الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

الا دين في ذمته ، فإذا أخذ أحدهما حقه منه لم يكن قد أخذ عينا من أعيان الشركة ، بل من أمر كلي في ذمته لا يتعين الا بقبض المالك أو وكيله ، وهنا ليس كذلك ، لأنه إنما قبض لنفسه.

أقول : فيه أولا أن ما ذكره من الدليل الأول ظاهر البطلان ، إذ لا ملازمة بين الأمرين ، بل الفرق بين الحالين ظاهر ، فإنه في صورة الإبراء أو الهبة أو الصلح قد برئت ذمة الغريم من مال الشريك الذي أبرأه ، أو وهبه أو صالحه ، ولم يبق في ذمته إلا حصة الشريك الأخر ، فكيف يشاركه فيما استوفاه ، وهو لم يستحق شيئا بالكلية بل صار كالأجنبي ، بخلاف ما لو لم يقع شي‌ء من هذه الثلاثة ، وبقي المال المشترك في ذمة الغريم ، كما هو محل البحث ، فإذا دفع شيئا والحال هذه فإنما دفع عما في ذمته من المال المشترك ، والمدفوع انما هو من المال المشترك ، فلا يختص به القابض.

وثانيا أن ما ذكره في الدليل الثاني فهو وجه عقلي لا يسمع في مقابلة النصوص الصريحة الصحيحة ، فإنها اجتهاد بحت في مقابلة النصوص ، وهو على قاعدته المنهدمة وطريقته المنخرمة من عدم العمل باخبار الآحاد جيد أما عند من لا يقول بقوله ، بل يعمل بها فلا وجه لهذا التعليل في مقابلتها ، وأما ما يفهم من المسالك من الميل الى ما ذهب اليه ابن إدريس ، تمسكا بما ذكره في الدليل الثاني حيث أيده وشيده بوجوه أطال بذكرها ، وطعن في أخبار المسئلة حيث قال : انها قاصرة عن الاستدلال بها لإرسال بعضها ، وضعف الأخر وعدم صراحة المطلوب في بعضها ،

ففيه أن الكلام معه في هذا المقام يرجع الى الاستدلال بالأخبار المذكورة ، وبيان صحتها وصراحتها في المدعى ، فالواجب ذكرها هنا وبيان ما يدل عليه ، وان كنا قد قدمناها في كتاب الدين من المجلد المتقدم.

فنقول من الاخبار المذكورة ، ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن

١٨١

سليمان بن خالد (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجلين كان لهما مال منه بأيديهما ومنه متفرق عنهما ، فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما وما كان غائبا عنهما ، فهلك نصيب أحدهما مما كان عنه غائبا ، واستوفى الأخر أيرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب ماله».

وما رواه الشيخ في الموثق عن عبد الله بن سنان (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجلين بينهما مال ، منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه ، وخرج الذي للآخر أيرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله».

وعن أبي حمزة (٣) قال : «سئل أبو جعفر (عليه‌السلام) عن رجلين بينهما مال ، منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، وأحال كل واحد منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتضي الأخر قال : ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، ما يذهب بماله؟» ،.

ومثل ذلك رواية غياث (٤) عن جعفر عن أبيه عن على (عليهم‌السلام) ، وموثقة محمد بن مسلم (٥) عن أحدهما ، وموثقة معاوية بن عمار (٦) عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، ولا يخفى على المتأمل المنصف أنه لا مجال للطعن في هذه الاخبار ، وبعد ضم بعضها الى بعض ، فإنهم في كثير من الأحكام يعتمدون على خبر واحد ضعيف باصطلاحهم مع جبره بالشهرة فكيف بهذه الاخبار على تعددها وشهرة القبول بها ، إذ لا مخالف في ذلك سوى ابن إدريس ، ووجود الصحيح

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٣ ح ٩ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ١١٦ ب ١.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦ ح ٧ وص ١٨٥ ح ٤ ..

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١٢ ح ٥.

(٥ و ٦) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦ ح ٥ ، وهذه الرواية في الوسائل ج ١٣ ص ١٧٩ و ١٨٠.

١٨٢

باصطلاحهم فيها وبه يظهر أن المناقشة فيها من حيث السند واهية لا يلتفت إليها هذا مع تسليم العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، والا فالأمر أهون من ذلك ، كما تقدم تحقيقه في جلد كتاب الطهارة من الكتاب.

وأما من حيث الدلالة فهي دالة بعمومها على جريان الحكم المذكور في الدين مطلقا ، اتحد المديون أو تعدد ، وتخصيصها كما ادعاه ابن إدريس فيما قدمنا نقله عنه بما إذا كان الدين على رجلين الى آخر ما ذكره يحتاج الى مخصص من الاخبار فليس ، وبه يظهر ما في المناقشة في الدلالة بأنها غير صريحة في المطلوب ، كما ذكره شيخنا المتقدم ذكره ، ولو تم ما ذكره لبطل الاستدلال بالعمومات ، وهو خلاف ما عليه جميع العلماء الاعلام ، وأرباب النقض والإبرام ، وغاية ما تعلق به في دليله الثاني أن متعلق الشركة انما هو العين وقد فاتت فإذا أخذ أحد حقه لم يكن قد أخذ عينا من الأعيان المشتركة ، بل من أمر كلي إلى آخر ما ذكره.

وفيه أنه ما المانع من جعل الثمن مشتركا كالعين ، إذا اقتضته الأدلة الشرعية ، بحيث يترتب عليه ما يترتب عليها ، وأى وجه قبح في ذلك ، فكل جزء يحصل من ذلك ، فهو بينهما كما أن الأمر في العين كذلك.

