الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وما رواه في التهذيب عن إسماعيل بن الفضل (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يدفع الى الرجل بقرا وغنما على ان يدفع اليه كل سنة من ألبانها وأولادها كذا وكذا قال : ذلك مكروه».

أقول : الظاهر تقييد ما أطلق من الاخبار في كراهة أخذ الثمن بصحيحة عبد الله بن سنان الدالة على الجواز إذا كانت حوالب ، ويستفاد من الجميع ان المراد السمن من تلك الغنم التي يدفعها للراعي ، والمستفاد من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو أنه يجوز أن يعطى الغنم ونحوها الى من يرعاها بضريبة يضربها المالك على الراعي من نقد أو سمن بالشرط المتقدم ، وان ما عدا ما شرطه مما حصل من الغنم من لبن ودهن وصوف ونحو ذلك فهو للراعي في مقابلة قيامه بها وحفظها ودورانه بها في مواضع القطر والعلف ، وحينئذ يكون ذلك أجرة عمله.

لكن يشكل ذلك على قواعد الأصحاب من وجوب معلومية الأجرة وتعيينها ، والمفهوم من كلام ابن إدريس ان منعه لذلك ، لان دفعها على هذا الوجه من قبيل الإجارة ، وان الإجارة هنا باطلة ، لأن ثمرة الإجارة تمليك المنفعة ، دون العين ، والذي أخذه الراعي انما هو من الأعيان لا المنافع.

قال في السرائر : وقد روى «انه لا بأس ان يعطى الإنسان الغنم والبقر بالضريبة مدة من الزمان بشي‌ء من الدراهم والدنانير والسمن» وإعطاء ذلك بالذهب والفضة أجود في الاحتياط ويمكن ان يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه وهو ان يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان على ما وردت به الاخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأن الإجارة لا تصح هيهنا ، لأن الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة دون الأعيان منها ، والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لانه غرر وبيع مجهول والرسول عليه‌السلام نهى عن بيع الغرر ، فمن اثبت ذلك عقدا يحتاج الى دليل شرعي والذي ورد فيه اخبار

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٢١.

٦١

آحاد شذاذ ، وقد بينا أن اخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة انتهى.

والمراد من قوله «ويمكن ان يعمل بهذه الرواية الى آخره ، ان المالك يبيع الراعي ما في ضروع الغنم من الألبان مدة من الزمان بضميمة يضمها الى ذلك من لبن يحلبه منها أو عرض ، فتصير الألبان أو ما يخرج منها من سمن ونحوه للراعي بالبيع ، ويشترط عليه المالك بما يريد من سمن أو لبن أو دراهم ، فيكون ما يأخذه الراعي من السمن والألبان حلالا خاليا من الشبهة ، بخلاف ما لو لم يعمل كذلك ، فإنه لا وجه لاستحقاقه شيئا منها حتى انه يشترط عليه المالك بعضا ويترك له بعضا ، لأن أخذه للغنم بطريق الإجارة لها أو لالبانها غير صحيح ، لما ذكر من أن الإجارة انما تفيد تمليك المنفعة لا العين ، ولهذا ان العلامة إنما تفصى عن ذلك بان هذه المعاملة ليست من قبيل البيع ، ولا الإجارة ، وانما هي نوع معاوضة وتراض من الطرفين ، وان كان غير لازم شرعا لو أريد فسخه وإبطاله ، وهو جيد وقوفا على ظواهر الأخبار المذكورة والله العالم.

الخامسة قال الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع اللبن في الضرع ، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا واشتراه مع ما بقي منه في الضرع في الحال أو مدة من الزمان ، وان جعل معه عرضا آخر كان أحوط ، وبه قال ابن البراج وابن حمزة وابن الجنيد ، وقال الشيخ المفيد : لا يجوز بيع اللبن من الغنم الى وقت انقطاعه ، لان ذلك جزاف ومجهول ، ولا بأس ببيعه أرطالا مسماة ، وبه قال أبو الصلاح ، نقل جميع ذلك العلامة في المختلف.

ثم قال : وقال ابن إدريس لا يجوز ذلك ، وهو المعتمد ، لنا انه بيع مجهول ضم الى معلوم ، وكان المجهول أصلا في البيع ، فلم يصح لتطرق الجهالة ، إلى المبيع ، إذ انضمام المعلوم اليه لا يصير جملة المبيع ـ بل المقصود الذاتي ـ معلوما ، فيكون غررا انتهى.

٦٢

أقول أما ما نقله عن ابن إدريس ففيه أن الذي وقفت عليه في كتابه ظاهر بل صريح في موافقة كلام الشيخ المتقدم ، حيث قال في باب بيع الغرر والمجازفة ما لفظه : ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال أو مدة من الزمان على ما رواه أصحابنا ، وان جعل معه عرضا آخرا كان أحوط انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر الجميع الاتفاق على المنع من بيعه في الضروع حالا من غير ضم شي‌ء الا أن الشيخ ومن تبعه جوزوه مع الضميمة ، سواء كان بالنسبة إلى الموجود في الضروع وقت العقد ، أو ما يتجدد في الزمان المستقبلة ، والشيخ المفيد جوز ذلك أرطالا معينة ، ولم يتعرض لبيعه مع الضميمة نفيا ولا إثباتا ، والعلامة على الجواز مع الضميمة لكن بشرط ان يكون الضميمة هي المقصودة بالبيع ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

قال في المسالك في مسألة بيع السمك في الآجام مع القصب : والقول بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ وجماعة ، استنادا الى أخبار ضعيفة ، والذي أجازه المتأخرون أن المقصود بالبيع ان كان هو القصب ، وجعل السمك تابعا له صح البيع ، وان انعكس أو كانا مقصودين لم يصح ، وهو الأقوى ، وكذا القول في كل مجهول ضم الى معلوم كالحمل واللبن في الضرع وغيرهما انتهى.

