الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

من حيث أنه لا يرجع الا بعد دفع ما ضمنه ، وحيث أنه قد مات وحل عليه الدين وأخذ من تركته زال المانع من مطالبة المضمون عنه ، ويأتي مثله أيضا في ما لو دفع الضامن المال في حياته قبل حلول الأجل باختياره ، فان له الرجوع على المضمون عنه ، لعين ما ذكر.

وهذا بخلاف ما لو كان الدين مؤجلا على المضمون عنه فضمنه الضامن كذلك ، فإنه بحلوله عليه بعد الموت وأخذه من تركته لا يحل على المضمون عنه ، لان الحلول عليه لا يستلزم الحلول على الأخر كما لا يحل عليه المؤجل لو ضمنه الضامن حالا على القول بذلك.

التاسع : قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه متى حصل الضمان على الوجه المعتبر شرعا ، فإنه يرجع الضامن على المضمون عنه بما دفعه الى المضمون له ان ضمن باذنه ولو أدى بغير اذنه ، ولو ضمن بغير اذنه لم يرجع عليه ، وان أدى باذنه ، ولو ضمن باذنه وأدى بإذنه فأولى بالضمان ، ولو ضمن بغير اذنه وأدى بغير إذنه فأولى بعدم الضمان.

وظاهر المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) المناقشة في هذا المقام ، حيث قال :

بعد ذكر عدم الرجوع مع عدم الاذن في الضمان ما صورته : وأما الرجوع مع الاذن في الضمان مع الاذن في الأداء وعدمه ففيه تأمل ، إذ الاذن في الضمان والأداء لا يدل على قبول أداء العوض ، بشي‌ء من الدلالات ، والأصل عدمه ، الا أن تدل قرينة حال أو مقال على ذلك ، كما في لزوم الأجرة على من أمر شخصا بفعل له أجرة عادة ، ولهذا قال في التذكرة : لو قال : أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع ، وكذا لو قال : أعتق عبدك أو الق متاعك في البحر عند خوف الغرق وعدمه ، الا أن ينضم اليه ما يدل على قبول العوض ، مثل قوله عنى في الأولين ، وعلى ضمانه وعوضه في الثالث ، وبهذا المقدار يلزم ، وهذا دليل على عدم اشتراط الصيغة الخاصة ، والمقارنة وغيرهما فافهم ، ولي في اللزوم مع انضمام قوله عني أيضا تأمل ، وان قالوه الا أن ينضم إليه قرينة ، و

٢١

يعلم من التذكرة الإجماع على الرجوع مع الاذن في مجرد الضمان فتأمل. انتهى

أقول : ويدل على ما ذكره الأصحاب مضافا الى الإجماع المنقول عن التذكرة ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن خالد قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك قول الناس الضامن غارم ، قال : فقال : ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال». (١).

وهو ظاهر كما ترى في رجوع الضامن على المضمون عنه بما اغترمه للمضمون له ، وأنه لا غرم عليه ، بمعنى عدم رجوعه على المضمون عنه ، ولو صح ما ذكره من عدم الرجوع للزم حصول الغرم عليه ، مع أنه (عليه‌السلام) قد نفاه عنه ، وجعل الغرم على من أكل المال وهو المضمون عنه ، وبالخبر المذكور يجب الخروج عن الأصل الذي استند اليه ، والخبر وان كان مطلقا الا أنه محمول على ما إذا كان الضمان باذن المضمون عنه.

وما رواه الشيخ بإسناده عن عمر بن يزيد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح على بعض ما صالح عليه قال : ليس له ، الا الذي صالح عليه». ورواه الكليني عن عمر بن يزيد في الموثق (٣) ورواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب عبد الله بن بكير عنه (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على بعض ما ضمنه فقال قال : ليس له الا الذي صالح عليه». وهو أيضا ظاهر في الرجوع ، ومحمول على الاذن في الضمان ، ولو كان ما توهمه من عدم الرجوع حقا لنفاه (عليه‌السلام) ولم يثبت له الرجوع بشي‌ء بالكلية.

وبالجملة فإن كلامه هنا ناش عن عدم الوقوف على شي‌ء من الاخبار المذكورة ، وأما

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٤٨٥ وص ٢٠٦ ح ٤ ..

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ ح ٧.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢١٠ الباب ٨٤ باب الكفالات والضمانات. وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٤٩ الباب ١ وص ١٥٣ الباب ٦ من كتاب الضمان.

٢٢

قياسه على لزوم الأجرة فهو ـ مع كونه قياسا لا يجوز التعويل عليه في الأحكام الشرعية ـ قياس مع الفارق ، لأنه ان كان ذلك الفعل المأمور به يرجع الى الأمر بمعنى أنه أمره أن يفعله له ـ فان دعوى عدم استحقاق الأجرة ممنوعة ، وان كان لا كذلك كالأمر برمي ماله في البحر ونحوه فهو ليس من محل البحث في شي‌ء والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ، والقياس عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه. والله العالم.

العاشر : لو دفع الضامن للمضمون له عما في ذمته عروضا برء الضامن مما عليه ، وكان له الرجوع مع الاذن في الضمان بأقل الأمرين من قيمة العروض وما تباع به في السوق ، ومما كان في ذمة المضمون عنه ، لان الضامن لا يستحق أكثر مما أدى ، والمضمون عنه لا يؤدى أكثر مما في ذمته ومما أداه الضامن ، فلو فرضنا أن الذي في ذمته كان مأة درهم ، والعروض التي دفعها الضامن كانت تساوى خمسين درهما فليس عليه الا الخمسين ، وكذا لو فرضنا أن العروض كانت تساوى مأة وعشرين فليس عليه الا المأة.

أما الأول فلان الضامن لا يستحق الرجوع بأزيد مما دفعه ، ولهذا لو أبرء المضمون له لم يرجع بشي‌ء ولو ابرء عن البعض لم يرجع إلا بالباقي.

وأما الثاني فلان المضمون عنه لا يجب عليه أداء أكثر مما في ذمته اتفاقا ، وقال ابن الجنيد على ما نقل عنه في المختلف : لو ضمن زيد لعبد الله دينا على عمرو ، فصالح زيد عبد الله عن جملة ضمانه عن عمرو ، على ما يجوز التتابع به بينهما ، فان كان ذلك قبل وجوب الحكم على زيد بالمال الذي ضمنه (١) لم يكن له الا قيمته ، أو قدر ما أعطاه عبد الله يرجع به على عمرو ، وان كان بعد وجوب الحكم كان له الرجوع بأصل الحق على عمرو.