وبالجملة فإن الخروج عن ظواهر الاخبار بمجرد هذا الاعتبار مقابلة للنص بالاجتهاد ، وفيه خروج عن جادة السداد. وأما قوله ان هذه المسألة لم يتعرض لها أحد من المتقدمين ، ففيه أولا أن عدم التعرض لها والغفلة عنها لا يوجب عدم القول بها ، مع قيام الدليل عليها ، وكم قد غفل المتقدمون عن جملة من الأحكام ، ونبه عليه المتأخرون ، بل المتأخرون ونبه عليها متأخر والمتأخرين.

وثانيا أن جل المتقدمين لم يصنفوا في فروع الأحكام ويبسطوا القول فيها ، والتفريع والبحث عنها ، وانما كانوا يذكرون الأخبار المتعلقة بالأحكام ، وهذه الطريقة كما أشرنا إليه آنفا ، انما كان مبدؤها من الشيخ ، على أن الصدوق قد نقل في الفقيه صحيحة سليمان بن خالد المذكورة ، وهو يؤذن بقوله بمضمونها ، بناء

١٨٣

على قاعدته المذكورة في كتابه ، والأصحاب انما ينسبون اليه الأقوال باعتبار ذلك ، فهو حينئذ من جملة القائلين بالقول المشهور.

وابن الجنيد قد صرح أيضا بذلك ، وهو من المتقدمين على الشيخ فإنه قال : لو اقتسم الشريكان وكان بعض المال في أيديهما وبعضه غائبا عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، واختار كل واحد منهما بنصيبه من الغائب فقبض أحدهما ، ولم يقبض الأخر فما قبض من المال بينهما. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن في المقام اشكالا وذلك أن مقتضى كلام الأصحاب في هذه المسألة أن الدين لا يقبل القسمة ، وأن كل ما خرج منه فهو مشترك سواء كان في ذمة واحدة أو ذمم متعددة ، وقضية الحكم بالاشتراك برأيه الغريم من حصة الشريك الأخر الذي لم يقبض من ذلك المدفوع لاستحالة بقاء الدين في الذمة مع صحة قبض عوضه ، وأنه لو تلف في يد القابض يكون التالف بينهما كلا أو بعضا ، لأن الحق الكلي المشترك الذي كان في الذمة تعين بالقبض في المأخوذ ، فهو لهما فلا يجوز لأحدهما التصرف فيه ، الا بإذن الأخر.

وهذا هو ظاهر الاخبار المتقدمة ، والأصحاب لا يقولون بذلك في الموضعين المذكورين ، فإنهم صرحوا بالنسبة إلى الأول بأنه مخير في الرجوع على الشريك أو الغريم ، وبالنسبة الى الثاني أن التالف يكون من القابض خاصة لا يرجع على الشريك بشي‌ء منه.

قال في التذكرة : لا يصح قسمة ما في الذمم الى أن قال : فلو تقاسما ثم توى بعض المال رجع من توى ماله على من لم يتو ، وقال في موضع آخر : لو كان لرجلين دين بسبب واحد ، اما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره فقبض أحدهما منه شيئا فللاخر مشاركته فيه ، وهو ظاهر مذهب احمد بن حنبل ، لما تقدم في المسألة السابقة في رواية معاوية بن عمار ، ولان تمليك القابض ما قبضه يقتضي قسمة الدين في الذمة من غير رضاء الشريك ، وهو باطل ، فوجب أن يكون المأخوذ

١٨٤

لهما ، والباقي بينهما ، ولغير القابض الرجوع على القابض بنصفه ، سواء كان باقيا في يده أو أخرجه عنها ، وله أن يرجع على الغريم ، لأن الحق ثابت في ذمته لهما على وجه سواء ، فليس له تسليم حق أحدهما إلى الأخر ، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشي‌ء ، لأن حقه ثابت في أحد المحلين ، فإذا اختار أحدهما سقط حقه من الأخر ، وليس للقابض منعه من الغريم ، بأن يقول : إنما أعطيك نصف ما قبضت ، بل الخيرة له من أيهما شاء قبض ، وان هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ، ولم يضمنه الشريك ، لانه قدر حقه فيما تعدى بالقبض ، وانما كان لشريكه مشاركته ، لثبوته في الأصل مشتركا ، ولو أبرأ أحد الشريكين الغريم من حقه برء ، لأنه بمنزلة قبضه ، وليس للشريك الرجوع عليه بشي‌ء ، لأنه لم يقبض شيئا من حق الشريك انتهى.

وهو ظاهر فيما قدمنا نقله عنهم مع ورود ما ذكرناه عليه.

ويزيده بيانا أنه لا يخلو الأمر في هذا المقبوض ، اما أن يتعين كونه من الدين المشترك الذي في الذمة ، وحينئذ فيترتب عليه ما يترتب على المشترك ، من أنه لو تلف كان من الجميع ، وعدم الرجوع على الغريم بحصته من ذلك لان الحق المشترك قد تعين ، وانحصر في المأخوذ ، وأنه لا يجوز للشريك التصرف فيه الا بإذن الأخر.

واما أن لا يتعين كونه منه ، فإنه يكون باقيا على ملك الغريم ، ولا يتعين حق القابض فيه ، فضلا عن الشريك الأخر وهم لا يقولون بذلك ، أو يتعين كون الكل حقه ، كما يدل عليه قولهم أنه لو تلف في يده تعين حقه فيه ، ولم يضمنه الشريك ، فلا وجه لرجوع الشريك عليه ، وكونه شريكا له فيه ، ولا معنى لقولهم : «أن الدين غير قابل للقسمة».

