الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

أقول : قال الشيخ في الخلاف : لا يصح القراض إذا كان رأس المال جزافا (١) لان القراض عقد شرعي يحتاج الى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على صحة هذا القراض ، فوجب بطلانه ، والظاهر أنه هو المشهور.

وقال في المبسوط : يبطل ، وقال قوم يصح ، ويكون القول قول العامل في قدره ، فإن أقاما بينتين كان الحكم لبينة المالك ، لأنها بينة الخارج ، قال : وهذا هو الأقوى عندي.

قال في المختلف : وما قواه الشيخ هو الأجود ، لنا الأصل الصحة ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «المؤمنون عند شروطهم». وقد وجد شرط سائغ فيحكم به ، انتهى.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ترجيح الأول من حيث الجهالة ، وظاهر المحقق الأردبيلي الميل الى الثاني ، لعموم الأدلة ، وعدم الدليل الواضح على المنع ، والمسئلة محل توقف لعدم الدليل الواضح على الجواز ، والتعلق بإطلاق الأدلة مردود بما عرفت في غير مقام مما تقدم ، من أن الإطلاق يجب حمله على الافراد المتعارفة المتكررة الشائعة ، وذلك انما هو مع التعين ، ومعلومية المقدار ، وعدم تطرق الجهالة بوجه من الوجوه.

وكيف كان فإنه لا إشكال في كون القول قول العامل بيمينه لو اختلفا في قدره ، صحت المضاربة أم بطلت ، لانه منكر ، ومقتضى القاعدة تقديم قوله بيمينه ، ومع وجود البينتين وتعارضهما فان الحكم لبينة المالك ، لانه المدعى

__________________

(١) قال في التذكرة : لا يصح القراض على الجزاف وان كان مشاهدا له مثل قبضة من ذهب أو فضة مجهولة القدر أو كيس من الدراهم مجهول القدر سواء شاهده العامل والمالك أو لا ، وبه قال الشافعي ، لعدم إمكان الرجوع اليه عند المناضلة فلا بد من الرجوع الى رأس المال عندها ، وأن جهالة رأس المال يستلزم جهالة الربح ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن يكون رأس المال مجهولا ويكون القول قول العامل بيمينه الا أن يكون لرب المال بينة فبينة رب المال أولى انتهى ، منه رحمه‌الله.

٢٢١

ومقتضى القاعدة تقديم قوله ببينته ، وكذا لا ينعقد القراض بناء على ما قدمنا لو أحضر مالين معدودين ، فقال : قارضتك بأيهما شئت ، لانتفاء التعيين الذي هو شرط في صحة العقد ، كما عرفت ، ولا فرق بين أن يكون المالان متساويين جنسا وقدرا أو مختلفين ، خلافا لبعض العامة ، حيث جوزه مع التساوي ، وظاهر المحقق المتقدم ذكره الميل الى الجواز هنا أيضا استنادا الى عموم الأدلة ، وفيه ما عرفت.

الرابع : لو أخذ مالا للمضاربة مع عجزه عنه بمعنى أنه يعجز عن تقليبه في التجارة والبيع والشراء به لكثرته ، قالوا : لا يخلو اما أن يكون المالك عالما بعجزه ، أو جاهلا بذلك ، فان كان الثاني فإنه يضمن ، لانه مع علمه بنفسه وأنه يعجز عن ذلك يكون واضعا يده على المال على غير الوجه المأذون له فيه ، فإنه إنما دفع اليه ليعمل به في التجارة.

لكن هل يكون ضامنا للجميع أو القدر الزائد على مقدوره قولان : اختار أولهما في المسالك ، ووجه الأول من عدم التميز والنهى عن أخذه على هذا الوجه ووجه الثاني من أن التقصير انما حصل بسبب الزائد ، فيختص به ، وربما قيل : انه ان أخذ الجميع دفعة ، فالحكم الأول ، وان أخذ المقدور ثم أخذ الزائد ولم يمزجه به ضمن الزائد خاصة ، وأورد عليه بأنه بعد وضع يده على الجميع عاجز عن المجموع من حيث هو مجموع ، ولا ترجيح الان لأحد أجزائه ، إذ لو ترك الأول وأخذ الزيادة لم يعجز.

أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات العليلة من عدم الصلوح لابتناء الأحكام الشرعية عليها ، والحكم غير منصوص ، وبه يظهر ما في الاستناد في عموم الضمان إلى النهى ، وأى نهى هنا مع عدم نص في المسئلة ، وكأنه أشار بهذا النهي الى ما ذكر من قوله يكون واضعا يده على المال غير الوجه المأذون فيه.

وفيه أنه يمكن تخصيصها بالزائد لأنه هو الذي حصل فيه العجز ، فيكون

٢٢٢

هو الغير المأذون فيه ، وأما ما كان يمكن العمل به فإنه يكون مأذونا فيه.

وبالجملة فالحكم لا يخلو من شوب الاشكال لما عرفت لعدم الدليل الواضح.

قالوا : ولو كان المالك عالما بعجزه لم يضمن ، اما لقدومه على الخطر ، أو أن علمه بذلك يقتضي الإذن له في التوكيل.

أقول : وفيه بالنسبة إلى التعليل الأول ما في سابقه من الإشكال ، إذ من الممكن أن يكون عالما بعجزه ، لكن يجوز حصول القدرة له بعد ذلك بوجود من يساعده ، أو بتجدد بعض الأسباب الموجبة للقدرة ، ومع عدم إمكان ذلك فانا لا نسلم أنه بمجرد علمه بعدم القدرة مع أنه انما دفعه إليه لأجل المعاملة به ، وتحصيل الربح والنفع ينتفي عنه الضمان ، إذ لا أقل أن يكون في يده كالأمانة ، ومجرد دفعه له على هذا الوجه لا يستلزم جواز فواته على مالكه ، لان المدفوع اليه عاقل مكلف أمين ليس بمجنون ولا سفيه ، حتى يكون المالك قد فرط بدفعه اليه ، ولكن قد تقدم لهم مثل هذا الكلام في مسئلة بيع الفضولي ، وقد أوضحنا ما فيه (١).

