الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

الى مفصلها ظاهرة في البيع على الغير ، ويدل على القول المشهور الخبر السابع والثامن والتاسع ، فإنها ظاهرة في الجواز بزيادة أو نقيصة.

ويؤيده أيضا أنه كسائر أمواله له الاختيار في بيعها بزيادة عما اشترى أو نقيصة ، الا أن جل الأخبار المتقدمة قد منعت من الزيادة على رأس المال صريحا في بعض وظاهرا في آخر ، وهذا مما يؤذن بالمغايرة بين المسألتين أيضا ، والأصحاب رضوان الله عليهم لم ينقلوا إلا صحيحتي محمد بن قيس ، وحملوهما على كراهة البيع قبل القبض ، أو الاستحباب :

والأقرب في الجمع بين الاخبار المذكورة انما هو حمل ما دل على أخذ رأس المال خاصة ـ والمنع من الزائد ـ على ما إذا فسخ العقد الأول (١) لتعذر المبيع كلا أو بالنسبة الى ما تعذر منه من نصفه أو ثلثه ، فإنه في هذه الحال لا يجوز أخذ الزائد على رأس المال ، لاستلزامه الربا ، والاخبار الدالة على القول المشهور على ظاهرها من بقاء المبيع من غير فسخ ، فله بيعه بما شاء زيادة ونقيصة.

وأما ما دل عليه الخبر الثاني عشر والثالث عشر ـ من النهى عن الشراء بالدراهم المرسلة اليه الا ان يكون معه آخر يشترى ويوفيه فهي محمولة على خوف التهمة ، بدليل الخبر الرابع عشر ، لا ما حمله عليه في الوافي من فسخ البيع والوقوع في الربا ، فان ظاهر الاخبار الثلاثة أنه أرسل إليه الدراهم وجعله وكيلا عنه في الاشتراء والإقباض ، ولكن حصل النهي في بعضها للعلة التي ذكرناها ، كما أفصح به

__________________

(١) وانما حملت الأخبار المذكورة على فسخ العقد لأن الحق الثابت في الذمة انما هو الجنس الذي أسلم فيه ، فالواجب دفعه أو قيمته ان كان قيميا أو مثله ان كان مثليا ، فان هذا هو مقتضى القواعد الشرعية ، لكن لما دلت هذه الاخبار على خلاف ذلك من أخذ رأس المال خاصة فلا بد من حملها على فسخ العقد ، لتعين أخذ رأس المال خاصة ، ولا يجوز الزيادة حينئذ لوقوع الربا بذلك. منه رحمه‌الله.

٤١

البعض الأخر.

واستند الشيخ فيما تقدم نقله عنه الى الخبر الخامس ، قال في التهذيب بعد إيراد الخبر السابع والثامن ثم الخبر الخامس قال محمد بن الحسن : الذي افتى به ما تضمنه الخبر الأخير من أنه إذا كان الذي أسلف فيه دراهم لم يجز له أن يبيع عليه بدراهم ، لانه يكون قد باع دراهم بدراهم.

وربما كان فيه زيادة ونقصان ، وذلك ربا ، ولا تنافي بين هذا الخبر والخبرين الأولين ، لأن الخبر الأول مرسل غير مسند ، ولو كان مسندا لكان قوله «انظر ما قيمته على السعر الذي أخذت منى» فإنا قد بينا أنه يجوز له أن يأخذ القيمة برأس ماله من غير زيادة ولا نقصان ، والخبر الثاني أيضا مثل ذلك ، وليس في واحد من الخبرين أنه يعطيه القيمة بسعر الوقت ، وإذا احتمل ما ذكرناه فلا تنافي بينهما على حال ، على أن الخبرين يحتملان وجها آخر وهو أن يكون انما جاز له أن يأخذ الدراهم بقيمته إذا كان قد أعطاه في وقت السلف غير الدراهم ، ولا يؤدى ذلك الى الربا لاختلاف الجنسين انتهى.

ولا يخفى بعد ما ذكره ، سيما الاحتمال الأخير فإن أحد الخبرين المذكورين في كلامه وهو مرسلة أبان صريح في كونه أسلف دراهم ، وقد اعترضه في هذا الاستدلال بعض من تأخر عنه ، بأن الخبر الذي استند اليه يدل على خلاف ما ذهب اليه ، فلا يصح له الاعتماد عليه ، لانه عليه‌السلام منع من التقويم بالدراهم مطلقا سواء كان بقدر الثمن أو أقل أو أزيد ، والشيخ قد جوز بالمساوي فما يدل عليه الحديث بإطلاقه لا يقول به ، وما يقول به لا يدل عليه الخبر ، إذ لا دلالة للعام على الخاص فلا يمكنه الاحتجاج به وهو جيد.