وبالجملة : فإن كلامه هنا لا يخلو من تدافع وتناقض ، وتوضيحه زيادة على ما عرفت أن قوله : «يقتضي قسمة الدين في الذمة من غير رضى الشريك وهو باطل» يعطي أنه مع الرضاء صحيح ، وهم لا يقولون بذلك ، وقوله : «فوجب أن يكون المأخوذ لهما ،

١٨٥

والباقي بينهما» صريح في الشركة ، وكذا قوله : «رجع من توى ماله على من لم يتو» وحينئذ فيجب أن يترتب عليه ما ذكرناه من عدم الرجوع على الغريم وكان التالف منهما ، وقوله : «فليس له تسليم حق أحدهما إلى الأخر» ظاهر في عدم تعين حق للشريك الأخر في ذلك المقبوض ، وكذا قوله : «تعدى بالقبض» مع أنه لا خلاف في التشريك.

ويمكن الجواب عن الاشكال المذكور وما يترتب عليه من هذه الأمور ، بأن يقال : ان الحكم بأن ما خرج فهو مشترك بينهما ـ يجرى فيه ما يجري في المشتركات ـ ليس على إطلاقه ، اللازم منه تعين حق الشريك في ذلك المقبوض من حيث الشركة.

وكذا قولهم : «ان الدين المشترك لا يقبل القسمة» ليس على إطلاقه ، بل المراد أنه إذا طالب أحد الشريكين بحقه فلا شبهة في استحقاقه ذلك ، ومن ثم أجمعوا على أن له المطالبة منفردا ، فإذا دفع له المديون شيئا من المال المشترك على أن يكون حقه وحصته ، فللشريك الأخر إجازة ذلك والرضاء به ، فيكون شريكا له فيه ، وأن لا يرضى به ولا يجيزه ، فيكون حقه باقيا في ذمة المديون ، ومن هنا قالوا : بالتخيير بين الرجوع على الشريك ، أو الرجوع على المديون ، وأنه مع التلف يكون على القابض خاصة ، دون الشريك ، يعنى من حيث عدم الإجازة والرضاء بذلك ، وأن حقه رجع الى ذمة المديون ، وأما قولهم : «أن الدين المشترك لا يقبل القسمة ،» فالمراد أنه لا يقبل القسمة مع استلزامها فوات حق أحد الشريكين ، والا فالقسمة فيه جائزة مفيدة للملك في الجملة ، الا أن لزومها متوقف على حصول حصة كل من الشريكين بيده أو يد وكيله ، فلو تراضيا بالقسمة صحت بشرط وصول كل حق الى مستحقه أو بمعنى أن ما حصل فلهما وما توى فعليهما.

ألا ترى أن الاخبار المتقدمة كلها متفقة في أنه بعد القسمة ان توى مال أحدهما وخرج مال الأخر رجع من لم يقبض على من قبض وأن رجوع من لم يقبض

١٨٦

على من قبض ، انما هو من حيث ذلك ، ولا دلالة فيها على المنع من القسمة ، مع وصول كل حق الى مستحقه ، بل ظاهرها أنه مع ذلك فالقسمة صحيحة ، فإن قوله (عليه‌السلام) من جملتها «ما يذهب بماله» ظاهر ، في أنه لو لم يذهب شي‌ء من المال ، كانت صحيحة ، وحينئذ فلو فرضنا وقوع القسمة بغير رضاها ، بأن أخذ أحد الشريكين حصة من الغريم ، على أنها حصته فقط ، فليس للشريك الأخر مزاحمته والأخذ منه لان حقه في ذمة الغريم ، وقد أعطاه حقه ، فيكون المال له الا أن لزوم ذلك وصيرورته بحيث لا يزاحمه الشريك الأخر موقوف على وصول حق الشريك اليه وعدم تلفه ، وهذا الوجه أنسب بالنظر الى الاخبار كما عرفت ، والأول أنسب بالنسبة إلى كلام الأصحاب والله العالم.

المسألة الثانية ـ قال في المختلف : إذا شارك نفسان في سقاء ، على أن يكون من أحدهما جمل ، ومن الأخر رواية ، واستقى فيها على أن ما يرتفع يكون بينهم لم يصح هذه الشركة ، لان من شرطها اختلاط الأموال ، وهذا لم يختلط ، ولا يمكن أن يكون إجارة ، لأن الأجرة فيها غير معلومة ، فالحاصل للسقاء ، ويرجع الآخران عليه بأجرة المثل في مالهما من جمل ورواية.

قاله ابن إدريس والشيخ أيضا ، قال ذلك في المبسوط ، قال فيه : وقيل : يقتسمون بينهم أثلاثا ، ويكون لكل واحد منهما ثلثها ، ويكون لكل واحد منهم على صاحبه أجرة ماله على كل واحد منهما ثلثها ، ويسقط الثلث ، لان ثلث النفع حصل له ، قال الشيخ : والوجهان قريبان ، ويكون الأول على وجه الصلح ، والثاني من الحكم ، وما قربه الشيخ قريب انتهى.

أقول : لا ريب في بطلان الشركة المذكورة لأنها مركبة من شركة الأبدان وشركة الأموال مع عدم المزج ، وكل منها باطل كما تقدم ، ومقتضى القواعد في مثل هذا هو ما ذكر أولا من أن الحاصل للسقاء ويرجع عليه الآخران بأجرة المثل.

