الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

ملكه التراب وقبله سلم من نقله ، وان امتنع من قبوله وجب نقله ، وان شق لما تقدم ، هكذا قالوا ، وفيه ما عرفت من التردد.

ولو صالحه على إبقاء الأغصان المذكورة في الهواء فالمشهور الصحة ، ومنع منه الشيخ ، بناء على أصله المتقدم ذكره من تفريع الصلح على البيع ، وأن الهواء تابع لا يصح افراده بالبيع ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في الموضع السادس من المقام الأول.

بقي الكلام هنا في أن الشيخ قد علل ذلك بعلة أخرى ، فقال : لو صالحه على إبقاء الغصن البارز الى ملك الغير في الهواء لم يصح ان كان رطبا ، لانه يزيد في كل حال ، ولا يعرف قدره ، وكذا ان كان يابسا لانه يتبع الهواء من غير قرار وذلك لا يجوز. انتهى ، ومرجع المنع إذا كان رطبا من حيث المجهولية في المصالح عليه ، فلا بد من معلوميته.

قال في المسالك بعد قول المصنف ولو صالحه على طرحه على الحائط جاز مع تقدير الزيادة أو انتهائها ما لفظه : والمراد بقوله مع تقدير الزيادة أو انتهائها ان الأغصان ان كانت قد انتهت في الزيادة ، بحسب ظن أهل الخبرة صح الصلح على إيقاعها مطلقا ، وان كانت أخذت في الزيادة فلا بد من تقدير الزيادة ليكون الصلح مضبوطا ، ولا بد مع ذلك من تقدير مدة الإقامة ، فلا يصح المؤيد على ما ذكره الجماعة. انتهى.

وحينئذ فالخلاف بينه وبين الأصحاب انما هو في صورة عدم الزيادة بأن يكون يابسا أو قد تناهت زيادته بحيث لا يزيد على ذلك بحسب نظر أهل الخبرة.

الثانية ـ قالوا : إذا كان لإنسان بيوت الخان السفلى : ولاخر بيوته العليا وتداعيا الدرجة ، فإنه يقضى بها لصاحب البيوت العليا مع يمينه ، لاختصاصه بالتصرف فيها بالسلوك الى بيوته العليا وان كانت موضوعة في الأرض التي هي لصاحب البيوت السفلى ، لان مجرد ذلك لا يوجب اليد ، وكما يحكم بها لصاحب العليا ، فكذا محلها ، هذا مع اختلافهما أيضا في الخزانة التي تحت الدرج.

أما لو اتفقا على أن الخزانة لصاحب البيوت السفلى ، وانما النزاع في الدرج

١٤١

خاصة ، فإنهم قالوا : ان الدرج حينئذ كالسقف المتوسط بين الأعلى والأسفل ، فيجري فيه الخلاف السابق ، فعلى تقدير القول ثمة بأن السقف لصاحب الغرفة ، فإنه يحكم هنا بالدرجة للأعلى مطلقا ، سواء اختلفا في الخزانة أم اتفقا على أنها للأسفل ، وانما يتجه الفرق على تقدير القول بالاشتراك ، فإنه مع الاتفاق على الخزانة يجعل الدرج هنا مشتركا بينهما كالسقف ثمة ، أما مع الاختلاف فيها فالحكم في الدرج ما تقدم من كونها للأعلى مع يمينه.

ولو تداعيا في الخزانة التي تحت الدرج خاصة كانا في دعويها على السواء ، والوجه فيه أن لكل منهما شاهدا بالملك ، أما صاحب الأعلى فلأنك قد عرفت أن له الدرجة : فيكون مكانها كذلك ، وان كان مكانها الهواء : لان الهواء كالقرار وأما صاحب الأسفل فلأنها متصلة بملكه ، بل هي من جملة البيوت السفلى ، وحينئذ فيقضى بها لهما بعد التحالف أو النكول كما تقدم.

أقول : ويمكن ترجيح دعوى صاحب الأسفل بأن يقال : أنه قد ثبت أن الهواء تابع للقرار ، ولهذا منع الشيخ كما تقدم من بيعه والصلح عليه منفردا عن القرار ، فالأصل فيه حينئذ أن يكون تابعا للقرار ، ومجرد وضع الدرجة فيه لا يستلزم الملك ، وتبعيته للدرجة في ذلك ، لأنه أعم من ذلك.

ولو تداعيا الصحن قالوا : ان ما يسلك فيه الى العلو يكون بينهما ، وما خرج عن ذلك فهو لصاحب الأسفل : والوجه فيه أن صاحب العلو لما افتقر سلوكه إليه إلى التصرف في قدر الممر كان له اليد عليه بذلك ، دون باقي الصحن ، فلا يد له عليه ، ولما كان صاحب الأسفل يشاركه في الانتفاع بذلك القدر مغدا ومجيئا كان له يد عليه أيضا ، فاقتضى ذلك الشركة فيه ، دون ما زاد ، لاختصاص صاحب الأسفل به ، وعلى هذا لو كان المرقى الى العلو خارجا عن الدهليز لم يكن لصاحب العلو مشاركة في العرصة ولا في الدهليز بالكلية ، إذ لا يدله على شي‌ء منهما ولو كان المرقى في وسط الصحن فمن أول الدهليز الى المرقى بينهما لتصرفهما فيه ، وما وراء ذلك فهو لصاحب الأسفل.

الثالثة ـ لو تنازع راكب الدابة وقابض لجامها ، فقيل : انه يقضى بها

١٤٢

للراكب ، لقوة يده وشدة تصرفه بالنسبة إلى القابض ، وهو قول الشيخ في المبسوط فإنه قال : انه يحكم بها لأقواهما يدا وآكدهما تصرفا ، وهو الراكب ، وبه قال المحقق في الشرائع والعلامة في المختلف.

وقيل : هما سواء في الدعوى وهو قول الشيخ في الخلاف : قال : إذا تنازعا في دابة وأحدهما راكب ، والأخر أخذ بلجامها ولم يكن مع أحدهما بينة ، جعلت بينهما نصفين ، لعدم دليل على وجوب تقديم أحدهما على الأخر. انتهى وبه قال ابن إدريس.