قالوا : وحيث يثبت الضمان لا يبطل العقد ، إذ لا منافاة بين الضمان وصحة العقد.

أقول : ويدل عليه ما تقدم في تلك الاخبار وعليه اتفاق الأصحاب من أنه مع المخالفة لما شرطه المالك فإنه يضمن ، والربح بينهما.

الخامس : لو كان له مال مغصوب في يد شخص وذلك المال موجود معين معلوم القدر ، فإنه يجوز عندهم أن يقارض عليه الغاصب مع استكمال باقي

__________________

(١) وأما بالنسبة إلى التعليل الثاني فعدم الضمان عليه انما هو من حيث أنه مأذون في دفعه الى الغير ليعمل به ، فلو حصل من ذلك الغير تفريط يوجب ذهاب المال مثلا فإن الأول لا يضمن من حيث الاذن في الدفع ، وانما الكلام في الثاني فيراعى فيه حكم عامل المضاربة منه رحمه‌الله.

٢٢٣

الشروط ، والظاهر أن الحكم اتفاقي عند الأصحاب ، إذ لم أقف على نقل خلاف في المسئلة والظاهر أنه لا إشكال في ذلك المضاربة ، وكذا لا اشكال ولا خلاف في أنه متى وقعت المضاربة واشترى العامل وهو الغاصب بذلك المال المغصوب عروضا ودفعه عن قيمتها ، فإنه تبرئ ذمته من الضمان الثابت عليه بالغصب ، لانه قضى دين المالك بإذنه.

إنما الخلاف في انه هل تبرئ ذمته بمجرد عقد المضاربة أم لا؟ الظاهر أن المشهور الثاني ، وبالأول صرح العلامة وولده في الشرح ، قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : ووجه بقاء الضمان أنه كان حاصلا قبل ولم يحصل ما يزيله ، لان عقد القراض لا يلزمه عدم الضمان ، فإنه قد يجامعه بأن يتعدى فلا ينافيه ، ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وحتى لانتهاء الغاية ، فيبقى الضمان إلى الأداء اما الى المالك ، أو من أذن له ، والدفع إلى البائع مأذون فيه ، فيكون من جملة الغاية. ثم نقل عن العلامة أنه استقرب زوال الضمان هنا ، وتبعه ولده في الشرح ، مستندا الى أن القراض أمانة ، فصحة عقده يوجب كون المال أمانة ، لأن معنى الصحة ترتب الأثر ، ولانتفاء علة الضمان لزوال الغصب ، ولانه أذن في بقائه في يده.

ثم اعترض عليه بأن معنى كون القراض أمانة من حيث أنه قراض ، وذلك لا ينافي الضمان من حيثية أخرى ، كما لو كان غصبا لعدم المنافاة ، فإن الضمان قد يجامعه كما إذا تعدى العامل ، الى أن قال : اما اقتضاء العقد الاذن في القبض فضعفه ظاهر ، لان مجرد العقد لا يقتضي ذلك ، وانما يحصل الإذن بأمر آخر ولو حصل سلمنا زوال الضمان انتهى.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

٢٢٤

أقول : قال العلامة في التذكرة (١) وهل يزول عن الغاصب ضمان الغصب بعقد المضاربة عليه أو بدفعة إلى بائع السلعة للقراض؟ أبو حنيفة ومالك على الأول ، لأنه ماسك له باذن صاحبه ، والشافعي على الثاني لعدم التنافي بين القراض وضمان الغصب كما لو تعدى فيه ، والوجه عندي الأول ، لأن ضمان الغصب يتبع الغصب والغصب قد زال بعقد القراض ، فيزول تابعه انتهى.

والظاهر أن الحق في المسئلة هو ما ذكره العلامة ، وبيانه أنه لا ريب أن ترتب الضمان على الغصب ـ ووجوب الضمان على الغاصب ـ انما هو من حيث كون المقبوض كذلك بغير رضا المالك ولا أجازته ، وحينئذ فلو فرض ان المالك رضى بالغصب وأجاز قبض الغاصب ، لا يتعقبه ضمان ولا اثم ، وبذلك يعلم أن الضمان وعدمه دائر مدار الرضا بالقبض وعدمه ، ولا أظن أن شيخنا المذكور ولا غيره يخالف في شي‌ء مما ذكرناه.

وحينئذ فإذا حصلت المضاربة بذلك المال المغصوب قد حصل الرضا بالقبض ، فيزول موجب الضمان كما عرفت.

وأما قول شيخنا المذكور أنه لا مانع من اجتماع صحة القراض مع الضمان ، وهو صحيح ، الا أن ذكر ذلك هنا نوع مغالطة ، فإنا لا نمنع ذلك ، ولكنا نقول أن ثبوت الضمان متوقف على وجود سبب يقتضيه ، وفي ما ذكره السبب موجود ، وهو المخالفة ، وأما فيما نحن فيه فلا سبب له الا استصحاب الضمان وقت الغصب ، والاستصحاب هنا غير تام ، لعروض حالة أخرى غير الحالة التي كان عليها وقت الغصب ، وشرط العمل بالاستصحاب على تقدير تسليم حجيته أن لا يعرض ما يخالف العلة الاولى ويرفعها ، والأمر هنا على خلاف ذلك ، لما عرفت من عدم الرضا

__________________

(١) أقول : صورة كلام التذكرة إذا ثبت هذا فإذا اشترى شيئا للقراض وسلم المال المغصوب إلى البائع صح وبرء من الضمان حيث سلمه باذن صاحبه ، فإن المضاربة تضمنت تسليم المال إلى البائع في التجارة وهل يزول عن الغاصب الى آخر ما هو مذكور في الأصل منه رحمه‌الله.