١٨٧

وأما الثاني فلا وجه له ، الا ، أن يرجع الى أجرة المثل ، فقول الشيخ أن الأول على وجه الصلح ، والثاني من الحكم لا أعرف له وجها وجيها ، وتوضيح الثاني من الوجهين المذكورين أنه يقسم الحاصل بينهم أثلاثا ، فإن كانت أجرة مثلهم متساوية فلا بحث ، وان كانت متفاضلة رجع كل واحد منهم بثلث أجرة مثله على الآخرين ، مضافا الى الثلث الذي حصل له ، فلو فرض أن الحاصل كان ستة دراهم ، فإنهم يقتسمونها أثلاثا لكل واحد درهمان ، وكان أجرة المثل للسقاء ثلاثة دراهم ، ولصاحب الرواية درهمان ، ولصاحب الدابة درهم ، فإنه يرجع السقاء بثلث أجرته ، وهو درهم على صاحب الدابة ، وبثلثهما وهو درهم على صاحب الرواية فيحصل عنده أربعة دراهم ، ويرجع صاحب الرواية على كل من السقاء وصاحب الدابة بثلثي درهم ، فصار معه درهمان وثلث درهم ، ويرجع صاحب الدابة على كل من الآخرين بثلث درهم فصار معه درهم ، وحينئذ فيصير لكل واحد أجرة مثله ، وهي ثلاثة للسقاء واثنان لصاحب الرواية ، وواحد لصاحب الدابة.

قال في المسالك بعد ذكر الوجه الأول. وهذا يتم مع كون الماء ملكا للسقاء أو مباحا ونوى الملك لنفسه أو لم ينو شيئا ، أما لو نواه لهم جميعا كان كالوكيل ، والأقوى أنهم يشتركون فيه ، حينئذ ويكون أجرته وأجرة الرواية والدابة عليهم أثلاثا فيسقط عن كل واحد ثلث الأجرة المنوية اليه ، ويرجع على كل واحد بثلث انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر عبارة الشيخ المتقدمة هو كون محل الوجهين أمرا واحدا ، وعليه جمد العلامة في نقله له ، وظاهر كلامه هنا أن كلا من الوجهين مبنى على أمر غير ما بنى عليه الأخر ، على انه سيأتي في المسئلة الاتية ما يدل

١٨٨

على أن المراد مجرد هذه النية التي فرع عليها هذا الوجه لا يؤثر في الاشتراك ، كما هو صريح عبارة المحقق الاتية في تلك المسألة ، وكذا صريح عبارة الشيخ الاتية ، وظاهره الجمود على عبارة المحقق الاتية ، وانما نازع في الوكيل خاصة ، ودعواه هنا أنه كالوكيل يجري في عبارة المحقق الاتية ، مع أنه لم يقل بذلك. والله العالم.

الثالثة : لو هاش صيدا واحتطب أو حش بنية أنه له ولغيره لم تؤثر تلك النية ، وكان بأجمعه له خاصة ، صرح به المحقق في الشرائع ، وبنحو ذلك صرح الشيخ في المبسوط ، فقال : إذا أذن الرجل أن يصطاد له صيدا فاصطاد الصيد بنية أن يكون للأمر دونه ، فلمن يكون هذا الصيد؟ قيل فيه : ان ذلك بمنزلة الماء المباح إذ استسقاه السقاء بنية أن يكون بينهم ، وأن الثمن يكون له دون شريكه ، فهيهنا يكون الصيد للصياد دون الأمر ، لأنه تفرد بالحيازة ، وقيل : أنه يكون للأمر لانه اصطاده بنيته ، فاعتبرت النية والأول أصح انتهى.

ومقتضى القول الثاني فيما نقله هنا أن يكون كذلك في المسألة التي نقلناها عن المحقق ، مع أنه لم ينقل ثمة خلافا ، وبناء ما حكموا به على أن المملك هو الحيازة ، والنية لا أثر لها هنا وهو مشكل ، وقد نقل في المختلف عن الشيخ في باب احياء الموات من الكتاب المذكور أنه إذا نزل قوم موضعا من الموات فحفروا فيه بئرا ليشربوا منها ، ويسقوا بها غنمهم ومواشيهم منها مدة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ؛ فإنهم لا يملكونها لأن المحيي إنما يملك بالإحياء إذا قصد تملكه به ، فإنه اعتبر هنا النية والقصد الى الملك ، والا لم يملك ، وهو ظاهر في عدم الاكتفاء بمجرد الأحياء والحيازة ، وقال في باب الشركة من المبسوط أيضا : يجوز أن يستأجره ليحتطب له أو يحش له مدة معلومة.

أقول : وهذا الكلام أيضا ظاهر في أنه لا بد في صحة الحيازة ، من

١٨٩

نية التملك والا لما صح الاستيجار لأن المستأجر يملكه بمجرد الحيازة فلا يتصور ملك المستأجر له ، وأما إذا قلنا بتوقفه على النية ، فإنه يصح الاستيجار ، وكذا يصح التوكيل في ذلك ، لان الملك يكون تابعا للنية ، فإذا نوى ملك غيره مع كونه نائبا عنه صح.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال عن الشيخ : وعندي في ذلك تردد.

وقال في المسالك ـ بعد نقل عبارة الشرائع المتقدمة الدالة على جزمه بعدم تأثير النية وأن الجميع لمن حازه خاصة : ما صورته هذا الجزم انما يعم لو لم يكن وكيلا للغير في ذلك ، والا أتى الإشكال الذي ذكروه من توقف ملك المباح على النية ، فإنا لو قلنا بتوقفه وكان وكيلا ثبت الملك لهما ؛ ولو قلنا بعدم توقفه ففي ثبوت الملك للمحيز نظر ، من حصول علة الملك وهي الحيازة ، فيثبت المعلول ، ومن وجود المانع للملك وهو نية عدمه ، بل إثباته للغير انتهى.

