الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

وكلامه لا يخلو من غموض وخفاء ، وان سلم صحة ما ذكره ، الا أن دخوله تحت لفظ الشركة بأي المعنيين محل اشكال.

وأما ما ذكره ابن الجنيد من أنه لو اشترك رجلان وكان من عند أحدهما بذر وبقر ، وعلى الأخر العمل والخراج ، كانت الشركة جائزة بينهما ، فهو خلاف ما يفهم من كلام الأصحاب ، بل الظاهر أنه لا شركة هنا ، وانما الحاصل لصاحب البذر ، وللعامل الأجرة.

قال في التذكرة : لو كان لواحد البذر ، وللآخر الدواب ، ولثالث الأرض ، واشتركوا مع رابع ليعمل ، ويكون الحاصل بينهما فالشركة باطلة ، والنماء لصاحب البذر ، وعليه أجرة المثل لصاحب الأرض ، عن أرضه : ولصاحب الدواب عن عملها ، ولصاحب العمل عن عمله ، فإن أصاب الزرع آفة ولم يحصل شي‌ء من الغلة لم يسقط حقهم من أجرة المثل انتهى.

وهذا هو الموافق لمقتضى الأصول الشرعية ، وأنت خبير بأن أخبارنا خالية من ذكر هذه الأنواع ، والظاهر أنها من اصطلاحات العامة ، ولهذا اختلفوا في كل منها صحة وبطلانا ، وإطلاقا وتقييدا ، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة ، وأصحابنا قد اقتفوا أثرهم في ذكرها ، والبحث عنها واتفقوا عدا ابن الجنيد على بطلان ما عدا شركة الأموال. والله العالم.

الثاني ـ قد عرفت أن أحد الأنواع المتقدمة شركة العنان بكسر العين ككتاب ، وهو سير اللجام الذي تمسك به الدابة ، وهي المتفق على جوازها ، وهي عبارة عن الشركة في الأموال.

بقي الكلام في وجه هذه التسمية فقيل : من عنان الدابة ، أما لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ والتصرف واستحقاق الربح على قدر رأس المال ، كاستواء طرفي العنان ، أو تساوى الفارسين إذا سويا بين فرسيهما ، وتساويا في السير يكونان سواء ، واما لان لكل واحد منهما أن يمنع الأخر من التصرف كما يشتهي ويريد ، كما يمنع العنان الدابة ، واما لان الأخذ بعنان الدابة حبس أحدى يديه

١٦١

على العنان ، ويده الأخرى مطلقة يستعملها كيف شاء ، كذلك الشريك يمنع بالشركة نفسه عن التصرف في المشترك كما يشتهي ، وهو مطلق اليد والتصرف في سائر أمواله.

وقيل : من «عن» إذا ظهر أما لانه ظهر لكل واحد منهما مال صاحبه ، أو لأنها أظهر أنواع الشركة ، ولهذا أجمع على صحتها ، وقيل : من «العانة» وهي المعارضة ، لأن كل واحد منهما عارض بما أخرجه الأخر.

الثالث ـ ما ذكره في آخر العبارة المتقدمة من قوله «ولا يصح شي‌ء من أنواع الشركة سوى شركة العنان» محتمل لكون المراد بالشركة بالمعنى المشهور المتبادر ، وهو اجتماع حقوق الملاك كما تقدم ، وهو الذي يقتضيه السياق في عد هذه الأنواع ، ويحتمل المعنى الخاص ، لانه الغرض الذاتي منها ، ويؤيده تعريفه لها بما ذكره من أنها عبارة عن أن يخرج كل مالا ، ويمزجاه ، ويشترطا العمل فيه بأبدانهما.

قال في المسالك : ولا بد لها بهذا المعنى مع اشتراكهما في المالين من صيغة تدل على الاذن في التصرف ، لأنهما ممنوعان منه ، كسائر الأموال المشتركة وهي كل لفظ يدل على الاذن فيه على وجه التجارة ، سواء كان قبل الامتزاج أو بعده ، وسواء وقع من كل منهما للآخر ، أم اختص بأحدهما ، وبهذا المعنى لحقت بقسم العقود على تكلف أيضا ، وتترتب عليها الأحكام التي يذكرها المصنف بعد هذا انتهى.

أقول : قد عرفت آنفا ما في هذا الكلام ، وأنه لا دليل على اعتبار هذا العقد لكن يتجه الإيراد على الأصحاب بأنهم لما ذكروا للشركة معنى آخر ، وهو الذي تترتب عليه الأحكام الاتية كان الواجب عليهم أن يعرفوا الشركة في هذا المقام بغير التعريف المشهور كما ذكره شيخنا المذكور : لان غرضهم بيان الشركة التي هي مثل العقود تترتب عليها الأحكام من جواز التصرف واستحقاق الربح ونحو ذلك ، وأنه عقد جائز ، وله أركان ثلاثة ، ومع ذلك لم يعرفوها بشي‌ء زيادة

١٦٢

على التعريف المشهور ، مع أن الأحكام لا تترتب على ذلك التعريف المشهور بمجرده ولعلهم بنوا كلامهم كما قدمنا ذكره على أن المقصود واضح ، وأن الشركة الحقيقة هو اجتماع المال كما تقدم ، وأما الأحكام فتناط بالإذن في التصرف في المال المشترك ، والاذن كما تقدم يحصل بأي نحو كان ، وتجوزوا في إطلاق العقد على هذا الاذن في أثناء الكلام في المقام. والله العالم.

المسئلة الخامسة ـ لا اشكال ولا خلاف في أنه مع تساوى المالين يتساوى الشريكان في الربح والنقصان ، وكذا لو زاد رأس مال أحدهما كان له من الربح بنسبة الزيادة ، وعليه من الخسران بالنسبة أيضا ، وانما الاشكال والخلاف فيما إذا اشترط أحدهما زيادة الربح مع تساوى المالين ، أو التساوي في الربح والخسران مع تفاوت المالين.