ثم ان الذي وقفت عليه من الاخبار هنا اما بالنسبة الى ما ذكره الشيخ المفيد (نور الله تعالى مرقده) فهو ما رواه في الكافي والفقيه عن أبى ولاد الحناط (١) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له الغنم يحلبها لها ألبان كثيرة في كل يوم ما تقول فيمن يشترى منه الخمسمائة رطل أو أكثر من ذلك ، المأة رطل بكذا وكذا درهما فيأخذ منه في كل يوم أرطالا حتى يستوفى ما يشترى منه؟ قال : لا بأس بهذا ونحوه». ورواه الشيخ في التهذيب عن أبى ولاد في الموثق مثله على اختلاف

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٢٢ ، الفقيه ج ٣ ص ١٤٥ التهذيب ج ٧ ص ١٢٦.

٦٣

في ألفاظه :

وهذا الخبر يحتمل أن يكون البيع حالا وان كان يأخذ منه في كل يوم ما يريده ويحتمل أن يكون مؤجلا بآجال مختلفة فيكون من باب السلم ، ولعل الأظهر الأول كما هو ظاهر عبارة الشيخ المفيد ، والرواية ظاهر الدلالة على ما ذكره (قدس‌سره).

وأما ما يدل على ما ذكره الشيخ فهو ما رواه في الموثق ومثله الصدوق في الفقيه عن سماعة (١) قال : «سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع فقال : لا ، الا أن يحلب لك منه سكرجة فتقول : اشترى منك هذا الذي في السكرجة وما بقي في ضروعها بثمن مسمى وان لم يكن في الضرع شي‌ء كان ما في السكرجة».

والسكرجة بضم السين والكاف والراء المشددة إناء صغير فارسي معرب ، وأجاب العلامة في المختلف ـ ومثله غيره ممن تأخر ـ عن هذه الرواية بضعف السند ، وأنها غير مسندة الى امام ، وفيه ما لا يخفى على المتأمل المنصف ، فإنهم قد صرحوا بالاعتماد على مضمرات سماعة وغيره ، واستدلوا بها في غير موضع ، ثم قال في المختلف : ويحمل على ما إذا كان المحلوب يقارب الثمن ، ويصير أصلا.

واما ما ذكروه في اشتراط صحة البيع بالضميمة بأن يكون الضميمة هي المقصودة بالبيع دون المضموم اليه فلا إشعار في شي‌ء من روايات الضمائم على تعددها وكثرتها بذلك ، بل الظاهر منها انما هو العكس ، وهو أن المقصود بالبيع انما هو المضموم اليه ، وانما جعلت الضميمة تفاريا من ذهاب الثمن مجانا ، على تقدير عدم التمكن من البيع المقصود بالذات ، ولذا اعتبروا في الضميمة بأن يكون مما يتمول في الجملة وان قل ، وكان الثمن في غاية الكثرة كما لا يخفى على من نظر في تلك الاخبار بعين التأمل والاعتبار.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٢٣ الفقيه ج ٣ ص ١٤١.

٦٤

ومنها أخبار بيع الآبق وغيرها ، وقد تقدم في المسألة السابعة من المقام الثالث من مقامات الفصل الأول ما يوضح ما ذكرناه ، ومن اخبار المسألة أيضا ما رواه في الكافي عن عيص بن القاسم (١) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل له نعم يبيع ألبانها بغير كيل قال : نعم حتى ينقطع أو شي‌ء منها». وفيه إجمال موجب لتعدد الاحتمال وقد تقدم الكلام في المسألة المشار إليها آنفا والله العالم.

السادسة اختلف الأصحاب في بيع الصوف على ظهر الغنم مع المشاهدة ، فجوزه الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) ومنعه الشيخ الا أن يضم اليه غيره ، وتبعه أبو الصلاح وابن البراج ، واختار العلامة في المختلف مذهب الشيخ المفيد ، وكذلك ابن إدريس نظرا إلى أنه مشاهد ، والوزن فيه حال كونه على ظهور الغنم غير معتبر ، وإلا لما جاز بيع الثمر على رءوس الأشجار ، وان كانت موزونة أو مكيلة بعد القطع ، وصرح المحقق في الشرائع بالمنع وان ضم اليه غيره ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة أيضا في الموضع الثاني عشر من المسألة المتقدم ذكرها قريبا.

السابعة قال الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع ما في بطون الانعام والأغنام وغيرهما من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ، فان لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في مقابل الآخر ، وتبعه ابن البراج وابن حمزة ، وقال ابن إدريس : لا يجوز بيع ما في بطون الانعام والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ليسلم من الغرر ، وان لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في الأخر على ما روى في الاخبار من طريق الآحاد ، والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع لأنه غرر وجزاف منهي عنهما ، وقد روى أن من اشترى أصواف الغنم مع ما في بطونها في عقد واحد كان البيع صحيحا ماضيا ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنها زيادة غرر إلى

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٩٣ التهذيب ج ٧ ص ١٢٣.

٦٥

غرر انتهى.