وأنت خبير بأن مقتضى ما قدمنا نقله عنه في سابق هذه المسئلة من أن السقاء لو نوى كون الماء المباح لهم جميعا كان كالوكيل ، ينافي ما جمد عليه من جزم المصنف هنا بأنه بأجمعه للمحيز خاصة ، وأن النية لم تؤثر شيئا حيث أنه لم يناقش الا فيما لو كان وكيلا بالفعل.

وبالجملة فإن كلامه في هذين المقامين لا يخلو من نوع مدافعة ، وكيف كان فان الكلام في هذا المقام مبنى على الكلام في حيازة المباح ، وأنه هل يكفى مجرد الحيازة ، أو يحتاج إلى النية ، أو تكفى الحيازة مع عدم نية عدم الملك فلو نوى عدمه أثرت ولم يتم الملك؟ أقوال ثلاثة.

وظاهر جملة من المحققين كالمحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه ومنها ما تقدم في عبارة المختلف ونقل عن الشيخ أيضا التوقف في ذلك ، وهو في محله ، لعدم الدليل الواضح على شي‌ء من هذه الأقوال. ولا يخفى أن هذه

١٩٠

المسئلة لا تعلق لها بكتاب الشركة الا من حيث هذين الفرعين المذكورين ، والا فمحلها انما هو كتاب احياء الموات وسنحقق البحث فيها بعد الوصول إليه إنشاء الله تعالى. والله العالم.

الرابعة : قال المحقق : لو باع أحد الشريكين سلعة بينهما وهو وكيل في القبض ، وادعى المشترى تسليم الثمن إلى البائع ، وصدقه الشريك برء المشترى من حقه ، وقبلت شهادته على القابض في النصف الأخر ، وهو حصة البائع لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر ، ولو ادعى تسليمه الى الشريك فصدقه البائع ، لم يبرء المشترى من شي‌ء من الثمن ، لأن حصة البائع لم تسلم اليه ولا الى وكيله ، والشريك منكر ، فالقول قوله مع يمينه ، وقيل : يقبل شهادة البائع ، والمنع في المسئلتين أشبه. انتهى.

أقول : تحقيق الكلام في هذا المقام يقع في موضعين : أحدهما ـ ما لو كانت الدعوى بين البائع من الشريكين والمشترى ، وهي تنجر بالأخرة أيضا الى الدعوى بين الشريكين كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى ، فهيهنا صورتان : الاولى ـ وقوع الدعوى بين البائع من الشريكين والمشترى ، والمفروض فيها أن البائع من الشريكين وكيل من جهة الشريك الأخر في قبض الثمن ، كما أنه وكيل في البيع ، ففي هذه الحالة ادعى المشترى أنه دفع الثمن إلى البائع ، وصدقه الشريك الأخر ، وأنكر البائع ذلك ، فإن أقام المشتري البينة برئت ذمته من الحقين ، أما من حق البائع فبالبينة واما من حق الشريك الأخر فبها وبتصديقه للبائع في دعواه.

ولو كان عدلا قبلت شهادته على شريكه ؛ لأن الشهادة على الشريك مقبولة ، لا مانع منها ، لعدم التهمة ، لكنها انما تقبل في حصة الشريك البائع لا في الجميع المتضمن لحصة نفسه ، لتطرق التهمة فيها (١) كما يشير اليه قوله : «وقبلت شهادته

__________________

(١) ووجهه على ما ذكروه أنه لو ثبت ذلك بشهادته لطالب الشهود عليه بحقه ، وذلك جر نفع ظاهر ، فلا تقبل حينئذ للتهمة. منه رحمه‌الله.

١٩١

على القابض في النصف الأخر» وهو حصة البائع ، لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر.

وان لم يقم المشترى بينة بأداء الثمن كان القول قول البائع بيمينه ، لانه منكر ، وحينئذ فإن حلف استحق أخذ نصيبه خاصة ، لاعتراف شريكه ببراءة ذمة المشترى ، حيث أنه وافقه على دفع الثمن ، وأنه صار بري‌ء الذمة ، وأن شريكه قد قبض ذلك أصالة لنفسه ، ووكالة عنه ، والوكالة قد بطلت بفعل متعلق الوكالة وهو القبض ، فليس له مشاركة الشريك فيما قبضه باليمين وان كان المال في الأصل مشتركا ، لاعترافه بأن ما قبضه شريكه ظلم ، وأن حقه انما هو في ذمة شريكه البائع بالقبض الأول ، وان نكل البائع عن اليمين ردت على المشترى. فان حلف أنه اقبض الثمن جميعه انقطعت عنه المطالبة ، وان نكل (١) الزم بنصيب البائع خاصة.

قالوا : وحيث يثبت الأداء الى البائع بالبينة ، فللشريك المطالبة بحصته ، دون ما إذا ثبت ذلك بشاهد ويمين أو باليمين المردودة على المشترى ، أو بنكول البائع على القول بالقضاء به ، لان ذلك انما يؤثر في حق المتخاصمين ، لا في حق غيرهما.

أقول : والظاهر أن السبب في ذلك من حيث اليمين ، لأنها لا يثبت مالا لغير الحالف كالبينة ، وعليه يتفرع النكول كما لا يخفى.