٢٢٥

أولا وحصول الرضا ثانيا وقد عرفت أن ثبوت الغصب وعدمه دائر مدار الرضا وعدمه.

وأما قوله : ان مجرد العقد لا يقتضي ذلك ، وانما يحصل الإذن بأمر آخر فلا يخفى ما فيه ، اما أولا فلأنه قد تقدم في صدر الكتاب تعريف المضاربة بأنها عقد شرعي لتجارة الإنسان بمال غيره بحصة من الربح.

ومن الظاهر أن ثبوت شرعية هذا العقد على الوجه المذكور لا تجامع الغصب ، بل لا يكون الا مع الاذن والرضا ، فكيف لا يكون مجرد العقد متعينا للرضا بالقبض ، وأيضا فإنه قال في المسالك في شرح قول المصنف وهو جائز من الطرفين : إذ لا خلاف في كون القراض من العقود الجائزة من الطرفين ، ولأنه وكالة في الابتداء ثم قد يصير شركة وهما جائزان الى آخره ، وحينئذ كيف يتم كون هذا العقد وكالة في الابتداء مع البقاء على الغصب كما يدعيه ، بل اللازم من الحكم بكونه وكالة هو حصول الاذن والرضا بالقبض ، والا فإنه لا يتم الحكم بكونه وكالة وهو ظاهر.

واما ثانيا فانا لم نقف في كلام أحد منهم على اشتراط الإذن زيادة على العقد المذكور كما لا يخفى على من تتبع كلامهم ، بل ظاهر كلامهم أن مجرد العقد مستلزم للإذن في التصرف ، وترتب سائر الأحكام.

وبالجملة فإن كلامه (رحمة الله عليه) هنا لا أعرف له وجها وجيها ، وأما ثالثا فإنه لا يخفى أنه لما كان ثمرة هذا العقد ، والغرض منه انما هو التصرف في المال والعمل به ، فكيف يتم وقوع هذا العقد من المالك مع عدم الرضا ، والاذن ما هذه الا سفسطة ظاهرة ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في كتاب الرهن أيضا ، والعجب من العلامة أنه في هذه المسئلة صرح بما نقلناه عنه من زوال الغصب بمجرد عقد المضاربة ، وفي الرهن اشترط الاذن في القبض زائدا على عقد الرهن ، كما قدمنا نقله عنه ثمة ، والمسألتان من باب واحد كما لا يخفى.

٢٢٦

والله العالم.

السادس : وهو يشتمل على فروع في المقام الأول ـ قالوا : لو قال : بع هذه السلعة فإذا نض ثمنها فهو قراض كان باطلا ، لان شرط صحة القراض أن يكون مال القراض عينا معينة مملوكة للمالك ، وما هنا ليس كذلك ، فان ثمن السلعة حال العقد مجهول ، ولأنه أمر كلي بعد البيع في ذمة المالك ، وهو أيضا غير مملوك للمالك حال العقد ، وأيضا فإن العقد معلق على شرط ، وقد تقدم أنه لا يصح عندهم.

الثاني ـ لو مات رب المال والمال عروض في يد العامل ، وأقرّه الوارث على العقد الأول ، فإنهم صرحوا بأنه لا يصح ، لان العقد الأول بطل بالموت ، كما تقدم من أنه من العقود الجائزة التي تبطل بالموت ، فلا يصح الا بتجديد العقد من المالك الثاني ، والتجديد أيضا غير جائز ، لأنه لا بد في مال المضاربة أن يكون من النقدين ، والموجود الان عروض ، فلا يصح المضاربة بها.

ولو مات رب المال والمال في يد العامل كان نقدا صح تجديد الوارث عقد القراض معه بلا اشكال ، وهل يصح بلفظ التقرير؟ قيل : لا ، لأنه يؤذن باستصحاب الأول وإمضائه ، فإنه انما يقول له : قد تركتك على ما أنت عليه ، أو أقررتك على ما كنت عليه ، والحال أن ما هو عليه قد بطل كما عرفت.

قال في المسالك : والأقوى الصحة ان استفاد من اللفظ معنى الإذن ، لأن عقد القراض لا ينحصر في لفظ كغيره من العقود الجائزة ، والتقرير قد يدل عليه ، انتهى.

وهو جيد. وفي كلامه هنا كما ترى رد لما زعمه سابقا من أن عقد القراض لا يقتضي الإذن ، بل انما يحصل الإذن بأمر آخر فإنه جعل مناط الصحة هنا في الاكتفاء بالتقرير عن تجديد العقد كونه يفيد ما يفيده العقد من الاذن ، وهو ظاهر في بطلان كلامه الأول.

٢٢٧

الثالث ـ لو اختلف العامل والمالك في قدر رأس المال فمقتضى القاعدة أن القول قول العامل بيمينه ، لانه ينكر قبض الزيادة ، والمالك يدعي إقباضها ولا فرق في ذلك بين كون المال باقيا ، أو تالفا بتفريط العامل ، بل الحكم في الثاني بطريق أولى ، فإن العامل حينئذ غارم ، فالقول قوله في القدر.

قال في المسالك : هذا كله إذا لم يكن ظهر ربح ، والا ففي قبول قوله اشكال من جريان التعليل المذكور ، وهو الظاهر من إطلاق المصنف ، ومن اقتضاء إنكاره لزيادة رأس المال توفير الربح ، فيزيد حصته منه ، فيكون ذلك في قوة اختلافهما في قدر حصته منه مع أن القول قول المالك فيه بيمينه ، ولانه مع بقاء المال الأصل يقتضي كون جميعه للمالك ، الى أن يدل دليل على استحقاقه الزائد ، ومع تلفه بتفريط فالمضمون قدر مال المالك ، وإذا كان الأصل استحقاق المالك لجميعه قبل التلف الا ما أقر به للعامل ، فالضمان تابع للاستحقاق وهذا هو الأقوى ، وربما قيل : ان القول قول المالك الا مع التلف بتفريط مطلقا ، وهو ضعيف جدا انتهى.

