الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

وثانيهما ـ قولهما في صورة ما إذا اشترطا الربح للعامل أنه قرض ، فان ظاهره المنع من الحكم بكونه قرضا بمجرد هذا الشرط ، قال (رحمة الله عليه) : وكذا قوله : «كان المال قرضا ودينا» فان القرض يحتاج إلى صيغة خاصة ، وله أحكام خاصة ، والمفروض عدم وجودها من المالك ، فكيف يحكم بوجوده ، وترتب أحكامه عليه ، ولان خروج المال عن ملك مالكه ودخوله في ملك آخر يحتاج الى ناقل ، وما وجد الا نحو قوله : «اتجر فيه فيكون الربح لك» وغير معلوم كون هذا المقدار مملكا ، باعتبار أن كون الربح له فرع كون المال له ، فكأنه قال : المال لك بالعوض ، فربحه لك ، لان الاكتفاء في خروج مال عن ملكه ودخوله في ملك آخر بمثله من غير دلالة شرع به مشكل ، على أنه قد يكون العامل أو القائل جاهلا لا يعلم أنه لا يمكن كون المال باقيا على ملكه ، وكون الربح للعامل ، إذ يكون مقصوده إعطاء الربح للعامل ، بعد ان كان له ، وبالجملة ان وجد دليل مفيد لنقل الملك مع العوض يكون قرضا ، والا فلا. انتهى.

وهو جيد أيضا ، الا أنه يمكن الجواب هنا بأنه ليس المراد ثبوت القرض وحصوله بمجرد هذا الاشتراك بل مع حصول القرض أولا بصيغته الدالة عليه ، والا لورد ما قاله أيضا بالنسبة إلى القراض الذي هو محل البحث ، فإنه لا بد فيه من صيغة خاصة عندهم ، مع أن ظاهر هذا الكلام الاكتفاء بمجرد هذا الاشتراط ، وهم لا يقولون به.

وبالجملة فالمراد انما هو أن اشتراط الربح لهما معا انما يكون في القراض ، واشتراطه للعامل خاصة انما يكون في القرض ، وللمالك خاصة انما يكون في البضاعة ، وهذا لا يدل على حصول القراض بمجرد هذا الاشتراط كما يوهمه ظاهر الكلام المتقدم ، ولا على حصول القرض كذلك (١).

__________________

(١) قال في المسالك : وعقد القراض مركب من عقود كثيرة لأن العامل مع صحة

٢٠١

على أنه يمكن الاستدلال هنا بما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن قيس (١) في الصحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : قال : قال أمير المؤمنين (ع): من اتجر مالا واشترط نصف الربح فليس عليه ضمان ، وقال : من ضمن تاجرا فليس له الا رأس ماله ، وليس له من الربح شي‌ء».

ومثله موثقة محمد بن قيس (٢) عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : قضى على (عليه‌السلام) في تاجر اتجر بمال واشترط نصف الربح فليس على المضارب ضمان. وقال ايضا : «من ضمن مضاربة فليس له الا رأس المال ، وليس له من الربح شي‌ء».

والتقريب فيهما أنه بمجرد تضمين المالك للمضارب يصير المال قرضا ، ويخرج عن المضاربة ، وان لم يتقدم هناك عقد القرض أولا ، وهو في معنى اشتراط الربح للعامل ، فإن الأمرين من لوازم القرض.

قال في الوافي بعد نقل الخبرين المذكورين : أريد بالحديثين أن في المضاربة لا ضمان على العامل ، فان اشترط عليه الضمان يصير قرضا انتهى. ومرجعه إلى أنه باشتراطه الضمان كأنه قصد أن المال يكون قرضا حينئذ ، كما أنه باشتراط الربح للعامل خاصة كأنه قصد ذلك ، وبه يندفع الإيراد الثاني ، وأما الأول فهو لازم.

والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد أربعة :

الأول : في العقد وما يلحق به ، وفيه مسائل الأولى ـ قال العلامة في

__________________

التعدد وعدم ظهور ربح ودعى أمين ، ومع ظهوره شريك ومع التعدي غاصب وفي تصرفه وكيل ومع فساد العقد أجير. انتهى. أقول : الظاهر أن المراد أنه يترتب على هذا العقد من اللوازم باعتبار وجود بعض الأمور وعدم بعض ما يترتب على تلك العقود ، لان تلك العقود حاصلة في ضمن العقد كما يشعر به ظاهر الكلام. منه رحمه‌الله.

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٨ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٥ ح ٢ و ٤.

٢٠٢

التذكرة : لا بد في هذه المعاملة من لفظ دال على الرضا من المتعاقدين ، إذ الرضاء من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها الا الله تعالى ، وهذه المعاملة كغيرها من المعاملات يشترط فيها الرضا للاية ، واللفظ الدال على الإيجاب أن يقول رب المال : ضاربتك أو قارضتك أو عاملتك على أن يكون الربح بيننا نصفين ، أو أثلاثا ، أو غير ذلك من الوجوه ، بشرط تعيين الأكثر لمن هو منهما ، والأقل كذلك ، والقبول أن يقول العامل قبلت أو رضيت أو غيرهما من الألفاظ الدالة على الرضاء بالإيجاب ، وكذا الإيجاب لا يختص لفظا فلو قال : خذه واتجر به على أن ما سهل الله في ذلك من ربح وفائدة يكون بيننا على السوية ، أو متفاوتا جاز ، ولا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود ، وهل يعتبر اللفظ؟ الأقرب العدم ، فلو قال : خذ هذه الدراهم واتجر بها على أن الربح بيننا على كذا ، فأخذها واتجر بها فالأقرب الاكتفاء به في صحة العقد ، كالوكالة ويكون قراضا.

