الحدائق الناضرة - ج ٢١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٥

الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى.

السابع ـ قالوا : لو سقط الروشن فسبق جاره الى وضع روشن في ذلك الهواء لم يكن للأول منعه ، لأن الأول لم يملك الموضع بوضع الروشن فيه ، وانما اكتسب بوضعه الأولوية ، كالقعود في المسجد.

بل قال في التذكرة : لو هدمه جار قهرا وتعديا ثم وضع الجار روشنا أو جناحا في محاذاته ومده الى مكان روشن الأول جاز ، وصار أحق به ، لأن الأول كان يستحق ذلك بسبقه اليه ، فإذا أزال وسبقه الثاني إلى مكانه كان أولى ، كرجل جلس في مكان مباح كمسجد أو درب نافذ ثم قام عنه أو أقيم ، فإنه يزول حقه من الجلوس ، ويكون لغيره الجلوس في مكانه. وليس للأول إزعاجه ، وان أزعج الأول فكذا هنا ، ثم نقل المنع عن بعض الشافعية.

وملخص كلامهم أنه انما يزول حقه بالإعراض عن إعادته لا بالهدم والانهدام كالجالس في المكان للأولوية ، وبذلك صرح غيره أيضا ، وظاهره أن غاية ما يلزم الثاني بكسر روشن الأول الإثم والضمان خاصة ، والا فإن أولويته تزول بذلك.

ولا يخفى ما فيه من الاشكال ، لعدم النص في ذلك مع ظهور كون الثاني غاصبا وان لم يكن غصب ملك بل غصب أولوية ، فإطلاق أدلة الغصب وعمومها يشمل مثل ذلك.

وقد تنبه لما ذكرناه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ، حيث أنه بعد نقل كلام التذكرة وما ذكره من كلام بعض الشافعية ، قال : والذي يتخيل أولوية قول بعض الشافعية ، إذ لا شك في حصول الأولوية ، والأصل بقاؤها ، ومعلوم زوالها بالإعراض لا غير ، والظاهر أنه ليس بأقل من التحجير قهرا يمكن عدم زوال أولوية الحجر ، وبالجملة الحكم ليس بمنصوص ولا مجمعا عليه على الظاهر ، فليس ببعيد قول بعض الشافعية ، ولا شك أنه أحوط ، انتهى.

وأشار بقوله : ليس أقل من التحجير الى آخره ـ وان كانت العبارة لا يخلو من غموض ولعله لغلط في الكتاب المنتسخ منه ـ الى ما صرحوا به ثمة من أنه بالتحجير الذي هو شروع في الإحياء لا يصلح لغيره التخطي اليه وان لم يفد ملكا ، بل

١٢١

انما يفيد أولوية ، وهو نظير ما نحن فيه ، فيكون مؤيدا لما ذكرناه.

ويؤيده أيضا ما تقدم في أحكام المساجد من كتاب الصلاة بالنسبة إلى السابق الى موضع منها من تصريح شيخنا الشهيد الثاني بأنه لو أزعجه مزعج فلا شبهة في إثمه ، وهل يصير أولى بعد ذلك يحتمله ، لسقوط حق الأول بالمفارقة ، وعدمه للنهى ، فلا يترتب عليه حق ، ويتفرع على ذلك صحة صلاة الثاني وعدمها ، مع أنه (قدس‌سره) ممن وافق العلامة فيما نقلناه عنه في كتاب المسالك ، والحكم في المسألتين من باب واحد ، والله العالم.

المقام الثاني ـ في الطرق وهي على قسمين ، نافذة ويقال شارعة ، ومرفوعة والكلام في هذا المقام يقع أيضا في مواضع ، الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في جواز فتح الأبواب المستحدثة في الطرق النافذة ، لأن المسلمين فيها شرع ، فيجوز احداث الأبواب فيها لمجاوزها ، سواء كان لتلك الدار باب آخر إليها أم الى غيرها من الطرق النافذة؟ أو المرفوعة.

أما الطرق المرفوعة فلا يجوز الا برضاء أهلها ، ولا حد الشركاء فيها إلا بإذن الباقين ، وكذا لا خلاف في جواز وضع الميازيب في الطرق النافذة ، واحتج عليه في التذكرة بأن الناس بأسرهم اتفقوا على وضع الميازيب ونصبها على سطوحهم قديما وحديثا من غير إنكار أحد منهم ، فكان إجماعا هذا إذا لم يتضرر بوضعها أحد ، فإن تضرر بوضعه وجب قلعه.

أقول : الأظهر الاستدلال على ذلك بأصالة الإباحة ، إذ لا شي‌ء هنا مما ربما يتوهم المنع منه الا الاستطراق الذي هو حق للمسلمين ، والمفروض أنه لا يضربه ، فيكون كوضعه مشرفا على الأماكن المباحة.

الثاني ـ يجوز فتح الروازن والشبابيك في الطرق النافذة بلا اشكال ، وكذا في الطرق المرفوعة وأن استلزم ذلك الاشراف على جاره ، لما تقدم من أن المحرم هو الاشراف والتطلع ، لا التصرف في الملك ، ليستفيد بذلك الاضائة في بيته.

نعم للجار وضع شي‌ء في ملكه يمنع الاشراف عليه وان استلزم سد الضوء ،

١٢٢

ولا فرق بين أن يكون لصاحب الحائط الذي فتح فيه الروزنة أو الشباك باب في تلك الدرب أم لا ، لان له رفع جميع الحائط ، وأن يضع عوضه شباكا فبعضه أولى.

نعم يمنع من فتح الباب لو لم يكن له باب قديم ، وان لم يستطرق فيه دفعا للشبهة ، اعنى شبهة استحقاقه التطرق ، والمرور من تلك الطريق ، وبهذا يفرق بين فتح الشباك والروزنة بل رفع جميع الحائط ، وبين فتح الباب ، فإن الشبهة المذكورة لا تترتب على الثلاثة الأول ، بل انما نترتب على الرابع ، فإنه بعد تطاول الزمان واشتباه الحال يمكن الاستناد إليه في استحقاق المرور والتطرق من تلك الطريق ، بخلاف رفع الجدار فضلا عن الشباك والروزنة ، فإنه لا يقتضي استحقاق المرور به بوجه ، هذا كله إذا لم يأذن أرباب تلك الطريق ، فلو أذنوا سقط.