وكيف كان فان روايات المسألة كلها متفقة على الجمع الذي قدمنا ذكره (١)

__________________

(١) أقول وملخص الكلام في اخبار هذا الباب بعد الجمع بينها كما ذكرناه في الأصل ان جملة منها قد دل على انه الفسخ يرجع الى رأس ماله ومع عدم

٤٢

وأما هذه الرواية فهي مخالفة للقواعد الفقهية المتفق عليها نصا وفتوى ، فإنه بالبيع قد استحق المال المسلم فيه وصار ماله ، يتصرف فيه كيف شاء ، سواء اشتراه بدراهم أو عروض ، وله بيعه بما شاء من الدراهم والعروض ، الا أن يفسخ البيع ، فيلزم رأس المال خاصة.

وأما مع عدم الفسخ فلا وجه للمنع من تقويمه بالدراهم ، وكون المدفوع في قيمته دراهم وبيعه الان بدراهم لا يوجب ذلك الربا ، لأنه إنما باع المتاع الذي أسلم فيه لا الثمن الذي دفعه قيمة ، وأما ما دل عليه الخبر الخامس عشر فسيأتي الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فالظاهر من الاخبار المذكورة بمعونة الجمع الذي قدمنا ذكره أنه مع عدم فسخ البيع الأول فله ان يبيع ما في ذمة المسلم اليه بما أراد من زيادة ونقيصة عليه أو على غيره ، لانه ماله يتصرف فيه كيف شاء ولا مانع من ذلك شرعا إلا ما ربما يتخيل مما تقدم في مسألة البيع قبل القبض ، وان المختار ثمة هو التحريم كما دل عليه جل روايات تلك المسألة.

والجواب عن ذلك ان الظاهر عندي ان هذه المسألة غير مترتبة على تلك ، بل هي مسألة على حيالها كما لا يخفى على المتأمل في أخبار المسألتين وموضوع اخبار هذه المسألة انما هو بيع مال السلم على من هو عليه ، واخبار تلك المسألة انما هو الشراء على غير وجه السلم وبيعه على الغير قبل قبضه كما لا يخفى على المتأمل

__________________

الفسخ فان بعضها دل بأنه يبيعه عليه بما شاء كما هو القول المشهور ، وبعضها دل على انه يعطيه دراهم يشترى بها وكالة عنه ويقبض جنسه الذي اشتراه من وجه طلبه ، وبعضها دل على انه مع قبض بعض له الفسخ في الباقي وأخذ رأس ماله ، وبعضها دل على انه يجوز عوض سلفه عروضه يكون قيمة سلفه ، والجميع موافق لمقتضى الأصول والقواعد ولم يخرج من تحت رواية على بن جعفر لما عرفت في الأصل منه رحمه‌الله.

٤٣

فيها وان اشترك الجميع في كونه بيعا قبل القبض ، والمختار عندنا هنا هو الجواز كما عرفت من الاخبار التي أشرنا إليها ، وهي الخبر السابع والثامن والتاسع بالتقريب المتقدم ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني اختيار التحريم هنا بناء على اختياره التحريم في تلك المسألة كما قدمنا نقله عنه (١) وهو غفلة عن ملاحظة روايات هذه المسألة المذكورة فإنها صريحة في الجواز كلا وانما اختلفت في الزيادة عن رأس المال منعا وتجويزا وإلا فأصل البيع لا خلاف فيه لا في الاخبار ولا في كلام الأصحاب بخلاف روايات تلك المسألة ، فإنها مختلفة في جواز البيع وعدمه ، وجل الاخبار على العدم ، كما رجحناه ثمة ، والظاهر ان الكراهة التي

__________________

(١) حيث قال بعد قول المصنف «ويجوز بيعه على من هو عليه وعلى غيره وان لم يقبضه على كراهية : ما صورته هذا إذا كان بما يكال أو يوزن» اما لو كان مما يعد ففي الكراهية نظر ، لعدم الدليل ، وقد تقدم في ذلك وان الأقوى التحريم إذا كان طعاما أو إذا كان مما يكال أو يؤزن على ما فصل انتهى.

وهو ظاهر في بناء هذه المسألة على تلك المسألة فإن قوله وقد تقدم الكلام إشارة الى ما قدمه في تلك المسألة وان عنده التحريم هنا وان من اختار في تلك المسألة الكراهية اختار الكراهية هنا ايضا وأنت خبير في الجميع فإن الكراهة التي جمعوا بها بين اخبار تلك المسألة راجعة إلى أصل البيع حيث ان اخبار تلك المسألة اختلفت في صحة البيع وبطلانه.