ثم نقل عن جملة من العامة أنه لا بد من القبول ، بخلاف الوكالة ، فإن القراض عقد معاوضة ، فلا يشبه الوكالة التي هي اذن ، ثم قال : والوجه الأول.

أقول : قد عرفت في غير موضع مما تقدم سهولة الأمر في العقد ، وأنه ليس الا ما دل على التراضي بتلك المعاملة ، وظاهر كلامه هنا وكذا كلام غيره الاكتفاء بما دل على الرضا ، وان كان فعلا في جانب القبول.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة : وفي اشتراط وقوع قبوله لفظا أو جوازه بالفعل ، قولان : لا يخلو ثانيهما من قوة ، وبذلك يظهر لك ما في قوله : «فلا بد من القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود» من التأمل ، فإنه متى صح القبول بالفعل دون القول فلا معنى لاشتراط التواصل الذي هو عبارة عندهم

٢٠٣

عن تعقيب الإيجاب بالقبول ، وعدم الفصل بينهما ، فان هذا انما يتجه فيما لو كان القبول لفظا ، الا أن يراد أنه لا بد من التواصل وان كان القبول فعلا ، بأن يكون الأخذ بعد الإيجاب بلا فصل ، وهو بعيد.

وبالجملة فإنه لا دليل على اعتبار هذه المقارنة ، بل ربما دلت ظواهر جملة من الاخبار المشتملة على العقود على خلاف ذلك ، والأصل إناطة صحة العقد بالرضا ، والألفاظ الدالة عليه من الطرفين ، فان ذلك غاية ما تدل عليه الآية والروايات ، وما عداه من المقارنة المذكورة خال من الدليل ، ولا خلاف بينهم في أن القراض من العقود الجائزة من الطرفين ، ويؤيده أنه وكالة في الابتداء ، ثم قد يصير شركة بعد العمل ، وكل من الوكالة والشركة من العقود الجائزة ، ولا فرق في ذلك بين انضاض المال بمعنى صيرورته دراهم بعد أن كان عروضا ، أو كان عروضا لم ينض ، فلكل منهما فسخه وان كان عروضا ، وليس لصاحب المال أن يكلف المضارب بإنضاض العروض بان يصيرها دراهم كالأول وليس للمضارب أيضا أن يقول للمالك اصبر حتى ينض المال.

الثانية : في جملة من الشروط الواقعة في العقد ، قال في التذكرة : يجب التنجيز في العقد ، فلا يجوز تعليقه على شرط أو صفة مثل إذا دخلت الدار أو إذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك ، وكذا لا يجوز تعليق البيع ونحوه لأن الأصل عصمة مال الغير. انتهى.

أقول : لا يخفى ما في دليله من تطرق النظر إليه ، فإن عموم الأدلة الدالة على جواز هذا العقد من آية ورواية شامل لما ذكره ، فإنه تجارة عن تراض ، وعقد المضاربة التي قدمنا نقله عنه في صدر الكتاب شامل له.

وبالجملة فإنه لا دليل يعتمد عليه في ما ذكره من البطلان بهذا الشرط ، والأصل عدمه ولو قال ضاربتك سنة بمعنى انه جعل أجلا للمضاربة لم تلزم

٢٠٤

المضاربة في هذه المدة ، بل لكل منهما فسخها قبل الأجل ، والشرط والعقد صحيحان ، أما الشرط ففائدته المنع من التصرف بعد السنة ، لأن جواز التصرف تابع للاذن عن المالك ، ولا اذن بعد المدة المذكورة ، وأما العقد فإنه لا مانع من صحته الا ما ربما يتوهم من هذا الشرط ، وهو غير مناف لمقتضى العقد ، إذ غايته أن التصرف ليس مطلقا بل محدود بوقت معين ، وهو صحيح لما عرفت ، وكذا لو قال له : ان مرت بك سنة فلا تشتر وبع ، أو قال : فلا تبع واشتر ، فان العقد صحيح ، وكذا الشرط لعين ما عرفت ، من أن أمر البيع والشراء منوط بنظر المالك وأمره ، فله المنع منهما بعد السنة ، أو من أحدهما بطريق اولى ، وهذا بخلاف ما لو شرط اللزوم ، بأن قال : على أنى لا أملك منعك ، فان هذا الشرط مناف لمقتضى العقد ، إذ مقتضاه كما عرفت الجواز ، فيكون الشرط المذكور باطلا ، وبه يبطل العقد على المشهور من أن العقد المشتمل على شرط فاسد باطل ، وشرط الأجل مرجعه الى تقييد التصرف بوقت خاص ، وهو غير مناف لمقتضى العقد كما عرفت.

ولو شرط عليه أن لا يشترى الا من زيد ، ولا يبيع الا على عمرو أولا يشتري إلا المتاع الفلاني ، أو لا يسافر الا الى البلد الفلانية ، أو لا يسافر بالكلية صح ووجب عليه العمل بالشرط فان خالف ضمن ، لكن لو ربح كان الربح بينهما.

ويدل على ذلك جملة من الاخبار منها ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة ، وينهى أن يخرج به فخرج قال : يضمن المال ، والربح بينهما».