وأجاب عنه العلامة فقال لنا : انه وضع للإرفاق ، والرجوع بأكثر مما دفع

__________________

(١) أقول : الظاهر أن مراده بوجوب الحكم على زيد كناية عن وقت المطالبة ووجوب الدفع عليه. منه رحمه‌الله.

٢٣

مناف له ، فلا يصح ثم قال : احتج بأن الثابت في ذمة الضامن قدر المال ، ودفع الأقل بعد الحكم عليه ، بالأكثر ابتداء عطية من المضمون له للضامن فلا يسقط.

والجواب ما تقدم من منافاة الضمان لذلك ، فالحكمة يقتضي عدم الصحة. انتهى أقول : والأظهر في الجواب هو ما قدمناه سابق هذا الموضع من روايتي عمر بن يزيد وعبد الله بن بكير الواردتين في الصلح ، وانه ليس له الا الذي صالح عليه ، وهي مبنية على أنه أقل الأمرين كما هو الغالب ، فان الظاهر من المصالحة هو دفع ما هو أقل من الحق وتراضى الطرفين عليه ، والا فلو كان ذلك قدر الحق كان أداء للدين ، ولا يحتاج الى صلح ولا تراض عليه ، والرواية دالة بإطلاقها على ذلك ، سواء كان قبل الحكم الذي هو كناية عن المطالبة ، والحكم بوجوب الدفع أو بعده ، وما ذكره العلامة طاب ثراه يكون مؤيدا لذلك. والله العالم.

الحادي عشر : قال الشيخ في المبسوط : إذا ضمن باذنه كان له مطالبة المضمون عنه بتخليصه وان لم يطالبه المضمون له ، وقال أيضا في الكتاب المذكور : إذا ادعى الضامن الجنون حالة الضمان ولم يعرف له حالة الجنون كان القول قوله ، لأن الأصل براءة الذمة ، وكلا الحكمين محل بحث وإشكال.

أما الأول فإن ظاهر الأصحاب هو المنع من المطالبة في الصورة المذكورة ، لأنه انما يرجع عليه بعد الأداء بما يؤديه ، والحال أنه هنا لم يؤد شيئا ، ولعل المضمون له يبرؤه من الدين كلا أو بعضا فكيف يتسلط الان على المطالبة ، وأما الثاني فإن ما استند اليه من أصالة البراءة معارض أيضا بأن الأصل عدم الجنون ، والأصل صحة الضمان فيعارض ما ذكره من الأصل بأحد هذين الأصلين ، ويبقى الأصل الثاني سالما عن المعارض.

الثاني عشر : ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا ضمن رجل عن رجل ألف درهم وضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز ، لان المضمون عنه أصل للضامن ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يصير الأصل فرعا والفرع أصلا ، وأيضا فلا فائدة فيه.

٢٤

قال في المختلف بعد نقل ذلك : والوجه عندي صحة ذلك لوجود المقتضى ، وانتفاء المانع ، أما وجود المقتضى فلان عقد الضمان صدر من أهله في محله ، وأما انتفاء المانع فليس إلا الأصالة والفرعية ، وذلك لا يصح للمانعية ، لتحقق المال في ذمة الضامن ، وبراءة ذمة المضمون عنه ، فيكون كالأجنبي ، قوله «لا فائدة فيه» قلنا : ممنوع لجواز أن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس انتهى.

أقول : ظاهر كلام جملة من الأصحاب جواز التسلسل في الضمان ، بأن يضمن ضامن ، ثم يضمن عنه آخر ، وهكذا ، ويصح دوره ، كما صرح به العلامة فيسقط بذلك الضمان ، ويرجع الحق كما كان ، ولم يخالف في ذلك الا الشيخ كما عرفت.

ومن فروعه المترتبة عليه أنه لو وجد المضمون له الأصل الذي صار ضامنا معسرا جاز له الفسخ والرجوع الى الضامن السابق ، ومنها الاختلاف ، بأن يضمن الحال مؤجلا وبالعكس ، كما ذكره العلامة ، وبه يندفع كلام الشيخ أنه لا فائدة فيه.

وبالجملة فإنه لا مخالف في الحكم المذكور الا ما تقدم حكايته عن الشيخ ، والعجب هنا من المحقق الأردبيلي حيث ادعى الاتفاق على الحكم المذكور ، مع اشتهار خلاف الشيخ ، وتصريح الأصحاب به (١) والله العالم.

__________________

(١) حيث انه (قدس‌سره) قال بعد قول المصنف وترامى الضمان ما صورته أى يصح أن يضمن ضامن شخصا ثم يضمنه آخر وهكذا ويسمى التسلسل ويكون حكم كل لا حق مع سابقه حكم الأولين والظاهر عدم الخلاف عند الأصحاب في ذلك ووجهه ظاهر مما تقدم وكأنهم يريدون الرد على بعض العامة والظاهر تجويز دوره أيضا عندهم بخلاف العامة. انتهى ومما ذكرنا يعلم ان الأصحاب انما أرادوا بما ذكروه الرد على الشيخ كما عرفت ، لكنه لما غفل عن خلاف الشيخ ، وظن الاتفاق في الحكم حمل كلامهم على الرد في هذا المقام على العامة. منه رحمه‌الله.

٢٥

البحث الثاني في الحق المضمون

وفيه مسائل ـ الأولى يشترط في المال المضمون أن يكون ثابتا في الذمة وان لم يكن مستقرا ، كالثمن في مدة الخيار فيصح ضمانه ، وهذا الضمان قد يكون للبائع القابض الثمن ، فيضمن له عن المشترى على تقدير ظهور كونه مستحقا للغير ، أو على تقدير ظهور عيب فيه ، ليرجع بأرشه ، وقد يكون ضمانه للمشتري على تقدير ظهور كون البيع مستحقا للغير ليرجع به ، وعلى التقديرين فإنما هو ضمان لعهدته ، لا له نفسه ، والفرق بين الضمانين ظاهر من جهة اللفظ والمعنى.

أما الفرق اللفظي فإنه في ضمانه نفسه ، يقول ضمنت لك الثمن الذي في ذمة زيد مثلا ، وفي ضمان العهدة يقول ضمنت لك عهدته أو دركه.