واما اخبار هذه المسألة فلم يختلفن في أصل البيع وانما اختلفت في الثمن فالكراهة إنما ترجع الى الثمن وزيادته على رأس المال لا إلى أصل البيع ، فإنه لا دلالة في شي‌ء من هذه الاخبار على بطلان البيع وانما قيد المنع من الزيادة على رأس المال وفي رواية على بن جعفر المنع من خصوص الدراهم وهم حملوا على الكراهة وعلى ما ذكرناه من الجمع باعتبار فسخ العقد وعدمه فلا يحتاج الى ما ذكروه وبالجملة فإن كلامه هنا مبنى على تلك المسألة وغفلته عن روايات هذه المسألة والله العالم ـ منه رحمه‌الله.

٤٤

ذكرها القائلون بالجواز في هذه المسألة حيث انهم صرحوا بجواز بيع السلم على من هو عليه على كراهية ، إنما استندوا فيها الى اخبار تلك المسألة لاختلافها في جواز البيع قبل القبض وعدمه ، فجمعوا بينها بالكراهة ، والا فأخبار هذه المسألة على كثرتها متفقة على الجواز ، وانما اختلفت في الزيادة على رأس المال.

والظاهر ان السبب في ذلك كله هو ادراجهم هذه المسألة تحت تلك المسألة والغفلة عن ملاحظة أخبار هذه المسألة مع كثرتها وتعددها ، والتحقيق بالنظر الى اخبار كل من المسألتين هو تغاير الحكمين ، وان الأظهر في هذه المسألة هو الجواز للاخبار المتقدم ذكرها بلا كراهة بناء على ما جمعنا به بين اخبارها ، وفي تلك المسألة هو التحريم لما قدمناه فيها والله العالم.

تذنيبان : الأول ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا حل الأجل وتأخر التسليم لعارض.

ثم طالب المشترى بعد انقطاعه كان بالخيار بين الفسخ والصبر ـ ونقل عن ابن إدريس إنكار الخيار في هذه المسألة ، تمسكا بأن العقد ثابت بالإجماع ، وآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وانه لا دليل على فسخه ، ويدل على القول المشهور الخبر الخامس عشر من الاخبار المتقدمة ، وهو نص في الباب.

ويؤيده الأخبار المذكورة ثمة الدالة على جواز أخذ رأس المال ، فإنك قد عرفت انها محمولة على فسخ العقد ، مع ان ظاهرها أن المسلم فيه غير معدوم يومئذ وان لم يوجد عند البائع فإذا جاز الفسخ مع وجوده ، فمع تعذره بطريق اولى ، وبه يظهر بطلان ما ذهب اليه ابن إدريس ، وقيل في المسألة قول ثالث ، وهو انه لا يفسخ ولا يصبر بل يأخذ قيمته الآن ، قال في المسالك : وهو حسن لأن الحق هو العين ، فإذا تعذرت رجع الى القيمة حيث يتعذر المثل.

أقول لا ريب ان هذا القول هو الموافق للأصول الشرعية ، والقواعد المرعية

٤٥

ويؤيده الأخبار المتقدمة الدالة على القول المشهور ، وهو بيعه على من هو عليه ، وأخذ قيمته يومئذ ، الا ان موثقة ابن بكير المذكورة ظاهرة الدلالة على القول المشهور هنا ، والمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال ، قالوا : لو كان العارض الموجب لتأخر التسليم من جهة المشترى مع بذل البائع ، فإنه لا فسخ لاستناد الفوات الى تقصير ، قالوا : والخيار ليس على الفور ، وحينئذ لا يسقط بالتأخير بل قيل انه لو صرح بالإمهال لم يسقط وتوقف في الدروس.

ولو قبض البعض قالوا : تخير بين الصبر به وبين فسخ العقد من أصله لتبعيض الصفقة التي هي عيب عندهم ، وان لم نقف لها على دليل إذ المسلم فيه انما هو المجموع ، وقد تعذر ، فتبعيضه ضرر عليه ، وبين الفسخ في المختلف خاصة لأنه الذي تعذر فله الرجوع الى ثمنه ، لان الصبر ضرر لا يلتزم به ، ويدل على هذا الوجه الثالث ـ من الاخبار المتقدمة ـ الخبر الرابع ، والخبر العاشر ، والحادي عشر والسابع عشر.