وروى الحلبي (٢) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنه قال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ١٨٩ ح ٨٣٦.

(٢) المصدر ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨١ ح ١ و ٢.

٢٠٥

في الرجل يعطى الرجل المال فيقول له : ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها ، واشتر منها قال : فان جاوزها وهلك المال فهو ضامن ، وان اشترى متاعا فوضع فيه فهو عليه وان ربح فهو بينهما».

وما رواه من الكافي عن ابى الصباح الكناني (١) في الحسن «عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعمل المال مضاربة قال : له الربح وليس عليه من الوضيعة شي‌ء ، الا أن يخالف عن شي‌ء مما أمره صاحب المال».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى بصير (٢) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعطى الرجل مالا مضاربة ونهاه أن يخرج به الى أرض أخرى ، فعصاه فقال : هو له ضامن ، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه». وعن الحلبي (٣) في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) «قال المال الذي يعمل به مضاربة له من الربح وليس عليه من الوضيعة شي‌ء ، الا أن يخالف أمر صاحب المال».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن أبى الصباح (٤) «قال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المضاربة يعطى الرجل المال يخرج به الى الأرض ، ونهى أن يخرج به الى أرض غيرها ، فعصى فخرج به الى أرض أخرى فعطب المال ، فقال : هو ضامن ، وان سلم فربح فالربح بينهما».

وما رواه الشيخ عن جميل (٥) «عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجل دفع الى رجل ما لا يشترى به ضربا من المتاع مضاربة ، فذهب فاشترى به غير الذي أمره به ، قال : هو ضامن ، والربح بينهما على ما شرط».

وهذه الرواية في طريقها معاوية بن حكيم ، وهو وان قال النجاشي :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ٧.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٧ ح ١٣.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ١٨٩ ح ٢٣ ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٣ ح ١ وهذه الرواية في الوسائل ج ١٣ ص ١٨١.

٢٠٦

انه ثقة جليل ، الا أن الكشي قال : انه فطحي ، وهو عدل عالم ، وبذلك يظهر لك ما في قول المحقق الأردبيلي ان هذه الرواية أصح الروايات التي في هذا الباب.

وما رواه الشيخ عن الشحام (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في المضاربة إذا أعطى الرجل المال ونهى أن يخرج المال إلى أرض أخرى ، فعصاه فخرج به ، فقال : هو ضامن والربح بينهما».

وهذه الاخبار على كثرتها وتعددها فقد اشتركت في الدلالة على أن الربح بينهما مع المخالفة ، وضمان العامل لو عطب المال أو حصلت فيه نقيصة ، وهو لا يوافق قواعدهم.

ولهذا قال في المسالك : ولو لا النص لكان مقتضى لزوم الشرط فساد ما وقع مخالفا أو موقوفا على الإجازة ، انتهى.

وتوضيحه ما عرفت من أن القراض في معنى الوكالة ، بل هو وكالة ، وحينئذ فان لم يكن وكيلا في شراء عين فكيف يصح الشراء ، ويترتب عليه حل الربح بينهما ، وكذا فيما لو نهى عن السفر إلى جهة أو البيع أو الشراء على شخص بعينه ، مع أنه في الوكالة لا تصح ذلك ، فإنه متى وكل على أمر مخصوص وتجاوزه إلى أمر آخر غير ما وكل عليه فإنه يكون بيعه وشرائه باطلا ، وكيف يستحق ربح عمل لم يكن مأذونا فيه ، ولا مقارضا عليه ، بل يكون آثما ضامنا مع أن الاخبار كما عرفت قد اتفقت على حل الربح ، وأنه بينهما.

وهو مؤيد لما قدمناه في غير مقام من أن الواجب هو الوقوف على مقتضى الاخبار ، وان خالفت مقتضى قواعدهم ، ومن الجائز تخصيص قواعدهم بهذه

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩١ ح ٣٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٨٣ ح ١١.

٢٠٧

الاخبار ، فيكون ما دلت عليه مستثنى من مقتضى تلك القواعد ، كما قدمنا مثله مرارا.

وأما ما ارتكبه المحقق الأردبيلي هنا من الاحتمالات البعيدة ، والتمحلات غير السديدة ، فلا يخفى ما فيه على من تأمله ، وتدبر ما في باطنه وخافية.

ولو اشترط أن يشترى أصلا يشتركان في نمائه كالشجر والغنم ونحوهما ، قيل : يفسد العقد ، لان مقتضى عقد المضاربة التصرف في رأس المال بالبيع والشراء ، وتحصيل الربح بالتجارة ، ومن هنا استحق العامل حصته من الربح في مقابلة هذا العمل ، وما ذكر هنا ليس كذلك ، لأن فوائده تحصل من غير تصرف بل من عين المال ، وتردد بعضهم في الصورة المذكورة نظرا ـ الى ما ذكر مما يدل على البطلان ـ والى أن حصول هذه الأشياء انما وقع بسبب سعى العامل ، إذ لو لا شرائه لم يحصل النماء ، وذلك من جملة الاسترباح بالتجارة ، فيكون صحيحا.

وضعف الثاني بأن الحاصل بالتجارة هو زيادة القيمة لما وقع عليه العقد لا نماؤه الحاصل مع بقاء عين المال ، وبأن المضاربة تقتضي معاوضتين ، أحدهما بالشراء ، والأخرى بالبيع ، وأقل ما يتحققان بمرة ، وبها يظهر الربح.