أقول : ما ذكره أخيرا من زيادة غرر الى غرر في الصورة المذكورة انما يتم بناء على المنع من بيع الصوف على ظهور الغنم ، كما هو أحد الأقوال في المسألة وأما على ما اختاره من الجواز كما قدمنا نقله عنه فليس الا غرر واحد ، كما لا يخفى.

والرواية التي أشار إليها أخيرا هي رواية إبراهيم الكرخي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مأة نعجة وما في بطونها من حمل بكذا وكذا درهما؟ فقال : لا بأس ان لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف».

واما الاخبار التي أشار إليها وطعن فيها بأنها من طريق الآحاد فلم نقف على شي‌ء منها سوى الرواية المذكورة ، وبالجملة فإن ما ذكره جيد على أصله الغير الأصيل ، وهذه الرواية المذكورة مما يؤيد مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه في جواز بيع الصوف على ظهور الانعام بمجرد المشاهدة ، لأن جعله ضميمة لما لا يجوز بيعه لولا ذلك أظهر ظاهر في جواز بيعه وحده خاصة كما هو شأن سائر الضمائم ، فلا يتوهم من الرواية الدالة على مذهب الشيخ في تلك المسألة ، بمعنى جعل الحمل ضميمة إلى جواز بيع الصوف كما يشعر به كلام العلامة في المختلف ، لان الحمل لا يجوز بيعه وحده ، ومن شأن الضميمة صحة بيعها وحدها ، لتكون مصححة لبيع ذلك المجهول.

ثم انه لا يخفى أن ما ذكره ابن إدريس من عدم جواز البيع بالضميمة في هذا الموضع يجري في جميع ما ورد جواز بيعه بالضمائم ، لعدم جواز بيعه منفردا مع تكاثر الاخبار بذلك في جملة من المواضع.

وفي ارتكاب ردها من الشناعة ما لا يرتكبه محصل ولا متدين ، لان مقتضى كلامه أن العلة المانعة من جواز بيعه منفردا وهو الغرر هنا باقية مع الضميمة ، فكذلك العلة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٩٤ التهذيب ج ٧ ص ١٢٣ الفقيه ج ٣ ص ١٤٦.

٦٦

المانعة من بيع الآبق مثلا ، وهو عدم التسليم الى المشتري باقية ، وهكذا في كل موضع ورد صحة بيعه بالضميمة ، كما تقدم في فصل بيع الثمار ايضا وغيره ، مع أنه في بيع الآبق جوزه مع الضميمة (١) وهو ترجيح بغير مرجح ، وسؤال الفرق متجه.

الثامنة قال الشيخ في النهاية : لا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشي‌ء معلوم جزية رؤس أهل الذمة ، وخراج الأرضين وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك إذا كان قد أدرك شي‌ء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ولا يجوز ذلك ما لم يدرك منه شي‌ء على حال ، ومنع ابن إدريس من ذلك ، قال : لان هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا الى أخبار الآحاد ، وظاهر العلامة في المختلف موافقة ابن إدريس هنا.

أقول والذي يدل على ما ذكره الشيخ ما رواه الشيخ والكليني عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يتقبل بجزية رؤس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير ، وهو لا يدرى لعله لا يكون من هذا شي‌ء أبدا أو يكون؟ قال : إذا علم من ذلك شيئا واحدا أنه قد أدرك اشتراه وتقبل به».

وما رواه في الفقيه عن أبان بن عثمان عن إسماعيل بن الفضل (٣) عن ابى عبد الله (ع) قال : «سالته عن الرجل يتقبل خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير ولا يدرى هذا لا يكون أبدا أو يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل به منه ، فقال : إذا كان علمت ان من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتراه وتقبل به». وطريق الصدوق الى أبان بن عثمان هنا صحيح

__________________

(١) قال : ولا يجوز أن يشترى الإنسان عبدا آبقا على الانفراد فان اشتراه لم ينعقد البيع إلا إذا اشتراه مع شي‌ء آخر من متاع أو غيره منضم الى العقد ، ويكون العقد ماضيا انتهى منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٩٥ التهذيب ج ٧ ص ١٢٥.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٤١.

٦٧

والعلامة في المختلف طعن في رواية إسماعيل بن الفضل بعد أن نقل استدلال الشيخ بها ، فقال : والرواية ضعيفة السند ومقطوعة ، مع أنها محمولة على أنه يجوز شراء ما أدرك ، ومقتضى اللفظ ذلك من حيث عود الضمير إلى الأقرب ، على أنا نقول : ان هذا ليس بيعا في الحقيقة ، وانما هو نوع مراضاة غير لازمة ، ولا محرمة انتهى.

أقول : أما الطعن بضعف السند فإنما يتجه على روايتي الشيخين الأولين ، والطعن بالقطع انما يتجه على رواية الشيخ في التهذيب حيث أن في السند ابن سماعة عن غير واحد ، والا فرواية الكليني ليست كذلك ، الا أن في طريقها عبد الله بن محمد ، وهو مجهول أو مشترك ، وبالجملة فالرواية بطريق الصدوق صحيحة ، فينتفى الطعن بالضعف ، هذا مع تسليم صحة هذا الاصطلاح ، والا فإن الطعن بالضعف لا يرد على الشيخ ونحوه من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح المحدث عندهم ، بل الاخبار عندهم كلها صحيحة ، كما اعترف به جملة من متأخري أصحاب هذا الاصطلاح ، وأما الحمل على شراء ما أدرك خاصة دون الباقي فهو تعسف محض ، والظاهر من الخبرين المذكورين انما هو المجموع ، وأن هذا الذي أدرك انما هو بمنزلة الضميمة المتقدم ذكرها ، بمعنى أنه لو لم يحصل شي‌ء من هذه الأشياء كان وجه القبالة بإزاء هذا الذي أدرك.

وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) للخبرين المذكورين بالتقريب الذي قلناه من كون ذلك ضميمة للصحة ، سواء كان المعاملة المذكورة بيعا أو صلحا أو قبالة.

بقي هنا شي‌ء وهو أن القبالة هل هي من قبيل الصلح ، أو عقد برأسها قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) : ظاهر الأصحاب أن للقبالة حكما خاصا زائدا على البيع والصلح ، لكون الثمن والمثمن واحدا وعدم ثبوت الربا ، وظاهر الشهيد (رحمة الله عليه) في الدروس أنها نوع من الصلح ، وقال في كتاب مجمع البحرين : والقبالة بالفتح الكفالة. وهي في الأصل مصدر قبل إذا كفل ، وقبالة

٦٨

الأرض أن يتقبلها الإنسان من الامام بأن يعطيها إياه مزارعة أو مساقاة وذلك في ارضن الموات وأرض الصلح انتهى.

والظاهر أن ما هنا من قبيل الكفالة ، فإنه تكفل بهذا المبلغ المعلوم الذي تراضيا به من هذه الأشياء المعدودة في الخبرين ، سواء حصل منها ما هو أزيد أو أنقص والله العالم.

التاسعة قال الشيخ في النهاية لا بأس أن يشترى الإنسان تبن البيدر لكل كر من طعام تبنة بشي‌ء معلوم وان لم يكل بعد الطعام ، وبه قال ابن حمزة ، وقال ابن إدريس لا يجوز بيعه ، لانه مجهول وقت العقد غير معلوم ، ولا بد أن يكون معلوم القدر وقت العقد عليه ، وهذا غير معلوم ولا محصل ، فالبيع باطل ، لانه لا فرق بين ذلك وبين من قال : بعتك هذه الصبرة من الطعام كل قفيز بدينار ، ولم يختبر كم فيها وقت العقد ولا كالها ذلك الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها فإذا كالها صح البيع المتقدم ، وهذا باطل بالإجماع انتهى.

واختار في المختلف قول الشيخ (رحمة الله عليه) قال : لنا أنه مشاهد فيصح بيعه لانتفاء الغرر فيه ، وما رواه زرارة (١) في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن رجل اشترى تبن بيدر قبل أن يداس تبن كل بيدر بشي‌ء معلوم يأخذ التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام؟ قال : لا بأس». والجهالة ممنوعة إذ من عادة الزراعة قد يعلم مقدار ما يخرج من الكر غالبا ولا يشترط الإحاطة بجميع المبيع بحيث ينتفي الجهالة من كل أحواله ، بل يبنى في ذلك على المتعارف انتهى.

أقول : هذه الرواية قد رواها الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن جميل عن زرارة في الصحيح ، الا أن الذي في الفقيه كل كر بشي‌ء معلوم ، وهو أظهر.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٢٥ الفقيه ج ٣ ص ١٤٢.

٦٩

ورواها أيضا المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جميل (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترى رجل تبن بيدر كل كر بشي‌ء معلوم فيقبض التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام قال : لا بأس به».

قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) بعد نقل خبر جميل المذكور : هذا مخالف لقواعد الأصحاب من وجهين الأول من جهة جهل المبيع ، لان المراد به اما كل كر من التبن ، أو تبن كل كر من الطعام ، كما هو ظاهر من قوله قبل أن يكال الطعام ، وعلى التقديرين فيه جهالة.

الثاني من جهة البيع قبل القبض ، ثم أجاب عن الأول بما ذكره في المختلف وقال في الجواب عن الثاني : فعلى القول بالكراهة لا اشكال ، وعلى التحريم فلعله لكونه غير موزون ، أو لكونه غير طعام ، أو لأنه مقبوض وان لم يكتل الطعام يعد ، كما هو مصرح به في الخبر ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه في المسألة التي تقدم مكررا الإشارة إليها من سهولة الأمر في معرفة المبيع الموجبة للخروج من الجهالة والغرر ، وانها تكفي ولو بوجه ما ، ان الأمر في هذه المسألة انما خرج ذلك المخرج ، فان التبن لا اشتباه ولا تعدد في أفراده بحيث يحتاج الى وصفه ، وليس بمعدود ولا مكيل ولا موزون حتى يحتاج إلى شي‌ء من ذلك ، فيكفي في قصد بيعه تخصيصه ببيدر مخصوص ، واشتراط تبن كل كر من الطعام بكذا وكذا كما تضمنته الرواية ، فإن بذلك تحصل المعلومية في الجملة ، وبالجملة فالواجب الوقوف على النص المذكور وعدم الالتفات الى هذه التعليلات العليلة ، سيما مع تأيده بما قدمناه من النصوص التي من هذا القبيل والله العالم.

العاشرة قد روى الشيخ في التهذيب عن غياث بن إبراهيم (٢) عن جعفر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٨٠ عن جميل التهذيب ج ٧ ص ١٢٥ مع اختلاف يسير الفقيه ج ص ١٤٢.

(٢) الوسائل الباب ١٦ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ ٢٠.