الثالث ـ لو كان في السكة المرفوعة أبواب بعضها أدخل من الأخر فهل يشترك جميعهم في جميع السكة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم ، أم شركة كل واحد يختص بما بين رأس السكة وباب داره؟ لان محل تردده هو ذلك المكان خاصة ، المشهور بين الأصحاب الثاني ، والوجه فيه أن المقتضى لاستحقاق كل واحد هو الاستطراق ونهايته بابه ، فلا يشارك في الداخل ، فحكمه بالنسبة الى هذا الداخل الزائد على بابه حكم الأجنبي من غير أهل السكة.

وقيل : بالأول ، فيشترك الجميع في الجميع حتى في الفضلة الداخلة عن الأبواب وهو صدر السكة ان كان ذلك ، وعلل باحتياجهم الى ذلك عند ازدحام الأحمال ، ووضع الأثقال عند الإدخال والإخراج.

وقوى في الدروس هذا القول ، ونقل القولين في التذكرة عن الشافعية ، وقال : ان أظهر الوجهين لهم الثاني ، والمسألة غير منصوصة عندنا ، الا أن الأوفق بالقواعد الشرعية هو القول المشهور؟ ولو فضل في صدر الزقاق فضلة عن الاستطراق فظاهر الأصحاب أن أرباب الأبواب فيها سواء ولا أولوية لواحد على غيره لاستوائهم في الارتفاق بها. بخلاف ما بين البابين أو الأبواب ، فإن أدخلية الباب تقتضي الاستطراق اليه ، وهو مختص بالمستطرق ، فيتحقق الترجيح ، فالادخال ينفرد بما

١٢٣

بين البابين ، وهكذا لو كانت أكثر من بابين ، ويشترك الجميع في الطريقين أعنى صدر السكة الخالي عن الاستطراق ، لما تقدم ، وآخرها الزائد على الأبواب ، لاشتراك الجميع في استطراقه ،

قال في التذكرة : فعلى المشهور عندنا ان الأدخل عنده ينفرد بما بين البابين ، ويتشاركان في الطريقين ، ولكل منهما الخروج ببابه مع سد الأول وعدمه ، فان سده فله العود اليه مع الثاني ، وليس لأحدهما الدخول ببابه ويحتمله ، لانه قد كان له ذلك في ابتداء الوضع ويستصحب ، وله رفع جميع الجدار فالباب أولى انتهى.

أقول : الظاهر ان هذا الاحتمال مبنى على القول الأخر الذي تقدم تقويته عن الدروس ، والا فإنه يشكل بناء على المشهور من حيث اختصاص تملكه بما يستطرفه ، وهو الى الباب الموجود يومئذ ، فادخاله للباب الى داخل السكة مع أنه ملك غيره من أصحاب الأبواب الداخلة مشكل.

وأورد المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) هنا عليهم اشكالا قد أشرنا إليه في الموضع السادس من المسئلة السابقة ، قال (رحمه‌الله) ثم هيهنا اشكال وهو أنهم قد حكموا بكون المرفوعة ملكا لكل من فيها ، فالهواء والأرض كله ملك مشترك بين أربابها ، وأيضا قالوا : لا يجوز لأحد التصرف بإحداث الرواشن والأجنحة والساباط وفتح الأبواب المستحدثة حتى لغير الاستطراق أيضا ، وكذا وضع الميزاب ، سواء حصل الضرر أم لا إلا بإذن الأرباب ، فمعه يجوز مطلقا ، فهو مؤيد للاشتراك ثم حكموا هنا بالاختصاص بما بين البابين لذي الباب الأدخل والأول ، الى أن قال : فكأنهم جوزوا ما حرموه.

وقد تقدمه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فإنه أيضا أشار الى ذلك ، ويتفرع على ذلك ما أشرنا إليه آنفا من توقف وضع الجناح أو الروشن على اذن الجميع ، بناء على حكمهم بعموم الملك للجميع ، والتفصيل بما تقدم بناء على كلامهم هنا من اختصاص الداخل بما بين البابين.

الرابع ـ قال العلامة في التذكرة : يصير الموضع شارعا بأمور أن يجعل

١٢٤

الإنسان ملكه شارعا وسبيلا مسبلا ويسلك فيه شخص آخر ، أو يجي‌ء جماعة أرض قرية أو بلدة ويتركوا مسلكا نافذا بين الدرب والمساكن ، ويفتحوا اليه الأبواب ، أو يصير موضع من الموات جادة يسلك الناس فيها ، فلا يجوز تغييره ، وكل موات يجوز استطراقه ، لكن لا يمنع أحد من إحيائه بحصول الممر عليه ، فليس هو حكم الشوارع. انتهى.

وقال في الدروس : يجوز عمل سرداب في الطريق النافذ ، إذا أحكم أزجه ولم يحصر الطريق من وجهها ، ولو كان في المرفوع لم يجز وان أحكم إلا بإذنهم ، ومثله الساقية من الماء إذا لم يكن لها رسم قديم ، ومنع الفاضل من عمل الساقية وان أحكم الأزج عليها في النافذ ، أما لو بناها بغير أزج فإنه يمنع منها إجماعا ، ويجوز لكل أحد إزالتها انتهى.

المقام الثالث في الجدران :

والبحث فيها يقع في موارد الأول ـ الجدار بين الملكين اما أن يكون لواحد من صاحبي الملكين ، أو يكون مشتركا بينهما ، فان كان مختصا بأحدهما كان له التصرف فيه كيف شاء ، بهدم وبناء ونحو ذلك ، وليس للآخر وضع جذع ولا خشبته عليه الا بإذن صاحبه ، وهذا كله مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وان كان مشتركا لم يجز لأحدهما التصرف فيه الا بإذن الأخر ، كوضع وتد وفتح كوة ونحو ذلك ، حتى أنه عد في التذكرة من ذلك أخذ تراب ليترب به الكتاب ، فإنه لا يجوز إلا بإذن شريكه ثم استثنى من ذلك ما لا يقع المضايقة به كالاستناد اليه ، واسناد المتاع إليه إذا لم يتضرر الجدار بذلك ، وهذا الحكم عام في جدار الغير مطلقا ، لأنه بمنزلة الاستظلال بجدار الغير ، والاستضائة بسراجه ، ولو منع المالك أو الشريك من الاستناد فهل يحرم أم لا؟ جزم في التذكرة بذلك وتبعه في المسالك واستقرب في الدروس العدم لانتفاء الضرر قال في المسالك : وموضع الخلاف ما إذا كان المجلس للمستند والا لم يجز إجماعا.