وقال في المسالك : ووجه التسوية اشتراكهما في اليد ، وقوتها لا مدخل له في الترجيح ، ولهذا لم يؤثر في ثوب بيد أحدهما أكثره كما سيأتي. نعم مع الراكب زيادة التصرف ، الا أنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا ، وتعريف المدعى والمنكر منطبق عليهما ، بتفسيراته ، وحينئذ فالقول بالتساوي أقوى بعد أن يحلف كل منهما لصاحبه إذا لم يكن بينة. انتهى.

أقول : فيه أن ما ذكره هنا جار في التنازع في السقف الذي بين الغرفة والدار السفلى ، مع أنه قد اختار هناك القول باختصاص صاحب الغرفة به لقوة يده ، فإنه قال بعد نقل تعليل العلامة الذي قدمنا نقله ثمة : ما لفظه ولان تصرفه فيه أغلب من تصرف صاحب السفلى ، والفرق بين المسئلتين غير ظاهر.

وقال في المسالك أيضا تفريعا على ما اختاره : ولا عبرة عندنا بكون الراكب غير معتاد فنية الدواب ، والمتشبث معتادا لذلك : وما ذكر حكم الدابة ، أما اللجام فلمن في يده ، والسرج لراكبه.

أقول : مقتضى ترجيحهم بالقرائن في أمثال هذه المقامات كما تقدم في غير موضع أنه لا مانع من الترجيح هنا أيضا بما منعه من كون الراكب غير معتاد لقنية الدواب ، وقابض اللجام معتادا لذلك.

ويؤيده ما ذكره المحقق الأردبيلي هنا حيث قال : ويمكن اعتبار القرائن مثل كون الدابة بحيث يعلم عادة كونها للراكب ، دون القابض : فيحكم له

١٤٣

أو بالعكس.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى اللجام والسرج فإنه رده المحقق المتقدم ذكره بالبعد ، قال : أنه يبعد أن يكون اللجام لشخص ، والدابة لاخر ، وكذا الجل والرحل فالحكم غير واضح ، انتهى.

أقول : ويؤيده ما تقدم في غير مقام من أن الأحكام انما تبنى على الافراد المتكررة الغالبة ، دون الفروض النادرة.

وكيف كان فان الحكم في هذه المقامات بمجرد هذه التعليلات من غير وجود نص واضح لا يخلو من مجازفة. والله العالم.

الرابعة ـ قيل : لو تنازعا ثوبا في يديهما لكن في يد أحدهما أكثره ، فهما سواء فيه لاشتراكهما في مسمى اليد ، ولا ترجيح لقوتها : والفرق بين هذه المسئلة وسابقتها عند هذا القائل هو أن التصرف الذي كان مع الراكب بالركوب زائدا على اليد ، منتف هنا فاختلف الحكم لذلك.

وأما على ما ذكره في المسالك في ما قدمنا نقله عنه من أنه يثبت شرعا كونه مرجحا يصير حكم المسئلتين من باب واحد ، فيحكم بالتساوي فيهما بعد حلف كل منهما لصاحبه ، قال في المسالك : نعم لو كان أحدهما لابسا للثوب والأخر ممسكا له فهي كمسألة الراكب والقابض ، لزيادة تصرف اللابس على اليد ، وربما قيل هنا : بتقديم اللابس ، لان الظاهر أنه لم يتمكن من لبسه ، الا وهو غالب مستقل باليد انتهى.

أقول : الظاهر أن هذا القول هنا يجرى مجرى القول بتقديم الراكب في مسئلة تنازع الراكب والقابض ، لأنهما مشتركان في زيادة التصرف بالركوب واللبس على مطلق اليد في كل من الموضعين ، ومقتضى ما ذكره في المسالك في تلك المسئلة من عدم ثبوت الترجيح بذلك ، ينبغي ان يجرى في هذا الموضع بمقتضى حكمه بالمساواة بين المسئلتين ، الا أنه أغمض النظر هنا عن ذلك ، وربما

١٤٤

أشعر كلامه هنا وإعراضه عن المناقشة بأن الحكم في الراكب والقابض هو ترجيح الراكب ، مع أنه خلاف ما قدمه ، وسيأتي إنشاء الله تعالى ما يوضح ذلك أيضا.

الخامسة ـ لو تداعيا جملا كان بيديهما بان كانا قابضين لزمامه ، ونحو ذلك مما يكون به كل واحد منهما ذائد ، ولأحدهما عليه حمل ، قالوا : ان القول قول صاحب الحمل ، لان وضع الحمل يستدعي كمال الاستيلاء ، فيرجح به صاحبه ، ولو كان لأحدهما حمل ، ولا يد للآخر فإنه لا شبهة في الترجيح لصاحب الحمل ، ولو كان أحدهما قابضا لزمام الحمل ، وللآخر عليه حمل ، كان كمسئلة الراكب والقابض ، بل الحمل أقوى دليلا على كمال الاستيلاء من الركوب. فان الركوب أسهل تعلقا من الحمل ، ولم ينقلوا في هذا الحكم خلافا ، وظاهره في المسالك القول بذلك على جميع هذه الوجوه ، خصوصا انه قال بعد ذكره نحو ما ذكرناه ، وفي الدروس جعل حكم الراكب ولابس الثوب وذي الحمل سواء في الحكم ، وهو كذلك انتهى ونحوه في الروضة.

وفيه كما ترى مخالفة ظاهرة لما قدمه في مسئلة الراكب والقابض ، حيث اختار التساوي ثمة ، وطعن في زيادة التصرف بالركوب بأنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا ، وفي هذا الموضع وافق الدروس في حكمه بترجيح الراكب واللابس وذي الحمل ، وتقديم قول كل منهم بيمينه ، فإنه قد صرح في الدروس واللمعة بذلك ، والمسئلتان في صفحة واحدة ليس بينهما إلا أسطر يسيرة ، ومثل ذلك وقع له في الروضة أيضا ، وهو عجيب من مثله (قدس‌سره).