وأما المعنوي فإنه بالنسبة إلى ضمانه نفسه يفيد انتقاله إلى ذمة الضامن ، كما عرفت فيما تقدم ، وبرأيه المضمون عنه ، وضمان العهدة ليس كذلك ، بل انما يفيد ضمان دركه على بعض التقديرات ، وفي ضمان المال ليس بلازم ، ولكن يؤل الى اللزوم كمال الجعالة قبل فعل ما شرط ، ومال السبق والرماية على خلاف.

ووجه الصحة ـ على ما ذكروه ـ هو أن الجعالة وان كانت من العقود الجائزة والمال فيها لا يلزم الا بتمام العمل ، فإن بقي منه شي‌ء وان قل فليس له شي‌ء الا انه يؤل الى اللزوم بتمام العمل ، وقد وجد سبب اللزوم ، وهو العقد فيكون كالثمن في مدة الخيار ،

وأجيب عن ذلك بمنع وجود السبب ، فإنه العقد والعمل معا لا العقد وحده ، وانما هو جزء السبب ، ولم يحصل به ثبوت ولا لزوم ، حتى أنه لو لم يتم العمل وبقي منه شي‌ء ، فإنه لا يستحق شيئا بما مضى ، فيكون الباقي بمنزلة الشرط في استحقاق الجميع ، فكيف إذا كان قبل الشروع في العمل ، والفرق بينه وبين الثمن في مدة الخيار ظاهر ، لان الثمن ثابت في ذمة المشترى ـ مملوك للبائع ، غاية الأمر أنه

٢٦

متزلزل بخلاف الجعالة ، فإنها لا ثبوت لها أصلا حتى يكمل الفعل كما عرفت.

نعم يمكن أن يستدل على هذا القول بظاهر قوله عزوجل (١) «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» فان فيها دلالة على جواز ضمان مال الجعالة قبل العمل ، لانه ضمنه قبل العمل ، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على جملة من مسائل الجعالة والضمان ، والظاهر أن ما نحن فيه من قبيل ذلك.

وقطع العلامة في التذكرة بعدم الجواز قبل الشروع في العمل ، لانه ضمان ما لم يجب ، واستقرب الجواز بعد الشروع ، هذا بالنسبة إلى الجعالة ، وأما مال السبق والرماية فلا إشكال في جواز ضمانه بعد العمل كما تقدم ، وأما قبله ، فإنه يبنى على كونه جعالة أو إجارة ، وفيه خلاف سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى في موضعه ، قال في المسالك : والأقوى أنه عقد لازم كيف كان فيلزم المال فيه بالعقد فيصح ضمانه.

الثانية : اختلف الأصحاب في مال الكتابة المشروطة هل يصح ضمانه أم لا؟ فقيل : بالثاني ، لأنه ليس بلازم ولا يؤل الى اللزوم ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، قال : لانه ليس بلازم في الحال ، ولا يؤل الى اللزوم لان للمكاتب إسقاطه بفسخ الكتابة للعجز فلا يلزم العبد في الحال ولا يؤول إلى اللزوم ، لأنه إذا أداه عتق ، وإذا عتق خرج عن أن يكون مكاتبا ، فلا يتصور أن يلزمه في ذمته مال الكتابة بحيث لا يكون له الامتناع ، ولان الضمان إثبات مال في الذمة ، والتزام لأدائه ، وهو فرع للمضمون عنه ، فلا يجوز أن يكون المال في الأصل غير لازم ويكون في الفرع لازما ، فلهذا منعنا من صحة ضمانه.

والمشهور الجواز ، وبه صرح المحقق والعلامة ، والخلاف هنا مبنى على الخلاف في مال الكتابة المشروطة هل هو لازم أم لا؟ وحيث أن مذهب الشيخ عدم لزومه من قبل العبد ، لانه لو عجز نفسه رجع ، وقد بنى عليه مسئلة الضمان.

ومذهب الأصحاب لما كان هو القول باللزوم ثمة ، قالوا : باللزوم هنا.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٧٢.

٢٧

قال في المسالك : ولو تنزلنا الى الجواز فالصحة متجهة أيضا ، لأن المال ثابت في ذمة المكاتب بالعقد ، غايته أنه غير مستقر كالثمن في مدة الخيار ، فعلى هذا متى ضمنه ضامن انعتق لأنه في حكم الأداء بناء على انه ناقل ، وامتنع التعجيز كما ادى المال بنفسه. انتهى.

وبالجملة فالظاهر هو المشهور لما عرفت ، وموضع الخلاف كما عرفت هو الكتابة المشروطة.

أما المطلقة ، فالظاهر أنه لا خلاف في لزومها وصحة ضمانها. والله العالم.

الثالثة : لا خلاف في أنه يصح ضمان نفقة الزوجة الماضية والحاضرة ، لاستقرارها في ذمة الزوج.

أما المستقبلة كنفقة الشهر المستقبل فلا ، ووجه الفرق بين الحالين أن النفقة عوض التمكين ، وهو بالنسبة إلى الزمان المستقبل غير حاصل ، لجواز النشوز ، فالنفقة فيه غير متعلقة بالذمة ، فلا يصح ضمانها ، ثم ان ما علل به الضمان في الموضعين الأولين من استقرار النفقة في الذمة إنما يتجه في النفقة الماضية ، وأما الحاضرة فإنه لا اشكال عندهم في وجوبها وثبوتها في الذمة مع التمكين.

لما صرحوا به من أنها تجب في كل يوم حاضر بطلوع فجره مع التمكين.

واما استقرارها ففيه اشكال ، مبنى على انها لو نشزت في أثناء النهار هل يسترد منها نفقة ذلك اليوم أم لا؟ وفيه خلاف يأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى في محله.

قالوا : أما لو ماتت أو طلقها استقرت ، وفي تخصيص نفقة الزوجة بالذكر في هذا المقام مع وجوب الإنفاق على غيرها من العمودين إشارة الى عدم الضمان في نفقة غيرها ، لأن الفائت منها لا يثبت في الذمة ، كما تثبت نفقة الزوجة ، بل غاية ما يلزم من الإخلال بها الإثم والمؤاخذة ، لأن الغرض المقصود من الأمر بها البر والصلة ، فتفوت بفوات وقتها ، بخلاف نفقة الزوجة فإنها معاوضة ، وقعت في مقابلة التمكين فسبيلها سبيل الدين.