والتحقيق أن الفرع المذكور لما كان غير منصوص ، فالحكم فيه بأحد الوجهين مشكل ، والبناء على هذه العلل الاعتبارية مجازفة في الأحكام الشرعية المطلوب فيها العلم واليقين بالاستناد إلى السنة النبوية ، أو الكتاب المبين ، ولا سيما مع تعارضها وتدافعها كما عرفت.

ثم انه على تقدير القول بفساد المضاربة ، الظاهر أنه لا مانع من صحة الشراء المذكور ، لدخوله تحت إطلاق الإذن للعامل بالبيع والشراء ، فيكون

٢٠٨

النماء الحاصل بأجمعه للمالك ، وعليه أجرة المثل للعامل ، ويحتمل البطلان بالنظر الى أنه مأذون في البيع والشراء الذي يقع في المضاربة بأن يترتب عليه الربح لا مطلقا ، بحيث يشمل ما وقع هنا هذا.

وينبغي أن يعلم ان الممتنع على القول به انما هو مع انحصار الربح في النماء المذكور ، كما يقتضيه هذه المعاملة ، والا فلا مانع من كون النماء بينهما مع عدم انحصار الربح فيه على بعض الوجوه ، بأن يشترى شيئا له غلة ، فظهرت غلته قبل أن يبيعه ، فإن الغلة تكون من جملة الربح الذي يحصل بعد البيع ويكون الجميع بينهما على ما شرطاه والله العالم.

الثالثة : متى صحت المضاربة فللعامل تولى ما يتولاه المالك من عرض القماش ونشره وطيه وإحرازه ، وبيعه وقبض ثمنه ، والاستيجار على نقله أن احتيج اليه ، ودفع الأجرة في ما جرت العادة بدفعها فيه ، كالدلال والحمال ، واجرة الكيل والوزن ، ونحو ذلك ، والوجه فيه أنه لما كانت المضاربة معاملة على المال لتحصيل الربح كان إطلاق العقد مقتضيا لفعل ما يتولاه المالك لو باشر ذلك بنفسه من هذه الأشياء ، وكلما لم تجر العادة بالاستيجار عليه لو استأجر عليه ، فالأجرة من ماله لا يلحق المالك منها شي‌ء ، حملا للإطلاق على المتعارف وما جرت العادة بالاستيجار عليه لو عمله بنفسه فهو متبرع ، لا يستحق عليه أجرة.

ولو قصد بالعمل الأجرة بأن يأخذ الأجرة كما يأخذ غيره ففي استحقاقه لها احتمال قوى ، خصوصا على القول بأن للوكيل في البيع أن يبيع على نفسه ، وفي الشراء أن يشترى لنفسه ، فيكون له أن يستأجر نفسه أيضا ، ولكن إطلاق الأصحاب يقتضي العدم ، وهو الأحوط وأما لو أذن له المالك في ذلك زال الاشكال. والله العالم.

٢٠٩

الرابعة : المشهور بين الأصحاب أن جميع ما ينفقه في السفر للتجارة من رأس المال سواء كانت النفقة زيادة على نفقة الحضر أو ناقصة أو مساوية ، وكل ما يحتاج إليه للأكل والشرب لنفسه ودوابه وخدامه حتى القرب والجواليق ونحوهما ، الا أنها بعد انتهاء السفر والاستغناء عنها يكون كل ذلك من أصل المال ، سواء حصل له ربح أم لا.

وقيل : انه لا يخرج من أصل المال ، الا ما زاد على نفقة الحضر ، للإجماع على أن نفقة الحضر على نفسه ، فما ساواه في السفر يحتسب أيضا عليه ، والزائد على ذلك من مال القراض ، وأيد ذلك بعضهم بأنه انما حصل بالسفر الزيادة لا غير ، اما غيرها فسواء كان مسافرا أم حاضرا لا بد منها ، فلا يكون من مال القراض.

وقيل : ان نفقة السفر كلها على العامل كنفقة الحضر ، وعلل بأن الربح مال المالك ، والأصل أن لا يتصرف فيه الا بما دل عليه الاذن ، ولم يدل الا على الحصة التي عينها للعامل ، وهو لم يدخل في العمل الا على هذا الوجه ، فلا يستحق سواه.

ويدل على القول الأول ما رواه الكليني في الصحيح «عن على بن جعفر (١) عن أخيه أبي الحسن (عليه‌السلام) قال : في المضارب ما أنفق في سفره فهو من جميع المال ، فإذا قدم بلده فما أنفق من نصيبه».

وعن السكوني (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : في المضاربة» الحديث.

ورواه في الفقيه (٣) مرسلا «قال : قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : مثله» وبه يظهر قوة القول المشهور ، وأنه المؤيد المنصور ، فلا يلتفت الى هذه التخريجات الضعيفة ، والتعليلات السخيفة كما عرفت في غير مقام.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤١ ح ٥.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ الحديث ٥ وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ١٨٧ باب ٦.

٢١٠

تنبيهات :

الأول : المراد بالسفر هنا هو السفر العرفي لا الشرعي ، وهو ما يجب فيه القصر ، فلو كان السفر قصيرا أو أقام في الطريق وأتم الصلاة فنفقة تلك المدة من أصل المال ، الا أنه يجب الاقتصار في ذلك على ما يحتاج إليه التجارة ، فلو أقام زيادة على ما يحتاج اليه كان الزائد عليه.