السادسة ـ قالوا : لو تداعيا غرفة على بيت أحدهما ، وبابها إلى غرفة الأخر كان القول قول صاحب البيت ، لأنها موضوعة في ملكه ، فان هواء بيته ملكه ، لانه تابع للقرار ، ومجرد فتح الباب الى الغير لا يثبت به اليد ، ولا الملك ، فيقدم صاحب البيت بيمينه ، هذا إذا لم يكن من اليه الباب متصرفا في تلك الغرفة بالسكنى ونحوه ، والأقدم قوله ، لان يده عليها بالفعل ، فان التصرف مقتض لذلك ، ويد صاحب

١٤٥

الهواء انما كانت بالتبعية ليده على القرار ، واليد الفعلية أقوى من التابعة ، ويحتمل التساوي لثبوت اليد من الجانبين وعدم تأثير قوة اليد كما تقدم.

أقول : والحكم الأول لا اشكال فيه وأما الثاني فإنه لا يخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكروه أقرب. والله العالم.

١٤٦

كتاب الشركة

وهي بكسر الشين وإسكان الراء وبفتح الشين وكسر الراء : والبحث في هذا الكتاب يقع في فصول.

الأول ـ في حقيقة الشركة وما يتبعها ، وفيه مسائل الأولى ـ قد عرف المحقق في الشرائع الشركة بأنها اجتماع حقوق الملاك في الشي‌ء الواحد على سبيل الشياع ، ونحوه العلامة في التذكرة.

وقال في التذكرة أيضا : وسببها قد يكون إرثا أو عقدا أو مزجا أو حيازة بأن يقتلعا شجرة أو يغر فاماء دفعة ، وظاهر الشهيد الثاني في المسالك اعترافهم فيما ذكروه من هذا التعريف ، حيث قال : ان الشركة تطلق على معينين ، أحدهما ـ ما ذكره المصنف ، وهذا المعنى هو المتبادر من الشركة لغة وعرفا ، الا أنه لا مدخل له في الحكم الشرعي المترتب على الشركة من كونها من جملة العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول ، والحكم عليها بالصحة والبطلان ، فان هذا الاجتماع يحصل بعقد وغيره بل بغيره أكثر ، وثانيهما عقد ثمرته جواز تصرف الملاك للشي‌ء الواحد على سبيل الشياع فيه ، وهذا هو المعنى الذي به تندرج الشركة في جملة العقود ، ويلحقها الصحة والبطلان.

واليه يشير المصنف فيما بعد بقوله قيل : يبطل الشركة ، أعني الشرط والتصرف ، وقيل : يصح ، ولقد كان على المصنف أن يقدم تعريفها على ما ذكره ،

١٤٧

لأنها المقصود بالذات هنا ، أو ينبه عليهما معا على وجه يزيل الالتباس عن حقيقتها وأحكامها ، ولكنه اقتصر على تعريفها بالمعنى الأول إلى آخر كلامه.

أقول : لا يخفى على من تأمل الأخبار الجارية في هذا المضمار أنه لا يفهم منها معنى للشركة غير ما ذكره الفاضلان المتقدمان ونحوهما ، كالشهيد في اللمعة وغيره ، وهو المتبادر لغة وعرفا من لفظ الشركة ، وهذا المعنى الثاني الذي ذكره لا يكاد يشم له رائحة منها بالمرة.

ومن الاخبار الواردة في الباب صحيحة هشام بن سالم (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، قال : «سألته عن الرجل يشاركه في السلعة ، قال : ان ربح فله ، وان وضع فعليه».

وموثقة محمد بن مسلم (٢) «عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : سألته عن الرجل يشتري الدابة وليس عنده نقدها فاتى رجلا من أصحابه فقال يا فلان انقد عنى ثمن هذه الدابة والربح بيني وبينك فنقد عنه فنفقت الدابة ، قال : ثمنها عليهما لانه لو كان ربح فيها لكان بينهما ، وبمضمون هذه الرواية أخبار عديدة (٣).

وصحيحة ابن رئاب (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا ينبغي للرجل المسلم ان يشارك الذمي ولا يبضعه بضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه المودة».

ورواية الحسين بن المختار (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل يكون له الشريك فيظهر عليه أنه قد اختان منه شيئا ، إله أن يأخذ منه مثل الذي أخذ من غير أن يبين له؟ فقال : شوه ، لهما أنما اشتركا بأمانة الله وأنى لا حب له ان

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٣ ح ٧٢ والوسائل ج ١٣ ص ١٧٤ ح ١ و ٢.

(٣) الظاهر من رواية محمد بن مسلم وأمثالها أن منشأ الشركة هنا وسببها هو الصلح على أن ينقد عنه ثمن المبيع ويشركه فيه بالمناصفة. منه رحمه‌الله.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١ الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ح ١ الوسائل ج ١٣ ص ١٧٦ ح ١.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ١٩٢ ح ٣٥ الوسائل ج ١٣ ص ١٧٨ ح ١.

١٤٨

رأى منه شيئا من ذلك أن يستر عليه وما أحب له أن يأخذ منه شيئا بغير علمه» (١). الى غير ذلك من الاخبار الاتية في محالها إنشاء الله تعالى.

فهل تجد للشركة فيها معنى غير المعنى الأول ، وهو اجتماع حقوق الملاك في الشي‌ء الواحد على سبيل الإشاعة ، وأي قرينة فضلا عن الدلالة على العقد المذكور. نعم قد يكون سببها العقد كما تقدم بان يشترى اثنان مالا انصافا أو أثلاثا أو يشترى نصف حيوان بنصف حيوان آخر ، وقد يكون سببها الإرث ، ونحوه مما تقدم ، وعرفها بعضهم شرعا بأنها عقد جائز من الطرفين ، الى آخر ما تقدم في كلام الشهيد الثاني ، وأنت خبير بما ذكرنا بأنه لا عقد بالكلية ولا عاقد ، وانما الشركة هي اجتماع الأموال على الوجه المذكور ، فلا معنى لوصفه بالجواز.