٢٨

وقد وقع الخلاف هنا في موضعين :

الأول ـ قال الشيخ في المبسوط : يصح ضمان النفقة الماضية والحاضرة للزوجة دون المستقبلة ، لأنها تجب بالتمكين ، ومتى ضمن النفقة فإنما يصح مقدار نفقة المعسر ، لأنها ثابتة لكل حال ، وأما الزيادة عليها الى تمام نفقة الموسر ، فهي غير ثابتة لأنها تسقط بإعساره ، وتبعه ابن البراج على ذلك.

وهذا الكلام غير خال من الأشكال بل الاختلال ، لأنه متى كان الذي يجب قضاؤه انما هو النفقة الماضية والحاضرة ، والزوج يضمن بنسبة حاله ، فأن كان موسرا ضمن نفقة الموسر ، وان كان معسرا ضمن نفقة المعسر ، ولا يسقط الزائد على نفقة المعسر بإعسار الموسر بعد وجوبه.

ولا يتم هذا الكلام الا على مذهب من يقول بضمان النفقة المستقبلة ، كما صرح به في المختلف حيث قال : وانما يتم ذلك على مذهب القائلين بصحة ضمان النفقة المستقبلة ، وقول الشيخ في المبسوط كأنه مذهب المخالف ، وتفريع على تسويغ ضمان النفقة المستقبلة ، وتبعه ابن البراج توهما أن ذلك فتواه. انتهى وما ذكره (قدس‌سره) جيد في حد ذاته ، الا أن تطبيق عبارة الشيخ عليه مشكل ، والحق أن كلامه (قدس‌سره) هنا في المبسوط لا يخلو عن سهو وغفلة ، لعدم ارتباط العبارة وانتظامها.

الثاني : قال ابن إدريس : في الموضع الذي يصح ضمانها فلا تصح الا أن تكون معلومة ، لأن ضمان المجهول على الصحيح من المذهب وعند المحصلين من أصحابنا لا يصح ، وهو ظاهر في عدم صحة ضمان النفقة مع مجهوليتها ، وعدم معلومية قدرها وكميتها ، وفيه ما يأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في هذه المسألة.

الرابعة : اختلف الأصحاب في ضمان المجهول ، والمراد به ما يمكن استعلامه بعد ذلك كما لو ضمن ما في ذمته ، أما لو لم يكن الاستعلام لم يصح الضمان قولا واحدا كما لو قال : ضمنت لك شيئا مما لك على فلان ، لصدق الشي‌ء على القليل والكثير ، واحتمال لزوم أقل ما يتناوله الشي‌ء كالإقرار ، يندفع بأنه ليس هو المضمون ، وان كان بعض أفراده.

٢٩

وممن قال بصحة الضمان في المسألة ، الشيخ في النهاية ، وشيخنا المفيد في المقنعة ، وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة وابن البراج في الكامل ، والمحقق والعلامة وهو القول المشهور على ما نقله في المسالك.

وممن ذهب الى العدم ، الشيخ في المبسوط والخلاف ، وبه قال ابن البراج في المهذب وابن إدريس.

احتج في المختلف على القول الأول قال : لنا الأصل الصحة ، وعموم قوله تعالى (١) «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» وأشار الى حمل البعير ، والأصل عدم تعينه ، وقوله (عليه‌السلام) (٢) «الزعيم غارم». وما رواه عطاء عن الباقر (٣) (عليه‌السلام) قال : قلت له : جعلت فداك ان على دينا إذا ذكرته فسد على ما أنا فيه : فقال (ع) : سبحان الله أو ما بلغك أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقول في خطبته : من ترك ضياعا فعلى ضياعه ، ومن ترك دينا فعلى دينه ، ومن ترك مالا فأكله (٤) فكفالة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ميتا ككفالته حيا وكفالته حيا ككفالته ميتا ، فقال الرجل : نفست عني جعلني الله فداك». ولو لم يكن ضمان المجهول صحيحا لم يكن لهذا الضمان حكم ولا اعتبار ، إذ الباطل لا اعتبار به فامتنع من الامام (عليه‌السلام) الحكم بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كافل.

ثم نقل عن الشيخ : أنه احتج بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «نهى عن الغرر» وضمان المجهول غرر ، لانه لا يدرى كم قدرا من المال عليه ، ولعدم الدليل على صحته ، ثم أجاب عنه (قدس‌سره) بأن الغرر انما هو في المعاوضات التي تفضي إلى التنازع ، أما مثل الإقرار والضمان وشبههما ، فلان الحكم فيها معين ، وهو الرجوع الى قول المقر في الإقرار ، والى البينة في الضمان ، فلا غرر هنا ، والدليل قد بيناه انتهى.

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٧٢.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٧.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢١١ ح ١١ ـ والوسائل ح ١٣ ص ٩٢ ح ٥.

(٤) قيل قوله فأكله أى إرثه ، لأنه (ص) والأئمة من بعده وارث من لا وارث له. منه رحمه‌الله.

٣٠

أقول : ويدل على القول المشهور زيادة على المذكور ما تقدم من حديث ضمان على بن الحسين (١) عليهما‌السلام ، لدين عبد الله بن الحسن ، وحديث ضمانه عليه‌السلام لدين محمد بن أسامة (٢) فإنهما ظاهران بل صريحان في عدم معلومية الدين قدره وكميته وقت الضمان ، الا أن لقائل أن يقول : ان الظاهر من كلام المانعين من ذلك من حيث الغرر أن محل البحث والخلاف في المسألة انما هو بالنسبة إلى الضمان الذي يرجع به صاحبه على المضمون عنه ، وظاهر هذه الاخبار أعني خبر ضمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وضمان على بن الحسين (عليهما‌السلام) أنه ليس كذلك فلا تكون هذه الاخبار من محل البحث في شي‌ء ، وهكذا الكلام في الاية فإنه متى خص محل البحث بما ذكرناه ، فان الآية ليست من ذلك في شي‌ء أيضا ، لأن الظاهر منها انما هو ضمان الجعالة كما تقدمت الإشارة اليه.

وبالجملة فإنه ان جعل موضع البحث الضمان بقول مطلق ، فالحق في جانب القول المشهور للاية والاخبار المذكورة ، وان خص بما ذكرناه فباب المناقشة غير مسدود لما عرفت. والله العالم.