الثاني : قد عرفت أن المراد بالنفقة ما يحتاج اليه من مأكول وملبوس ومشروب له ، ولمن في صحبته ممن يتوقف عليه سفره وآلات السفر وأجرة المسكن ، ونحو ذلك ، ويراعى فيها ما يليق بحاله شرفا وضعة ووسطا على وجه الاقتصاد ، فلو أسرف حسب عليه ، وان قتر على نفسه لم يحتسب له ، لأن الذي له ما أنفق على الوجه المتقدم ، وبعد العود من السفر ، فما بقي من أعيان النفقة ، ولو من الزاد يجب رده الى مال التجارة أو تركه وديعة عنده الى أن يسافر ان كان ممن يتكرر سفره ، ولم يكن بيعه أعود على التجارة من تركه.

الثالث : لو شرط المالك على العامل عدم النفقة لم يجز له الإنفاق من المال اتفاقا ، ولو أذن له في الإنفاق بعد ذلك فهو تبرع محض ، وقد عرفت أنه مع الإطلاق فالأشهر الأظهر ثبوتها ، فلو شرطها والحال هذه كان ذلك تأكيدا ومخرجا من الخلاف المتقدم ، وان كان ضعيفا كما عرفت ، وعلى هذا فهل يشترط تعيينها حينئذ حذرا من الجهالة في الشرط الذي هو جزء من العقد ، فتسرى الجهالة إلى العقد ويؤيده اشتراط نفقة الأجير حيث لا يثبت على المستأجر ، فإنه لا بد من تعيينها كما ذكروه أم لا؟ نظرا الى أن الأشهر الأظهر كما عرفت ثبوتها بمجرد العقد مع عدم اعتبار وجوب ضبطها فلا يجب ضبطها بالشرط إذ لا يزيد الثبوت بالاشتراط على الثبوت بالأصل إشكال ، ولعل الثاني أقوى ورجح في المسالك الأول.

٢١١

الرابع : قد عرفت أنه لا يشترط بالنفقة وجود ربح بل ينفق من أصل المال ، وان قصر المال ولم يكن ربح لكن لو حصل الربح فإنه تخرج النفقة منه مقدمة على حق العامل.

الخامس : ما ذكرنا من وجوب النفقة مخصوص بالسفر المأذون فيه ، فلو سافر الى غيره اما بتجاوز السفر المأذون فيه الى مكان غير مأذون فيه أو الى جهة غير جهة السفر المأذون فيه فلا نفقة له ، وان كانت المضاربة صحيحة والربح بينهما كما عرفت آنفا.

السادس : لو تعدد أرباب المال الذي في يده بأن كان بعضه له مثلا ، وبعضه لزيد ، وبعضه لثالث ، وهكذا. قسطت النفقة على حسب المال ، فلو كان نصف المال للعامل ، ونصفه للمالك كانت النفقة انصافا ، وهكذا. هذا هو الأظهر الأشهر.

وقيل : بأن التقسيط بنسبة العملين اى ما يعمله لكل واحد من أصحاب المال ، ورد بأن استحقاق النفقة في مال المضاربة منوط بالمال ، ولا ينظر الى العمل ، قالوا : ولا فرق في التقسيط بين أن يكون قد شرطها على كل واحد منهما أو أطلق ، بل له نفقة واحدة عليهما على التقديرين ، لان ذلك منزل على اختصاص المشروط عليه بالعمل.

هذا مع جهل كل واحد منهما بالاخر ، أما لو علم صاحب القراض الأول بالثاني ، وشرط على ماله كمال النفقة جاز ، واختصت به ، ولا شي‌ء على الثاني.

السابع : لو اتفق موته أو مرضه في السفر كان ما ينفق في ذلك من ماله ، إذ لا تعلق لذلك بالتجارة ، واستثنى بعضهم ما لو كان معلوما أنه لو كان في بلده لم يمرض ، أو أن مؤنة مرضه يكون في الحضر ، وفي بلده أرخص منها في تلك البلد ، قال فيمكن حينئذ احتساب الزيادة من مال المضاربة.

٢١٢

الثامن : لو سافر بالمال للمضاربة فاتفق عزله في السفر ، وانتزع المال منه كانت نفقة الرجوع عليه ، لأنه إنما استحق النفقة في السفر للمضاربة ، وقد ارتفعت بالفسخ وعزله عنها.

وما توهمه بعض العامة من حصول الضرر عليه مردود ، بأن دخوله في عقد يجوز فسخه كل وقت قدوم منه على ذلك ، وهذا القائل أثبت له نفقة الرجوع لما ذكره وفيه ما عرفت. والله العالم.

الخامسة : قد صرح جملة من الأصحاب بأن مقتضى إطلاق الاذن في المضاربة هو البيع نقدا بثمن المثل من نقد البلد ، فلو خالف لم يمض الا مع اجازة المالك ، وكذا مقتضى الإطلاق هو ان يشترى بعين المال ، فلو اشترى في الذمة لم يصح الا مع الإجازة.

وتفصيل الكلام في هذه الجملة أن يقال انه لما كان عقد المضاربة محمولا على ما هو المتعارف في التجارة والموجب لتحصيل الربح وجب قصر تصرف العامل على ما يوجب حصول الغاية المذكورة.

