من عمل لا عوض عليه.

الثالث ـ ما ذكروه فيما إذا كان المال سلفا وتفصيل القول في ذلك أنه لا ريب كما عرفت فيما تقدم أن العامل ليس له البيع بالدين الا مع الإذن ، لأنه خلاف مقتضى عقد المضاربة ، وكذا ليس له الشراء نسية الا مع ذلك لما ذكر ، فلو فعل بغير اذن كان الثمن مضمونا عليه ، ولا إشكال في ذلك.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

٢٥٤

وانما الكلام فيما إذا أذن له المالك ، وقد أطلق جمع منهم المحقق في الشرائع وجوب جبايته بعد الفسخ على العامل ، وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة تقييد ذلك بما إذا كان في ذلك المال ربح ، وعن الشيخ القول بالإطلاق كما هو ظاهر الجماعة المذكورين ، وبه صرح في القواعد أيضا فقال : إذا فسخ والمال دين وجب على العامل تقاضيه ، وان لم يظهر ربح.

وبالجملة فظاهرهم الاتفاق على وجوب الانضاض في الجملة ، وانما الخلاف في تخصيص ذلك بصورة وجود الربح كما هو ظاهر التذكرة أو مطلقا ، كما هو ظاهر الأكثر ، وعللوا ذلك باقتضاء المضاربة رد رأس المال عن صفته ، والزبون لا يجرى مجرى المال ، ولان الدين ملك ناقص ، والذي أخذه كان ملكا تاما فليؤد كما أخذ لظاهر «على اليد ما أخذت حتى تؤدى».

وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم الصلوح ، لابتناء الأحكام الشرعية عليها ، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم ، فان الوجوب والتحريم ونحوهما أحكام شرعية يتوقف على الدليل الواضح ، والأدلة عندنا منحصرة في الكتاب والسنة ، وعندهم بضم الإجماع ، ولا إجماع مدعى في المسئلة ، على أن ما ذكروه من التعليل المذكور معارض بأن الإدانة إنما حصلت باذن المالك كما هو المفروض.

وقولهم ان المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته مسلم مع الاستمرار على العقد ، وأما مع فسخه سيما ان كان الفاسخ هو المالك ، فهو ممنوع والأصل عدم الوجوب ، وبراءة الذمة منه ، وهو أقوى دليل حتى يقوم الدليل الواضح على خلافه.

وأما قوله في المسالك في رد ذلك : أنه يضعف بأن اذن المالك فيه انما كان على طريق الاستيفاء لا مطلقا ، بدلالة القرائن ، ولاقتضاء الخبر ذلك.

ففيه ان ذلك انما يتم مع الاستمرار على العقد المذكور لا مع فسخه ، سيما إذا كان الفاسخ له هو المالك.

٢٥٥

وبالجملة فإن مقتضى عقد القراض والاذن فيه هو جميع ما ذكره ، وأما بعد فسخه فدعوى كون ذلك الإذن يقتضي ما ذكروه مع الحكم ببطلان العقد بالفسخ محل المنع ، لاختلاف الحالين ، وتغاير الحكمين من جميع الجهات ، ومن جملتها هذا الموضع ، والمانع مستظهر وأما دعواه اقتضاء الخبر ذلك فهو أضعف ، لما عرفت ، ولو تم الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكروه للزم منه أيضا جريان ذلك في الوكيل ، إذا اشترى باذن موكله عروضا ثم عزله الموكل عن الوكالة ، فإنه يجب عليه بيع تلك العروض ، وتنقيد الثمن ، والرد على المالك كما قبضه منه ولا قائل بذلك فيما أعلم ، وهم قد صرحوا كما تقدم بأن عقد القراض يتضمن الوكالة ، بل هو وكالة في الأول كما تقدم في كلام العلامة وغيره مع أنه لم يصرح أحد منهم في الوكالة بذلك بل الظاهر أنه متى عزله الموكل امتنع تصرفه سواء كان المال نقدا أو عروضا.

فرع :

لو مات صاحب المال انفسخ العقد لان موت أحدهما من جملة أسباب الفسخ ، فلو كان ذلك والمال عروض فالظاهر أنه لا إشكال في جواز بيع العامل له مع الاتفاق على ذلك بينه وبين الوارث.

وأما مع عدم الاتفاق على ذلك فظاهر الأصحاب أن الكلام هنا حسب ما تقدم من الخلاف في صورة الفسخ مع حيوة المالك ، من أنه هل لكل واحد منها مطالبة الأخر بالإنضاض أم لا؟ وظاهر جملة منهم أن للعامل هنا البيع بالاذن السابق الا أن يمنعه الوارث ، وقيل : انه ليس للعامل البيع ، وان لم يمنعه الوارث ، لان المال الان حق لغير من أذن فيه أو لا ، فلا يجوز التصرف فيه الا بإذنه لبطلان العقد ، وهو جيد.