وقد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال ثلاثة الأول ـ ما ذهب اليه الشيخ وابن إدريس والمحقق وجمع منهم من بطلان الشركة ، لانتفاء ما يدل على الصحة فيكون أكل مال بالباطل ، لأن الزيادة ليس في مقابلها عوض ، لان الفرض انها ليست في مقابلة عمل ، ولا وقع اشتراطها في عقد معاوضة ، لتضم الى أحد العوضين ولا اقتضى تملكها عقد هبة ، والأسباب المثمرة للملك معدودة ، وليس هذا أحدها فيكون اشتراطها اشتراطا لتملك شخص مال غيره بغير سبب ناقل للملك ، كما لو دفع إليه دابة يحمل عليها ، والحاصل لهما ، فيبطل العقد المتضمن له إذ لم يقع التراضي بالشركة والاذن بالتصرف الا على ذلك التقدير ، وقد تبين فساده ، ولا يندرج في الأمر بالإيفاء بالعقود ، ولا في «المؤمنون عند شروطهم».

الثاني ـ ما ذهب اليه المرتضى واليه ذهب العلامة ووالده وولده من القول بالصحة ، وادعى عليه المرتضى الإجماع ، واحتجوا بالأدلة العامة مثل قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) و «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٢) وقد وقع على

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١.

(٢) سورة النساء الآية ٢٨.

١٦٣

ما اشترطاه ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «المؤمنون عند شروطهم» (١). والإجماع المنقول بخبر الواحد كما يقبل نقل غيره من الأدلة به ، وأصالة الإباحة وبناء الشركة على الارتفاق بكل منهما ومن جملته موضع النزاع.

الثالث ـ ما ذهب إليه أبو الصلاح من صحة الشركة دون الشرط ، وجعل شرط الزيادة أباحه لها يجوز الرجوع فيها ما دامت العين باقية ، قال على ما نقله عنه في المختلف : إذا تكاملت الشروط انعقدت الشركة ، ووجب لكل واحد من الشريكين من الربح بمقدار ماله ، ومن الوضيعة بحسبه ، فان اصطلحوا في الربح على أكثر من ذلك ، حل تناول الزيادة بالإباحة ، دون عقد الشركة ، ويجوز لمبيحها الرجوع فيها ما دامت العين قائمة ، فإن اشترط في عقد الشركة ، تفاضل في الوضيعة صحت الشركة ، وبطل الشرط ، وكانت الوضيعة بحسب الأموال ، الا أن يتبرع أحد الشريكين على الأخر ، فإن كان أحد الشريكين عاملا فجعل له الأخر فضلا في الربح بإزاء عمله لم يمض الشرط ، وكان للعامل أجرة عمله من الربح ، وبحسب ماله انتهى.

أقول : الظاهر ان محل الخلاف هنا ما لو شرط الزيادة مع عدم زيادة عمل له يقابل تلك الزيادة ، أما لو كان له عمل زائد يقابلها ، فالظاهر أنه لا خلاف في جواز العقد : وصحة الشرط قال في التذكرة : لو اختص أحدهما بمزيد عمل وشرط مزيد ربح له صح عندنا والى ذلك ايضا يشير قولهم في حجة دليل القول الأول ، لأن الفرض أنها ليست في مقابلة عمل وبالجملة فالظاهر أنه لا إشكال في ذلك ، وعلى هذا ينبغي أن يقيد بذلك إطلاق القولين الأولين.

وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني : فقد عرفت جواب بعضه من احتجاج أصحاب القول الأول ، وبقي منه دعوى الإجماع ، وهو تشبث بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ١٥٠٣ ، الاستبصار ج ٣ ح ٨٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

١٦٤

واما الاستناد الى الآية» الا أن تكون تجارة عن تراض «ففيه أن الشركة ليست تجارة ، فلا تناولها الآية. نعم لو كانت الزيادة في مقابلة زيادة في العمل كان ذلك معاوضة وتجارة عن تراض ، إلا أنك قد عرفت أن هذا ليس من محل البحث في شي‌ء ، ويمكن أن يقال : بصحة الشرط ، لكن لا من حيث الشركة ، بل من حيث أنه وعد ، وقد دلت الآية والرواية على وجوب الوفاء بالوعد كما تقدم في الأبحاث السابقة ، لأن صاحب الزيادة قد وعد بإعطائها ورضى بذلك ، ورد كلام أبى الصلاح بأنه مبنى على أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد والأقوى خلافه ، وفيه ما عرفت فيما تقدم في الأبحاث السابقة ، وفي مقدمات كتاب الطهارة.

وكيف كان فالمسئلة كغيرها مما تقدم من أمثالها لا يخلو من الاشكال ، لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في ذلك ، حيث اقتصر على نقل الأقوال المذكورة ونقل حججها ولم يرجح شيئا منها ، وهو في محله هذا في ما لو عملا معا اما لو كان العامل أحدهما مع شرط الزيادة للعامل فالظاهر أنه لا إشكال في صحته ، ويكون العقد حينئذ قراضا ، وشركة ، فيشتركان في الربح من حيث كون رأس المال شركة ، ويختص العامل بالزيادة المشروطة في مقابلة عمله كما يختص عامل المضاربة بالحصة المعينة له من الربح في مقابلة عمله ، ويأتي مثل ذلك فيما قدمناه من أنهما لو عملا معا ولكن كان في عمل أحدهما زيادة ، وشرطت الزيادة له في مقابلة زيادة عمله.

اما مع تساويها في المالين وزيادة عمله ، أو مع نقصان ما له مع تساويهما في العمل ، أو زيادته بطريق أولى ، لاشتراك الجميع في كون الزيادة في الربح في مقابلة عمل ، فكان العقد عقد معاوضة من الجانبين ، بالنظر الى أن العمل متقوم بالمال.

ولكن الشيخ ومن تبعه أطلقوا المنع ، والمرتضى ومن تبعه أطلقوا الجواز ، والتفصيل بما ذكرناه كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني وغيره أجود ، وينبغي تقييد الإطلاقين المذكورين بذلك ، لما قدمناه سابقا من تصريح العلامة في التذكرة بذلك ، بل ظاهره دعوى الإجماع في ذلك ، حيث قال : عندنا ، مع كونه من القائلين بقول المرتضى ، وما ذكر في حجة القول الأول : مع أن الدعوى

١٦٥

مطلقة ، فذكر ذلك في دليلها ، دليل على أنه ليس المراد بتلك الدعوى على إطلاقها. والله العالم.