ثم انه كتب في الحاشية في بيان صاحب هذا القول : قال القائل به الامام فخر الدين في شرح القواعد.

المقصد الثالث في الربح :

وفيه مسائل ـ الأولى : المشهور بين الأصحاب أن المضارب يستحق من الربح ما وقع عليه الشرط من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف والمبسوط والاستبصار ، وقال في النهاية ان له أجرة المثل ، والربح بتمامه للمالك ، قال : وقد روى أنه يكون للمضارب من الربح بمقدار ما وقع الشرط عليه من نصف أو ربع ، أو أقل أو أكثر ، ونقل هذا القول أيضا عن الشيخ المفيد ، وسلار وابن البراج.

٢٢٨

ومرجع هذا الخلاف الى أن عقد المضاربة هل هو عقد شرعي صحيح أو باطل؟ والقول المشهور مبنى على الأول ، والثاني على الثاني.

والأول هو المستفاد من الاخبار المتظافرة من طرق الخاصة والعامة ، وبه قال كافة العلماء من الطرفين الا ما ذكرناه ، وقد تقدمت جملة من الاخبار الدالة على ذلك في المسئلة الاولى من المقصد الأول ، ومنها صحيحة محمد بن قيس (١) وموثقته المتقدمتان في صدر هذا الكتاب ، ومنها أيضا زيادة على ذلك موثقة إسحاق بن عمار (٢) عن أبى الحسن (عليه‌السلام) قال : «سألته عن مال المضاربة؟ قال : الربح بينهما ، والوضيعة على المال».

وحسنة الكاهلي (٣) عن أبى الحسن موسى (عليه‌السلام) «في رجل دفع الى رجل مالا مضاربة فجعل له شيئا من الربح مسمى. فابتاع المضارب متاعا فوضع فيه؟ قال : على المضارب من الوضيعة بقدر ما جعل له من الربح (٤)».

احتج القائلون بالقول الثاني بأن النماء تابع للأصل بالأصالة ، فيكون الربح للمالك ، ولان هذه المعاملة معاملة فاسدة لجهالة العوض فتبطل ، فيكون الربح لصاحب المال ، وعليه أجرة المثل للعامل.

والجواب أن جميع ما ذكروا ان كان هو مقتضى قواعدهم كما صرحوا به في غير موضع ، الا أنه بعد استفاضة النصوص وتكاثرها كما عرفت بصحة هذه المعاملة ، وفيها الصحيحة وغيرها مع عدم مخالف ولا مناقض فيها ، فإنه يجب القول بصحة العقد ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٨ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٥ ح ٢ و ٤.

(٢) المصدر ح ١٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٦ ح ٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٨ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٦ ح ٦.

(٤) أقول : هذا الخبر بحسب ظاهره لا يخلو من الاشكال ونقل عن الشيخ أنه حمله على ما إذا كان المال بينهما شركة ، وانما أطلق عليها المضاربة مجازا والأقرب كما ذكره بعض مشايخنا المحققين من متأخر المتأخرين هو أن يكون المراد أنه حصل ربح ثم بعد ذلك وضيعة فإنه ينقص من ربح كل منهما بنسبة نصيبه من الربح ، منه رحمه‌الله.

٢٢٩

وعدم الضرر بجهالة العوض كما قيل مثله في المزارعة والمساقاة ، ومنع تبعية النماء للأصل.

أقول : وهذا الموضع أيضا مؤيد لما قدمنا ذكره في غير موضع من عدم وجوب الالتزام بقواعدهم ، والوقوف عليها في مقابلة النصوص ، فان ما ذكروه هنا من القواعد المذكورة قد بنوا عليه الأحكام في جملة من المواضع ، واحتجوا به في غير مقام ، الا أنه لما وردت النصوص هنا كما ترى على خلافها ، وجب الخروج عنها بذلك ، وحينئذ فالواجب هو الوقوف على النصوص حيثما وجدت.

الثانية : الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه يشترط في الربح الشياع ، بمعنى أن يكون كل جزء جزء منه مشتركا ، لانه مقتضى المضاربة كما تنادي به الاخبار المتقدمة من حكمها ، بأن الربح بينهما ، يعنى كل جزء جزء منه ، وما لم يكن مشتركا فإنه خارج عن مقتضاها ، فهذا الشرط داخل في مفهوم المضاربة.

ويتفرع عليه صور ، منها ـ أن يجعل لأحدهما شيئا معينا كعشرة دراهم مثلا ، فإنه باطل اتفاقا ، وكذا لو ضم الى ذلك أن الباقي بينهما ، ولانه ربما لا يربح الا ذلك القدر ، فيلزم أن يختص به من شرط له ، ويبقى الأخر بغير شي‌ء مع أن الروايات المتقدمة قد اتفقت على أن الربح بينهما.

وبالجملة فإن عقد المضاربة يقتضي الاشتراك بينهما في كل ما يحصل من الربح بمقتضى الأخبار المذكورة ، وهيهنا الربح ليس بينهما ، سواء ضم الى ذلك ان الباقي بينهما أم لا ، بل الذي بينهما انما هو بعضه على تقدير الزيادة ، وجميعه على تقدير عدم الزيادة انما هو لمن شرط له ، فيبطل العقد البتة على كل من الصورتين.

ومنها أن يقول : خذه قراضا والربح لي ، ووجه الفساد فيه أيضا ظاهر ، لان مقتضى القراض كما عرفت من النصوص واتفاق كلمة الأصحاب الاشتراك في

٢٣٠

الربح ، وقوله : والربح لي ينافي ذلك ، وحينئذ فلا يصح أن يكون قراضا البتة ، وهل يكون في هذه الصورة بضاعة؟ بمعنى أن العامل لا يستحق على عمله أجرة كما هو المقرر في البضاعة ، أم يكون قراضا باطلا؟ للإخلال بشرط القراض مع التصريح بكونه قراضا ـ وجهان : والمشهور الثاني لما ذكر ، وعلى تقديره حينئذ قراضا يكون الربح للمالك خاصة ، لأنه نماء ماله ، وعليه أجرة المثل للعامل ، هذا مقتضى قواعدهم ، وبه صرحوا هنا.