١٢٥

الثاني : قالوا ، إذا التمس الجار وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على جاره اجابته. نعم يستحب ، واستدل في المسالك على الاستحباب بما روى عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله» من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يمنعن جاره من وضع خشبة على جداره».

أقول : لم أقف على هذا الخبر في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه من طريق العامة حيث انه نقل في المسالك أن بعضهم أجاز وضع الخشب بدون الاذن مستندا الى هذا الخبر.

وكيف كان فان عموم اخبار قضاء الحوائج للمؤمنين والتوصية بالجار ونحو ذلك مما يدل على الاستحباب في مثل ذلك ، فلا بأس به.

ثم انه لو أذن له في الوضع فله الرجوع في الاذن ما لم يضعه اتفاقا ، أما لو وضعه فقيل : انه ليس له الرجوع لاقتضاء الاذن في ذلك الدوام والتأبيد كالإذن في دفن الميت في الأرض ، وللإضرار الحاصل بالنقض حيث يفضى الى خراب ملك المأذون ، ذهب اليه الشيخ في المبسوط وجماعة ، والمشهور بين المتأخرين ، ومنهم المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم أن له الرجوع لأنه عارية ، والأصل جواز تصرف المالك في ملكه بأي نحو كان ، قالوا : والحاقه بالدفن قياس مع الفارق ، لتحريم نبشه ، لا من حيث تخريب البناء والإضرار يندفع بضمان الأرش.

أقول : وهذا الجواب جيد ، الا أن بعضهم احتمل جواز النقض مجانا من غير أرش ، بناء على أن الاذن إنما أفاد العارية ، ولازمها الرجوع متى أراد مع أصالة براءة ذمة المالك من ثبوت مال لغيره عليه على تخليص ملكه منه ، بل أصالة البراءة مطلقا.

والقائلون بالأول استندوا إلى أنه بناء محترم صدر بالاذن ، فلا يجوز قلعه الا بعد ضمان نقصه ، ولان فيه جمعا بين الحقين ، ولانه سبب الإتلاف لإذنه ، والمباشر ضعيف ، لأنه بالأمر الشرعي.

ثم انه على تقدير وجوب الأرش فهل هو عوض بما نقصت آلات الواضع بالهدم؟

١٢٦

أو هو عبارة عن تفاوت ما بين العامر والخراب؟ وجهان : اختار أولهما في المسالك ، وزاد المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) وجها ثالثا قال ، ويحتمل ثالثا وهو جميع ما أخرجه المالك في الجدار بعد وضع قيمة الآلات الموجودة منه ، فتدخل فيه أجرة الأكار وغيرها وهو الأظهر انتهى.

ولو اتفقا على بقائه بالأجرة زال الإشكال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق المذكور في شرحه على الإرشاد الميل الى مذهب الشيخ في المبسوط في هذه المسئلة (١) قال (قدس‌سره) : وظاهر المصنف بل الأكثر جواز إخراج الخشب المعار ، وان كان مستلزما للخراب على المأذون ، فيعطى الأرش ، ويحتمل عدم الجواز ، وهو مذهب الشيخ ، لأن العارية في مثل هذا للتأبيد ، فكأنه قال : أعرني بحيث يكون دائما عندي ما دام الجدار ، ولا يكون لك الرجوع بوجه ، والتزم ذلك فصار لازما ، لان المسلمين عند شروطهم ، ولأن الأصل في العقود اللزوم ، وخرجت العارية في غير محل النزاع بالإجماع ونحوه ، وبقي الباقي ولانه مستلزم للضرر ، «ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام». ، ولا ينجبر بالأرش ، إذ قد يكون بحيث لو لم يعر الخشبة لسهل عليه تحصيل غير الخشب يبقى دائما ، وقد تخيل بقاؤه دائما ، وحينئذ يخرب ملكه ، وقد لا يوجد من يبني أو يكون الخرج زائدا بكثير على الأول ولا يعارضه ان المنع أيضا ضرر على مالك الخشب ، لانه فعله بنفسه من غير إجبار ، مع أن العادة قاضية بأن مثل هذه العارية انما تكون للدوام ، فإن أحدا لا يرتكب مثل هذه العارية مع تجويز رجوع مالكه إذا كان

__________________

(١) قال (قدس‌سره) : الثالث على تقدير ثبوت الأرش فهل هو عوض ما نقصت آلات الواضع بالهدم أو تفاوت ما بين العامر والخراب ، وجهان : مبناهما على أن البناء إذا كان محترما فهو بهيئته حق لبانيه فيكون جبره بتفاوت ما بين كونه عامرا وخرابا ، لان ذلك هو نقص المالية ، ومن أن نقص هذه المالية مستند الى ملك صاحب الجدار فلا يضمن ، انما تضمن في نقصان الغير الذي كان سبب إتلافه وفواته وهو أقوى لأن جميعه مال للواضع غايته كونه موضوعا على ملك الغير وذلك الملك انما أثر جواز النقص لا المشاركة في المالية. انتهى. منه رحمه‌الله.

١٢٧

مستلزما للخراب ، كما في العارية للدفن ، ولا ينفع الفرق بأن النبش حرام وأنه قياس ، لما تقدم ، ولأن الغرض التمثيل والتأييد ، على أنه قد يقال به ، لظهور العلة المشتركة ، ويدفع الفرق بأنه على تقدير جواز الرجوع لا يكون النبش حينئذ حراما ، بل يكون هذه من الصور المستثنيات الكثيرة.

ثم ان الظاهر على تقدير الجواز ما كان ينبغي وجوب الأرش ، لأنه انما هو بسبب كونه عارية ، وهي جائزة دائما ، والمالك قد أضر نفسه بقبول العارية الجائزة ، فكأنه جوز على نفسه الرجوع والتخريب لما بنى ، فكأنه المخرب والمهدم ، فلا يتوجه أنه سبب ، ومالك الخشب مباشر ، على أنه إذا كان جائزا فله أن يجبر مالك الجدار بحكم الحاكم بدفع ماله اليه ، فيكون هو المباشر فتأمل ، انتهى أقول : والمسئلة لخلوها عن النص محل توقف واشكال ، والاعتماد على هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مجازفة ظاهرة ، سيما مع تدافعها كما عرفت.