المسئلة السادسة ـ متى حصلت الشركة بالمعنى المشهور فإنه لا يجوز لكل من الشريكين التصرف إلا بإذن الأخر ، لما ثبت عقلا ونقلا من عدم جواز التصرف في مال الغير إلا بإذنه ، فإن اذن أحدهما للآخر اختص المأذون بالتصرف ولا يجوز للاذن التصرف إلا بإذن المأذون : والاذن توكيل في التصرف ، فلا يجوز له أن يتعدى ما أذن له من العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، فإن أطلق في التصرف تصرف كذلك ، وان خصص اختص بما خصصه ، ويراعى فيه المصلحة ، فإن أطلق له في التجارة تصرف كيف شاء من أنواع التجارة ، من البيع والشراء مرابحة ، ومساومة ، وتولية ، ومواضعة ، حيث تقتضيها المصلحة وقبض الثمن واقباض المثمن ، ونحو ذلك مما تقدم في كتاب البيع.

وهل يتناول الإطلاق السفر حيث شاء؟ احتمالان : من حيث دخوله تحت الإطلاق ، ومن حيث كونه مظنة الخطر ، ولا يجوز له إقراض شي‌ء من المال الا مع المصلحة ، ولا المضاربة عليه لانه ليس من توابع التجارة.

وقد صرح في التذكرة في غير موضع بأن اذن الشريك توكيل ، فيجب حينئذ أن يراعى فيه ما يجب مراعاته في الوكالة فلا بد أن يقتصر على ما اذن له فيه ، كما يجب على الوكيل ان يقتصر على ما وكل عليه ، فلو تعدى في بعض المواضع عن محل الإذن أثم وضمن ، وحيث كانت الشركة من العقود الجائزة دون اللازمة بالإجماع فلكل من الشركاء الرجوع في الاذن والمطالبة بالقسمة.

أما الأول فإن مبناها على الاذن في التصرف ، وهو في معنى الوكالة ، فتكون جائزة ، وأما الثاني فلانه لا يجب على الإنسان مخالطة غيره في ماله ومقتضى الأصل أن يتصرف كل منهما في ماله كيف شاء.

قال في التذكرة : الشركة عقد جائز من الطرفين ، وليست من العقود اللازمة إجماعا فإذا اشتركا بمزج المالين ، فأذن كل واحد منهما لصاحبه في

١٦٦

التصرف (١) فلكل واحد من الشريكين فسخها لأن الشركة في الحقيقة توكيل وتوكل ، فلو قال أحدهما للآخر : عزلتك عن التصرف ، أو لا تتصرف في نصيبي انعزل المخاطب عن التصرف في نصيب العازل ، ويبقى التصرف في نصيبه ، ولا ينعزل العازل عن التصرف في نصيب المعزول الا بقول متجدد منه ، ولو فسخاها معا فان الاشتراك باق وان لم يكن لأحدهما التصرف في نصيب الأخر ، ولو قال أحدهما : فسخت الشركة ارتفع العقد ، وانفسخ من تلك الحال ، وانعزلا عن التصرف ، لارتفاع العقد. انتهى.

قيل : وفي قوله «ولو قال أحدهما الى آخره» تأمل ، لأن أحدهما تكلم فقط بقوله «فسخت الشركة» وهو يؤل الى عدم اذنه للآخر في التصرف ، وعزله وإبطال وكالته ، لما قد مر مرارا ان هذا العقد والاذن توكيل ، وغاية ما يكون عزلا لنفسه أيضا فإذا بدا له يجوز التصرف إذا قلنا ان الوكيل لا ينعزل بمجرد عزله ، ولا يحتاج إلى إذن جديد ، الا أن يعلم الأخر الموكل بل يرضى بعزله أو يعزله فتأمل. انتهى.

وملخص كلامه المناقشة في ارتفاع العقد بالكلية ، فإن هذا القول انما وقع من أحدهما ، والذي يدل عليه عزله الأخر عن التصرف ، وإبطال وكالته ، وغاية ما يمكن التزامه أنه عزل لنفسه أيضا ، الا أنه بمجرد ذلك لا يلزم بطلان العقد وارتفاعه ، بناء على أن الوكيل لا ينعزل بمجرد عزل نفسه ، بل يجوز له الرجوع بغير توكيل آخر ، فكذا هنا يجوز له الرجوع بدون إذن أخر ، فلا يتم حينئذ الحكم بارتفاع العقد.

وكما ينفسخ الشركة بالفسخ تنفسخ ايضا بالجنون والموت ، لبطلان الوكالة بهما ، وهي في معناها كما عرفت ، بل هي وكالة في التحقيق ، ونحوهما أيضا الإغماء والحجر

__________________

(١) إشارة إلى الشركة بمعنى المشهور وقوله فأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف إشارة إلى المعنى الخاص المصطلح عليه بين الأصحاب المعبر عنه بالعقد وهو دائما إنما يعبر عنه بالاذن وهو مؤيد لما قدمناه من التحقيق من أنه ليس هنا عقد كما يدعونه وليس إلا الاذن وان سموه عقدا تجوزا ، منه رحمه‌الله.

١٦٧

لسفه أو فلس.

قال في التذكرة : وكذا ينفسخ بموت أحدهما وجنونه ، وإغمائه والحجر عليه للسفه ، كالوكالة ، ثم في صورة الموت ان لم يكن على الميت دين ، ولا هناك وصية تخير الوارث بين القسمة مع الشريك وفسخها ، وبين تقرير الشركة ان كان بالغا رشيدا ، وان كان صغيرا أو مجنونا فعلى الولي ما فيه الحظ من فسخ الشركة أو إبقائه ، ولا بد في تقرير الشركة من عقد مستأنف ، وان كان على الميت دين لم يكن للوارث التقرير على الشركة الا أن يقضى الدين من غير مال الشركة ، ولو كان هناك وصية ، فان كانت لمعين فهو كأحد الورثة ، يتخير بين التقرير والفسخ ان تعلقت الوصية بذلك المال ، وان كانت لغير معين كالفقراء لم يجز تقرير الشركة إلا بعد خروج الوصية ، فإذا خرجت الوصية بقي المال كما لو لم تكن وصية ، يتخير الوارث بين التقرير والفسخ ، انتهى.