نعم ، البقاء على حكمه أمر جائز بمعنى أنه لا يجب عليه الصبر على الشركة ، بل يجوز رفعها ، وأخذ حصته ، ثم بعد اجتماع هذه الأموال واشتراكها وامتزاجها لا يصح لأحد الشركاء التصرف فيها إلا بإذن باقي الشركاء ، وإذا أذن كل منهم لصاحبه صح التصرف في مال نفسه ومال غيره ، وهذه ثمرة العقد عندهم.

قال في التذكرة : الثاني الصيغة ، وقد بينا أن الأصل عصمة الأموال على أربابها وحفظها لهم ، فلا يصح التصرف فيها إلا بإذنهم ، وانما يعلم الرضا والاذن باللفظ الدال عليه ، فاشترط اللفظ الدال على الاذن في التصرف والتجارة ، فإذا أذن كل واحد منهما لصاحبه صريحا فلا خلاف في صحته.

__________________

(١) الظاهر أن النهى في هذه الرواية عن أخذ عوض ما خانه محمول على الكراهة ويشير اليه قوله وما أحب والأمر بالستر عليه وبذلك صرح ابن إدريس في كتابه حيث قال : ومتى عشر أحد الشريكين على صاحبه بخيانة فلا يدخل هو في مثلها اقتصاصا منه ، وذلك على طريق الكراية دون الحظر لأنه إذا تحقق أخذ ماله وعلم ذلك يقينا فله أخذ عوضه ، وانما النهى على طريق الكراهة والاولى والأفضل انتهى. وقال ابن الجنيد إذا وقف أحد الشريكين على أن شريكه قد خانه لم يجز له أن يخونه ، وهو صريح في التحريم والظاهر هو الأول وبه صرح العلامة في المختلف ايضا. والله العالم. منه رحمه‌الله.

١٤٩

انتهى.

وظاهره بل صريحه كما ترى أن مجرد الاذن كاف في جواز التصرف والتجارة ونحو ذلك ، وان عبر عنه بلفظ الصيغة الموهم للعقد.

ومثل هذا الكلام كلام الشهيد في اللمعة أيضا حيث قال : كتاب الشركة وسببها قد يكون إرثا أو عقدا أو مزجا بحيث لا يتميز ، الى أن قال : وليس لأحد الشركاء التصرف إلا بإذن الجميع ، لقبح التصرف في مال الغير ويقتصر على التصرف المأذون ، فإن تعدى ضمن ، قال الشارح بعد ذكر هذه العبارة الثانية : واعلم أن الشركة كما تطلق على اجتماع حقوق الملاك في المال الواحد على أحد الوجوه السابقة ، كذلك تطلق على العقد المثمر جواز تصرف الملاك في المال المشترك ، وبهذا المعنى اندرجت الشركة في قسم العقود ، وقبلت الحكم بالصحة والفساد ، لا بالمعنى الأول ، والمصنف أشار الى المعنى الأول بما افتتح به من الأقسام ، والى الثاني بالاذن المبحوث عنه هنا. انتهى.

أقول : مرجع كلامه السابق وكلامه هنا الى أن ارتكاب هذا التكلف انما هو لأجل إدخال الشركة في قسم العقود ، حيث نظموها في هذا السلك ، وفيه أن هذا انما يتم لو ثبت ذلك شرعا أو لغة أو عرفا ، وشي‌ء من هذه الأمور غير حاصل. أما عدم ثبوت الأخيرين ، فقد اعترف به فيما مضى من كلامه.

وأما الأول فلما عرفت من الاخبار ، إذ لا يستفاد من لفظ الشركة فيها أزيد من هذا المعنى اللغوي والعرفي ، نعم يتوقف التصرف بعد حصول الشركة بالمعنى الذي ذكرناه على الاذن ، وما يقع منهما عليه التراضي في التجارة ونحوها من التصرفات ، وتبعية الربح لرأس المال ونحو ذلك ، وبذلك يتم المقصود وان لم يدخل في باب العقود ، وهذا هو المفهوم من كلام الفضلاء المذكورين.

وأما قوله ان الشهيد في اللمعة أشار الى العقد الذي ادعاه بقوله : «وليس لأحد الشركاء التصرف إلا بإذن الجميع» بمعنى أن المراد بالاذن

١٥٠

العقد ، وحاصله أن لا يجوز التصرف الا بالعقد ، ففيه أن الاذن ليس منحصرا في اللفظ ، فضلا عن العقد المشتمل على قيود كثيرة ، وأحكام عديدة ، بل يحصل بالإشارة والكتابة والفعل.

وبالجملة فالمراد أن المدار على العلم بالرضا بأي نحو كان ، وعليه يترتب الأحكام التي جعلها منوطة بالعقد ، والظاهر أن هذا هو مراد أولئك الفضلاء حيث عرفوها بالتعريف الأول الراجع الى أن الشركة الحقيقة هي الاجتماع ، وعقبوه بذكر الاذن إشارة الى أن الأحكام يترتب على الاذن في التصرف في المال المشترك وأنه بذلك يصير عقدا جائزا ، فإطلاق العقد عليه تجوز ، وهو باب واسع في الكلام والا فإنه لا عقد ولا عاقد كما أوضحناه في المقام. والله أعلم.