الصورة الثانية : الدعوى بين الشريكين ، وقد عرفت أن الشريك البائع وكيل من جهة شريكه المدعى هنا في قبض الثمن ، وهو قد صدق المشترى في

__________________

(١) قال في المسالك : فان نكل يعني المشتري الزم نصيب البائع ان لم نقض بالنكول ، لأصالة بقاء الثمن في ذمته ، حيث لم يثبت الأداء بحصة البائع. انتهى.

أقول : والظاهر ان رد اليمين على المشترى بعد نكول البائع مبنى على ما هو المشهور بين المتأخرين والا فإنه على القول الأخر ، وهو انه متى نكل المنكر عن اليمين يقضى عليه بمجرد نكوله لا يتجه الرد على المشترى. منه رحمه‌الله.

١٩٢

قبض شريكه له ، وحينئذ فالشريك هنا يدعى على شريكه البائع حصته من الثمن ، وشريكه يدعى بقاءها في ذمة المشترى لإنكاره القبض منه وعلى هذا فإن أقام الشريك بينة بأن شريكه البائع قد قبض الثمن من المشترى كما يدعيه رجع عليه بحقه منه ، والا فالقول قول شريكه ، لانه منكر القبض ، فيقبل قوله مع يمينه ، فان حلف انقطعت الدعوى ، وان نكل أورد اليمين حلف الشريك المقر ، وأخذ منه حصته ، ولا يرجع البائع بذلك على المشترى ، لاعترافه بظلم شريكه له في فعله ، وأنه لا يستحق في ذمته شيئا ، وانما حقه باق في ذمة المشترى ، ولأن ذمة المشترى بريئة من حصته ، لاعترافه بدفع ذلك الى البائع ، فلا يمكن أن يقال ان رجوعه عليه لكونه قد أدى عنه دينا في ذمته ، فيرجع به عليه.

هذا كله فيما إذا تقدمت الخصومة الأولى على الثانية كما رتبناه.

اما إذا تقدمت الثانية فإن الحكم كما ذكر أيضا ، الا أن الشريك المقر لا تقبل شهادته على البائع ، لسبق خصومته فيتطرق إليه التهمة.

وثانيهما : ما لو كانت الدعوى بين المشترى والشريك الاذن بأن ادعى المشترى أنه بعد الشراء من الشريك البائع سلم الثمن الى شريكه الأخر ، وصدقه الشريك البائع على ذلك ، والشريك المدعى عليه منكر ، فالقول قوله بيمينه ، كما هي القاعدة المتفق عليها.

وتفصيل الكلام هنا أن يقال ان البائع هنا اما أن يكون قد أذن للشريك المدعى عليه في قبض حصته من الثمن أولا وعلى التقديرين فاما أن قد أذن أيضا لشريكه البائع في القبض أم لا ، وحينئذ فإن كان الشريك المدعى عليه مأذونا في القبض بري‌ء المشترى من حصة البائع ، لاعترافه بقبض وكيله حيث

١٩٣

أنه صدق المشترى في دعواه الدفع لشريكه ، والحال أنه مأذون منه وان لم يكن مأذونا في القبض لم يبرئ المشترى من حصة البائع ، لأنه لم يدفع حصته اليه ، ولا الى وكيله ، أما عدم الدفع اليه فظاهر ، لأن المشتري انما يدعى الدفع على شريكه ، وأما عدم الدفع الى وكيله فلان المدعى عليه غير وكيل ، ولا مأذون كما هو المفروض ، وكذا لا تبرئ ذمته من حصة الشريك المدعى عليه ، لإنكاره القبض. وحينئذ فيقدم قول الشريك المدعى عليه بيمينه مع عدم البينة.

ثم ان طالب البائع المشتري بحصته ، فلشريكه مشاركته في ذلك كما في كل مال مشترك لأنه منكر للقبض ، والمال الذي في ذمة المشترى مشترك بينهما ، وله أن لا يشاركه ، بل يرجع على المشترى بحصته ويطالبها ، وعلى تقدير مشاركته للبائع في حصته التي قبضها من المشترى ، إنما يبقى للبائع ربع الثمن وليس للبائع مطالبة المشتري بعوض ما أخذه شريكه ، لانه يعترف بظلم الشريك له في المشاركة ، وأخذه نصف ما قبضه.

ثم انه متى شارك فيما قبضه (١) رجع ببقية حصته على المشترى ، لأن حقه منحصر فيهما ، وأما قوله في آخر العبارة «وقيل : تقبل شهادة البائع والمنع في المسألتين أشبه» ، وأشار بالمسألتين الى هذه المسئلة وسابقتها باعتبار اشتمالها على شهادة الشريك للمشتري على البائع ففيه تفصيل.

أما في المسئلة السابقة فقد تقدم بيانه ، وأما في هذه فإنه لا يخلو اما أن يكون الشريك المدعى عليه القبض مأذونا من جهة شريكه البائع في القبض أم لا ، فعلى

__________________

(١) أقول : مشاركته له فيما قبضه بناء على ظاهر كلام الأصحاب في مسألة المال المشترك كما تقدم ، واما على ما يظهر من الاخبار كما تقدمت الإشارة إليه من أن رجوع الشريك على شريكه مقاسمة له مخصوصة بما إذا توى بقية المال ، والا فالقسمة صحيحة ، وحصة الغير القابض يرجع بها على من عليه المال في ذمته لا على شريكه ، الا ان يتعذر حصولها فيرجع على الشريك حينئذ ولا يرجع هنا على الشريك. منه رحمه‌الله.

١٩٤

الأول لا تقبل لحصول التهمة ، لأنه بالنسبة إلى حصته يشهد لنفسه على الذي لم يبع لان المفروض أن القابض مأذون من جهته في القبض ، ووكيل عنه ، فهو في الحقيقة ليشهد لنفسه على شريكه.