قال في التذكرة : لما كان الغرض الأقصى من القراض تحصيل الربح ، والفائدة وجب أن يكون تصرف العامل مقصورا على ما يحصل هذه الغاية الذاتية وان يمنع من التصرف المؤدي الى ما يضادها فينفذ تصرفه بما فيه الغبطة والفائدة ، كتصرف الوكيل للموكل لأنها في الحقيقة نوع وكالة ، وان كان له أن يتصرف في نوع مما ليس للوكيل التصرف به تحصيلا للفائدة ، فإن له أن يبيع بالعروض ، كما له أن يبيع بالنقد بخلاف الوكيل ، فان تصرفه في البيع انما هو بالنقد خاصة ، لأن المقصود من القراض الاسترباح ، والبيع بالعروض قد يكون وصلة اليه وطريقا فيه ، وأيضا له أن يشترى المعيب إذا رأى فيه ربحا بخلاف

٢١٣

الوكيل. انتهى.

وحينئذ فليس له البيع الا نقدا لما في النسية من التغرير بمال المالك وجعله في معرض التلف ، كما في الوكالة ، مع أنه يمكن أن يكون في بعض الأحوال حصول الربح في جانب النسية مع المصلحة وأمن التلف ، الا أنهم منعوا من ذلك مطلقا ، وكأنهم بنوا على أن الأغلب في مثل ذلك التلف ، والتعرض له محل خطر وتغرير ، وكذا ليس له البيع الا بثمن المثل ، وهو ظاهر ، لان البيع بدونه تضييع على المالك ، مع أنه يمكن حصول الزائد ، وأما البيع بنقد البلد فلان الإطلاق في الوكالة انما ينصرف اليه ، والقراض في معناه ، فلذا أطلقوا الحكم هنا.

وفيه أن القراض قد يفارق الوكالة في بعض الموارد ، لان القرض المطلوب به تحصيل الربح قد يتفق في غير نقد البلد كالعروض ، واليه يميل كلام الشهيد الثاني في المسالك ، فيجوز البيع بغير نقد البلد مع ظهور الغبطة ، وحصول المصلحة لأنها هي المدار في القراض وهو الظاهر من كلام التذكرة المذكور ، وتردد في القواعد.

وبالجملة فإنه لما كان المدار في القراض انما هو تحصيل الربح والفائدة فينبغي أن يترتب الجواز عليه ، سواء كان في البيع بالعروض التي هي غير نقد البلد ، أو في البيع بالنسية التي ليست نقدا ، بل يمكن أيضا في البيع بأقل من ثمن المثل إذا اقتضته المصلحة ، وترتبت عليه الغبطة ، بأن يبيع بأقل من ثمن المثل ، ويشترى مالا فيه ربح كثير ، فإطلاق الجماعة المذكورة أن إطلاق الاذن في المضاربة يقتضي الأمور المذكورة محل تأمل كما ظهر لك ، والحمل على الوكالة غير مطرد كما عرفت من كلامه في التذكرة.

والعجب انهم اعترفوا بذلك في شراء المعيب ، فجوزوا للعامل شراء

٢١٤

المعيب إذا رأى الغبطة في شراءه بحصول الربح فيه ، حيث أنه المدار في القراض مع أن ذلك لا يجوز للوكيل ، وحينئذ فالواجب بمقتضى ذلك هو دوران الحكم جوازا ومنعا مدار الغرض المذكور وجودا وعدما ، هذا كله مع إطلاق الاذن.

أما لو أذن له في شي‌ء من هذه الأمور خصوصا أو عموما كتصرف حيث شئت ، وبع بما أردت ، واعمل بحسب رأيك ونظرك ، فالظاهر حينئذ هو الجواز في جميع ما ذكرناه (١).

أما قوله في المسالك أنه يجوز له البيع بالعروض قطعا وأما النقد وثمن المثل فلا يخالفهما الا بالتصريح ، فانى لا أعرف له وجها وجيها مع دخوله في الإطلاق المذكور ، سيما مع ظهور الغبطة ، كما شرحناه آنفا.

وكيف كان فإنه يستثني من ثمن المثل نقصان ما يتسامح الناس به عادة فلا يدخل تحت المنع.

ثم انه لو خالف العامل ما دل عليه اللفظ بخصوصه أو إطلاقه ، فهل يقع العقد باطلا أم صحيحا موقوفا على اجازة المالك ، المشهور الثاني ، بناء على ما هو المشهور بينهم من صحة البيع الفضولي ، وان لزومه موقوف على اجازة المالك ، وحينئذ فإن أجاز نفذ البيع ولزم فعلى تقدير كون البيع نسية فان حصل الثمن فلا اشكال والا ضمن العامل الثمن للمالك لثبوته بالبيع الصحيح

__________________

(١) أقول : ويؤيد ما ذكرناه ، ما صرح به العلامة في المختلف حيث قال : قال الشيخ في المبسوط : إذا دفع اليه مالا قراضا وقال له اتجر به أو قال : اصنع ما ترى أو تصرف كيف شئت فإنه يقتضي أن يشترى بثمن مثله ، نقدا بنقد البلد ، والوجه عندي أن له البيع كيف شاء سواء كان بثمن المثل أم لا ، وبنقد البلد أو لا ، وحالا أو لا ، لانه جعل المشية إليه. نعم انه منوط بالمصلحة انتهى ، وهو ظاهر فيما قلناه وقد وفقني الله سبحانه للوقوف عليه بعد ذكرنا ما ذكرناه في الأصل فنقلنا كلامه في الحاشية وهو من نوادر الخاطر ، منه رحمه‌الله.