المسئلة الثانية ـ قال في التذكرة : أركان الشركة ثلاثة ، الأول ـ المتعاقدان ويشترط في كل منهما البلوغ ، والرشد ، والعقد ، والاختيار ، والقصد ، وجواز التصرف ، والضابط أهلية التوكيل والتوكل ، لان كل واحد من الشريكين متصرف في جميع المال ، أما فيما يخصه فبحق الملك ، وأما في مال غيره فبحق الاذن (١) من ذلك الغير ، فهو وكيل عن صاحبه ، وموكل لصاحبه في التصرف في ماله ، فلا يصح وكالة الصبي ، لعدم اعتبار عبارته في نظر الشرع ، ولا المجنون ولا السفيه ، ولا المكره ، ولا الساهي والغافل والنائم ، ولا المفلس المحجور عليه ، لانه ممنوع من جهة الشرع من التصرف في أمواله ، ولا يفرق بين من يأذن من له الولاية عليهم في ذلك أولا إلا المفلس ، فإنه إذا أذن له الحاكم في التوكيل أو التوكل جاز ، وكذا السفيه ، الى أن قال الثاني الصيغة إلى آخر العبارة المتقدم نقله عنها آنفا.

ثم قال بعدها : ولو قال كل واحد منهما : اشتركنا واقتصرا عليه مع قصدهما

__________________

(١) قوله فبحق الاذن من ذلك الغير فيه تأييد لما قدمناه من أنه ليس المدار الا على الاذن وان سموه عقدا مجازا كما عبر به في صدر الكلام بقوله الأول المتعاقدان وكذلك قوله الثاني الصيغة ومرجع جميع ذلك الى الاذن بأي نحو كان. منه رحمه‌الله.

١٥١

الشركة بذلك ، فالأقرب الاكتفاء به في تسلطهما على التصرف به من الجانبين ، لفهم المقصود عرفا وهو أظهر وجهي الشافعية ، وبه قال أبو حنيفة ، والثاني ـ أنه لا يكفى لقصور اللفظ عن الاذن ، واحتمال قصد الاخبار عن حصول الشركة في المال ، من غير الاختيار بأن يمتزج المالان بغير رضاهما.

الى أن قال الثالث : المال ، يشترط في المال المعقود عليه الشركة أن يكون متساوي الجنس ، بحيث لو مزج ارتفع الامتياز بينهما ، وحصل الاشتباه بينهما سواء كان المال من الأثمان أو العروض ، كما لو مزج ذهب بذهب مثله ، أو حنطة بمثلها ، أو دخن بمثله ، الى غير ذلك مما يرتفع فيه المائز بينهما ، ولا خلاف في أنه يجوز جعل رأس المال الدراهم والدنانير ، لأنهما أثمان الأموال والمباعات ، ولم يزل الناس يشتركون فيها في زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى وقتنا هذا من غير نكير أحد في صقع من الأصقاع أو عصر من الأعصار فكان إجماعا.

وأما العروض عندنا يجوز الشركة فيها مع الشرط المذكور ، سواء كانت من ذوات الأمثال ، أو من ذوات القيم ، الى أن قال : مسئلة : لا تصح الشركة إلا بمزج المالين ، وعدم الامتياز بينهما عند علمائنا فالخلطة شرط في صحة الشركة ، ومتى لم يختلطا لم يصح ، وبه قال الشافعي ، ثم نقل عن أبي حنيفة أنه ليس من شرط الشركة خلط المالين ، بل متى أخرجا المالين وان لم يمزجاه وقالا قد اشتركنا انعقدت الشركة ، لأن الشركة انما هي عقد على التصرف ، فلا يكون من شرطها الخلط كالوكالة. انتهى المقصود من نقل كلامه.

أقول ، أما ما ذكره في المتعاقدين من الشروط فجيد ، الا أن قوله «لان كل واحد من الشريكين متصرف» الى آخره ، فيه أن ذلك غير معتبر في الشركة ، بل يكفى جواز التصرف من أحدهما بعد إذن الأخر ، وكذا قوله «في السقية بجواز التصرف مع اذن الحاكم كالمفلس» فان فيه إشكالا ، فإنه ليس له أهلية التصرف والمعرفة بالمعاملات وكيفية حفظ مال نفسه ، فكيف يسلطه الحاكم على تصرفه في مال نفسه وغيره.

١٥٢

وأما قوله في الركن الثاني «وانما يعلم الرضا والاذن باللفظ الدال عليه» ، فقد عرفت ما فيه من أن الاذن لا ينحصر في اللفظ ، فضلا عن العقد المخصوص ، ثم لا يخفى أن الشركة بهذا المعنى الذي ذكره واعتبر فيه هذه الأركان الثلاثة وهي التي يبحث عنها في هذا الكتاب انما هي الشركة المسببة عن المزج ، دون غيرها مما كان سببه الميراث أو الحيازة أو العقد مع أن هذه الأفراد سيما الثالث منها مما دلت الاخبار عن جريان بعض أحكام الشركة فيه ، مثل كون الربح بينهما ، أو النقص عليهما ونحو ذلك.

ثم أنه لا يخفى أيضا أن الظاهر من كلامهم أن المراد بالشركة ـ ما امتزج من المالين واشتبه فيه التميز بين الحقوق بحسب الظاهر ، لا ما كان كذلك بحسب الواقع ونفس الأمر ، بمعنى أن يصير كل جزء جزء من ذلك المال المشترك كذلك في نفس الأمر : فإن الغالب من أسبابها المزج ، وقد صرح في التذكرة فيما قدمنا نقله عنه بان ذلك أعم من أن يكون في الأثمان ، أو العروض التي من ذوات الأمثال مثل الحنطة والدخن.

نعم قد يتحقق الاشتراك النفس الأمري في الميراث. وشراء شي‌ء بالاشتراك ونحو ذلك ، ومن هنا يظهر من المحقق الأردبيلي المناقشة في اشتراط اتحاد الجنس ، حيث قال : فإن الشركة بالمعنى المتقدم (١) تجري في غير المتجانسين أيضا ، حيث ارتفع المائز ، وحينئذ فما ذكره في التذكرة في الركن الثالث في بيان المال الذي تجري فيه الشركة حيث اشترط تساوى الجنس في المال المشترك أثمانا وعروضا ـ محل تأمل ، فإنه متى ثبت أن الشركة تحصل بمجرد المزج الموجب لعدم تميز الحقوق ، وان لم يكن كذلك في نفس الأمر ، صح أيضا حصول الشركة في غير المتجانسين أيضا عند ارتفاع المائز ، وحصول الاشتباه ، وأيده أيضا بأن المدار في حصول الشركة على الاشتباه وهو حاصل في الموضعين فإنه قد يحصل التفاوت قيمة ووصفا في المتجانسين أيضا (٢) وهو واضح.