وحينئذ يلزم تبعيض الشهادة ، والشهادة إذا ردت في بعض المشهود به هل تسمع في الباقي أم لا؟ وجهان : عندهم.

وأما على الثاني فإنها تقبل لعدم التهمة ، حيث إن الشريك ليس وكيلا للبائع في القبض ، وانما حق البائع باق على المشترى كما تقدم ، فليست الشهادة متبعضة كالأولى ، هذا ما يفهم من تقرير الأصحاب في المسئلة.

وأما كلام المحقق هنا واختياره المنع من قبول شهادة البائع ، مع أن المفروض في كلامه انما هو الثاني من هذا الترديد ، فقيل : ان الوجه فيه أن البائع وهو الشاهد ، وان لم يكن شريكا للقابض فيما قبضه ، لعدم الاذن له ، الا أن الشهادة تجر نفعا ، من حيث أنه إذا حصل الثبوت بهذه الشهادة بانضمام شاهد آخر أو يمين مثلا ، وقبض هذا الشاهد نصيبه من المشترى مسلم له ، ولا يشاركه فيه شريكه ، بناء على استحقاق المشاركة إذا لم يثبت القبض ، هذا ملخص كلامهم في هذا المقام.

ولا يخفى على من راجع كتاب التذكرة أن أصل هذه المسئلة وطرحها في محل البحث انما هو من العامة ، كسائر المسائل المذكورة ، ولهم فيها أقوال منتشرة ، واختلافات متكثرة ، وقد جرى فيها أصحابنا على بعض ما جروا عليه ، واختاروا فيها ما جنحوا اليه ، وجملة من شقوقها موافقة للأصول الشرعية ، وجملة منها مداركها غامضة خفية ، والله العالم.

الخامسة : قال الشيخ في الخلاف : إذا كان لرجلين عبدان لكل واحد منهما

١٩٥

عبد بانفراده ، فباعاهما من رجل واحد بثمن واحد لا يصح البيع ، لأنه بمنزلة عقدين ، لانه لعاقدين ، وثمن كل واحد منهما مجهول ، لان ثمنهما يتقسط على قدر قيمتهما ، وذلك مجهول والثمن إذا كان مجهولا بطل العقد ، بخلاف ما لو كانا لواحد ، لانه عقد واحد ، وانما بطل الأول من حيث كانا عقدين.

وقال في المبسوط : إذا كانا مختلفي القيمة بطل ، وان تساويا صح انتهى. وظاهر كلام جملة من المتأخرين الصحة مطلقا.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عن الشيخ : والقولان ضعيفان عندي ، والحق صحة البيع فيهما ، سواء كان متفاوتي القيمة أو متساوي القيمة ، لأن الثمن في مقابلة المجموع ، والتقسيط الحكمي لا يقتضي التقسيط لفظا ، والجهالة إنما تتطرق بالاعتبار الثاني ، دون الأول ، ولهذا لو كان عبدا واحدا ولأحدهما فيه حصة والباقي للآخر ولم يعلم حصة كل واحد منهما فباعاه صفقة واحدة صح البيع ، وان اختلف عوض كل واحد من الحصتين ، باعتبار اختلافهما وكونهما في حكم العقدين لا يقتضي كونهما عقدين ، ولهذا لو فسخ في أحدهما لم يكن له الا رد الأخر ، وذلك يدل على اتحاد الصفقة ، انتهى.

وبهذا الكلام بأدنى تفاوت عبر في المسالك ، وربما أشعر ظاهر كلام المحقق في الشرائع بالتوقف ، حيث اقتصر على نقل القولين في المسألة مع حجة القول بالبطلان ، ولم يتعرض لأزيد من ذلك ، والظاهر هو القول بالصحة لما عرفت ، وقد مر نظير ذلك في كتاب البيع في مسئلة بيع ما يملك وما لا يملك.

أما لو كان العبدان لهما معا أو كانا لواحد فلا اشكال ولا خلاف في الجواز ، لزوال ما توهم منه المنع في تلك المسئلة وهو تقسيط الثمن عليهما ، بل يقسمانه على نسبة الحصص ، وكذا لو كانا لواحد مع أن ذلك التقسيط لو أثر لأمكن

١٩٦

تطرقه هنا لو عرض لأحد هما ما يبطل البيع كما لو خرج مستحقا للغير ، أو ظهر كونه حرا ، فان البيع في نفس الأمر انما وقع على المملوك ، ولا يعلم قسطه من الثمن ، ووجه الصحة في الجميع أن ثمن المبيع وقت العقد معلوم ، والتوزيع لاحق ، فلا يقدح في الصحة.

السادسة :قد تقدم أن شركة الأبدان باطلة ، وحينئذ فلو اشتركا كذلك فان تميز أجرة كل واحد عن صاحبه اختص كل واحد بحصته ، ولو تميز بعضها اختص أيضا به ، وهو مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وانما الإشكال مع اشتباه الحال فقيل : أنه يقسم الحاصل على قدر أجرة مثل عملهم ، نظرا الى أن الغالب العمل بأجرة المثل ، وأن الأجرة تابعة للعمل.

ومثله قسمة ثمن ما باعاه مشتركا بينهما على ثمن مثل ما لكل منهما ، وعلى هذا لو تميز بعض حق كل منهما أو أحدهما ضم إلى الباقي في اعتبار النسبة ، وان اختص به مالكه ، وهذا القول اختيار المحقق في الشرائع.