الخامسة : قد عرفت في سابق هذه المسئلة أن المشهور صحة ضمان المجهول ، الا أن القائلين بذلك اختلفوا فيما يرجع إليه في بيان ذلك المجهول وتعيين قدره ، فقيل بالرجوع في ذلك الى البينة ، بأنه كان ثابتا في ذمته وقت الضمان ، لا ما يوجد في كتاب ، ولا ما يقربه المضمون عنه ولا ما يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه من المضمون عنه ، فلو لم يكن ثابتا وقت الضمان بأن تجدد بعده ، فإنه لا يصح لانه ضمان ما لم يجب ، والشهادة به لا تفيد فائدة ـ ولا عبرة أيضا بما يوجد في دفتر أو كتاب لعدم الثبوت في ذمته بذلك ، وانما يلزم ضمان الثابت ، ولا ما يقر به المضمون عنه ، لأن إقراره انما ينعقد على نفسه لا على غيره ولا يحلف عليه المضمون له برد اليمين عليه من المضمون عنه ، لأن الخصومة الان بين الضامن والمضمون عنه ، فلا يلزم ما ثبت

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ١٥١ وص ١٥٣ الباب ٣ و ٥ من أبواب الضمان.

(٢) وقد تقدم حديث محمد بن أسامة في الموضع الثاني من البحث الأول ، واما حديث عبد الله بن الحسن فقد تقدم في الموضع السادس من البحث المذكور منه رحمه‌الله.

٣١

بمنازعة غيره ، كما لا يثبت بما يقربه.

نعم لو كان حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن ، فان كان النزاع بينه وبين الضامن ثبت على الضامن ما حلف عليه المضمون له وقيل : بلزوم ما يقربه الغريم أيضا ، ونقل عن أبى الصلاح وابن حمزة ، وفيه ما عرفت آنفا من ان إقرار المقر انما ينعقد على نفسه لا على غيره (١).

نعم لو كان الإقرار سابقا على الضمان فإنه يلزم الضامن ما أوجبه الإقرار ، كما صرح في المختلف ، وقيل : بلزوم ما يحلف عليه المضمون له مطلقا (٢) وهو منقول عن الشيخ المفيد ، قال (قدس‌سره) ـ على ما نقله عنه في المختلف : ضمان المجهول لازم ، كضمان المعلوم حتى يخرج منه بحسب ما تقوم به البينة للمضمون عنه ، أو يحلف عليه ، وتفسير هذا أن يقول : لإنسان قد لازم عليه على حق له عنده خل سبيله ، وأنا ضامن لحقك عليه كائنا ما كان ، فإن أقام المضمون له البينة على مقدار الحق خرج له الضامن ، ولا يقبل دعواه بغير بينة ، الا أن يحلف على ما يدعيه ، ولا يجوز أن يضمن انسان عن غيره ما يدعيه كائنا ما كان ، ولا ما يقترحه من الحقوق ، ولا ما يخرج حساب في كتاب لا حجة فيه الا أن يتعين المضمون ، أو يقوم به حجة على ما ذكر انتهى.

وهو ظاهر في إلزام الضامن ما يحلف عليه المضمون له وهو قول الشيخ أيضا الا أنه قيده برضا الضامن بالحلف ، وحينئذ فيكون هذا قولا رابعا في المسألة ،

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمل أن المراد بالرضا هنا الرد من الضامن بأن حلف المضمون له برد اليمين عليه من الضامن كما هو أحد فردي الإطلاق في عبارة الشيخ المفيد ، وقد عرفت آنفا أنه في هذه الصورة يلزم الضمان ويجب عليه الأداء.

__________________

(١) واما إذا كان حلفه انما هو لدفع المضمون عنه وإثباته الدعوى عليه باليمين المردودة من قبل المضمون عنه فلا يلزم منهما ثبوت ذلك على الضامن والدعوى الان انما هو معه كما لا يخفى. منه رحمه‌الله.

(٢) اى أعم من ان يكون رد اليمين عليه من الضامن أو المضمون عنه منه رحمه‌الله.

٣٢

وانما الإشكال في صورة رد المضمون عنه ، وحينئذ بناء على هذا الاحتمال يرجع الى قول المفيد ، ويكون تخصيصا له بهذه الصورة ، وهو جيد ، الا انه باعتبار حمل الرضا على الرد لا يخلو من بعد ، لان الرد أعم من ذلك كما عرفت.

والعلامة في المختلف فرع ذلك على أن يمين المدعى هل هي كالبينة ، أو كالإقرار؟ قال : والتحقيق أن يقول : ان جعلنا يمين المدعى كالبينة كان له الرجوع على الضامن ، سواء رضى بيمينه أم لا ، وان جعلناها كالإقرار افتقر الى رضا الضامن إذا ضمن المجهول.

وبالجملة فالقدر المتيقن من ذلك هو القول الأول وهو الحكم بالبينة وكذا مع رد اليمين من الضامن وحلف المضمون عليه وما عدا ذلك محل توقف واشكال

والعجب هنا من المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) حيث قال : ولا يلزمه ما يقربه المضمون عنه ولا ما يثبت عليه برد اليمين ، لأن الإقرار والحلف لا يؤثر في ثبوت حق على الغير وهو ظاهر ، وكأنه مجمع عليه انتهى.

وتوهم الإجماع على الانحصار في البينة مع وجود الخلاف كما عرفت ، وانتشاره في كتب الأصحاب كالمسالك والمختلف وغيرهما عجيب منه (قدس‌سره) ولو ضمن ما يشهد به عليه لم يصح الا ان يكون ثابتا في ذمته وقت الضمان فإنه لا مانع من صحة ضمانه ، وأما ما تجدد بعد ذلك فلا ، لانه ضمان ما لم يجب ، ومن شرط صحة الضمان تعلقه بالدين الثابت في الذمة وقت الضمان ، وحينئذ فضمانه لما يشهد به عليه شامل لما كان ثابتا في ذمته وقت الضمان وما كان متجددا ، والأول صحيح دون الثاني وبذلك يظهر ان إطلاق بعض العبارات بأنه لا يصح أن يضمن ما يشهد به عليه لانه لا يعلم بثبوته في الذمة وقت الضمان ـ ليس في محله.