__________________

(١) ومراده بالمعنى المتقدم هو الشركة ظاهرا دون نفس الأمر. منه رحمه‌الله.

(٢) قوله قد يحصل التفاوت في المتجانسين الى آخره جواب عن سؤال مقدر وهو أن عدم حصول الشركة فيما لو كانا مختلفين غير متجانسين لحصول التفاوت قيمة ووصفا مع الاختلاف. منه رحمه‌الله.

١٥٣

وأيضا لا شك في تحقق الاذن في التصرف على وجه الشركة بالشراء بالعين المماثل وغيره ، فتحصل فائدة الشركة بل يحصل ذلك مع الامتياز أيضا ، الا أنه يكون الشركة باعتبار القيمة فلا مانع منها حينئذ.

أقول : ان كان مراده بما ذكره في غير المتجانسين من حصول الاشتباه وعدم المائز الذي جعله مناطا للشركة ، باعتبار عسر التميز بينهما ولو مجازا ، فما ذكره محتمل ، والا فإنه مع اختلاف الجنسين لا اشتباه ، بل التميز حاصل ، فإنه متى خلط حنطة بشعير ، فان الامتياز حاصل ، والاشتباه مرتفع الا انه يعسر تخليص أحدهما من الأخر فدعوى حصول الاشتباه وعدم المائز لا يتم إلا إذا كان باعتبار ما ذكرناه من التجوز عن عسر تخليص أحدهما من الأخر ، وان كان الجميع مشتركا في الاشتراك الظاهري ، دون النفس الأمري ، فان كلا من المشترك في الجنس كحنطة بحنطة ، أو المختلف كحنطة بشعير ، الاشتراك فيه انما هو بحسب الظاهر ، لا نفس الأمر.

وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو من إجمال ، وظاهره الميل الى ما قدمنا نقله عن أبي حنيفة من عدم اعتبار الامتزاج ، وأنه تصح الشركة مع الامتياز ، وأنت خبير بانا لم نظفر لهم بدليل على ما ذكروه من شرط التجانس ، ولا شرط الامتزاج ، بل ظاهر الاخبار العموم ، كما أنك قد عرفت أيضا أنه لا دليل على العقد الذي ادعوه ، وأن الشركة شرعا عبارة عن ذلك العقد ، والمفهوم من ظواهر الاخبار أنه إذ اشتركا في مال واتجرا به ترتبت عليه أحكام الشركة ، سواء كانت ثمة عقد أو لم يكن ، اتفق المال جنسا أو اختلف ، مزج بعضه ببعض أم لم يمزج.

ومنها رواية حسين بن المختار المتقدمة ، وحسنة الحلبي (١) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين اشتركا في مال فربحا ربحا وكان من المال دين ، الحديث. وقد تقدم في كتاب الدين.

وبالجملة فإن أبحاثهم وتفريعاتهم في هذه المواضع الخالية من النصوص قد جروا فيها على أبحاث مخالفيهم في ذكرها ، والبحث عنها ، ورجحوا منها ما

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٤٤ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٦٥ ح ١.

١٥٤

رجحوه بأفكارهم ، وردوا ما ردوه بذلك ، حيث أن كتب متقدمي الأصحاب خالية من هذه الأبحاث ، وهذه الفروع مقصورة على الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، وأول من سلك هذه الطريقة الشيخ (رحمة الله عليه) وتبعه من تأخر عنه. والله العالم.

تذنيب : قال في التذكرة : يكره مشاركة المسلم لأهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس وغير أهل الذمة من سائر أصناف الكفار عند علمائنا.

أقول : ويدل عليه صحيحة ابن رئاب (١) المتقدمة في المسئلة الاولى.

وما رواه الكافي عن السكوني (٢) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ان أمير ـ المؤمنين (صلوات الله عليه) كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي ، الا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها المسلم ، ومورد الروايتين الذمي ، (٣) ولعل دخول سائر الكفار في الحكم المذكور من باب الأولوية ، لأنه إذا ثبت ذلك في أهل الذمة فغيرهم من سائر أصناف الكفار بالطريق الاولى.

المسئلة الثالثة ـ الشركة قد تكون في عين ، وهو ظاهر ، وقد تكون في منفعة كالإجارة والحبس والسكنى ، وقد تكون في حق كالاشتراك في الخيار ، والشفعة بالنسبة إلى الورثة ، والقصاص والرهن والحد وقد تقدم أن سببها قد يكون إرثا وهو يجري في الأقسام الثلاثة السابقة ، بأن يرثا مالا ، أو يرثا منفعة دار استأجرها مورثهم ، أو منفعة عبد موصى بخدمته ، أو يرثا حق شفعة أو خيار أو رهن ، وقد يكون سببها عقدا ، وهو يجري أيضا في الأقسام الثلاثة المذكورة ، فجريانه في العين بأن يشتريا دارا وفي المنفعة بأن يستاجراها ، وفي الحق بأن يشتريا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ح ١ باب مشاركة الذمي والتهذيب ج ٧ ص ١٨٥ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ح ٢ ، وهما في الوسائل ج ١٣ ص ١٧٦ ح ١ و ٢.

(٣) ومنها روايات عديدة تقدمت في كتاب الدين وهي بهذا المضمون في رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر يرد على صاحبه قال : نعم ما يذهب ماله منه رحمه‌الله.

١٥٥

بخيار ، وقد يكون حيازة ، وهو انما يتصور في العين خاصة.

وسببية الحيازة اما بأن يشتركا في نصب حبالة الصيد المشترك ، ورمى السهم المثبت له فيشتركان في ملكه ، أو بأن يقتلعا شجرة أو يقترفا ماء دفعة ، فإنه يتحقق الشركة بذلك في الجملة ، الا أنه يكون لكل منهما من ذلك المحاز بنسبة عمله ، ويختلف ذلك بالقوة والضعف ، ولو اشتبه مقدار كل واحد فطريق التخلص الصلح ، وما كان من الحيازة على غير الوجوه المذكورة فإنه يختص كل بما حازه على الأظهر.