المسألة السابعة ـ لو شرط التأجيل في الشركة بمعنى ترتب أثرها عليها من التصرف للتجارة ونحوها إلى أجل مخصوص لم يلزم الشرط المذكور ، بل لكل منهما فسخها قبل الأجل ، لأنها عقد جائز ، فلا يؤثر شرط التأجيل فيه.

نعم يترتب على الشرط المذكور عدم جواز تصرفهما بعد الأجل إلا بإذن جديد ، لعدم تناول الاذن السابق له ، فهذا الشرط وان لم يؤثر في وجوب المضي على الشركة الا أنه يؤثر فيما ما ذكرناه ، فله أثر في الجملة.

ونقل في المختلف عن الشيخين أنهما قالا : الشركة بالتأجيل باطلة ، قال : والظاهر أن مرادهما ليس البطلان من رأس ، بل عدم اللزوم ، ولهذا قال المفيد عقيب ذلك : ولكل واحد من الشريكين فراق صاحبه أى وقت شاء ، ثم نقل عن أبى الصلاح أنه قال : ولا تأثير للتأجيل في عقد الشركة ، ولكل شريك مفارقة شريكه أى وقت شاء وان كانت مؤجلة.

ثم قال : والعبارتان رديتان ، والتحقيق أن للتأجيل أثرا وهو منع كل

١٦٨

منهما من التصرف بعده إلا بإذن مستأنف ، وان لم يكن له مدخل في الامتناع من الشركة ، إذ لكل منهما الفسخ قبل الأجل. انتهى.

المسئلة الثامنة ـ ينبغي أن يعلم أن الشريك أمين لا يضمن تلف ما في يده إلا بالتعدي أو التفريط ، لانه وكيل كما عرفت فيما سبق ، ويقبل قوله مع يمينه في دعوى التلف ، سواء ادعى سببا ظاهرا كالغرق ، أو خفيا كالسرق. قال في التذكرة : كل واحد من الشريكين أمين يده يد أمانة على ما تحت يده ، كالمستودع والوكيل ، يقبل قوله في الخسران والتلف مع اليمين ، كالمستودع إذا ادعى التلف ، سواء أسند التلف الى سبب ظاهر أو خفي ، فلا يضمن الا مع التفريط ، ويقبل قوله في عدم ما يوجب الضمان من التعدي ، وكذلك في عدم الخيانة ، ويقبل قوله في عدم الشراء بمال الشركة إذا ادعى الشراء بما يخصه ، وكذا إذا ادعى الشراء بالمشترك.

الفصل الثاني في القسمة :

وهي تمييز حق أحد الشركاء عن حق الأخر ، والبحث فيها يقع في مسائل : الأولى ـ الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا في أنها برأسه أمر موجب لتمليك الشريك حصة الشريك الأخر بحصته ، فإذا حصلت بشرائطها حصل بها الملك ، وليست بيعا ولا صلحا ولا غيرهما ، لعدم وجود خواص الغير فيها كصيغة البيع إيجابا وقبولا ، أو غيره من العقود ، ويدخلها الإجبار في غير أفراد البيع التي يدخلها الإجبار ، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الأخر مع تساويهما ، والبيع ليس كذلك ، بل يجوز فيه الزيادة والنقصان بينهما ، واختلاف اللوازم تدل على اختلاف الملزومات.

خلافا لبعض العامة حيث جعلها بيعا مع أنه لا خلاف عندهم في أنه إذا طلب أحد الشركاء القسمة ، يجب على الأخر إجابته ، وعدم منعه إذا لم يحصل له ضرر بالقسمة ، سواء كان في تركها ضرر أم لا ، وسواء كان أحدهما مضطرا إلى القسمة أم لا ، لانه يجب إيصال حق الغير اليه ، ولا يجوز منعه عنه ، وهو هنا بالقسمة ،

١٦٩

ولا تصح إلا بإذن الشركاء الا ما سيأتي التنبيه عليه.

الثانية ـ لا خلاف في أنه مع الضرر على الكل وعدم ضرورة لا تجوز القسمة ، لأنه تضييع مال ، وهو سفه وإسراف منهي عنه ، وأما ما لا ضرر في قسمته فإنه يجبر الممتنع مع التماس الشريك القسمة ، وهو مما لا خلاف فيه أيضا.

وانما الخلاف في معنى الضرر المانع في الصورتين ، فقيل : بأنه عبارة عن نقصان العين أو القيمة نقصانا لا يتسامح به عادة ، لأن فوات المالية مناط الضرر في الأموال. ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «لا ضرر ولا ضرار» (١). وهو عام ، وقيل : بأنها عبارة عن عدم الانتفاع بالنصيب منفردا لتضمنه الضرر والحرج ، وإضاعة المال المنهي عنه مثل كسر الجوهرة الكبيرة التي لها ثمن كثير ، وبعد الكسر لا تسوى شيئا أو تسوى شيئا قليلا.

وقيل : بأنها عبارة عن عدم الانتفاع به منفردا ، فيما كان ينتفع به مع الشركة ، مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضع ضيق لا ينتفع به في السكنى مثل الأول ، وان أمكن الانتفاع به في غير ذلك.

قال في المسالك بعد نقل ذلك كما ذكرناه والأقوى اعتبار الأول ، واليه أيضا مال المحقق الأردبيلي ، قال : واعتبار الثاني بعيد ، والثالث أبعد ، وأشار بهما الى ما ذكرناه هنا ثانيا وثالثا ، ثم انه على تقدير اعتبار المعنى الأول متى انتفى مثل هذا الضرر عن الشريك ، وطلب الأخر القسمة مع انتفاءه عنه أيضا ، فإنه يجب الإجابة إلى القسمة ، ويجبر الممتنع ، وهو ظاهر لما تقدم من أنه يجب إيصال حقه اليه متى طلبه ، ولا يجوز منعه ، إذ الفرض أنه لا مانع من ذلك ، وأما عدم وجوبها مع ضرر الشريك فهو أيضا ظاهر ، لخبر (٢) «لا ضرر ولا ضرار». الا مع تضرر الطالب للقسمة بالشركة ، فيتعارض الضرران ، فينبغي أن

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ الفقيه ج ٣ ص ١٤٧ ح ١٨ والوسائل ج ١٧ ص ٣١٩ ح ١ باب الشفعة. وباب احياء الموات ص ٣٤١ ح ١ و ٢ و ٣.