السادسة قد صرح أكثر الأصحاب بجواز ضمان الأعيان المضمونة التي يجب على من هي في يده ردها ، ولو تلفت رد قيمتها كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد ، والعارية المضمونة كأحد النقدين المشروط قال في التذكرة : يجوز ضمان أعيانها فإنه مال مضمون على المضمون عنه فجاز الضمان عنه ، ولو ضمن قيمتها لو تلفت فالأقوى عندي الصحة ، لأن ذلك ثابت في ذمة القابض انتهى.

٣٣

وتردد المحقق في الشرائع ثم قال : الا شبه الجواز.

أقول : ضمان هذه الأعيان اما أن يكون بمعنى تكليف الضامن برد أعيانها على مالكها ، أو بمعنى ضمان قيمتها لو تلفت عند الغاصب ، والمستام ونحوهما ، أو الأعم منهما ، وفي صحة الكل اشكال ، لعدم الدليل على ما ذكروه من الجواز ، والأصل عدمه.

وما استدلوا به ـ من أن منشأه وجود سبب الضمان للعين ، والقيمة وهو القبض على الكيفية المخصوصة ، فيصح ، أما الأول فلأنه ضمان مال مضمون على المضمون عنه ، وأما الثاني فلثبوت القيمة في ذمة الغاصب ونحو لو تلفت ـ منظور فيه بأن الثابت في الأول انما هو وجوب الرد ، وهو ليس بمال ، والثاني ليس بواقع ، فهو ضمان ما لم يجب وان وجد سببه ، لأن القيمة لا تجب الا بالتلف ولم يحصل.

ومنه يظهر أن الأظهر عدم الجواز وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك لما ذكرناه وزاد أيضا في القسم الأول فسادا من وجه آخر ، وهو ان من خواص الضمان كما قد عرفت انتقال الحق إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه ، وهنا ليس كذلك ، لان الغاصب مخاطب بالرد ومكلف به إجماعا ، وانما يفيد هذا الضمان ضم ذمة إلى ذمة ، وليس من أصولنا.

ومرجعه الى ما قدمناه من أن الحق الواجب على من بيده المال انما هو الرد الى صاحبه ، وهو لا ينتقل ، كما هو الحكم الجاري في الضمان ، بل يجب على من هو في يده رده ، ولا يخاطب به غيره.

وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) حيث قال : ويحتمل الثبوت لصدق الضمان عرفا مع ثبوت شرعيته مطلقا ، وليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرائطه. نعم غالبا انما يكون كذلك ، ولهذا قال في التذكرة : ضمان المال عندنا ناقل ، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه الى آخره ، بعد ان اختار جواز ضمان الأعيان المضمونة والعهدة ، وكأنه لذلك تردد البعض واستشكل فتأمل. انتهى.

ففيه نظر لان الرجوع الى صدق الضمان عرفا ممنوع ، إذ لا مدخل للعرف

٣٤

هنا مع وجود النهي الشرعي وثبوته نصا وفتوى ، ودعوى ثبوت شرعيته مطلقا ممنوع أيضا فإنه محل البحث ومطرح النزاع ، فان الخصم يمنع من ثبوت شرعيته على الوجه المذكور.

وقوله ـ انه ليس بمعلوم كون ما ذكر من لوازمه أو شرائطه ، مشيرا بذلك الى ما احتج به الخصم من أن مقتضى الضمان الانتقال إلى ذمة الضامن ، وبراءة المضمون عنه ـ فيه أنه قد تقدم في الموضع الخامس من البحث الأول ما يدل على أن الحكم اتفاقي نصا وفتوى ، ودعوى كونه غالبا دون أن يكون كليا ممنوعة. نعم هذا الحكم انما ورد في المواضع التي قام الدليل على صحة الضمان فيها ، وأما ما ذكر هنا من ضمان الأعيان فإنا لم نقف في الاخبار ما يدل عليه ، وانما جوزه من جوزه بما عرفت من ذلك الوجه الاعتباري الذي تقدم ذكره مع انتقاضه بما عرفت أيضا ، وكلامه في التذكرة الذي استند اليه هنا لا يسمن ولا يغني من جوع فإنه يرد عليه جميع ما ذكرنا.

وبالجملة فإنه لما لم يقم هنا على الضمان كما ادعوه دليل واضح ، فالمانع مستظهر ، والأصل العدم ، ودعوى عموم أدلة الضمان لذلك ممنوع لما عرفت ، ثم انه بناء على المشهور من الحكم بجواز ضمان الأعيان المضمونة نفوا الجواز عن الأعيان الغير المضمونة كالوديعة والعارية الغير المضمونة ومال المضاربة وما في يد الوكيل وأمين الحاكم والوصي فإنه لا يصح ضمانها ، وقد ادعى في التذكرة الإجماع على ذلك ، وجعلوا الفرق بينها وبين ما سبق باعتبار الضمان ، وعدمه ، فحيث كانت تلك الأعيان مضمونة على من هي في يده ، لان يده يد عارية صح جواز الضمان فيها ، بخلاف هذه حيث أنه لا ضمان عليه ، وان فرض ضمانه لها على تقدير التعدي والتفريط ، الا أن السبب الان ليس بواقع.

نعم لو كان قد تعدى فيها وصارت مضمونة عليه جاز الضمان ، وصارت من جملة أفراد تلك المسألة ، لوجود السبب وهو كونها مضمونة ، والبحث فيها عن جواز ضمان الأعيان المضمونة أعم من أن يكون ضمانها بالأصل أو العارض ، وأنت خبير بما في هذا الفرق الذي بنوا عليه ، لما عرفت من أن مجرد كونها مضمونة على من

٣٥

هي بيده لا تصلح سببا لجواز ضمانها ، لاختلال شروط الضمان كما عرفت ، والعمدة في ثبوت الأحكام على النصوص الشرعية وحيث لم يرد فيها نص فإثبات الحكم والاعتماد على مثل هذه التعليلات مجازفة سيما مع ما عرفت من انتقاضها وعدم تمامها ، والله العالم.