٢١٥

لا القيمة ، وان لم يجز المالك ذلك وجب استرداد المبيع مع إمكانه فلو تعذر ضمن قيمة المبيع ان كان قيميا أو مثله ان كان مثليا ، لا الثمن المؤجل وان كان أزيد من القيمة ، ولا التفاوت في صورة النقيصة ، لأنه مع عدم اجازة المالك البيع يكون البيع باطلا ، فيضمن للمالك عين ماله الذي تعدى فيه وسلمه من غير إذن شرعي ، هكذا قالوا (رضى الله عنهم).

وفيه ما حققناه سابقا في كتاب البيع في مسئلة البيع الفضولي (١) من الإشكالات التي أوردناها عليهم في هذا المقام ، هذا كله مع القول بصحة العقد الفضولي.

وأما على ما اخترناه من القول ببطلانه كما قدمنا تحقيقه ثمة فالأمر واضح ، وأما اقتضاء الإطلاق الاشتراء بعين المال فلان المضاربة إنما وقعت على ذلك المال والوكالة التي اقتضتها المضاربة انما تعلقت بذلك المال ، والربح الذي اشترطه العامل انما تعلق بذلك المال.

وأيضا فإنه ربما يتطرق التلف الى رأس المال ، فتبقى عهدة الثمن متعلقة بالمالك ، وقد لا يمكنه الخروج منها ، وعلى هذا فلو اشترى في الذمة من غير اذن المالك وقف على اجازة المالك بناء على ما تقدم من الحكم بصحة البيع الفضولي ولو اشترى في الذمة ولم يعين العقد لا للمالك ولا لنفسه وقع الشراء له ظاهرا وباطنا ، وان عينه لنفسه تعين له أيضا وان عينه للمالك فإنه مع الاذن لازم ، وبدونه فهو كما عرفت أولا يكون موقوفا على اجازة المالك ، بناء على صحة البيع الفضولي ، وأن عين المالك بنية وقع للعامل ظاهرا وتمام تحقيق الكلام في المقام يأتي إنشاء الله في كتاب الوكالة والله العالم.

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٧٦.

٢١٦

السادسة : لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أنه مع موت كل منهما تبطل المضاربة ، لان بالموت يخرج المال عن ملك المالك ويصير للورثة ، فلا يجوز التصرف بالإذن الذي كان من المورث ، بل لا بد من اذن الوارث ، هذا مع موت المالك.

وأما مع موت العامل فلان المأذون له في المضاربة كان هو العامل لا وارثه فلا يجوز لوارثه التصرف إلا بإذن جديد ، وهو المراد من بطلان المضاربة هنا ، ولأنها أيضا من العقود الجائزة فتبطل بما تبطل به من موت كل منهما أو جنونه أو إغمائه أو الحجر عليه للسفه.

ثم ان كان الميت هو المالك ، فان كان المال ناضا لا ربح فيه أخذه الوارث ، وان كان فيه ربح اقتسمه العامل مع الورثة ، وتقدم حصة العامل على الغرماء ، لو كان على الميت ديون مستوعبة لملكه لحصته من الربح ، بظهوره ، فكان شريكا للمالك ، ولان حقه متعلق بعين المال لا بذمة المالك ، وان كان المال عروضا فللعامل بيعه رجاء الربح ، والا فلا ، وللوارث إلزامه بالإنضاض ، وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى في مسئلة الفسخ.

وان كان الميت هو العامل ، فان كان المال ناضا ولا ربح أخذه المالك ، وان كان فيه ربح دفع الى الورثة حصة مورثهم منه ، ولو كان عروضا واحتيج الى البيع والتنضيض فان أذن المالك للوارث في ذلك جاز ، والا عين له الحاكم أمينا يبيعه ، فان ظهر فيه ربح أوصل حصة الوارث اليه ، والا سلم الجميع الى المالك والله العالم.

المقصد الثاني في مال القراض :

والبحث يقع فيه في مواضع الأول لا خلاف بين الأصحاب في أنه يشترط في مال القراض أن يكون عينا لا دينا وان يكون دراهم أو دنانير ، ونقل في

٢١٧

التذكرة الإجماع على ذلك.

أقول : ويدل على كونه عينا لا دينا ما رواه المشايخ الثلاثة عن السكوني (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : في رجل له على رجل مال فتقاضاه ولا يكون عنده ما يقتضيه ، فيقول : هو عندك مضاربة ، قال : لا يصلح حتى يقبضه منه». وهو صريح في المطلوب ولا يضر ضعف السند خصوصا مع تلقى الأصحاب له بالقبول وإجماعهم على ذلك.

ومثله ما لو أذن للعامل في قبضه من الغريم ، فإنه لا يخرج بذلك عن كون المضاربة قد وقعت بالدين ، الا أن يجدد العقد بعد القبض.

وأما اشتراط كونه دراهم أو دنانير فقد اعترف جملة من الأصحاب بأنهم لم يقفوا له على دليل غير الإجماع المدعى في المقام ، والظاهر أنه كذلك ، حيث انا لم نقف بعد الفحص والتتبع على دليل من النصوص على ذلك ، وتردد المحقق في الشرائع في الجواز بالنقرة ، وهي بضم النون القطعة المذابة من الذهب والفضة.