١٧٠

يرجح الأقل ضررا ، ومع التساوي يشكل الأمر ، فيحتمل الرجوع الى القرعة.

وأما لو تضرر الطالب بالقسمة دون الممتنع ، فالظاهر أنه لا يجب إجابته ، لأن ارتكاب ذلك سفه وتضييع لماله ، الا أن يترتب على ذلك غرض صحيح.

قال في الدروس ، ولو تضرر أحد الشريكين دون الأخر بالقسمة أجبر غير المتضرر بطلب الأجر دون العكس ، وفي المبسوط لا يجبر أحدهما لتضرر الطالب ، وهو أحسن ، ان فسر التضرر بعدم الانتفاع ، وان فسر بنقص القيمة فالأول أحسن ، وبذلك يظهر أن في المسألة أقوالا ثلاثة.

ثالثها التفصيل الذي استحسنه شيخنا المذكور وهو جيد ، ولو اتفقا على القسمة مع تضمنها الضرر كالجوهر والسيف والعضائد الضيقة (١) فقد صرح المحقق في هذا الكتاب بأنه لا يجوز قسمتها ، والمفهوم من كلام غيره أن القسمة المشتملة على ضرر لا يجبر الممتنع عليها لكنها تصح بالتراضي والاتفاق عليها ، مع أنه في كتاب القضاء من الشرائع فسر الضرر بنقص القيمة ، فحكمه هنا بعدم الجواز مع تفسير الضرر بما ذكره مشكل ، فان مجرد نقص القيمة لا يبلغ حد المنع.

نعم لو فسر الضرر بعدم الانتفاع أمكن من حيث استلزامها تضييع المال بغير عوض ، فإنه إذا لم ينتفع بالاجزاء فلا فائدة في القسمة ، بل هو محض إتلاف وهو منهي عنه.

ثم انه في كل موضع يتوقف القسمة على الجبر ، فالظاهر أن المجبر هو الحاكم الشرعي أو أمينه ، والظاهر أن مع تعذرهما فعدول المؤمنين كما هو في سائر الحسبيات التي يتعذر إرجاعها إلى الحاكم : والأحوط العدلان ، وفي

__________________

(١) قال في القاموس : وأعضاد الحوض وغيره ما يشد حواليه من البناء ، ولم أقف في كلام أهل اللغة على معنى يناسب ما ذكروه بعد فان دخول القسمة فيما كان هكذا لا يخلو من تعسف وظاهر كلامهم أن العضائد عبارة عن أماكن ضيقة تتضرر بالقسمة والله العالم منه رحمه‌الله.

١٧١

وفي الاكتفاء بالواحد احتمال قوى.

الثالثة ـ لا يخفى أن متساوي الاجزاء وهو المثلي الذي يصدق على قليله وكثيره اسم الكل ، وأجزاؤه متساوية في ذلك ، ولا تفاوت بينها غالبا كالحبوب والادهان تقسم قسمة إجبار على جميع الأقوال الثلاثة المتقدمة ، إذ لا ضرر بالقسمة فيتحقق فيها قسمة الإجبار مطلقا ، فان تراضيا بالقسمة والا أجبر الممتنع ، كذا صرحوا به من غير خلاف يعرف.

قال في المسالك : ومثله الثياب المتعددة المتحدة في الجنس التي يمكن تعديلها بالقيمة ، وكذا الحيوان والعبد على الأقوى ، وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا قال بعد ذكر ذلك ، وفيه تأمل ، إذ قد يكون المقسوم يسيرا بحيث لو قسم لم يبق لكل قسم أو لبعضه قيمة أصلا ، أو ينقص نقصانا فاحشا بخلاف ما لو بيع جميعا يجعل لكل واحد من الشركاء من القيمة ما ينتفع به ، وهو غير بعيد.

أقول : بل الظاهر بعده : لأن الأحكام الشرعية انما تبنى على الافراد الكثيرة المتعارفة بين الناس دون الفروض الشاذة النادرة التي لا تكاد توجد الا فرضا ، وأما غير متساوي الاجزاء وهو القيمي كالثياب والحيوان والعبيد ، فإنه لا بد فيه من تقويم وتعديل ، فان حصل التساوي على وجه يقتضيه النظر من غير رد فإنه يقسم كذلك ، ولكنه في هذه الصورة يجري فيه الإجبار كما أشار إليه شيخنا في المسالك في العبارة المتقدمة ـ بقوله «على الأقوى».

وان لم يحصل التساوي فلا بد أن يضم اليه بعض الدراهم أو العروض مما يقابل به السهم الأخر ، فيقسم قسمة تراض ، والقسمة في هذه الصورة يعبر عنها بقسمة الرد لا يدخلها الإجبار ، فلا يجبر الممتنع ، بل انما تصح مع التراضي ، لأنها مشتملة على معاوضة وبمنزلة البيع جزء من المال بذلك المضاف الى المال الأول ، فلا بد من الرضا حينئذ.

الرابعة ـ متى حصلت القسمة والتمييز بين السهام سواء كانت القسمة إجبارية ،

١٧٢

أو قسمة رد بحيث عدلت السهام على ما يقتضيه القسمة ، فلا بد للتعيين بحيث يصير كل سهم ملكا لمالك من أولئك الشركاء من القرعة ، وبها يصير ملكا له ، لا يجوز التصرف فيه الا بإذنه ، كسائر أملاكه.

والظاهر كما صرح به المحقق الأردبيلي ـ انه بعد خروج القرعة لا يحتاج الى رضاء الشريك مرة أخرى ، زيادة على الرضاء بأصل القسمة ان كانت قسمة رد ، لأن القرعة قد أخرجت للتعيين ، وقد تعين بها مال كل واحد منهما ، وقيل انه ان كانت القسمة إجبارية ، فإنه لا يحتاج الى الرضا بعد القرعة ، وان كانت قسمة رد ، فان كان القاسم منصوبا من الامام فكذلك أيضا ، (١) وان كانت القسمة والقرعة إنما حصلت من المتقاسمين توقفت على تراضيهما بعدها ، لاشتمالها على المعاوضة ، فلا بد من لفظ يدل عليها ، وأقله ما يدل على الرضا ، ونقل ذلك عن الشيخ على في شرح القواعد ، وبه صرح في المسالك أيضا ، وهو ظاهر العلامة أيضا ، بل الظاهر أنه المشهور.