هذا مع تميزه ، لأنه في معنى شركة الأبدان ، وهي جائزة على الأشهر الأظهر ، اما مع امتزاجه فإنه يكون مشتركا ، لكن لا من حيث سببية الحيازة ، بل من حيث المزج الذي هو أحد الأسباب كما عرفت ، كما لو امتزج المالان وهو خارج عن محل الفرض.

وقد يكون مزجا وهو انما يتصور في العين خاصة ، وينبغي أن يعلم أن سببية المزج في الشركة أعم من أن يكون المزج اختيارا أو وقع ذلك اتفاقا ، بأن وقع أحد المالين على الأخر وامتزجا على الوجه المعتبر في الشركة ، فإنه يثبت بذلك الشركة ، وضابط الامتزاج الذي يثبت به الشركة عدم التميز ، فلهذا اعتبر فيه الاتفاق في الجنس والصفة عندهم ، فلو لم يكونا من جنس واحد وتحقق الامتياز وان عسر التخلص كما في مزج الحنطة بالشعير فإنه لا شركة هنا ، ومثله الدخن بالسمسم ، وكذا لو لم يكونا على صفة واحدة كحبة الحنطة الحمراء بغيرها ، فإنه لا شركة أيضا.

ويأتي على ما تقدم نقله عن المحقق الأردبيلي حصول الشركة وصحتها في في الموضعين المذكورين إلا أنت قد عرفت ما فيه ولا فرق فيما ذكرنا من حصول الشركة بالامتزاج على الوجه المذكور بين الأثمان والعروض المثلية ، كالحنطة وغيرها من الحبوب ، وهو إجماعي عندنا ، ولم ينقل الخلاف هنا الا عن بعض العامة

١٥٦

حيث خص ذلك بالأثمان كالمضاربة (١).

بقي الكلام في العروض الغير المثلية كالثوب والخشب والعبد ونحو ذلك ، فهل يتحقق فيه الشركة بالمزج أم لا؟ وانما يتحقق بالإرث والعقد ، وبالأول منهما صرح في التذكرة ، حيث قال : تذنيب ، إذ اشتركا فيما لا مثل له كالثياب وحصل المزج الرافع للامتياز تحققت الشركة وكان المال بينهما ، فان علمت قيمة كل واحد منهما كان الرجوع الى نسبة تلك القيمة ، والا تساويا عملا بأصالة التساوي انتهى.

والثاني ظاهر المحقق في الشرائع ، حيث قال : أما ما لا مثل له كالثوب والخشب والعبد فلا يتحقق فيه المزج ، بل قد تحصل بالإرث أو أحد العقود الناقلة.

وظاهره في المسالك الميل الى ما ذكره العلامة في التذكرة ، حيث اعترض المصنف هنا ، فقال : في عدم تحققه بالمزج مطلقا منع بين ، بل قد يتحقق كالثياب المتعددة المتقاربة في الأوصاف ، والخشب كذلك ، فيتحقق الشركة فيه والضابط عدم الامتياز ، ولا خصوصية للمثلي والقيمي في ذلك. انتهى.

ثم انه على تقدير القول الأول من ثبوت الشركة هنا فان علم قيمة ما لكل واحد منهما كان الاشتراك بنسبة القيمة ، فان لم تعلم فهل يحكم بالتساوي؟ لأنه الأصل أم يرجع الى الصلح ، قولان : أولهما صريح عبارة التذكرة المتقدمة ، وثانيهما اختياره في المسالك ، وهو أيضا ظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث قال بعد الكلام في معنى عبارة التذكرة المذكورة : ما لفظه ، الا أن في الحكم ـ مع عدم العلم بالقيمة ـ بالتساوي ـ للأصل محل التأمل ، بل ينبغي هنا الصلح

__________________

(١) هذا الخلاف من بعض العامة انما هو بالنسبة إلى الشركة شرعا لا بالنسبة إلى المعنى المشهور المفهوم منها لغة وعرفا فإنه لا خلاف بين الخاصة والعامة في تحققها بمجرد الامتزاج كيف اتفق مع التماثل. منه رحمه‌الله.

١٥٧

والتراضي ، فإن مساواة الاعراض بحسب القيمة مع تخالف الجنس نادر ، والأصل لا يقتضي ذلك. نعم مع التشاح وعدم الرضا بالصلح ، لا وجه للخلاص سوى ما ذكره ، فيقسمان جميع المال قسمة متساوية مع عدم العلم بالتفاوت أصلا ، ومعه ومع الاشتباه يمكن القرعة انتهى.

وأنت خبير بما في قوله : «فإن مساواة الاعراض بحسب القيمة مع تخالف الجنس نادر» من الغفلة ، فإن الجنس هنا غير مختلف ، إذ محل البحث في القيمي كالثياب والخشب ونحوها ، بمعنى أن المشترك بينهما ثياب متفقة في الأوصاف ، أو خشب كذلك ، أو نحو ذلك.

وعلى تقدير القول الثاني من عدم ثبوتها بالمزج في الصورة المفروضة ، فلو أراد الشركة باع كل منهما حصته مما في يده بحصته مما في يد الأخر ، ومثله ما لو أرادا الشركة في المثلي مع اختلاف الجنس أو الوصف.

ومثل هذه الحيلة في حصول الشركة ما لو وهب أحدهما صاحبه حصة من ماله ووهب الأخر كذلك أو باعه حصته بثمن معين ثم اشترى به حصة من الأخر ، والمراد من الشركة في جميع هذه الصور الشركة المشهورة لا الشركة الخاصة التي هي عبارة عن الاذن في التصرف. والله العالم.