٧٠

عن أبيه عن على عليهم‌السلام «أنه كره بيع صك الورق حتى يقبض». قال في النهاية الأثيرية في حديث أبي هريرة قال المروان : أحللت بيع الصكاك ، هي جمع صك وهو الكتاب ، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون الناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها معجلا ، ويعطون المشترى الصك ليمضي ويقبضه فنهوا عن ذلك لانه بيع ما لم يملك ولم يقبض ، انتهى.

وقال ابن إدريس في السرائر : ولا يجوز أن يبيع الإنسان رزقه على السلطان قبل قبضة له ، لان ذلك بيع غرر ، وبيع ما ليس يملك له ، لانه لا يملكه الا بعد قبضه إياه ، ولا يتعين ملكه الا بعد قبضه إياه ، وكذلك بيع أهل مستحق الزكوات والأخماس قبل قبضها ، لانه لا يتعين ملكها لهم الا بعد قبضها ، فجميع ذلك غير مضمون ، وبيعه غير جائز ولا صحيح ، انتهى.

وقد تقدم كثير من مسائل هذا الفصل في الفصول المتقدمة.

الفصل الثاني عشر

في نكت متفرقة وهي بمنزلة النوادر لكتاب البيع ، الاولى : لو أمر العبد آمر أن يبتاع له نفسه من مولاه فظاهر كثير منهم الجواز ، وقيل : بالعدم ، وعلل العدم بأمرين ، أحدهما اعتبار التغاير بين المتعاقدين ، وعبارة العبد كعبارة سيده ، وثانيهما اشتراط اذن المولى في تصرف العبد ، ولم يسبق له منه اذن ، ورد الأول بأن المغايرة الاعتبارية كافية ، ومن ثم اجتزئنا بكون الواحد الحقيقي موجبا قابلا وهنا أولى ، والثاني بأن مخاطبة السيد له بالبيع في معنى التوكيل له في تولى القبول ، ويظهر من بعض محققي متأخري المتأخرين المناقشة في الثاني قال : إذ ينبغي ثبوت الوكالة قبل العقد ، ويمكن القول بأنه حاصل هنا لان خطابه بأن يبيعه من موكله يدل على تجويز الوكالة سابقا والرضا ، الا أن يقال : لا بد من التصريح حتى يعلم العبد الذي هو الوكيل ، وذلك غير معلوم ، وقد يناقش في القبلية أيضا ، إذ قد يكفي المعية وحين العقد ، بحيث لا يقع جزء من العقد قبل الوكالة ، انتهى.

٧١

أقول : والمسألة لخلوها عن النص موضع إشكال ، فإن مقتضى قواعدهم وهو ظاهر الاخبار أيضا أن المملوك محجور عليه ، لا يصح شي‌ء من أفعاله من بيع وغيره الا بإذن مولاه ، وظاهر تفرع الصحة على تقدم الاذن والوكالة ، والذي هنا ليس كذلك والله العالم.

الثانية : قد صرح جملة من الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه ـ بأنه يجوز للحاكم الشرعي أن يبيع على السفيه والمفلس والغائب مع المصلحة ، وظاهر أخبار نيابته عن الامام عليه‌السلام يقتضي ذلك ، فإن للإمام عليه‌السلام ذلك لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

وكما ورد في خصوص المفلس مثل رواية عمار (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسم بينهم يعنى ماله».

ومثلها رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام وفي مرسلة جميل (٢) عن جماعة من أصحابنا عنهما عليهما‌السلام قالا الغائب يقضى عنه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم» الحديث.

وهو ظاهر في بيع الحاكم الشرعي الذي قد ثبت الدين عنده بالبينة ، ويتعدى ذلك الى عدول المؤمنين مع فقد الحاكم الشرعي كما يدل عليه بعض الاخبار من جواز تولى عدول المؤمنين لبعض الحسبيات مع فقد الحاكم ، ولأنه إحسان محض ، ولا سبيل على المحسنين.

الثالثة : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز الجمع في عقد واحد بين لمختلفات كبيع ، واجارة ، ونكاح ، وسلف ، بعوض واحد ، ويقسط عن ثمن المثل ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٢ الوسائل الباب ـ ٦ من أبواب أحكام الحجر الرقم ـ ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٠٢.

٧٢

وأجرة المثل ومهره ، كان يقول : بعتك هذا الثوب ، وآجرتك هذا الدار سنة ، وأنكحتك ابنتي ، وبعتك مأة من حنطة إلى شهر ، بمأة دينار ، فيقول : قبلت ، فإنه صحيح عندهم ، واعترضهم في هذا المقام المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) فقال : بعد نقل ذلك عنهم ، دليله عموم أدلة جواز العقود ، وعدم ظهور المانع ، ويمكن عدم الجواز ، لجهالة ثمن المبيع ، وأجرة السكنى ، ومهر الابنة حال البيع ، وهو ليس أقل في الجهل مما إذا قال : بعتك هذه الصبرة كل قفيز بكذا ، وهو غير جائز عندهم للجهالة ، ولهذا نقل في التذكرة عن الشيخ عدم جواز بيع عبدين يكون كل واحد منهما لشخص وباعاهما صفقة لجهالة ثمن كل واحد ، ويمكن الفرق بأن هذا الكل لشخص واحد ، والظاهر أنه لا ينفع على أن المهر للبنت ، وأنهم ما يفرقون ويؤيد عدم الجواز ما روى من طرقهم وطرقنا المنع من جواز بيع وشرط مثل رواية عمار (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلا من أصحابه واليا فقال له : انى بعثتك الى أهل الله يعني الى أهل مكة فأنهاهم عن بيع ما لم يقبض وعن شرطين في بيع وعن ربح ما لم يضمن». ويطلق الشرط على البيع كثيرا.