ورده المحقق المتقدم ذكره ، بأن الرضى الأول كاف ، والقرعة والتعديل بأنفسهما قد يكفيان ، على أن منصوب الامام ليس بوكيل للشريك حتى يقبل له ، فإنه منصوب للقسمة والقرعة فقط ، على أن القسمة مطلقا معاوضة كما صرح به الشهيد الثاني في شرح الشرائع ، ثم قال : كأن هذا القائل نظر الى ما ذكرناه من أصل بقاء الملك على ملك مالكه ، وبقائه على الاشتراك وعدم خروج شي‌ء عن ملك أحدهم ، والدخول في ملك آخر حتى يتحقق الدليل ، ومع الرضا بعدها أو القرعة من قاسم الامام ناقل بالإجماع ، والباقي غير ظاهر كونه ناقلا حتى يتحقق ، ويمكن أن يقال : القرعة مع الرضى الأول ناقل فتأمل.

واعلم أن الظاهر أن القرعة والرضا ثانيا انما هو محتاج اليه للتملك ، بحيث لا يجوز لأحد العدول عنه ، والا الظاهر أنه يكفى الرضا بأخذ كل واحد قسما بعد التعديل

__________________

(١) قال في الشرائع في كتاب القضاء والمنصوب من قبل الامام بمعنى قسمته بنفس القرعة ولا يشترط رضاهما بعدها وفي غيره يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة وفي هذا اشكال من حيث ان القرعة وسيلة إلى تعيين الحق وقد قارنها الرضا. انتهى منه رحمه‌الله.

١٧٣

بالرضا ، فإنه إذا رضي أن يأخذ عوض ماله من حصة الأخر من ماله ، الظاهر أن له ذلك ، وهو مسلط ، على ماله ، فله أن يفعل ما يريد الا الممنوع ، ولا منع هنا ، لان الظاهر أنه تجارة عن تراض أيضا ، وأكل مال الغير بطيب نفس منه.

والظاهر أنه وان لم يكن مملكا فلا كلام في جواز التصرف فيه تصرف الملاك ، مثل ما قيل في العطايا والهدايا والتحف ، ويحتمل أن يكون تصرفا بعقد باطل ، فيكون حراما وهو بعيد جدا ، وعمل المسلمين على غير ذلك ، بل على الملك فتأمل انتهى كلامه ، وهو جيد وجيه.

وأنت خبير بأن أحدا من الأصحاب لم ينقل في هذا المقام خبرا ولا دليلا على شي‌ء من هذه الأحكام ، بل غاية ما يستدلون به أمور اعتبارية ، مع أن هنا جملة من الاخبار يمكن الاستناد إليها في بعض هذه الأحكام.

والذي وقفت عليه مما يتعلق بما نحن فيه رواية غياث (١) «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام في رجلين بينهما مال منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، وأحال كل واحد منهما بنصيبه ، فقبض أحدهما ولم يقبض الأخر فقال : ما قبض أحدهما فهو بينهما ، وما ذهب فهو بينهما».

وبهذا المضمون رواية أبي حمزة الثمالي (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام ورواية محمد بن مسلم (٣) عن «أحدهما عليهما‌السلام» وصحيحة معاوية بن عمار (٤) وصحيحة عبد الله بن سنان (٥) ورواية سليمان بن خالد (٦) والمتبادر من هذه الروايات ان الاقتسام انما وقع من الشركاء بمجرد تميز سهام كل واحد

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٢ ح ٥ الفقيه ج ٣ ص ٥٥ ح ١ الوسائل ج ١٣ ص ١٥٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ج ١٣ باب عدم قسمة الدين المشترك قبل قبضه ص ١٧٩ ح ١ و ٢.

(٦) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ١١٦ ح ١.

١٧٤

من ذلك المال المشترك الموجود بأيديهم ، مثليا كان ذلك المال أو قيميا بعد تعديله كما تقدم ، من غير توقف على قاسم من جهة الامام ، ولا قرعة في البين بأن رضى كل منهم بعد تساوى السهام بنقل حصته ، مما في يد شريكه بحصة شريكه مما في يده ، وكذلك قسمة ما في الذمم مما لم يكن في أيديهما ، الا أنه (ع) أبطل قسمة الغائب.

وبالجملة فإني لم أقف في الاخبار على ما ذكروه من القرعة ، والقاسم من جهة الإمام ، بل ظاهرها كما ترى هو الصحة مع تراضيهما بما يقتسمانه ، وهو مؤيد لما تقدم نقله عن شيخنا الشهيد الثاني من أن القسمة مطلقا معاوضة ، وما ذكره المحقق المذكور من قوله ، والا الظاهر أنه يكفى الرضا بأخذ كل واحد قسما بعد التعديل ، الى آخره فان هذا هو ظاهر هذه الاخبار ، فإن قيل : ان غاية ما يدل عليه هذه الاخبار أنهما اقتسما فيمكن حمله على القسمة التي ذكرها الأصحاب ، كما تقدم من حضور القاسم من جهة الامام والقرعة ، وحكم المثلي والقيمي ـ قلنا : هذا فرع ثبوت هذه المذكورات في الاخبار ، والا فالمتبادر انما هو ما قلناه من تمييز الحصص والسهام بعضها عن بعض من أولئك الشركاء ، لا من شخص آخر ، وهو ظاهر الاخبار ، حيث نسب الاقتسام الى الشريكين ، والأصحاب قد ذكروا القسمة في هذا الكتاب ، وفي كتاب القضاء ، وذكروا لها أحكاما عديدة لم نقف لها على أثر في الاخبار في كل من الموضعين المذكورين ، والقرعة قد وردت بها الاخبار في جملة من الموارد ، ولم يذكر فيها هذا الموضع الذي ذكروه هنا ، وغاية ما يدل عليه عمومات بعض أخبارها التوقف عليها في موضع النزاع ، مثل قول الصادق (عليه‌السلام) فيما رواه الصدوق (١) : وما تقارع قوم ففوضوا أمرهم الى الله تعالى الإخراج سهم المحق ، وأما مع التراضي فلا أثر في الاخبار لاعتبارها والتوقف عليها ، وكأنه بسبب التراضي يكون من

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٥٢ ح ٣ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٨٨ ح ٦.