البحث الثالث في اللواحق

وفيه أيضا مسائل ، الاولى ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب «رضوان الله عليهم» في جواز ضمان العهدة ، وهو أن يضمن عهدة الثمن للمشتري عن البائع إذا كان قد قبضه البائع في كل موضع يثبت فيه بطلان البيع من أصله ، بأن يكون مستحقا لغير البائع ، ولم يجز المالك البيع على تقدير صحة بيع الفضولي أو أجازه ولم يرض بقبض الثمن ومثله ما لو تبين خلل في البيع اقتضى فساده كتخلف شرط فيه أو اقترانه بشرط فاسد على القول بكون ذلك مبطلا لأصل العقد ، وملخصه اشتغال الذمة بالمضمون على أحد هذه الوجوه وقت الضمان ، فان ضمان الثمن للمشتري يصح في جميع ذلك وكما يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري ، يصح للبائع أيضا عن المشتري ، بأن يخرج الثمن مستحقا لغيره ونحوه ، وأن يكون معيبا يستحق الأرش به وظاهر جملة منهم أن دليل هذا النوع من الضمان انما هو الإجماع أو الضرورة فإنه لو لم يجز مثله للزم تعطيل بعض المعاملات ، فان كثيرا ما يحتاج الإنسان إلى المعاملات مع من لا يوثق به في تلف الثمن ، على تقدير بطلان البيع وعمل المسلمين والى ذلك أشار في التذكرة فقال : وهذا الضمان عندنا صحيح ان كان البائع قد قبض الثمن ، الى أن قال : لإطباق الناس عليه في جميع الأعصار ، ولأن الحاجة تمس إلى معاملة من لا يعرف ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظفر به لو خرج مستحقا للغير.

أقول : وكأنه لذلك : قال به من قال : بعدم جواز ضمان الأعيان ، قال في المسالك : وفي الحقيقة هذا فرد من أفراد الأعيان المضمونة على تقدير كونه موجودا حالة الضمان ، وقد تقدم ما في ضمان الأعيان والمصنف هنا انما رتب الحكم على مذهبه هناك ، أو أن هذا الفرد خارج من البين ، لمكان الضرورة : فإن ظاهرهم

٣٦

الإطباق على جوازه انتهى.

وأنت خبير بما في تعليلاتهم في هذا المقام من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام ، ولو تم الرجوع الى مثل هذه التعليلات العليلة في تأسيس الأحكام الشرعية لا تسع المجال ، وكثر الخبط في شريعة ذي الجلال ، مع استفاضة الاخبار عن الآل بالمنع عن الفتوى الا بما يعلم عنهم (صلوات الله عليهم) والأمر بالرد إليهم فيما لم يرد فيه نص عنهم ، والأمر بالسكوت عما سكت الله عنه ونحو ذلك كما لا يخفى على من تتبع الاخبار ، وجاس خلال تلك الديار.

نعم لا يبعد فيما ذكروه في ضمان الثمن بعد التصرف فيه ورجوعه إلى الذمة ، فإنه يصير حينئذ من قبيل ضمان ما في الذمة لا ضمان الأعيان ، وهو مما لا خلاف فيه ، فإنه متى كان ثابتا في ذمة المضمون عنه وضمنه الضامن والحال هذه فإنه لا إشكال في صحته.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ولا استبعاد في ضمان الأعيان بمعنى جواز طلب العين ممن في يده والضامن مخير في وجوب رد العين عليهما ، وعوضها بعد التلف بعد الضمان ، بل لا يبعد كونه ناقلا أيضا بمعنى وجوب الرد ، فيطلب العين عن الضامن فيأخذها من المضمون عنه ويردها إلى أهلها ان ثبت النقل بالدليل مطلقا والا يكون النقل مخصوصا فيما يمكن من الأموال التي في الذمة.

قال في التذكرة ضمان المال عندنا ناقل للمال من ذمة المديون إلى ذمة الضامن على ما يأتي ، وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة اشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كل من الضامن والمضمون عنه ، أما الضامن فللضمان ، وأما المضمون عنه فلوجود العين في يده أو تلفها فيه ، وفي العهدة ان شاء المشترى طالب البائع وان شاء طالب الضامن ، لان القصد هنا بالضمان التوثق لا غير انتهى.

ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام فإنه مجرد دعوى وعارية عن الدليل ، والبحث

في صحة الضمان في هذا المقام وإثباته بالدليل الظاهر ليمكن بناء ما ذكروه من هذه الأحكام عليه ، وان كان بنوع من التجوز في بعض الموارد ، ومتى كان ذلك غير ثابت ولا صحيح.

٣٧

فجميع هذا الكلام نفخ في غير ضرام ، وتفسير الضمان بمعنى طلب العين ممن في يده كما ذكره في صدر كلامه مجاز بعيد ، لا يصار اليه الا بدليل ، والا فمعنى الضمان شرعا هو انتقال الحق إلى ذمة الضامن ، وتفسير النقل بما ذكره من وجوب الرد أبعد ، وقوله والا يكون النقل مخصوصا بما في الذمة فيه ما تقدمت الإشارة إليه من أنه انما اختص بما في الذمة ، لكونه هو مورد الضمان شرعا.

وأما غيره مما ذكروه في ضمان العين المضمونة والعهدة الراجع إليه أيضا فليس من الضمان في شي‌ء لعدم الدليل عليه ، فلم يترتب عليه الحكم المذكور وتكلف ترتيبه عليه بهذه التجوزات السخيفة فرع ثبوته أولا ، وليس فليس.

وبما ذكرنا يظهر لك ان ضمان العهدة ان تعلق بالعين الموجودة فهو داخل تحت ضمان الأعيان المضمونة وان كان ظاهرهم هنا الاتفاق عليه للضرورة كما ادعوه بخلافه ثمة لما تقدم من الخلاف في تلك المسئلة وان تعلق بالثمن بعد تلفه واستقراره في الذمة فهو داخل في ضمان الديون التي في الذمة ، ولا إشكال في الصحة.

تنبيهات الأول

قال في التذكرة المناط في ضمان العهدة أن يقول الضامن للمشتري : ضمنت لك عهدته أو ثمنه أو دركه أو خلصتك ، والظاهر أن مراده من ذكر هذه الألفاظ مجرد التمثيل ، بمعنى أن كل لفظ يفهم منه ذلك كهذه الألفاظ ونحوها ، فإنه ، يقع به الضمان ، ويصح ذلك للبائع أو المشترى ، ومحل الضمان المذكور كل موضع يظهر فيه بطلان العقد ، كما تقدم.