المسئلة الرابعة ـ قال في التذكرة : الشركة على أربعة أنواع ، شركة العنان وشركة الأبدان ، وشركة المفاوضة ، وشركة الوجوه ، فأما شركة العنان فهي أن يخرج كل مالا ويمزجاه ، ويشترطا العمل فيه بأبدانهما ، الى أن قال : وأما شركة الأبدان بأن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبون بأيديهم ، كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم ، فما رزق الله فهو بينهم على التساوي ، أو التفاوت.

واما شركة المفاوضة فهو أن يشتركا ليكون بينهما ما يكتسبان ، ويربحان ويلتزمان من غرم وما يحصل لهما من غنم ، فيلزم كل واحد منهما ما يلزم الأخر من أرش جناية ، وضمان غصب ، وقيمة متلف ، وغرامة لضمان أو كفالة ، ويقاسمه فيما يحصل له من ميراث ، أو يجده من ركاز أو لقطة ، أو يكسبه

١٥٨

شركة المفاوضة أن يكون مالهما من كل شي‌ء يملكانه بينهما.

وأما شركة الوجوه فقد فسرت بمعان ، أشهرها أن يشترك اثنان وجيهان عند الناس لا مال لهما ، ليبتاعا في الذمة إلى أجل على أن ما يبتاعه كل واحد منهما يكون بينهما ، فيبيعاه ويؤديا الأثمان ، فما فضل فهو بينهما ، وقيل : أن يبتاع وجيه في الذمة ويفوض بيعه الى خامل ، ويشترطان أن يكون الربح بينهما ، وقيل ان يشترك وجيه لا مال له ، وخامل ذو مال ليكون العمل من الوجيه والمال من الخامل ، ويكون المال في يده لا يسلمه الى الوجيه ، والربح بينهما ، وقيل : أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ، ليكون بعض الربح له ، ولا يصح شي‌ء من أنواع الشركة سوى شركة العنان انتهى كلامه (قدس‌سره).

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ أن ما ذكره من أنه لا يصح شي‌ء من هذه الأنواع سوى شركة العنان هو المشهور بين الأصحاب ، وقال ابن الجنيد : لو اشترك رجلان بغير رأس مال على أن يشتريا ويبيعا بوجههما جاز ذلك ، ولو اشترك رجلان وكان من عند أحدهما بذر وبقر ، وعلى الأخر العمل والخراج ، كانت الشركة جائزة بينهما ، ولو اشترك رجلان على أن يعملا عملا لكل واحد منهما فيه عمل منفرد (١) أو أن يكون يداهما جميعا في العمل ، وتقسم الأجرة بينهما لم يجز ذلك ، لان الأجرة عوض عن عمل ، فإذا لم يتميز مقدار عمل كل واحد منهما لم آمن أن يلحق أحدهما غبن أو أن يأخذ ما لا يستحقه ، فان تتاركا الفضل وتحالا ، أو يضمن أحدهما بالعمل ثم قسمه على الأخر من غير شركة جاز انتهى.

وهو ظاهر في جواز شركة الوجوه ، وشركة الأبدان على التفصيل المذكور :

__________________

(١) قال في المسالك : لا خلاف عندنا في بطلان شركة الأعمال الا من ابن الجنيد حيث أجازها مع تشاركهما الفضل أو عمل أحدهما وقسمته على الأخر من غير شركة ، مع أنه راجع الى بطلانهما لان تداركهما الفضل بعد مزج الأجرتين وتحالهما أمر خارج عن صحة هذه الشركة وكذا لو تبرع أحدهما عن الأخر بمشاركته في أعماله انتهى. وهو جيد. منه رحمه‌الله.

١٥٩

وان شركة الوجوه عبارة عن المعنى المشهور المذكور في كلام العلامة.

قال العلامة في المختلف ـ في مقام الرد عليه : لنا إجماع الفرقة ، وخلاف ابن الجنيد غير معتد به ، لانقراضه ، وحصول الاتفاق بعده ، ولأن الأصل عدم الشركة ، وبقاء حق كل واحد عليه ، ولانه ضرر عظيم ، ولأن الشركة عقد شرعي يتوقف على الاذن فيه. انتهى.

والمفهوم من كلامه وكذا غيره من الأصحاب هو بطلان الشركة في جميع الأنواع المتقدمة ما عدا شركة العنان ، وظاهر المحقق الأردبيلي المناقشة هنا في بعض المواضع حيث قال : بعد نقل قول العلامة في التذكرة : وأما شركة الأبدان فعندنا باطلة ، سواء اتفق عملهما أو اختلف ، بأن يكون كل واحد منهما خياطا ، ويشتركا في فعل الخياطة ، أو يكون أحدهما خياطا والأخر نجارا ، أو يعمل كل واحد منهما في صنعة ، ويكون الحاصل بينهما ، وسواء كانت الصنعة البدنية في مال مملوك ، أو في تحصيل مال مباح ، كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب.

فقال المحقق المشار اليه ولا يظهر دليل على عدم الجواز ، سوى الإجماع ، فإن كان فهو ، والا فلا مانع ، فإنه يرجع الى الوكالة في بعض الأمور (١) وتمليك مال في البعض الأخر ، وبذل نفس وعمل في مقابله عوض ، ولا مانع منه في العقل والشرع ، ولهذا جوز بعض أقسامها بعض العامة ، ثم نقل عنه أيضا أن شركة المفاوضة عندنا باطلة ، وليس لها أصل ، وبه قال الشافعي ، ومالك ، ثم نقل عنه أيضا في شركة الوجوه أنها عندنا باطلة ، وبه قال الشافعي ومالك ، ثم قال : والبحث فيهما مثل ما تقدم فتأمل. انتهى.

__________________

(١) الظاهر ان الرجوع الى الوكالة في مثل الشركة في الاحتطاب ونحوه فان كلا منهما جعل الأخر وكيلا عنه في ذلك وتمليك المال في ما لو تبرع أحدهما في ماله وأعطى شريكه حصة من الربح فإنه يرجع الى تمليك مال وأما الثالث فلا أعرف له وجها منه رحمه‌الله.

١٦٠