ورواية سليمان بن صالح (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن».

والمصنف في التذكرة رد دليل الشيخ بأنه يكفي معلومية ثمن الكل ، ولا يحتاج إلى معرفة ثمن الاجزاء لان الصفقة الواحدة يكفي معلومية الثمن الذي فيها وقال : ليس المراد بالشرط كل الشرط لجواز البعض بالاتفاق فكأنه محمول على الشرط المخالف للكتاب والسنة فحمل الشرط على معناه ، والظاهر ما قلناه كما يفهم من هذه الرواية ، ويمكن أن يقال : الروايتان غير صحيحتي السند ، فلا يصلحان لمعارضة عموم أدلة الكتاب والسنة والأصل ، ويمكن حملها على بعض الشرائط المخالفة للكتاب والسنة ، والبيوع الغير الجائزة فتأمل والاحتياط واضح ، انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________

(١ ـ ٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٣١.

٧٣

أقول : ويمكن تطرق النظر إليه في مقامين : أحدهما ما ذكره من جهالة ثمن المبيع وأجرة السكنى ، فان فيه ما ذكره العلامة هنا ، وهو المفهوم من قواعدهم في أمثال هذا المقام ، وحاصله أن اعتبار معلومية القيمة انما هو باعتبار العقد الواقع والصفقة التي انعقد عليها البيع ، سواء كان ما وقع عليه متحدا أو متعددا وان احتيج بعد ذلك الى التقسيط في المتعدد ، كما لو باع ملكه وملك غيره ، والجهالة بالنسبة إلى قسط كل واحد مما وقع عليه العقد غير مؤثر.

قال في المسالك : لا خلاف عندنا في صحة ذلك كله ، لان الجميع بمنزلة عقد واحد ، والعوض فيه معلوم بالإضافة إلى الجملة ، وهو كاف في انتفاء الغرر والجهالة ، وان كان عوض كل منها بخصوصه غير معلوم ، وكون كل واحد بخصوصه بيعا في المعنى ، وبعضه إجارة أو غيرها الموجب لعوض معلوم لا يقدح ، لان لهذا العقد جهتين ، فبحسب الصورة هو عقد واحد ، فيكفي العلم بالنسية اليه ، ثم ان احتيج الى التقسيط قسط على ما ذكر ، وهو نص فيما قلنا ، الا أن يحمل كلامه (قدس‌سره) على منع ذلك ، وأنه حيث كان مرجع هذا العقد في المعنى الى عقود متعددة فإنه يشترط في كل من تلك العقود ، وهذا التفريع الذي ذكره في المسالك انما يتجه لو قام الدليل على صحة مثل هذا العقد ، وقد عرفت أنه لا دليل عليه زيادة على ما يدعونه من الإجماع بينهم.

وثانيهما ما استند اليه من الخبرين المذكورين ، فانى لا أعرف لذلك وجها ظاهرا وان سلمنا إطلاق الشرط على البيع ، فإنه ليس في العقد المفروض أولا بيعان في بيع ، ليدخل تحت هذين الخبرين ، وبيان معنى الخبرين المذكورين أن معنى بيعين في بيع على ما ذكره بعضهم هو أن يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة ، ونسيئة بخمسة عشر ، قال : وانما نهى عنه لانه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد.

أقول فيه أن ما ذكره ، وان كان هو المصرح به في كلام الأصحاب لكنه مردود بما صرحت به الاخبار من صحة البيع ، وأنه ليس له الا أقلهما نظرة ، وقيل : ان

٧٤

معناه هو أن يقول : بعتك هذا بعشرين على أن تبعني ذلك بعشرة ، وأما معنى بيع وسلف فهو أن يقول : بعتك منا من طعام حالا بعشرة ، وسلفا بخمسة.

وأما النهي عن بيع ما ليس عنده فيجب تخصيصه بما إذا كان البيع حالا ، والمبيع غير موجود في ذلك الوقت ، كالبطيخ ونحوه في غير أوانه ، والا فلا مانع من الصحة اتفاقا نصا وفتوى.

وأما النهي عن ربح ما لم يضمن فالمراد ان يبيع المتاع الذي اشتراه مرابحة قبل أن يوجب البيع ، فإنه قد ورد النهى عنه في عدة أخبار.

وأما بيع ما لم يقبض ، فقد تقدم الكلام والخلاف فيه تحريما وكراهة بالنسبة إلى المكيل والموزون ، أو الطعام بخصوصه ، وبالجملة فإني لا أعرف لاستناده الى هذين الخبرين وجها ظاهرا.

نعم يمكن ان يقال : ان الأصل بقاء كل شي‌ء على أصله حتى يثبت الناقل شرعا ، ولم يثبت كون مثل هذا العقد المشتمل على هذه الأشياء المختلفة ناقلا ، والذي علم من الاخبار وهو الذي استمر عليه عمل الناس وعادتهم انما هو استقلال البيع بعقد على حدة ، والنكاح بعقد على حدة ، والسلف كذلك ، والإجارة ونحو ذلك ، والأحكام التي بحثوا عنها في هذه العقود انما تترتب على ذلك ، ثبوت ذلك في بيع أمتعة متعددة في عقد واحد وتقسيط الثمن على الجميع لو سلم الدليل على صحته ، لا يقتضي قياس هذا العقد عليه كلية ، لظهور الفارق ولا سيما بالنسبة إلى عقد النكاح ، فإنهم إنما حكموا هنا بمهر المثل ، مع أن الظاهر أن هذه من قبيل المفوضة ، وهي التي لم يعين لها مهر ، وقد صرحوا بأنها ترجع الى مهر السنة لو زاد مهر المثل عنه ، فلا يتم إطلاق مهر المثل هنا ، وبالجملة فالمسألة محل توقف واشكال.