وفي التذكرة نسب الأول إلى المشهور بين الشافعية والثاني إلى وجه

٢٥٦

آخر لهم أيضا ، ونفى عنه البأس ، ووجهه ظاهر كما عرفت ، والله العالم.

السادسة : قد تقرر ان مقتضى المضاربة هو عمل العامل بنفسه ، فلا يجوز أن يضارب غيره الا بإذن المالك لما فيه من التغرير بمال المالك ، والتصرف فيه بغير اذنه ، وهو محرم ، فان اذن له المالك صح وكان وكيلا من قبل المالك في ذلك ، فان كان بعد عمل العامل الأول وقد ظهر فيه ربح فله حصته من الربح ، بناء على الأشهر الأظهر من أنه يملك الربح بمجرد الظهور.

وأما على القول بتوقفه على الانضاض أو القسمة فلا ، ولكن له أجرة المثل بمقتضى كلام الأصحاب وبه صرح في التذكرة هنا أيضا ، وأيما كان فإنه ليس للعامل الأول على هذا التقدير أن يشترط لنفسه شيئا من الربح ، إذ ليس له مال ولا عمل هنا ، والربح تابع لهما ، ولا فرق في هذه الصورة بين جعل الحصة للعامل الثاني بقدر حصة الأول التي وقع عليها الاتفاق بين المالك والعامل الأول ، أو أقل ، وعلى تقدير كونها أقل فإن هذه الزيادة لا يستحقها العامل الأول ، إذ ليس هذا عملا من أعمال التجارة التي يستحق به حصة ، بل هي للمالك ، ولو كان أذن المالك للعامل الأول في المضاربة ، لا بهذا المعنى المذكور ، بل بمعنى إدخال من أراد معه ، وجعلهما اثنين مثلا ، وحاصله جعل الثاني شريكا له في العمل والحصة ، فلا مانع من ذلك ، بل يكون صحيحا لزوال المانع المذكور آنفا ، وهو عدم العمل ، هذا كله مع الاذن له في المضاربة.

أما لو لم يأذن له فإنه لا يصح القراض الثاني ، لما عرفت آنفا من أنه تصرف بغير اذن المالك ، وتغرير به.

وحينئذ فلو عمل به العامل الثاني والحال هذه وظهر فيه ربح فلا خلاف في أن نصفه للمالك ، وانما الخلاف في النصف الأخر ، وفيه أقوال ثلاثة : أحدها ـ أنه للعامل الأول ، واختاره في الشرائع والعلامة في الإرشاد وعلل

٢٥٧

بوقوع العقد الصحيح بينه وبين المالك ، على أن يكون ذلك له ، فيستحقه لاشتراطه له ، وعقده مع الثاني باطل لما عرفت.

قالوا : وعلى هذا فللعامل الثاني على الأول أجرة مثل عمله ، لانه غره.

وفيه انه انما يتم مع جهل العامل الثاني أما مع علمه بكون العامل الذي ضاربه غير مالك ، ولا مأذون من المالك ، فإنه لا يستحق شيئا ، لأنه تصرف في مال الغير بغير اذنه مع علمه بأنه ممنوع منه ، وفي هذا القول أيضا زيادة على ما عرفت أنه لا يخلو اما أن يكون العامل الثاني قد شرى بعين المال ، أو في الذمة ، وعلى الأول فإن العقد يكون فضوليا ، لانه غير مأذون من المالك فينبغي بمقتضى صحة العقد الفضولي عندهم أن يكون موقوفا على الإجازة ، فان اجازه المالك فالواجب أن يكون الربح كله له ، لان العامل الأول لم يعمل شيئا ، والثاني غير مأذون.

وعلى الثاني فإن نوى وصرح بالمالك فكذلك أيضا ، والا وقع لمن نواه ولنفسه ان أطلق ، وبه يظهر أن ما أطلق في هذا القول من كون الحصة للعامل الأول ليس في محله.

وثانيها ـ أن النصف الأخر للمالك ، وهو ظاهر العلامة في التذكرة قال بعد ذكر المسئلة : فان حصل ربح فالأقرب أنه للمالك ، ثم لا يخلو اما أن يكون العامل الثاني عالما بالحال أو لا ، فان كان عالما لم يكن له شي‌ء ، وان لم يكن عالما رجع على الأول بأجرة المثل ، انتهى.