نعم يمكن تأييد مذهب الشيخ بما دل على وجوب الوفاء بالوعد من الآية والرواية ، فإن هذه المسئلة وان كانت من قبيل العارية التي حكمها جواز الرجوع فيها ، الا أن قرائن الحال تشهد بأن المطلوب منها هنا الدوام ، فان المعير انما أعار جداره على هذا الوجه ، فلا يجوز له الرجوع بعد ذلك ، لما دل على وجوب الوفاء بالوعد ، ويؤيده حديث الوفاء بالشروط ، والله العالم.

تذنيبان :

الأول ـ قال في التذكرة : ان رفع صاحب الجذوع جذوعه لم يكن له إعادتها إلا بإذن جديد ، لأن الإذن الأول زال بزواله وكذا لو أذن في وضع روشن على حائطه أو جناح أو ساباط ، وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني أن له الوضع عملا باستصحاب الاذن الأول وكذا لو سقطت الجذوع أو الروشن أو الساباط أو الجناح بنفسه ، ولو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة فكذلك ، لأن الإذن لا يتناول إلا مرة ، وللشافعية وجهان ، ولو بناه بغير تلك الآلة

١٢٨

لم يعد الوضع إلا بإذن جديد عندنا وعند الشافعية قولا واحدا ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الاتفاق على التوقف على الاذن الجديد إذا كان البناء بغير تلك الإله مشعر بالخلاف فيما إذا بناه بتلك الإله ، الا أن ظاهره أن الخلاف إنما هو من الشافعية ، حيث قال : وللشافعية وجهان ، مع أن الشيخ قد صرح بذلك في المبسوط أيضا ، ونقله عنه الأصحاب.

ومنهم العلامة في المختلف قال : إذا أذن له في وضع الجذوع على جداره ثم استهدم الجدار للمعير نقضه ، فإذا أعاده قال الشيخ في المبسوط : ان أعاده بتلك الآلة لم يكن له منعه من رد الخشب والسقف عليه ، وان أعاده بغير تلك الآلة كان له منعه ، وقيل : ليس له منعه ، والأول أقوى (١) ، ثم قال في المختلف : والوجه الأخير لنا أنها عارية ، وللمالك الرجوع فيها خصوصا إذا لم يتضمن ضرر المستعير ، ولا ضرر هنا ، لأن إزالة الجذوع كان سائغا ، مع ان الشيخ قال أولا : لو انهدم الحائط أو أهدمه المستعير لم يكن له الإعادة إلا بإذن مستأنف ، وأى فارق بين الموضعين سوى مباشرة الهدم في الثاني دون الأول ، وتلك لا توجب دوام الإعارة بل نقول أبلغ من ذلك ، وهو أن المالك لو هدم الحائط من غير حاجة لم يكن للمستعير الإعادة وان وجب عليه الأرش ان قلنا به ، انتهى.

أقول : ومن أجل اضطراب كلام الشيخ واختلافه هنا كما سمعت من كلام المختلف لم يذكر كثير منهم خلاف الشيخ المذكور ، كما يشير إليه عبارة التذكرة ، وكأنهم أخذوا بقوله الموافق لما عليه الأصحاب من المنع من الرجوع مطلقا ، وأطرحوا هذا التفصيل الذي ذكره ، والقولان للشافعية ، والشيخ جمع

__________________

(١) أقول ومما اقرعه الشيخ على هذا التفصيل ما لو حلف أن لا يستند الى هذا الحائط ثم هدم وبنى بتلك الإله ، فإنه يحنث ، قال في المبسوط وقال العلامة في المختلف : ويقوى في نفسي أنه لا يحنث لأن الحائط الثاني ليس هو الأول ، لأن الحائط عبارة عن آلة وتأليف مخصوص ولا خلاف في أن تأليفه بطل انتهى ، منه رحمه‌الله.

١٢٩

بين الحكمين المختلفين.

إذا عرفت ذلك فهنا شي‌ء لم أعثر على من تنبه له ولا نبه عليه وهو أن ما ذكره الشيخ من التفصيل المتقدم نقله محل الخلاف منه انما هو الشق الأول ، وهو ما إذا أعاد الجدار بتلك الإله فالشيخ حكم بأنه ليس له منعه من الإعادة ، والأصحاب حكموا بالمنع ، وظاهر العبارة المذكورة ان الخلاف انما هو في الثاني ، والعبارة بهذه الكيفية قد ذكرها في المبسوط ، كما في نقل المختلف ، والمعنى لا يصح الا بإسقاط لفظ ليس ، مع أنها موجودة في الكتابين ، وقول العلامة في المختلف والوجه الأخير ثم علله بما ذكره انما يتم بحذف ليس ، لانه هو الوجه الأخير الذي في مقابلة التفصيل الأول ، والمراد أن له منعه مطلقا فليتأمل. والله العالم.

الثاني : لو وقع الصلح بينهما على وضع الخشب أو الجذوع على الجدار بشي‌ء صح ، لعموم أدلة الصلح الا أنه يشترط عندهم معرفة الخشب أو الجذوع الموضوعة طولا ووزنا ، لاختلاف ضرر الجدار باختلاف ذلك ، وتكفي المشاهدة عن اعتبارها بما ذكر ، ولكن لا بد من تعيين المدة وضبطها ، هذا إذا كان الصلح قبل البناء ووضع الخشب.

وأما لو كان بعده فإنه لا يفتقر الا الى تعيين المدة خاصة ، لأن الباقي صار معلوما ، قالوا : ولو كان الجدار غير مملوك بل موقوفا كجدار المسجد لم يجز التصرف بوضع شي‌ء عليه الا بإذن الحاكم الشرعي ، وليس له الإذن إلا بعوض ، وفي الجواز مع العوض بشرط عدم الضرر نظرا إلى المصلحة بحصول العوض وعدمه نظرا إلى أنه تصرف في الوقف بغير ما وضع له ، ولانه يثمر شبهة الاستحقاق بتطاول الأزمان ـ وجهان : أجودهما الأخير ، وهو خيرة الشهيدين في الدروس والمسالك.