واما كيفية التقسيط بناء على ما ذكروه من صحة العقد المذكور فهو أن يقوم كل من تلك الأشياء منفردا وتنسب قيمته الى المجموع ، ثم يؤخذ من ذلك

٧٥

العوض الذي وقع عليه العقد بتلك النسبة (١).

الرابعة : لو تضمن عقد البيع شرطا فاسدا قال الشيخ يبطل الشرط خاصة دون البيع ، وبه قال ابن الجنيد وابن البراج ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : والمعتمد عندي بطلان العقد والشرط معا ، قال لنا أن للشرط قسطا من الثمن ، فإنه قد يزيد باعتباره ، وقد ينقص ، وإذا بطل الشرط بطل ما بإزائه من الثمن وهو غير معلوم فتطرقت الجهالة إلى الثمن ، ويبطل البيع ، وأيضا البائع إنما رضي بنقل سلعته بهذا الثمن المعين على تقدير سلامة الشرط له وكذا ، المشتري إنما رضي ببذل هذا الثمن في مقابلة العين على تقدير سلامة الشرط ، فإذا لم يسلم لكل منهما ما شرطه ، كان البيع باطلا ، لانه يكون تجارة عن غير تراض ثم نقل عن الشيخ انه احتج بقوله تعالى (٢) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وهذا بيع فيكون صحيحا ، والشرط باطلا ، لانه مخالف للكتاب والسنة.

وبما روى عن عائشة (٣) «أنها اشترت بريرة بشرط العتق ، ويكون ولائها لمولاها فأجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله البيع وأبطل الشرط ، وصعد المنبر ، وقال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وكتاب الله أحق ، وشرطه أوثق». ثم قال مجيبا عن ذلك : والجواب عن الأول أن المبيع انما يكون حلالا لو وقع على الوجه المشروع ، ونحن نمنع من شرعيته ،

__________________

(١) وتوضيحه أن يقال : قيمة الثوب يومئذ بخمسة دنانير ، وأجرة الدلال ديناران ، ومهر المثل عشرون دينارا وقيمة الحنطة إلى المدة المذكورة ثلاثة دنانير ، مجموع هذه الدنانير ثلاثون دينارا ، ونسبة قيمة الثوب وهي الخمسة إلى الثلاثين السدس ، فيؤخذ من العوض المذكور في العقد سدسه ، وهكذا باقي تلك الأشياء المذكورة في العقد. منه رحمه‌الله.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٧٥.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٧٣.

٧٦

وعن الثاني من وجوه الأول الطعن في السند ، الثاني الحديث ورد هكذا (١). «قالت عائشة : جائتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينينى فقالت لها عائشة : ان أحب أهلك ان أعدها لهم ، ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم : ذلك فأبوا عليها ، فجائت من عند أهلها ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جالس ، فقالت : انى عرضت ذلك عليهم فأبوا الا أن يكون الولاء لهم ، فسمع ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألها فأخبرت عائشة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ، ففعلت عائشة ، ثم قام : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عزوجل فهو باطل وان كان مأة شرط ، فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق».

وهذا ينافي ما ذكره الشيخ واستدل به عليه ، لأن بريرة أخبرت بأنها كوتبت وطلبت الإعانة من عائشة ، فسقط الاستدلال به بالكلية.

الثالث المراد بقوله عليه‌السلام «اشترطي لهم الولاء» اى عليهم لانه عليه‌السلام أمرها به ، ولا يأمرها بفاسد ، وكيف يتأتى عن الرسول مع تحريم خائنة الأعين وهو الغمز وضع حيلة لا تتم انتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى ما فيه على الفطن النبيه الذي قد جاس خلال ديار الاخبار وما جرت به في هذا المضمار وان كان قد تبعه على هذا القول جل المتأخرين بل كلهم على ما يظهر من كلام من وقفنا على كلامه ، ومنهم شيخنا الشهيد الثاني وسبطه السيد السند في شرح النافع وغيرهم.

وما ذكره (قدس‌سره) من التعليل لبطلان العقد بالعلل الاعتبارية المذكورة وان كان مما يتسارع الى الذهن قبوله ، الا أن الاخبار ترده وتدفعه ، وما ذكره من خبري بريرة هنا من كلام الشيخ الذي نقله عنه وفي كلامه هو «قدس‌سره» الظاهر انه من طرق العامة.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ـ ١٠ ـ ٢٩٥.

٧٧

والذي وقفت عليه من طرقنا هو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، أنه ذكر أن بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة فاشترتها عائشة فأعتقتها ، فخيرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : ان شائت تقر عند زوجها وان شائت فارقته ، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أن لهم ولاءها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولاء لمن أعتق».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن عيص بن القسم (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قالت عائشة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان أهل بريرة اشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولاء لمن أعتق».