وكلامه ظاهر في منع العامل الثاني من الربح وعدم استحقاقه شيئا منه ، وأما الأول فلم يتعرض له ، وينبغي أن يعلم أن الوجه في عدم استحقاقه ، هو انه لم يعمل شيئا يوجب استحقاقه بشي‌ء من الربح ، وعلل منع الثاني أيضا ، بأن عقده فاسد ، فلا يترتب عليه أثر ، والحق هو التفصيل بما تقدم في القول الأول من أن الشراء وقع بعين المال أو في الذمة حسب ما عرفت ، وبه يظهر أنه

٢٥٨

لا يتم القول بأن عقده فاسد.

وثالثها ـ ان النصف بين العاملين بالسوية ، اتباعا للشرط ، خرج منه النصف الذي أخذه المالك ، فكأنه تالف ، وانحصر الربح في الثاني ، قالوا : وعلى هذا فيرجع العامل الثاني على الأول بنصف أجرته ، لأنه دخل على نصف الربح بتمامه ، ولم يسلم اليه الا نصفه.

قيل : ويحتمل هنا عدم الرجوع ، لان الشرط محمول على اشتراكهما فيما يحصل ، ولم يحصل الا النصف.

وكيف كان فينبغي أن يعلم أن هذا كله مع الجهل ليتم التوجيه المذكور والا فمع العلم فالعمل على ما تقدم من التفصيل بكون الشراء بالعين ، أو في الذمة ، فلا يتم ما ذكر هنا.

أقول : وهذه الأقوال الثلاثة نقلها المحقق في الشرائع في المسئلة ، واختار الأول منها ، وقال في المسالك : وهذه الأقوال ليست لأصحابنا ، ولا نقلها عنهم أحد ممن نقل الخلاف ، وانما هي وجوه للشافعية ، موجهة ذكرها المصنف والعلامة في كتبه.

وفيه انك قد عرفت اختيار المحقق القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة ، وهو أيضا اختيار العلامة في الإرشاد والثاني منها اختيار العلامة في التذكرة ، ومثله في القواعد.

واما الثالث فلم أقف على قائل به ، وبه يظهر أن قوله في المسالك ان هذه الأقوال ليست لأصحابنا ، وانما هي وجوه للشافعية ليس في محله ، فان ذكر الشافعية لها وجوها في المسئلة لا ينافي اختيار أصحابنا لما يترجح عندهم منها ، بل أنت إذا تأملت بعين التحقيق عرفت أن جميع الفروع الغير المنصوصة في أخبارنا في جل أبواب الفقه انما هي للعامة ، وأصحابنا قد جروا على ما جروا عليه فيما يختارونه منها ، كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع ، ومنها هذه المسئلة.

٢٥٩

والقول الثالث في هذه الأقوال قد نقله العلامة في التذكرة بعد اختياره القول الثاني عن المزني من الشافعية ، وقال : انه قول الشافعي في القديم ، ثم انه قال في المسالك بعد البحث وذكر الأقوال فيها : والتحقيق في هذه المسئلة المترتب على أصولنا أن المالك ان أجاز العقد فالربح بينه وبين الثاني على الشرط ، وان لم يجزه بطل ، ثم الشراء ان كان بالعين وقف على اجازة المالك ، فان أجازه فالملك له خاصة ، ولا شي‌ء لهما في الربح ، أما الأول فلعدم العمل ، وأما الثاني فلعدم الاذن له ، وعدم وقوع العقد معه ، والثاني أجرة مثل عمله على الأول مع جهله ، لا مع علمه ، وان كان الشراء في الذمة ونوى صاحب المال فكذلك ، وان نوى ممن عامله وقع الشراء له ، لانه وكيله وان لم ينو شيئا أو نوى نفسه فالعقد له ، وضمان المال عليه لتعديته بمخالفة مقتضى المضاربة ، وحيث لا يقع العقد للعامل الثاني فله الأجرة على الأول مع جهله ان لم يتعد مقتضى المضاربة عمدا ، انتهى.

وهو جيد الا انه في جل المواضع مبتن على القول بصحة العقد الفضولي وتوقفه على الإجازة ، وأما على القول ببطلانه كما هو الظاهر عندي وعند جملة من المحققين كما تقدم في محله فالأمر واضح في جملة هذه المواضع والله العالم.

السابعة : لو أنكر العامل مال القراض فأثبته المالك بالبينة ، فادعى العامل بعد ذلك التلف ، فقد صرح الأصحاب بأن هذه الدعوى الأخيرة غير مقبولة ، وكذا الحكم فيما لو ادعى عليه وديعة أو غيرها من الأمانات فأنكرها ، ثم بعد الإثبات ادعى التلف قالوا : والوجه فيه أن دعواه التلف مكذبة لإنكاره الأول وموجبة للإقرار به ، وإنكاره الأول نوع تعد في المال ، والواجب عليه في جميع هذه المواضع البدل أو القيمة.

أما لو كان جوابه لا يستحق عندي شيئا وما أشبهه لم يضمن ، إذ ليس في

٢٦٠