الثالث ـ لو تداعيا جدارا فاما أن يكون لأحدهما عليه يد في الجملة ، أم لا يد بالكلية ، فعلى الثاني ان حلف عليه أحدهما مع نكول صاحبه قضى به للحالف ،

١٣٠

وان حلفاهما معا أو نكلا قضى به لهما انصافا ، وعلى الأول فاما أن يكون تلك اليد التي في الجملة مثل كونه في أرض أحدهما فإنه يحكم له به ، أو يكون متصلا ببنائه اتصالا يبعد به كونه محدثا ، كتداخل اللبن والأحجار ، ومثلهما ما لو كان لأحدهما عليه قبة أو غرفة أو نحو ذلك فإنه بجميع ذلك يصير صاحب يد ، فالقول قوله بيمينه مع فقد البينة ، وكذا لو كان لأحدهما عليه جذع أو جذوع ، لان حكم الجذع والجذوع حكم ما تقدم من المرجحات ، فيكون القول قوله مع يمينه ، ونقل عن الشيخ هنا أنه لا يقضى له بذلك ، قال في المبسوط : إذا تنازعا جدارا بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما ، ولأحدهما عليه جذع أو جذوع له يحكم له.

وقال ابن إدريس : يحكم لصاحب الجذوع ، قال في المختلف : وهو مذهب والدي (رحمه‌الله) وهو المعتمد ، لنا أنه متصرف فيه ، وله عليه يد دون الأخر ، فيحكم مع عدم البينة له بعد اليمين ، كغيره من الأموال ، ثم قال : احتج الشيخ بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه». ولم يفرق وأيضا فإن هذا الحائط قبل طرح الجذوع كان بينهما نصفين بلا خلاف ، فمن قال بطرح الجذوع بغير الحكم عليه والدلالة ، بل يقال لصاحب الجذع ، أقم البينة على انك وضعت هذه الجذوع بحق ، فإن أقامها ، والا كان على حاله قبل وضعها فيه ، وأيضا فإن وضع الجذوع قد يكون عارية لأن في الناس من يوجب اعارة ذلك ، وهو مالك ، فإنه قال يجبر على ذلك لقوله (عليه‌السلام) «لا يمنعن أحدكم جاره أن يوضع خشبته على جداره».

والجواب عن الأول أنا نقول : بموجب الحديث ، فان اليمين هنا على المدعى عليه وهو صاحب الجذوع ، لانه متصرف وذو يد ، فالقول قوله مع اليمين ، وعلى الأخر البينة ، لأنه مدع وخارج.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ١ والوسائل ج ١٨ ص ١٧٠ و ١٧١.

١٣١

وعن الثاني أن التنصيف ثابت مع عدم التصرف لتساوى نسبتهما اليه ، كما لو تداعيا عينا في يدهما أو يد ثالث لا يعترف لأحدهما ، فإنهما متساويان في الدعوى لعدم اليد ، أو لثبوتها لهما أما في صورة النزاع فان يد أحدهما ثابتة عليه ، فكان قوله مقدما ، والأصل وضع الجذوع بحق ، فلا يطالب صاحبها بإقامة البينة على ذلك ، الا أن يثبت الأخر دعواه ، والأصل عدم العارية ، والتخريج على المذهب الفاسد فاسد ، انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد ، ولو تفرقت هذه المرجحات بأن كان لأحدهما بعض ، وللآخر بعض ، بان كان البناء متصلا ببناء كل منهما ، أو اختص أحدهما بالجذوع والأخر بالقبة أو الغرفة ، أو نحو ذلك حكم باليد لهما ، فيرجع الكلام الى ما تقدم من اختصاص الحالف مع نكول الأخر ، أو القسمة بينهما مع حلفهما أو نكولهما.

قالوا : ولا يرجع دعوى أحدهما بالخوارج التي في الحيطان ، وهو كل ما خرج عن وجه الحائط من نقش ووتد ورف ونحو ذلك ، لإمكان احداثه من جهته من غير شعور صاحب الجدار به ، ونحوها أيضا الدواخل في الجدار كالطاقات غير النافذة ، والروازن النافذة لما ذكر ، وفيه على إطلاقه تأمل.

الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه لو انهدم الجدار المشترك وأراد أحد الشريكين عمارته دون الأخر ، فإنه لا يجبر الممتنع على المشاركة في عمارته ، وعللوه بأن الإنسان لا يجب عليه عمارة ماله.

وانما يبقى الكلام في موضعين أحدهما ـ أنه لو أراد أحد الشريكين عمارته فهل يتوقف على اذن شريكه الممتنع؟ أم يجوز البناء وان نهاه؟ قولان : وعلل الأول بأنه مال مشترك ، فيمتنع التصرف فيه بدون اذن الشريك ، كما في جميع المشتركات ، وعلل الثاني بأنه نفع وإحسان في حق الشريك حيث يعمر له حائطه ولا يغرمه في نفقته ، ولا ضرر عليه بوجه ، ونقل هذا القول عن الشيخ ، وفي المسالك قوى الأول.

وفي الحكم بقوته على إطلاقه إشكال ، لأنه ربما يتضرر الشريك بترك عمارته

١٣٢

فيلزم من عدم الاذن له الإضرار به ، وحديث (١) «نفى الضرر والإضرار». يدفعه ، وربما قيل بالتفصيل بين إعادته بالآلة المشتركة ، فلا يشترط رضاه ، وبين إعادته بآلة من عنده فيشترط ، لانه على الأول يبقى شريكا كما كان ، بخلاف الثاني.

ثم انه قال في المسالك : وحيث يتوقف البناء على اذن الشريك ويمتنع رفع أمره الى الحاكم ليجبره على المساعدة أو الاذن ، فإن امتنع اذن له الحاكم انتهى.

أقول : مقتضى ما قدمنا نقله عنه من تقويته القول الأول هو عدم جواز البناء لو لم يأذن ، وفيه ما عرفت آنفا ، ومقتضى كلامه هنا هو أنه يجبر على الاذن ، أو يأذن الحاكم نيابة عنه ، وهو على إطلاقه أيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنهم صرحوا بأنه لا يجب عليه عمارة ماله ، وظاهر كلامهم أنه أعم من أن يكون مشتركا أو مختصا به ، وسواء كان بنفقة ينفقها عليه أم لا ، فكيف يجبر على ذلك هنا ، والأظهر عندي انما هو التفصيل بما قدمنا ذكره من أنه مع ارادة الشريك التعمير وامتناع شريكه من ذلك ، فان كان في امتناعه ضرر على شريكه فإنه يجوز للشريك التعمير من غير اعتبار اذنه ، فيسقط الاذن هنا أيضا وقوفا على حديث «نفى الضرر والإضرار» والا فلا ، وقوفا على ما ذكروه من عدم وجوب تعمير الإنسان ماله ، ولا مدخل هنا للحاكم بوجه.