الثاني ـ قد عرفت مما تقدم أن من شروط صحة ضمان العهدة اشتغال الذمة بالمضمون على أحد الوجوه السابقة ، وحينئذ فالمعتبر في ضمان العهدة وجود الضمان حالته ، فلا عبرة بالتجدد بعد ذلك كالفسخ بالتقابل ، وتلف المبيع قبل القبض ، والفسخ بخيار الحيوان ، وخيار المجلس ونحوها فإنه حالة الضمان ليس بفاسد ، ولم يحصل الاستقرار في الذمة الذي هو شرط في الضمان ، فلم يكن مضمونا فضمانه على هذا التقدير يكون من قبيل ضمان ما لم يجب وحينئذ فلا يدخل هذا في ضمان العهدة ، ومثله أيضا لو فسخ المشترى بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة

٣٨

فلا يلزم الضامن الثمن على تقدير الفسخ بالعيب بل يرجع به المشترى على البائع ، ويطالبه به ، لان الفسخ بالعيب إنما أبطل العقد من حينه ، لا من أصله كما في ضمان العهدة الذي تقدم تحقيقه فلم يكن حالة الضمان وهو وقت البيع مضمونا.

حتى أنه لو صرح بضمانه في ذلك الوقت فسد (١) لانه ضمان ما لم يجب ، والذمة إنما اشتغلت به بعد الفسخ ، والشرط الذي يبنى عليه الضمان كما تقدم هو ضمانه حال اشتغال الذمة به ، فوقت الضمان الذمة غير مشغولة ، ووقت الاشتغال متأخر لم يقع فيه ضمان ، فلم يصادف الضمان محله ، ولا يؤثر هنا تقدم سبب الفسخ ، وهو العيب الموجود حال البيع ، لأنك قد عرفت أن المدار على اشتغال الذمة وقت الضمان ، وهو غير حاصل ، ومجرد تقدم السبب مع أنه قد يرضى به المشترى ولا يفسخ العقد غير موجب لصحة الضمان لما عرفت.

الثالث ـ قد اشتهر في كلام الفقهاء تسمية هذا الضمان بضمان العهدة ، وضمان الدرك ، وقد صرح العلامة في التحرير وغيره في غيره بأن العهدة ، في الأصل اسم للوثيقة ، أو الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ، ويذكر فيه مقدار الثمن وأحواله من وصف وحلول وتأجيل ، ثم نقل الى نفس الثمن ، وغلب فيه.

وقال في التذكرة : سمي ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده ، لما ذكره في الصحاح ، فقال : يقال في الأمر : عهدة بالضم : أى لم يحكم بعد وفي عقله عهدة أي ضعف ، فكان الضامن ضمن ضعف العقد ، والتزم ما يحتاج اليه فيه من عزم ، أو أن الضامن من التزم رجعة المشترى عليه عند الحاجة. انتهى.

وأما تسمية ضمان الدرك فقال في التذكرة أيضا : وأما الدرك فقال في الصحاح الدرك التبعة ، وقيل : سمى ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك المستحق عين ماله.

وقال في المسالك : وقيل : يسمى ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند ادراك الشخص عين ماله.

أقول : قال في القاموس الدرك ويسكن : التبعة ، وفي الصحاح ، الدرك :

__________________

(١) فيه إشارة إلى الرد على من قال بدخول هذا الفرد في الإطلاق وصحة ضمانه وأنه من جملة ضمان العهدة لتقدم سبب الفسخ وفيه ما عرفت في الأصل. منه رحمه‌الله.

٣٩

التبعة ، وقال في كتاب المصباح المنير بعد أن قال : أدركته إذا طلبته فلحقته ، والدرك بفتحتين وسكون الراء لغة من أدركت الشي‌ء ، ومنه ضمان الدرك انتهى.

الرابع ـ قد عرفت أنه لو فسخ المشترى بعيب سابق فإنه لا يدخل ذلك في ضمان العهدة ، ولا يلزم الضامن الثمن لعدم اشتغال ذمة المضمون عنه وقت العقد بالثمن ، وانما حصل ذلك بعد الفسخ.

وانما يبقى الاشكال (١) (فيما لو طالب المشتري بالأرش ، فهل يرجع به على الضامن متى ضمنه لان استحقاقه ثابت وقت العقد ، وهو مناط الفرق بين الثمن والأرش ، فيدخل الأرش في ضمان العهدة ، دون الثمن على تقدير الفسخ بالعيب ، فان الثمن انما يجب بالفسخ اللاحق المتأخر عن الضمان.

وأما الأرش فإنه جزء من الثمن ثابت به وقت الضمان ، فيندرج في ضمان العهدة غاية الأمر انه مجهول القدر ، وقد تقدم صحة ضمان المجهول على التفصيل المتقدم ، والحكم هنا مبنى على ما ثبت هناك ، أم لا يرجع نظرا الى أن الاستحقاق للأرش انما جعل بعد العلم بالعيب ، واختيار أخذ الأرش ، والموجود حالة العقد من العيب ما كان يلزمه بغير الأرش ، بل اللازم التخيير بينه وبين الرد ، فلم يتعين الرد الا بالاختيار.

وملخص الاشكال المذكور يرجع الى أن الأرش هل هو ثابت بالعقد ، وانما يزول بالفسخ ، والرجوع الى الثمن أو أن سببه وان كان حاصلا ، فإنه لا يثبت الا باختياره ، ولعل الأول أقرب ، بناء على هذه التعليلات ، نظرا الى أن الأرش كان واجبا بالأصل ، لأنه عوض جزء فائت من مال المعاوضة ، ويكفي في ثبوته بقاء المشترى على الشراء وانما ينتقل الى الثمن بارتفاق آخر حيث لم يسلم له المبيع تاما ، والله العالم.

المسألة الثانية ـ قالوا : إذا خرج المبيع مستحقا رجع على الضامن ، أما

__________________

(١) وفيه إشارة إلى أنه لو كان الضمان انما هو بعهدة الثمن فإنه لا يشمل الأرش ، الا أن يكون ذلك معلوما ومقصودا منهما ، ويمكن أن يكون هذا وجه الرد والاشكال ، وأما إذا ضمن الأرش وخرج به ، فإنه لا إشكال في صحة الضمان لما ذكرناه في الأصل ، وظاهرهم أن محل الخلاف انما هو إذا ضمن الثمن خاصة ، وكلام الأكثر خال من التخصيص بالثمن. منه رحمه‌الله.

٤٠