قيل : ووجه الأول النظر الى المعنى ، فإنه دال على البضاعة ، وان كان بلفظ القراض ولأن البضاعة توكيل في التجارة تبرعا ، وهو لا يختص بلفظ ، وما ذكر دال عليها ، ولانه لا يحكم بإلغاء اللفظ ما أمكن حمله على الصحة ، وذكر القراض وان كان منافيا بحسب الظاهر ، الا أنه يمكن أن يكون مأخوذا من معنى المساواة التي هي أن يكون من أحدهما المال ، ومن الأخر العمل ، من غير التفاوت إلى أمر آخر ، وهو أخذ ما اشتق منه المعنى الشرعي.

ولو قيل : ان ذلك بحسب اللغة ، والحقيقة الشرعية تأباه ، أمكن أن يتجوز فيه ، فان الحقائق اللغوية تصير مجازاة شرعية ، وهو أولى من الفساد انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، والتمحل الغير السديد ، ولو انفتح هذا الباب في مفاهيم الألفاظ ، لانفتح الباب في الجدال ، واتسعت دائرة القيل والقال.

وكيف كان فالمسئلة لخلوها من الدليل الواضع لا يخلو من الاشكال ، كغيرها مما جرى في هذا المجال.

بقي الكلام في أن ظاهر الأصحاب أنه ـ مع الحكم بكونه قراضا فاسدا ـ يكون الربح للمالك ، وللعامل أجرة المثل كما عرفت.

وقال العلامة في المختلف بعد أن نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط أنه لو قال : خذه قراضا على أن الربح كله لي ، كان قراضا فاسدا ولا يكون بضاعة ـ

٢٣١

ما لفظه : والوجه عندي أنه لا أجرة للعامل ، لانه دخل على ذلك فكان متبرعا بالعمل ، فلا أجرة له حينئذ ، وظاهره أنه وان كان قراضا فاسدا فإنه لا أجرة له لدخوله مع عدم تعيين أجرة ، فكان عمله تبرعا ، وقواه في المسالك ، الا أنه احتمل بناء كلام العلامة على البضاعة أيضا ، ولا يخلو من قوة ، اما بالنسبة إلى البضاعة فظاهر ، وأما بالنسبة إلى القراض ، فلما عرفت من فساده ، ودخول العامل فيه على هذا الوجه.

هذا إذا لم ينضم الى الكلام المذكور ما يفهم منه إرادة أحد الأمرين المذكورين من القراض ، أو البضاعة من القرائن الحالية أو المقالية ، والا كان العمل على ذلك ، وما يقتضيه من صحة أو بطلان.

ومنها أن يقول : خذه قراضا والربح كله لك ، وقد عرفت آنفا وجه الفساد فيه ، وأنه لا يصح قراضا ، وهل يكون ذلك قرضا بالتقريب المتقدم في البضاعة بالنظر الى تلك العبارة ، أو قراضا فاسدا كما تقدم أيضا ، فعلى الأول يكون الربح كله للعامل ، والمال مضمون عليه ، كما هو شأن القرض ولا شي‌ء للمالك وعلى الثاني فالربح كله للمالك ، وعليه أجرة المثل للعامل.

هذا إذا لم يتحقق قصد شي‌ء من الأمرين ، بأن لم يقصد شيئا بالكلية ، أو لم يعلم ما قصده ، والا كان قرضا في الأول ، وقراضا فاسدا في الثاني.

نعم لو قال في الصورة الثانية : خذه فاتجر به والربح لي ، فإنه يكون بضاعة بغير اشكال ، وكذا لو قال في الصورة الثالثة : خذه واتجر به والربح لك فإنه قرض بغير اشكال ، والوجه في ذلك أنه لم يذكر في هاتين الصيغتين ما ينافي البضاعة في الاولى ، والقرض في الثانية ، بخلاف ما تقدم ، حيث قال : خذه قراضا وأضاف اليه والربح لي ، أو لك فصرح بأن الأخذ قراضا وهو حقيقة شرعية في العقد المخصوص الذي يترتب عليه الشركة في الربح ، مع أنه قد ضم اليه ما ينافي ذلك من قوله «والربح لي أو لك» ولو قال : خذه على النصف فالظاهر الصحة

٢٣٢

لأن المتبادر من ذلك أن الربح بينهما نصفين ، وهو متضمن لتعيين حصة العامل وكذا لو قال : على أن الربح بيننا ، فإنه يقتضي التوزيع بينهما انصافا ، قيل : ان الوجه في ذلك استوائهما في السبب المقتضى للاستحقاق ، والأصل عدم التفاضل كما لو أقر لهما بمال ، وكما لو قال المقر : الشي‌ء الفلاني بيني وبين زيد.

ونقل عن بعض الشافعية الحكم ببطلان العقد ، لأن البينة تصدق مع التفاوت فحيث لم يبينها يتحمل استحقاق الربح ، ورد بمنع صدقها على غير المتساوي مع الإطلاق.

نعم لو انضم إليه قرينة صح حمله على غيره بواسطتها ، وعلل بعضهم الحكم بالمناصفة في هذه العبارة ، بأن قوله : الربح بيننا ظاهر في ان جميع ما يربح يكون بيننا وهو يرجع الى أن كل جزء جزء مما يصدق عليه الربح فإنه بينهما وهو يقتضي المناصفة بلا اشكال ، وبه يظهر ضعف ما تعلق به ذلك القائل بالبطلان من أن البينة تصدق مع التفاوت ، فان دعوى صدقها ممنوع لما عرفت.