وثانيهما انهم قالوا : على القول باعتبار اذنه لو خالف وعمره بغير الاذن ، فهل للشريك نقضه؟ احتمال من حيث تصرفه في ملك غيره ، وتغيير هيئته ووضعه الذي كان عليه ، فصارت الكيفية الثانية كأنها مغصوبة ، فله إزالتها.

وفصل في المسالك فقال : الأقوى العدم ، ان كان بناه بالآلة المشتركة ، لان هدمه أيضا تصرف في مال الغير ، وهو الشريك الذي بنى ، فلا يصح كالأول ، وانما تظهر الفائدة في الإثم ، والجواز ان كان بناه بغير آلته ، لانه عدوان محض ، وتصرف في أرض الغير ، فيجوز تغييره. انتهى.

أقول : يمكن تطرق المناقشة الى ما ذكره (قدس‌سره) بأن البناء كما أنه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ ح ٢ ـ الفقيه ج ٣ ص ١٤٧ ح ١٨ ـ الوسائل ج ١٧ ص ٣١٩ ح ١.

١٣٣

مشتمل على الإله فهي أحد أجزائه فهي أيضا مشتملة على الكيفية المخصوصة وهي أحد أجزائه ، وكما يحصل العدوان والغصب بالبناء بغير آلته القديمة كما اعترف به ، يحصل أيضا بتغيير الهيئة والكيفية السابقة ، وبه يظهر أن قوله فيما لو بناه بالآلة المشتركة ـ ان هدمه أيضا تصرف في مال الغير وهو الشريك الذي بنى ـ غير تام ، لان هذا التصرف بناء على ما ذكرناه تصرف عاد غير جائز ، فيجوز إزالته ، وبما ذكرناه يظهر قوة الاحتمال الأول وضعف ما ذكره من التفصيل.

ثم ان الموافق لما قدمناه من التفصيل بالضرر وعدمه أن يقال : انه على القول باعتبار الاذن لو خالف وعمره بغير اذنه ، فان كان في نقضه ضرر على الشريك الذي بناه فليس للآخر نقضه ، عملا بالخبر المتقدم ذكره ، والا فله نقضه ، للعلة المذكورة في وجه الاحتمال من حيث التصرف في ملك الغير ، وتغيير هيئته ، ثم انه على تقدير تحريم الهدم لو هدمه الشريك لزمه الأرش ، كما لو هدمه ابتداء.

والله العالم.

الخامس ـ قالوا : لو اختلفا في خص قضى به لمن اليه معاقد القمط ، والخص بالضم البيت الذي يعمل من القصب ، والقمط بالكسر حبل يشد به الخص ، وبالضم جمع قماط ، وهي شداد الخص من ليف ، وخوص ، ويستفاد من الفقيه أن الخص هو الحائط من القصب بين الدارين ، وهو الأوفق بالأخبار الواردة في المسئلة ، وكذا يفرض المسئلة في كلامهم.

والذي وقفت عليه من الاخبار ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن منصور بن حازم (١) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن خص بين دارين فزعم أن عليا (عليه‌السلام) قضى به لصاحب الدار الذي من قبله وجه القماط. ورواه في الكافي بسند آخر في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (٢) مثله ، الا أنه قال : عن حظيرة عوض خص ، ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم مثله الا أن فيه «فذكر» عوض «فزعم» ، وروى في الفقيه بإسناده عن عمرو بن شمر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٦ ح ٩ ـ التهذيب ج ٧ ص ١٤٦ ح ٣٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٥ ح ٣ التهذيب ج ٣ ص ٥٦ ح ١.

١٣٤

عن جابر (١) «عن أبى جعفر عن أبيه عن جده عن على (عليهم‌السلام) أنه قضى في رجلين اختصما إليه في خص فقال : ان الخص للذي إليه القمط».

والأصحاب لم ينقلوا في هذه المسئلة إلا الرواية الأخيرة ، ولهذا قال في المسالك بعد نقله الرواية المذكورة : والطريق ضعيف ، الا أن الأصحاب تلقوها بالقبول ، وردها بعضهم ومنهم المصنف في النافع ، وقال انها قضية في واقعة ، فلا تتعدى ، وحينئذ فحكم الخص حكم الجدار بين الملكين انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بعد نقل ذلك عن المسالك وكأنه أوفق بالأصول والقوانين ، الا أنه يفهم من شرح الشرائع والتذكرة الإجماع عليه ، ثم ذكر رواية منصور بن حازم المتقدمة ، وقال : انها مروية بطريق صحيح ، وبطريق آخر حسن ، الى أن قال : فالمشهور لا بأس به ، ولا اعتبار بما تقدم ، وان احتمل كونها قضية في واقعة عرفها عليه‌السلام ، فلا تتعدى ، انتهى ملخصا.

وصدر كلامه (رحمه‌الله) يميل الى ما ذكره في النافع من طرح الرواية ، وجعل الخص المتنازع فيه كالجدار المتقدم ذكره ، وحكم التنازع فيه ، ثم ذكر رواية منصور المروية بطريق صحيح ، وآخر حسن ، ووافق المشهور في العمل بالرواية ، ونفى الاعتبار بما ذكره أولا ، الا أنه احتمل الوقوف على مورد الخبرين من غير أن يتعدى الحكم الى غير الخص ، والظاهر أن السبب في ذلك هو أن ظاهر الروايات المذكورة الاعتماد في ذلك على القرائن ، فهي تدل على اعتبار القرائن في إثبات الأحكام الشرعية ، مع أن الأمر بحسب الشرع ليس كذلك ، وحيث كانت الرواية بذلك متعددة مع صحة بعضها ، وجب الوقوف فيها على موردها. والله العالم.