والحديثان كما ترى صحيحان صريحان في صحة البيع مع فساد الشرط ، وبه يظهر أن خبر الشيخ وان كان عاميا الا انه هو الأصح لموافقته لاخبار أهل البيت عليهم‌السلام بخلاف خبره. وبذلك ايضا يظهر بطلان ما ذكره من تلك التعليلات العليلة.

ومن الاخبار الواردة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى النكاح ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن قيس (٣) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل يتزوج المرأة إلى أجل مسمى ، فان جاء بصداقها إلى أجل مسمى فهي امرأته وان لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك شرطهم بينهم حين انكحوا ، فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم». ونحوها صحيحة ثانية له أيضا.

وما رواه في الكافي عن الوشاء (٤) عن الرضا عليه‌السلام قال : «سمعته يقول لو ان رجلا تزوج امرأة جعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا والذي جعله لأبيها فاسدا».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٧٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٩٨ التهذيب ج ٦ ص ٢٥٠.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٠ من أبواب المهور الرقم ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب المهور الرقم ـ ١.

٧٨

قال السيد السند في شرح مختصر النافع يستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد انتهى ، وقدم تقدم الكلام في هذه المسألة مرارا عديدا سيما في مقدمات الكتاب في جلد كتاب الطهارة ، وقد ذكرنا ثمة ورود بعض الاخبار دالة أيضا على القول المشهور (١) وان الاولى هو الوقوف على الاخبار في كل جزئي من الأحكام من غير أن يكون ذلك قاعدة كما ادعوه.

ثم انه لا يخفى أن ما أجاب به عن حجة الشيخ الاولى محض مصادرة ، وأن حديثه الثاني الذي أورده على الشيخ دال على ما دل عليه خبر الشيخ ، فان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعائشة :

خذيها اشترطي لهم الولاء ، ثم خط بعد ذلك بما يدل بطلان الشرط خاصة ، أظهر ظاهر في المدعى ، والعجب منه «قدس‌سره» اعتذاره عما دل عليه الخبر المذكور من الغمز وخيانة الأعين ، مع كون الخبر عاميا ، وأعجب من ذلك جعل الاعتذار المذكور وجها ثالثا من وجوه الجواب عن حديث الشيخ ، مع أن ذلك انما هو في حديثه ، وبالجملة فإن الاستعجال وعدم التدبر في المقال مما يوجب مزيد الاختلال.

الخامسة : قال العلامة في المختلف : المشهور بين علمائنا الماضين ومن عاصرناه الا من شذ أنه يجوز بيع الشي‌ء اليسير بأضعاف قيمته بشرط أن يقرض البائع المشتري شيئا ، لأنهم نصوا على جواز أن يبيع الإنسان شيئا ويشترط الإقراض أو الاستقراض ، أو الإجارة أو السلف أو غير ذلك من الشروط السابقة ، وقد كان بعض من عاصرناه يتوقف في ذلك ، لنا وجوه.

__________________

(١) أقول : ومن الاخبار الظاهرة في القول المشهور ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة ، قال لا يصلح أن يأخذه بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباع بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول ما زاد». وهو كما ترى ظاهر في بطلان الإقالة لبطلان اشتراط الوضيعة وأن الثوب باق على ملك الأول فله زيادة الثمن إذا باعه بأكثر من ثمنه. منه رحمه‌الله.

٧٩

الوجه الأول : قوله تعالى (١) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وهذا أحد جزئياته.

الثاني : قوله تعالى (٢) «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» دل الاستثناء على تسويغ التجارة المقترنة بالرضا ، وصورة النزاع داخل تحته.

الثالث : أنه لا خلاف بين علماء الأمصار في جواز بيع الشي‌ء بأضعاف قيمته ، فنقول انضمام الشرط اليه لا يغير حكمه ، لأنه شرط سائغ يجوز اشتراطه في البيع بثمن المثل ، أو في الإجارة أو غيرهما من العقود إجماعا فيجوز في صورة النزاع ، إذ الحكمة الداعية إلى شرعيته في تلك الصور موجودة هنا ، ولقولهم عليهم‌السلام (٣) «المؤمنون عند شروطهم».

الرابع : اتفاق علماء الإمامية السابقين ، فإنهم قالوا لا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو حيوانا أو غير ذلك بالنقد والنسية ، ويشترط أن يسلفه البائع شيئا في مبيع أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل. أو يستقرض منه ، فيكون حجة ، لما ثبت من أن إجماع الإمامية حجة.

قال المفيد : لا بأس ان يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو حيوانا أو عقارا بالنقد والنسيئة معا على أن يسلف البائع شيئا في مبيع أو يستسلف منه في مبيع ، أو يقرضه مأة درهم الى أجل أو يستقرض منه.

قال : وقد أنكر ذلك جماعة من أهل الخلاف ولسنا نعرف لهم حجة في الإنكار وذلك ان البيع وقع على وجه حلال ، والسلف والقرض جائزان ، واشتراطهما في عقد البيع غير مفسد له بحال ، قال :

وقد سئل الباقر عليه‌السلام عن القرض يجر النفع «فقال : خير القرض ما جر المنفعة».

الخامس : تظاهر الروايات عليه وتطابقها من غير معارض ، فيتعين العمل عليه ، روى سليمان بن محمد الديلمي (٤) عن أبيه عن رجل «كتب الى العبد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٧٥.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٢٩.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٩٦ التهذيب ج ٧ ص ٢٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٣ لكن فيه عن محمد بن سليمان الديلمي.

٨٠