أقول : في دعوى ثبوت الحكم بالمناصفة من هذه العبارة إشكال ، وذلك لان هذه العبارة قد تكررت في الاخبار المتقدمة من قولهم (عليهم‌السلام) : «والربح بينهما» ولو اقتضت المناصفة كما يدعونه لكان الحكم في المضاربة هو أن يكون للعامل النصف مطلقا ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، وانما فهموا منها مجرد الاشتراك ، كما هو قول هذا البعض من الشافعية هنا ، وبه يظهر قوة القول بالبطلان ، كما ذهب اليه هذا القائل.

ولو قيل : ان بعض روايات المسئلة قد اشتمل على أنه بينهما على ما شرط فيقيد به إطلاق تلك الاخبار ، قلنا : هذا مما يؤيد ما ذكرناه ، بإشعاره بأنه لو لا التقييد لكان مدلول العبارة هو الاشتراك مطلقا كيف اتفق فكيف يحكم هنا باقتضائها المناصفة.

قيل : ولو قال : على أن لك النصف صح ، ولو قال : ان لي النصف واقتصر

٢٣٣

بطل ، وعلل وجه الفرق بين الصيغتين بصحة الاولى ، وبطلان الثانية ، بأن الربح لما كان تابعا للمال والأصل كونه للمالك لم يفتقر الى تعيين حصته ، فان عينها كان ذلك تأكيدا ، وأما تعيين حصة العامل فلا بد منه ، لعدم استحقاقها بدونه ، فإذا قال : النصف لك ، كان تعيينا لحصة العامل ، وبقي الباقي على حكم الأصل وأما إذا قال : النصف لي لم يقتض ذلك كون النصف الأخر لغيره ، بل هو باق على حكم الأصل أيضا ، فيبطل العقد.

وربما قيل : بأنه يحتمل الصحة أيضا ، وحمل النصف الأخر على حصة العامل نظرا الى عدم الفرق بين الصيغتين عرفا وعملا بمفهوم التخصيص ، إذ لو كان النصف الأخر له أيضا لم يكن لهذا التخصيص وجه ، ورد بعدم استقرار العرف على ذلك وضعف دلالة المفهوم.

أقول : والحكم لا يخلو من شوب الاشكال ، وان كان للحكم بالبطلان نوع قرب لما ذكر ، والله العالم.

الثالثة : قالوا : لو شرط أحدهما لغلامه حصة من الربح ، صح ، عمل الغلام أم لم يعمل ، أما لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح الا أن يكون عاملا.

وقيل : يصح وان لم يكن عاملا ، أقول : وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع ثلاثة : أحدها ـ أنه متى شرط أحدهما لغلامه حصة ، فإنه يصح ، والحكم فيه مبنى على عدم ملك العبد كما هو المشهور ، فإنه يرجع حينئذ إلى سيده ، فهو في معنى ما لو شرط أحدهما حصة زائدة على حصته ، ولا نزاع في الصحة.

أما لو قلنا بملك العبد كان الحكم فيه كاجنبى الاتى حكمه ، وثانيها ـ لو شرط لأجنبي فإنه لا يصح الا أن يكون عاملا ، والوجه فيه أنه حيث أن الأصل في الربح أن يكون بين المالك والعامل خاصة ، أما المالك ففي مقابلة ماله ، وأما العامل ففي مقابلة عمله ، فلا يصح إدخال الأجنبي في ذلك ، ولا جعل شي‌ء من الربح له.

٢٣٤

نعم إذا كان عاملا كان بمنزلة العامل المتعدد ، فلا يكون أجنبيا ، ومن هنا ربما ينقدح إشكال في المقام ، وهو أنه متى شرط العمل كان من قبيل العامل المتعدد كما ذكرتم ، مع أن المفروض كونه أجنبيا ، وحينئذ فلا معنى لكونه أجنبيا عاملا ، لأن الأجنبي من لا مدخل له في العمل.

والجواب أن العامل في هذا الباب حيثما يطلق انما يراد به المفوض إليه أمر التجارة كما تقدم ، وأنه وكيل عن المالك ، والمراد بالعامل هنا بالنسبة الى هذا الأجنبي ليس كذلك ، بل المراد به من له دخل في العمل في الجملة ، كأن شرط عليه حمل المتاع الى السوق ، ومن السوق الى البيت مثلا ، ونحو ذلك من الأعمال الجزئية المخصوصة ، ولهذا انهم اشترطوا هنا ضبط العمل بما يرفع الجهالة ، وأن يكون من أعمال التجارة ، لئلا يخرج عن مقتضاها.

وثالثها انه قيل : بصحة الشرط للأجنبي وان لم يكن عاملا ولا مدخل له في العمل بالكلية ، وكأنه لعموم (١) «المؤمنون عند شروطهم». و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) وعموم أدلة وجوب الوفاء بالوعد ، وقد تقدم نظيره في مواضع عديدة.

وقيل : ان هذا المشروط ان كان مع العمل فهو للعامل كما تقدم ، وان لم يجامعه عمل فهو للمالك ، رجوعا إلى أصله ، لئلا يخالف مقتضى العقد ، ولقدوم العامل على أن له ما عين له خاصة.

أقول : قد تقدم في غير مقام ما في هذا التعليل أعنى قوله لئلا يخالف مقتضى العقد ، فإنه جار في جميع الشروط ، فان الشرط في الحقيقة بمنزلة الاستثناء مما دل عليه العقد ، والأدلة على وجوب الوفاء بالشروط هي دليل الاستثناء المذكور ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

الرابعة : قالوا : لو قال : لاثنين لكما نصف الربح صح ، وكانا فيه سواء

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣ ، الاستبصار ج ٣ ح ٨٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

(٢) سورة المائدة الآية ١.