السادس ـ قد تقدم الكلام في أنه لو انهدم الجدار المشترك لم يجبر شريكه على المشاركة في عمارته ، قالوا : وكذا لا يجبر صاحب السفل ولا العلو على بناء الجدار الذي يحمل العلو ، والوجه فيه أنه لا يجب على الإنسان عمارة ملكه ، لأجل

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٥٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٧٣ ح ٢.

١٣٥

الغير ، الا أن الشهيد في الدروس قيده بان لا يكون لازما بعقد ، بمعنى أن لا يكون حمل جدار العلو أو السقف لازما على صاحب جدار السفلى بعقد لازم فلو كان واجبا عليه ، فإنه يجبر وهو جيد ، ولو أراد صاحب الجدار الا على بناء الأسفل تبرعا فهل لصاحب الجدار الأسفل منعه أم لا؟ الكلام فيه كما تقدم في المورد الرابع ، وأطلق العلامة في التحرير أنه ليس له منعه ، هذا كله إذا انهدم الحائط بنفسه ، أو هدماه معا.

أما لو هدمه أحدهما بدون اذن الآخر أو بإذنه لكن بشرط أن يعمره ، فقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقيل : بأنه يجب عليه إعادته ، ونقل عن الشيخ (رحمه‌الله) وبه صرح المحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد ، ونقله في المسالك عن التذكرة ، الا أن الذي وقفت عليه في التذكرة خلاف ما نقله ، كما ستسمعه ـ إنشاء الله تعالى ـ من العبارة المشار إليها.

وقيل : بأن الواجب انما هو الأرش ، صرح به العلامة في القواعد والتذكرة ، قال في التذكرة : لو هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير اذن صاحبه ، فان كان استهدامه في موضع وجوب الهدم لم يكن عليه شي‌ء ، فان كان مما لا يجب هدمه ، أو هدمه وهو معمور لا يخشى عليه السقوط فقد اختلف قول علمائنا ، قال بعضهم ، يجبر الهادم على عمارته الى ما كان عليه أولا ، والأقوى لزوم الأرش على الهادم ، لان الجدار ليس بمثلي. انتهى.

ومنه يظهر لك غلط ما في نقله في المسالك عن التذكرة من القول بوجوب الإعادة ، وقيل. بالتفصيل في ذلك كما ذكره في الدروس ، قال : ولو هدمه فعليه إعادته أن أمكنت المماثلة ، كما في جدران بعض البساتين والمزارع ، والا فالأرش ، والشيخ أطلق الإعادة ، والفاضل أطلق الأرش انتهى.

وقال في المسالك بعد نقل ذلك عنه. وفيه مناسبة الا أنه خارج عن القواعد الشرعية لانتفاء المثلية في الفائت ، فإنه محض صفة ، إذ الأعيان باقية ، والمماثلة في الصفة بعيدة ، والقول بالأرش مطلقا أوضح.

وظاهر المحقق الأردبيلي الميل هنا الى ما ذكره في الدروس ، فإنه بعد أن

١٣٦

ذكر الاعتراض على القول بالإعادة ، بأن ضمان المثل انما يكون في المثلي ، والجدار قيمي لا مثلي ، وذكر أن القائل بذلك استند الى ما في التذكرة قال : ولا يخفى أن الإعادة غير بعيد فيما أمكن المماثلة في الجملة ، وان كان الجدار قيميا باصطلاحهم.

الا أن العرف قد يقضي بالمماثلة في بعض الجدران ، وعدم دقة فيها إذا كان المطلوب الحائل والمانع ، ولا يريدون في أمثال ذلك غير تلك المماثلة في الجملة ، فليس ببعيد الاكتفاء في أمثاله بهذا المقدار ، فان العقل يجد أن لا تكليف في أمثاله الا بالمثل ، وهو المضمون ، ويؤيده أن الأرش بعيد ، فإنه لا يسوى بعد الهدم إلا بشي‌ء قليل جدا ، والجدار الصحيح تكون له قيمة كثيرة ، بل المناسب على القول بالأرش أن يراد به ما يحتاج في تعميره بمثل ذلك التعمير ، وفيه أيضا تأمل إذ قد يتفاوت العمل والأجرة كثيرا فتأمل الى أن قال ـ بعد ذكر قوله في المسالك في الاعتراض على كلام الدروس أنه خارج عن القواعد الشرعية والخروج عن القواعد لوجه إذا لم تكن مأخوذة من النص الصريح لا بأس به. انتهى.

أقول : والمسألة كنظائرها محل اشكال ، لعدم المستند الواضح لشي‌ء من هذه الأقوال ، وتدافع التعليل في كل منها والاحتمال ، وان كان كلام الدروس لا يخلو من قرب في هذا المجال. والله العالم.

السابع ـ المشهور أنه إذا كان البيت لرجل وعليه غرفة لاخر فتداعيا جدران البيت فإنه يحكم به لصاحب البيت بيمينه ، ولو تداعيا في جدران الغرفة ، فالقول قول صاحبها بيمينه ، والوجه في ذلك أن جدران البيت جزؤه ، وجدران الغرفة جزؤها ، فيجب أن يحكم بهما لصاحب الجملة.

ونقل عن ابن الجنيد أن جدران البيت بينهما معا ، لان حاجتهما إليه واحدة بخلاف جدران الغرفة ، إذ لا تعلق لصاحب البيت بها ، قال في المختلف : قال في المبسوط : لو تنازع صاحب البيت والغرفة في حيطان البيت قضى به لصاحب البيت.

١٣٧

وقال ابن الجنيد : لو كان على رأس الدرج روشن ليستطرقه صاحب العلو وهو على منزل صاحب السفل كان الروشن لصاحب العلو ، واجذاع السقف وبواريه وجميع آلة السقف لصاحب العلو ، والحيطان الحاملة له بينهما مع موضعها من الأرض ، وكأنه نظر الى أن لكل من صاحب العلو والسفل يدا عليه ، وتصرفا فيه ، ولا بأس بهذا القول انتهى ، وظاهره الميل الى ما ذكره ابن الجنيد.

وقال في المسالك أيضا : أنه قول جيد ، لكن الأول أجود ، ولو كان التنازع في سقف البيت الذي هو أرض الغرفة فقد اختلف فيه كلامهم ، قال في المبسوط : فان لم يكن لأحدهما بينة حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ، فان حلفا كان بينهما نصفين ، والأحوط أن يقرع بينهما فمن خرج منهما حلف وحكم له به ، وقال في المختلف يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه حلف لصاحبه ، وحكم له به ، وان قلنا أنه يقسم بينهما نصفين كان جائزا ، واستدل بإجماع الفرقة على أن كل مجهول يستعمل فيه القرعة ، وهذا من الأمر المشتبه.