١٧٥

قبيل الصلح في هذه المعاوضة ، كما ورد في صحيحة محمد بن مسلم (١) عن أحدهما (عليهما‌السلام) انه قال : في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا ، وطابت أنفسهما».

نعم لو لم يحصل التراضي بعد تعديل القسمة أمكن القول بالقرعة ، لهذا الخبر ونحوه ، وبالجملة فإن القسمة وما ذكر فيها من الأحكام غير موجود في كلام متقدمي علمائنا الاعلام ، ولا أخبار أهل الذكر ، عليهم‌السلام.

والذي يغلب على الظن القاصر أن الشيخ ومن تبعه من الأصحاب قد تبعوا في هذه المقامات العامة حيث أطالوا البحث عن ذلك في كتبهم بهذه الفروع التي ذكرها الأصحاب اختلافا واتفاقا ، ولا يخفى على الخائض في الفن والناظر في كتب المتقدمين المقصورة على الاخبار ، وأنه لم يقع التفريع في الأحكام ، وكثرة الفروع في المسألة الواحدة ، سيما في هذا الباب الا من الشيخ وتبعه من تأخر عنه ، وكلها من كتب العامة ، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك أيضا والله العالم.

الخامسة ـ قد صرح الأصحاب بأنه لا يصح قسمة الوقف بأن يأخذ كل واحد من الشركاء فيه بعضا ويتصرف فيه على حدة وتفصيل هذا الإجمال أنه يقال : انه متى كان الواقف واحدا أو متعددا والموقوف عليه متعددا كأن يقف زيد داره على ذريته من الموجودين وما تناسل منهم وقفا مؤيدا مشتملا على شرائط الصحة واللزوم ، أو يكون نصف الدار لزيد ، ونصفها لعمرو ، فيقف كل منهما حصته على تلك الذرية مثلا ، فإنه في هذه الصورة لا يجوز للموقوف عليهم قسمة الوقف ، لأنه أولا على خلاف وضع الواقف والموقوف على ما وقفت عليه ، كما ورد

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦ ح ١ ، الكافي ج ٥ ص ٢٥٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

١٧٦

به النص. (١)

وثانيا أن الوقف ليس ملكا لأولئك الموجودين الان ، لمشاركة البطون الأخر لهم في ذلك.

وثالثا ان الحق يتغير بزيادة البطون ونقصانها ، فربما استحق بعض بطون المتقاسمين أكثر مما ظهر بالقسمة ، لمورثهم وبالعكس ، وأما لو تعدد الواقف والموقوف عليه بأن كانت الدار مشتركة بين زيد وعمرو أنصافا ، فوقف زيد نصفه على ذريته ووقف عمرو نصفه على ذريته ، فإنه يجوز للموقوف عليهم من الطرفين قسمة هذا الوقف ، بأن يميزوا أحد الوقفين عن الأخر ، ومتى كان جزء من المال وقفا ، وجزء منه ملكا ، كبيت مثلا نصفه وقف ، ونصفه ملك ، فإنه يجوز قسمته ، وتميز الملك من الوقف ، ويكون ناظر الوقف بمنزلة الشريك يتولى المقاسمة مع المالك.

قال في المسالك : هذا إذا لم تشتمل على رد ، أو اشتملت وكان الرد من الموقوف عليه ، لأنه زيادة في الوقف ، فلو انعكس لم يصح ، لانه كبيع جزء من الوقف ، ثم على تقدير الرد من الموقوف عليه ، هل يصير جميع حصته وقفا؟ أم يكون ما قابل الرد من الحصة ملكا له ، لانه معاوض عليها ، احتمالان ، والثاني أوجه.

__________________

(١) أقول : وتوضيحه أنه إذا وقف على ذريته على السوية ما تناسلوا بطنا بعد بطن فاتفق أن البطن الأول كان اثنين فإنهم يقتسمون الحاصل أنصافا ، ولو كان البطن الثاني ثلاثة ، فإنهم يقتسمونه أثلاثا وهكذا ، فلو أن أصحاب البطن الأول اقتسموا الوقف أنصافا ثم اتفق أن ورثة أحدهما كان اثنين وورثة الأخر واحدا فان هذين الاثنين يستحقان ثلثا الوقف بالنظر الى وقف الواقف ، وان كان مورثهم انما يستحق النصف وذلك الواحد بالنظر الى ما ذكرنا انما يستحق الثلث وان كان مورثه يستحق النصف وعلى هذه الصورة فقس. منه رحمه‌الله.

١٧٧

نعم لو كان في مقابلة الرد وصف محض كالجودة كان الجميع وقفا ، لعدم قبوله الانفصال ، ولا فرق في جواز قسمة الوقف من الطلق بين كون الجميع لواحد ، أو مختلف. انتهى.

السادسة ـ قد صرح غير واحد منهم بأنه يستحب للإمام (عليه‌السلام) نصب قاسم ويشترط عدالته ومعرفته بالحساب ، وقيل : بل ينبغي ذلك للحاكم مطلقا ، وقال في الدروس : يستحب للقاضي نصب قاسم كامل مؤمن عاقل عارف بالحساب ولو كان عبدا ، ولا يراعى فيمن تراض به الخصمان ذلك. انتهى ، وعلله بعضهم باحتياج الناس إليه ، إذ قد يحصل الرضا في التعديل بقول بعضهم بعضا ولا يعرفون ذلك خصوصا في قسمة الرد ودليل اشتراط عدالته الوثوق بقوله ، وأما معرفته للحساب ، فلا بد منها بمقدار ما يحتاج إليه في القسمة ، وانه لا يكفى الواحد في قسمة الرد الا مع الرضا ، لانه يحتاج فيها الى التعديل في القسمة حتى يتساوى الأقسام ، بأن يقوم تلك العروض المراد قسمتها ، وهل المراد بقسمة الرد هي ما اشتملت على رد من أحد الطرفين دراهم أو عروضا في مقابلة الزيادة من الطرف الأخر أو ما هو أعم من ذلك ومن التعديل والتسوية بين الأقسام! وان لم يحتج الى رد.