٢٣٥

ولو فضل أحدهما صح أيضا وان كان عملهما سواء ، وعلل الحكم الأول وهو تساويهما مع الإطلاق باقتضاء الاشتراك وأن الأصل عدم التفصيل ، ولانه المتبادر منه عرفا كما سبق في قوله بيننا.

أقول : لا يخفى ما فيه ، فان اقتضاء الاشتراك التساوي ممنوع ، بل هو أعم ، وهو أول المسئلة أيضا ، ودعوى أنه المتبادر منه عرفا كذلك ، وقد تقدم ما في الاستناد الى قوله «بيننا» من أن ظاهره انما هو الاشتراك مطلقا كما هو ظاهر الاخبار ، لا التنصيف كما ادعوه ، وعلل الثاني وهو تفصيل أحدهما مع استوائهما في العمل بأن غايته اشتراط حصة قليلة لصاحب العمل الكثير ، وهو مما لا منافاة فيه لأن الأمر في الحصة راجع الى ما يشترطانه ، ويتفقان عليه قل أو كثر ، ولان العقد الواحد مع اثنين في قوة عقدين فيصح ، كما لو قارض أحدهما في نصف المال بنصف الربح ، والأخر في النصف الأخر بربع الربح ، فإنه جائز اتفاقا مع تساويهما في العمل ، والخلاف هنا انما هو من بعض العامة ، حيث اشترط التسوية بينهما في الربح مع التساوي في العمل ، قياسا على اقتضاء شركة الأبدان ذلك ، والأصل والفرع عندنا باطلان.

الخامسة : لو اختلفا في نصيب العامل فان مقتضى القواعد الشرعية أن القول قول المالك بيمينه ، لانه منكر لما يدعيه العامل من الزيادة ، ولان الاختلاف في فعل المالك الذي هو تعيين الحصة وهو أبصر به ، ولأن الأصل تبعية الربح لرأس المال ، فلا يخرج عنه الا ما أقر المالك بخروجه ، والمعتمد من هذه الوجوه هو الوجه الأول ، فإنه المعتضد بالنصوص الصحيحة الصريحة ، وما عداه من المؤيدات الواضحة.

وقيل : ان هذا مع عدم ظهور الربح ، أما معه فالحكم هو التحالف ، لان كلا منهما مدع ، ومدعى عليه ، فان المالك يدعى استحقاق العمل الصادر بالحصة الدنيا ، والعامل ينكر ذلك ، فيجي‌ء القول بالتحالف ، لان ضابطه كما

٢٣٦

سلف في البيع أن ينكر كل واحد منهما ما يدعيه الأخر ، بحيث لا يجتمعان على أمر ويختلفان فيما زاد عليه ، ورد بأنه ضعيف ، لان نفس العمل لا يتناوله الدعوى ، لانه بعد انقضائه لا معنى لدعوى المالك استحقاقه ، وكذا قبله ، لان العقد الجائز ، لا يستحق به العمل ، وانما المستحق المال الذي أصله للمالك ، وحقيقة النزاع فيه فيجي‌ء فيه ما تقدم من الأصول وهو جيد.

السادسة : الظاهر أنه لا اشكال فيما لو دفع المالك مال القراض في مرض الموت على الوجه المعتبر من تعيين الحصة من الربح للعامل ونحوه ، لوجود المقتضى وهو دخوله تحت الأدلة الدالة على مشروعية القراض وصحته ، وعدم المانع ، إذ ليس الا ما ربما يتوهم من التفويت على الوارث بالنسبة إلى الحصة المعينة للعامل من الربح ، وإدخال النقص عليه بذلك ، فيتعلق به الخلاف بين كونه من الأصل أو الثلث ، والحال أنه ليس كذلك إذ لا تفويت على الوارث في الصورة المذكورة.

ومحل الخلاف في تلك المسئلة انما هو ما يتبرع به المريض من المال الموجود حال التبرع وهنا ليس كذلك ، لان الربح غير موجود يومئذ ، بل هو متوقع الحصول ، وقد لا يحصل فلا يتصف بكونه مالا للمريض ، ليترتب عليه الخلاف المذكور ، ثم انه بعد حصوله فهو متجدد بسعي العامل بعد العقد ، فليس للوارث فيه اعتراض ، ولا نزاع بوجه من الوجوه ، وهو ظاهر ، ولا فرق في تلك الحصة المعينة للعامل بين كونها قدر أجرة المثل أو أكثر أو أقل حسبما مر في غير هذه الصورة من صور القراض.

وبالجملة فإن مقتضى الأدلة كما عرفت صحة المعاملة المذكورة حتى يقوم دليل على البطلان ، وليس فليس ، والله العالم.

السابعة : يملك العامل من الربح بظهوره من غير توقف على انضاض العروض ولا قسمة المال بينهما ، قال في المسالك : هذا هو المشهور بين الأصحاب بل لا يكاد

٢٣٧

يتحقق فيه مخالف ، ولا نقل في كتب الخلاف عن أحد من أصحابنا ما يخالفه ووجهه مع ذلك إطلاق النصوص بأن العامل يملك ما شرط له من الربح وهو متحقق قبل الانضاض ، وقبل القسمة ، ولان سبب الاستحقاق هو الشرط الواقع في العقد ، فيجب أن يثبت مقتضاه متى وجد ، لان الربح بعد ظهوره مملوك ، فلا بد له من مالك ، ورب المال لا يملكه اتفاقا ، ولا يثبت أحكام الملك في حقه ، فيلزم أن يكون للعامل ، إذ لا مالك غيرهما اتفاقا.