وقال ابن إدريس : يحكم لصاحب الغرفة بالسقف ، وقد تلخص من ذلك أن في المسئلة أقوالا ثلاثة ، القول باستوائهما فيه ، وهو قول الشيخ في المبسوط ، وقواه في الدروس : ووجهه اشتراكهما في الانتفاع به ، لانه سقف لصاحب البيت ، وأرض لصاحب الغرفة.

والقول بالقرعة ، وهو للشيخ أيضا كما عرفت ، واستحسنه المحقق في الشرائع ، ووجهه ما تقدم في كلام الشيخ ، وربما أورد عليه بمنع الاشتباه هنا ، لان رجحان أحد الطرفين في نظر الفقيه يزيل الاشتباه بالنسبة إلى الحكم ، وعندي فيه نظر ، إذ المفروض أنه لا نص في المسئلة ، والمرجح في نظر الفقيه بمجرد هذه التخريجات لا يخرج الحكم عن الاشتباه ، ان جوزنا للفقيه الترجيح بمثل ذلك ، والا فهو محل المنع أيضا ، فإن الحكم في المسائل الشرعية موقوف على النصوص من الكتاب والسنة : فلا تثبت بمجرد هذه التقريبات العقلية سيما مع تصادمها كما عرفت في أكثر مسائل هذا الباب.

١٣٨

والقول الثالث الحكم به لصاحب الغرفة ، وهو مذهب ابن إدريس ، وهو الظاهر من عبارة ابن الجنيد المتقدمة ، واختاره العلامة في جملة من كتبه ، واليه يميل كلامه في المسالك ، واستدل عليه في المختلف قال : لنا أن الغرفة انما يتحقق بالسقف ، إذ هو أرضها ، والبيت قد يكون بغير سقف ، وقد اتفقا على أن هنا غرفة لصاحبها ، وبدون السقف لا غرفة ، ولان تصرفه فيها دون صاحب السفلى.

أقول : ومرجعه الى أن السقف وان أمكن الانتفاع به لهما الا أنه بالنسبة الى صاحب الغرفة أغلب ، وفي حقه أضر فيكون الترجيح باعتبار أغلبية الحاجة وأضريتها ، ويرد عليه حينئذ أن ذلك يجري في جدران البيت الذي قد تقدم اختياره فيها القول بالاشتراك ، من حيث أن كلا منهما صاحب يد ، مع أن البيت لا يوجد الا بالجدران ، لأنها أجزاؤه ، ولا وجود للكل بدون الجزء ، بخلاف الغرفة ، فإنها يمكن أن تبنى على الأعمدة والأساطين ، ولا يتوقف على الجدران فيرجع الأمر هنا إلى أنهما وان اشتركا في الانتفاع بها الا أن صاحب البيت أضره بعين ما قاله في السقف : فان قيل : ان ما فرضتموه نادر ، قلنا : وجود البيت بدون السقف كذلك أيضا ، وبذلك يظهر لك ما في بناء الأحكام الشرعية على أمثال هذه التقريبات العقلية من المجازفة الظاهرة.

قال في المسالك : موضع الخلاف السقف الذي يمكن احداثه بعد بناء البيت ، أما ما لا يمكن كالأزج الذي لا يعقل احداثه بعد بناء الجدار الأسفل ، لاحتياجه إلى إخراج بعض الاجزاء عن سمت وجه الجدار قبل انتهائه ، ليكون حاملا للعقد فيحصل به التوصيف بين السقف والجدران ، وهو دخول آلات البناء من كل منهما في الأخر ، فإن ذلك دليل على أنه لصاحب السفل ، فيقدم قوله فيه بيمينه. انتهى. وهو كذلك والله العالم.

١٣٩

المقام الرابع في مسائل متفرقة من هذا الباب

الاولى ـ المشهور أنه إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار وجب على مالك الشجرة عطف تلك الأغصان إن أمكن ، والا قطعها ، لانه يجب عليه تفريغ أرض الغير وهواه من ماله كيف ما أمكن ، وان امتنع المالك من ذلك فلما لك الأرض والهواء تولى ذلك ، مقدما للعطف على القطع ان أمكن ، ولا يتوقف مالك الأرض مع امتناع مالك الشجرة على اذن الحاكم ، لان سبيل هذا الحكم سبيل بهيمة دخلت في ملكه ، فان له إخراجها من غير توقف على اذن الحاكم ، قالوا : وهكذا الحكم في العروق.

وربما قيل : بجواز ازالة مالك الأرض لها من دون مراجعة مالك الشجرة لأن إزالة العدوان عليه أمر ثابت له ، وتوقفه على اذن الغير ضرر ، ويؤيده ما تقدم من جواز إخراج البهيمة الداخلة في ملكه من غير مراجعة مالكها ، والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة أنه لا يجب على مالك الشجرة إزالة الأغصان المذكورة ، وان جاز لمالك الأرض ، مستندا إلى أنه ليس من فعله ، فلا يجبر على إزالته ، وهو خلاف ما تقدم من القول المشهور : ومرجع القولين إلى أنه هل يجب على الإنسان تفريغ أرض الغير من ماله إذا لم يكن ذلك بفعله أو لا يجب عليه ولا يخاطب به؟ وانما يكون الحكم متعلقا بصاحب الأرض ، فإن شاء تفريغ أرضه من مال الغير فله ذلك ، وجهان : ولا يحضرني الان دليل على ترجيح أحد الوجهين.

ولو قطع الأغصان المذكورة مالك الأرض مع إمكان عطفها ضمن بلا اشكال لكن هل يضمن جميع ما قطعه أم تفاوت ما بينه وبين المعطوف اشكال ، من التعدي بالقطع فيضمنه ، ومن أن العطف حق له ، وما يفوت به في حكم التالف شرعا ، فلا يضمن الا التفاوت ، ولعل الثاني أقرب.

وفي حكم أغصان الشجرة التراب المنتقل من ملكه الى ملك غيره ، والحائط المائل في هواء الغير فيجب المبادرة إلى تخليص الأرض والهواء منهما ، ولو

١٤٠