وقيل : بتساويهما في الحاصل من غير نظر الى العمل ، لأصالة عدم زيادة أحدهما على الأخر ، ولأن الأصل مع الاشتراك التساوي ، ولصدق العمل على كل واحد منهما ، والأصل عدم زيادة أحد العملين على الأخر ، والحاصل تابع للعمل ، ونقل هذا عن العلامة في أحد وجهيه ، ورد بمنع كون الأصل في المال والعمل التساوي ، بل الأصل هنا يرجع إليه ، لأن زيادة مال شخص أو عمله على آخر ونقصانه ومساواته ليس أصلا لا بحسب العادة ، ولا في نفس الأمر.

وبالجملة فضعف هذا الوجه أظهر من أن يحتاج الى مزيد تطويل.

وقيل : بالرجوع الى الصلح ، لانه طريق الى تيقن البراءة كما في كل مال مشتبه ، ونقل أيضا عن العلامة في الوجه الأخر.

١٩٧

قال في المسالك : ولا شبهة في أنه أولى مع اتفاقهما عليه ، والا فما اختاره المصنف أعدل من التسوية.

أقول : ولا يخفى أن المسئلة غير منصوصة ، والاحتياط فيها واجب ، وهو يحصل بالقول الثالث ، وأما الأول فإنه وان كان أقل بعدا من الثاني الا أنه لا يخلو أيضا من شي‌ء فان مجرد كون الغالب العمل بأجرة المثل لا يصلح لان يكون سببا مملكا شرعيا لما زاد بحسب الواقع ، فإنه يجوز أن يكون أجرة عمل أحدهما بالنظر الى أجرة المثل درهمين ، وأجرة الأخرى بالنظر الى ذلك ثلاثة دراهم ، فلو اقتسما كذلك وكان الأمر بحسب الواقع الذي قبضه كل منهما هو بالعكس ، لأحد الأسباب المقتضية لذلك من تراض ، ومسامحة أو مناقشة ، فإنه لا يكون مبيحا للزيادة التي في أحد الطرفين ، ولا حاسما لمادة الإشكال واقعا في البين بل الواجب عليهما لتحصيل براءة الذمة بيقين هو الرضاء بالصلح ليخرجوا بذلك من غصب رب العالمين. والله العالم.

١٩٨

كتاب المضاربة :

قال في التذكرة : وهي عقد شرعي لتجارة الإنسان بمال غيره بحصة من الربح. انتهى.

وهذه التسمية لغة أهل العراق ، وأما أهل الحجاز فيسمون هذه المعاملة قراضا ، قيل : ووجه المناسبة بالنسبة إلى التسمية الأولى أنها من الضرب في الأرض ، قال الله تعالى «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ» (١) لان العامل يضرب فيها للسعي على التجارة وابتغاء طلب الربح بطلب صاحب المال ، فكان الضرب مسببا عنها طردا لباب المفاعلة في طرفي الفاعل ، أو من ضرب كل منهما في الربح بسهم ، أو لما فيه من الضرب بالمال وتقليبه.

وأما وجه المناسبة في التسمية الثانية ، فهو اما من القرض ، وهو القطع كما يقال : قرض الفار الثوب أى : قطعه ، ومنه المقراض ، لانه يقطع به ، فكان صاحب المال اقتطع من ماله قطعة ، وسلمها الى العامل ، واقتطع له قطعة من الربح ، أو من المقارضة ، وهي المساواة والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران إذا وازن كل منهما الأخر بشعره.

__________________

(١) سورة المزمل الآية ١٩.

١٩٩

وحكى عن أبى الدرداء أنه قال : قارض الناس ما قارضوك ، فان تركتهم لم يتركوك يريد ساوهم فيما يقولون ، وهذا المعنى تحقق هنا ، لان المال من جهة رب المال ، ومن جهة العامل العمل ، فقد تساويا في قيام العقد بهما ، فمن هذا المال ومن هذا العمل ، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح ، وتساويهما في أصل استحقاقه ، وان اختلفا في كميته ، ويقال منه للمالك مقارض بكسر الراء ، وللعامل مقارض بالفتح ، ومن اللفظة الأولى يقال للعامل : مضارب بكسر الراء ، لأنه الذي يضرب في الأرض بالمال ويقلبه ، ولم يشتق أهل اللغة لرب المال من المضاربة أسماء ، بخلاف القراض ، كذا في التذكرة ، ونحوه في المسالك.

وقال في المسالك : واعلم أن من دفع الى غيره مالا ليتجر به فلا يخلو اما أن يشترطا كون الربح بينهما ، أو لأحدهما أو لا يشترطا شيئا ، فإن اشترطاه بينهما فهو قراض ، وان اشترطاه للعامل فهو قرض ، وان اشترطاه للمالك فهو بضاعة ، وان لم يشترطا شيئا فكذلك ، الا أن للعامل أجرة المثل ، ونحوه قال في التذكرة.

واعترضهما المحقق الأردبيلي هنا في موضعين : أحدهما ـ في البضاعة ، حيث حكما بأن للعامل أجرة المثل ، قال بعد نقل عبارة التذكرة قوله : «وعليه أجرة المثل للعامل» محل التأمل ، لأن الأصل عدم لزوم الأجرة ، وما ذكر من أنه إذا استعمل شخص بعمل له أجرة عادة لمثل هذا الشخص ، يستحق به أجرة المثل ان ثبت ذلك ، وكان ما نحن فيه من ذلك القبيل يكون له أجرة المثل ، والا فهو متبرع لما مر. انتهى.

وحاصله يرجع الى قيام احتمال التبرع ، فالحكم بالأجرة مع الإطلاق يحتاج الى دليل ، وليس فليس ، وهو جيد.

٢٠٠