أقول : ومن أظهر الأدلة على ذلك ما رواه الشيخ والصدوق عن محمد بن قيس (١) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) رجل دفع الى رجل ألف درهم مضاربة فاشترى إياه ، وهو لا يعلم ، قال : يقوم فان زاد درهما واحدا أعتق ، واستسعى في مال الرجل» ، والتقريب فيها انه لو لم يكن مالكا لحصته بمجرد الظهور لم ينعتق عليه أبوه في الصورة المفروضة في الخبر ، مع أنه قد حكم بأنه بعد تقويم العبد فان حصل في الثمن زيادة على رأس المال ولو درهم ، فإنه ينعتق الأب على ابنه بنصيبه من ذلك الدرهم ، فالمقتضي للانعتاق انما هو دخوله في ملكه بتلك الحصة فيسري العتق في الباقي كما هو القاعدة في العتق.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد نقل فخر المحققين عن والده العلامة.

ان في هذه المسئلة أقوال أربعة :

أحدها ـ أنه يملك بمجرد الظهور كما عرفت.

وثانيها ـ أنه يملك بالإنضاض لأنه قبل الانضاض غير موجود خارجا بل مقدر موهوم ، والمملوك لا بد أن يكون محقق الوجود ، فيكون الظهور موجبا لاستحقاق الملك بعد التحقيق ، ولهذا يورث عنه ويضمن حصة من أتلفها سوى المالك والأجنبي.

وثالثها ـ أنه يملك بالقسمة ، لأنه لو ملك قبلها لكان النقصان الحادث بعد

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٠ ح ٢٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٨ ح ١.

٢٣٨

ذلك شائعا في المال كسائر الأموال المشتركة ، والتالي باطل ، لانحصاره في الربح ، ولانه لو ملك لاختص بربحه ، ولان القراض معاملة جائزة والعمل فيها غير مضبوط ، فلا يستحق العوض فيها الا بتمامه ، كمال الجعالة.

ورابعها ـ أن القسمة كاشفة عن ملك العامل ، لأن القسمة ليست من الأسباب المملكة ، والمقتضى للملك انما هو العمل ، وهي دالة على تمام العمل الموجب للملك قال في المسالك بعد نقل هذه الأقوال : وفي التذكرة لم يذكر في المسئلة عن سائر الفقهاء من العامة والخاصة سوى القولين الأولين ، وجعل الثاني للشافعي في أحد قوليه ، ولأحمد في إحدى الروايتين ، ووافقا في الباقي على الأول ، ولا ندري لمن ثبتت هذه الأقوال ، وهي مع ذلك ضعيفة المأخذ فإنا لا نسلم ان الربح قبل الانضاض غير موجود ، لان المال غير منحصر في النقد ، فإذا ارتفعت قيمة العرض فرأس المال منه ما قابل قيمة رأس المال والزائد ربح وهو محقق الوجود ، ولو سلم انه غير محقق الوجود لا يقدح في كونه مملوكا فان الدين مملوك وهو غير موجود في الخارج بل هو في الذمة أمر كلي هذا ما على الثاني.

وعلى الثالث انه لا ملازمة بين الملك وضمان الحادث على الشياع ويجوز ان يكون مالكا ويكون ما يملكه وقاية رأس المال فيكون الملك متزلزلا فاستقراره مشروط بالسلامة ، وكذا لا منافاة بين ملك الحصة وعدم ملك ربحها بسبب تزلزل الملك ولانه لو اختص بربح نصيبه لاستحق من الربح أكثر مما شرط له ولا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه ولأن القسمة ليست من العمل في شي‌ء فلا معنى لجعلها تمام السبب في الملك فلا وجه لإلحاقها بالجعالة وقد نبه عليه ولو سلم انه غير محقق الوجود في الوجه الرابع ومن ضعف ما سبق يستفاد ضعف الرابع لانه مترتب عليها انتهى كلامه زيد مقامه وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

ثم انه ينبغي ان يعلم انه وان كان العامل يملك حصته بمجرد ظهور الربح الا انه يكون ملكا متزلزلا مراعى بإنضاض جميع المال أو قدر رأس المال مع

٢٣٩

الفسخ أو القسمة حيث ان الربح وقاية لرأس المال فيجبر به ما وقع في التجارة من تلف وخسران ، سواء كان الربح والخسران في مرة واحدة أو مرتين ، وفي صفقة أو صفقتين ، وفي سفر أو سفرين ، لان معنى الربح هو الزائد على رأس المال مدة العقد ، فلو لم يفضل منه شي‌ء بعد أن حصل وجبرت بالتجارة فلا ربح ، وهو موضوع وفاق كما ذكره في المسالك ، وسيأتي الكلام ـ إنشاء الله تعالى ـ في بعض ما يدخل في هذا المقام من الأحكام ، والله العالم.

المقصد الرابع في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان العامل أمين فيقبل قوله في التلف بغير تفريط بيمينه ، سواء كان التلف ظاهرا كالحرق أو خفيا كالسرق ، وسواء أمكن إقامة البينة عليه أم لم يكن ، وكذا يقبل قوله في الخسارة ولا يضمن الا مع التفريط ، وقد تقدم الكلام في الاختلاف في قدر رأس المال ، وأن الأظهر قبول قول العامل بيمينه في الموضع السادس من المقصد الثاني (١) وكذا الاختلاف في حصة العامل وان الأظهر فيها أن القول قول المالك بيمينه في المسئلة الخامسة من المقصد الثالث (٢).

وبقي الكلام هنا في الاختلاف في الرد ، فهل يقبل قول العامل في رد المال الى المالك أم لا؟ قولان : أولهما للشيخ في المبسوط قال : إذا ادعى العامل رد المال الى المالك فهل يقبل قوله؟ فيه قولان : أحدهما وهو الصحيح أنه يقبل قوله.

أقول : وقد علل ذلك بأنه أمين كالمستودع ، ولما في عدم تقديم قوله من الضرر لجواز أن يكون صادقا فتكليفه بالرد ثانيا تكليف ما لا يطاق ، والمشهور بين الأصحاب الثاني ، لأصالة العدم ، ولان المالك منكر فيكون القول قوله بيمينه ، كما هو القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، كما أن العامل في ذلك مدع فعليه

__________________

(١) ص ٢٢٨.

(٢) ص ٢٣٦.

٢٤٠