قال في المسالك : ومنشأ التردد فيها من عدم كونها دراهم ودنانير الذي هو موضع الوفاق ، ومن مساواتها لهما في المعنى ، حيث أنها من النقدين ، وانما فاتها النقش ونحوه ، وانضباط قيمتها بها وأصالة الجواز ، ثم قال : وهذا كله يندفع لما ذكرناه من اتفاقهم على اشتراط إحديهما ، ومع ذلك لا نعلم قائلا بجوازه بها ، وانما ذكرها المصنف مترددا في حكمها ، ولم ينقل غيره فيها خلافا ، وإذا كانت المضاربة حكما شرعيا فلا بد من الوقوف على ما ثبت الاذن فيه شرعا ، وربما أطلقت النقرة على الدراهم المضروبة من غير سكة ، فإن صح هذا الاسم كان التردد من حيث أنها قد صارت دراهم ودنانير : وانما تخلفت السكة وهي وصف في النقدين ، وربما لا يقدح خصوصا إذا تعومل بهما على ذلك الوجه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ١٩٢ ح ٣٤ الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٤ الوسائل ج ١٣ ص ١٨٧ باب ٥.

٢١٨

ومما تقدم من وجوه المنع ، انتهى وهو جيد.

أقول : لا يخفى أن من لا يلتفت الى دعوى مثل هذه الإجماعات ، لعدم ثبوت كونها دليلا شرعيا فإنه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في غير النقدين نظرا الى عموم الأدلة الدالة على جوازه ، وتخصيصها يحتاج الى دليل شرعي ، وليس فليس.

قالوا تفريعا على ما تقدم : فلا يصح المضاربة بالفلوس ، ولا بالدراهم المغشوشة ، سواء كان الغش أقل أو أكثر ، ولا بالعروض (١) وأنت خبير بما فيه بعد ما عرفت ، حيث أنه لا مستند لهم هنا أيضا سوى دعوى الإجماع.

ولكن ينبغي تقييد المنع من الدراهم المغشوشة بما لو كان التعامل بها ساقطا ، والا فلو جرت في المعاملة فإنه لا مانع من المضاربة بها.

قال في المسالك : هذا إذا لم يكن متعاملا بالمغشوش ، فلو كان معلوم الصرف بين الناس جازت به المعاملة ، وصح جعله مالا للقراض ، سواء كان الغش أقل أو أكثر ، انتهى.

الثاني : قالوا : لو دفع آلة الصيد كالشبكة بحصة من الصيد كان الصيد للصائد وعليه أجرة الإله ، وذلك لان هذه المعاملة ليست بمضاربة إذ المضاربة كما هو المجمع عليه عندهم انما يكون بالدراهم والدنانير ، ولان مقتضى المضاربة التصرف في عين المال المدفوع ، وإتلافه بالبيع أو الشراء ، وهنا ليس كذلك ، لا بالنسبة إلى الأول ولا الثاني. وليس أيضا بشركة ، لأنها هنا مركبة من شركة

__________________

(١) العروض بضم العين جمع عرض بفتحها وسكون الراء وفتحها أيضا هو المتاع وكل شي‌ء غير النقدين كما ذكره في القاموس ، وحكى الجوهري عن أبى عبيد أن العروض هي التي لا يدخلها كيل ولا وزن ، ولا تكون حيوانا ولا عقارا ، وظاهر ، إطلاقات الفقهاء في هذه الأبواب على المعنى الأول فإنهم يقابلون بها النقدين كما لا يخفى على المتتبع منه رحمه‌الله.

٢١٩

الأبدان وغيرها ، وقد تقدم بطلانها مع تميز مال صاحب الشبكة ، وعدم حصول الشركة فيه ، وليست أيضا بإجارة ، وهو ظاهر.

ثم ان الحكم هنا بكون الصيد للصائد خاصة يبنى على عدم تصور التوكيل في تملك المباح ، كما هو أحد القولين ، والا فإنه يصير الصيد مشتركا بينهما حسبما يراه الصائد ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسئلة الثالثة من الفصل الثالث في اللواحق من الكتاب المتقدم (١) واحتمال أنه انما قصد الصيد لنفسه ، ولم ينو مشاركة الأخر بعيد ، فان الظاهر أن دخوله انما كان على جهة الشركة.

قال في المسالك : وحيث يكون الصيد لهما فعلى كل منهما من أجرة مثل الصائد والشبكة بحسب ما أصابه من الملك.

أقول : قد مر توضيح ذلك في المسئلة الثانية من الفصل المتقدم ذكره من الكتاب المتقدم (٢) ، ومرجعه الى أن لكل منهما أجرة المثل فيرجع كل منهما على الأخر بما يخصه من ذلك.

الثالث : لا اشكال ولا خلاف فيما إذا كان مال القراض معلوم المقدار معينا وان كان مشاعا ، لان المشارع معين في نفسه مع كونه جامعا لباقي الشرائط ، ولا فرق بين أن يكون العقد مع الشريك أو غيره ، ولو كان مشاهدا مع كونه مجهولا قيل : لا يصح للجهالة ، وقيل : بالصحة لزوال معظم الضرر بالمشاهدة ، بل حكى في المختلف عن المشهور القول بجواز المضاربة بالجزاف وان لم يكن مشاهدا محتجا بالأصل ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «المؤمنون عند شروطهم» (٣).

__________________

(١) ص ١٨٩.

(٢) ص ١٨٧.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣ ، الاستبصار ج ٣ ح ٨٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

٢٢٠