وبالجملة المراد بقسمة الرد التعديل ، لا الرد الحقيقي ، قولان. والأول منقول عن الدروس ، وبالثاني صرح المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه).

أقول : ويؤيد الأول قولهم أنه يقسم ما اشتمل على الرد قسمة تراض ، وكيف كان فالاحتياج الى العدلين ، وعدم الاكتفاء بالواحد لأن القسمة يتوقف على التقويم ، فلا بد من مقومين عدلين ، ليكونا حجة شرعية ، ولانه لا يحصل الوثوق بحيث يلزم الا بقولهما ، هذا إذا لم يتراضيا بينهما بالقسمة بأنفسهما أو بشخص يتفقان عليه ، عدل أو غير عدل ، لان الرضا سيد الأحكام كما قيل.

قالوا : وأجرة القسام من بيت المال ، لانه موضوع لمصالح العامة ، ولو لم

١٧٨

يكن فيه شي‌ء أو لم يكن ثمة بيت مال فمن مال الشركاء ، لانه لمصالحهم فهو كالكيال والوزان لهما ، وينبغي أن يكون ذلك بالحصص بينهم ، بأن يقسم أجرة المثل على الحصص ، فيعطى كل بنسبة ماله.

أقول : لا يخفى أنه لا وجود لهذه الأحكام في الاخبار كما أشرنا إليه آنفا ، وان كان بعضها يمكن استنباطه ، وعمومات الاخبار في غير هذا المقام يأتي ان شاء الله في كتاب القضاء ، وفق الله تعالى للوصول اليه.

الفصل الثالث في لواحق هذا الباب :

وفيه أيضا مسائل الأولى ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا باع الشريكان المتاع صفقة بثمن معلوم ثم استوفى أحدهما من المشترى شيئا من الثمن ، فإنه يشاركه فيه الأخر ، واحترزوا بقولهم صفقة عما إذا باع كل منهما نصيبه بعقد على حدة ، فإنهما لا يشتركان فيما يقتضيه أحدهما إجماعا.

والأصحاب فرضوا هذا الحكم في بيع الشريكين المتاع صفقة ، لمناسبة باب الشركة ، والا فهو يجري أيضا فيما لو كان سبب الشركة ميراثا ونحوه ، ولم ينقل الخلاف في هذه المسئلة الا عن ابن إدريس ، فإنه منع من الشركة فيما يقتضيه أحدهما لنفسه من ذلك المال المشترك ، وحكم به لقابضه.

قال : وإذا كان بينهما شي‌ء فباعاه بثمن معلوم ، كان لكل منهما ان يطالب المشترى بحقه ، فإذا أخذ حقه شاركه فيه صاحبه على ما قدمناه ، لان المال الذي في ذمة المشترى غير متميز ، فكل جزء يحصل من جهته ، فهو شركة بعد بينهما على ما ذكره شيخنا في نهايته ، «والذي يقتضيه أصول مذهبنا أن كل واحد من الشريكين يستحق على المدين قدرا مخصوصا وحقا غير حق شريكه ، وله هبة الغريم ، وإبراءه منه ، فمتى أبرءه أحدهما من حقه برء منه فقط ، وبقي حق الأخر الذي لم يبرءه منه فقط بلا خلاف ، فإذا استوفاه وتقاضاه منه لم يشاركه شريكه الذي وهب ، أو

١٧٩

أبرأ أو صالح منه على شي‌ء بلا خلاف.

فان كان شريكه بعد في المال الذي في ذمة الغريم ، لكان في هذه الصور كلها يشارك من لم يهب ولم يبرء فيما ، يستوفيه منه ويقبضه ، ثم ان عين المال الذي كان شركة بينهما ذهبت ولم يستحقا في ذمة الغريم الذي هو المدين عينا لهما معينة ، بل دينا في ذمته لكل واحد منهما مطالبة نصيبه ، وإبراء ذمته وهبته ، وإذا أخذه وتقاضاه فما أخذ عينا من أعيان الشركة حتى يقاسمه شريكه فيها» ولم يذهب الى ذلك سوى شيخنا أبى جعفر الطوسي في نهايته ، ومن قلده وتابعه ، بل شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان لم يذكر ذلك في كتاب له ولا تصنيف ، وكذلك السيد المرتضى ، ولا تعرضا للمسألة ، ولا وصفها أحد من أصحابنا المتقدمين في تصنيف له جملة ، ولا ذكرها أحد من القميين ، وانما ذكر ذلك شيخنا في نهايته من طريق أخبار الآحاد أورد ثلاثة أخبار أحدها مرسل ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد لا يلتفت اليه ، ولو سلم الخبران الآخران تسليم جدل ، لكان لهما وجه صحيح يستمر على أصول المذهب والاعتبار ، وهو أن المال الذي هو الدين كان على رجلين ، فأخذ أحد الشريكين وتقاضا جميع ما على أحد الرجلين فالواجب عليه هنا أن يقاسم شريكه على نصف ما أخذه منه ، لأنه أخذ ما يستحقه عليه وما يستحقه شريكه أيضا عليه ، لان جميع ما على أحد المدينين لا يستحقه أحد الشريكين بانفراده ، دون شريكه الأخر ، فهذا وجه صحيح ، فيحمل الخبران على ذلك إذا أحسنا الظن براويهما ، فليتأمل ذلك ، وينظر بعين الفكر الصافي ففيه غموض ، انتهى.

وملخص استدلاله يرجع الى دليلين ، أحدهما أن لكل واحد من الشريكين أن يبرء الغريم من حقه ، ويهبه له ويصالح على شي‌ء منه دون الأخر ، ومتى أبرأه برء من حقه ، وان بقي حق الأخر ، وكذا إذا وهب أو صالح ، فكما لا يشارك من وهب أو صالح لشريك الأخر إذ استوفى حقه ، فكذلك لا يشاركه هو لو استوفى حقه.

وثانيهما أن متعلق الشركة بينهما كان هو العين وقد ذهبت ، ولم يبق عوضها

١٨٠