الثاني قد عرفت في صدر المسألة أن من جملة صورها بيع السلف على من هو عليه ، أو على غيره قبل حلوله ، يعنى حال كونه دينا وانه لا خلاف بينهم في عدم الجواز ، لعدم استحقاقه له يومئذ ، وظاهرهم أن ذلك أعم من أن يبيعه حالا أو مؤجلا للعلة المذكورة ، وظاهر المحقق المتقدم ذكره ثمة أن دليلهم الإجماع ، مع أنه في المسالك نقل عن العلامة في التذكرة القول بالجواز ، واليه يميل ايضا كلامه في المسالك مستندا إلى أنه حق مالي إلى آخر ما يعتبر في البيع فينبغي أن يصح بيعه على حالته التي هو عليها ، وان لم يجز المطالبة قبل الأجل. ثم اعترض على نفسه بأنه ربما أشكل بعدم إمكان قبضه الذي هو شرط في الصحة ، ثم أجاب بمنع اشتراط إمكان القبض حين العقد ، بل إمكانه مطلقا ويمكن تحققه بعد الحلول ، كما لو باعه عينا غائبة منقولة لا يمكن قبضها الا بعد مضى زمان يمكن فيه الوصول إليها.

أقول والاشكال المذكور انما يتوجه فيما إذا كان البيع على غير من عليه الحق ،

٤٦

والا فلو كان على من هو عليه فإنه مقبوض ، لكونه في ذمته ، والى ذلك يميل أيضا كلام المحقق الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني في حواشيه على شرح اللمعة على ما نقله عنه ابنه الشيخ محمد ، حيث أن شيخنا المشار إليه جرى في الكتاب المذكور على القول المشهور ، فقال : واما بيعه قبل حلوله فلا ، لعدم استحقاقه حينئذ ، فكتب عليه ابنه المحقق المذكور ان أريد بالاستحقاق استحقاق أصل الملك على أن المراد أنه لا يملك أصل المسلم فيه الا بعد الأجل فتوجه المنع اليه ظاهر ، وان أريد به عدم استحقاقه المطالبة ، فمنع ذلك البيع غير واضح انتهى : ثم ان ابنه الشيخ محمد كتب على ما ذكره أبوه الجواب نختار الشق الثاني ومنعه البيع واضح ، لاشتراط القدرة على التسليم انتهى.

أقول وكأنه غفل عما ذكره جده في المسالك ، ولم يقف عليه من الجواب عما ذكره ، واليه يميل ايضا كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد وهو الذي عبرنا عنه ببعض المحققين في صدر المسألة ، وقد تقدم كلامه في صدر المسألة ، وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص لا يخلو عن اشكال ، وان كان ما ذكره هؤلاء المحققون ظاهر القوة خصوصا في البيع على من هو عليه ، وكذا في صورة ما لو كان البيع مع تأجيل المبيع إلى المدة المضروبة أو لا ، وان كان على غير من هو عليه ، لحصول الاستحقاق بعد المدة.

ثم ان ظاهر القول المشهور من المنع من بيعه قبل حلوله أنه لا فرق بين أن يكون الثمن حالا أو مؤجلا ، لما عرفت من التعليل المذكور في كلامهم ، وهو عدم الاستحقاق ، وأما على القول بالجواز فلا إشكال في صحته بالحال ، مشخصا كان أو مضمونا ، ولا إشكال أيضا في عدم الصحة لو كان الثمن دينا قبل العقد ، للزوم بيع الدين بالدين المنهي عنه ، وانما الكلام فيما لو شرط تأجيله في العقد بمعنى أنه انما يكون دينا بعد العقد لا قبله ، فظاهر جملة من الأصحاب دخوله في بيع الدين بالدين ، والظاهر انه المشهور.

٤٧

وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة العدم ، قال في المسالك بعد قول المصنف في مسألة بيع الدين بعد حلوله بما شرط تأجيله قيل يبطل ، لانه بيع دين بدين ، وقيل يكره ، وهو الأشبه ما لفظه :

وأما بيعه بمؤجل فقد ذهب جماعة إلى المنع منه ، اعتمادا على أن المؤجل يقع عليه اسم الدين ، وفيه أنهم ان أرادوا إطلاق اسم الدين عليه قبل العقد ، وحالته فظاهر منعه ، لانه لا يعد دينا حتى يثبت في الذمة ، ولا يثبت الا بعد العقد ، فلم يتحقق بيع الدين بالدين ، وان أرادوا أنه دين بعد ذلك لزم مثله في المضمون الحال ، ولا يقولون ببطلانه ، وأما دعوى إطلاق اسم الدين على المؤجل قبل ثبوته في الذمة دون الحال فهو تحكم.

والحق أن اسم بيع الدين بالدين لا يتحقق إلا إذا كان العوضان معا دينا قبل المعاوضة ، كما لو باعه الدين الذي في ذمته بدين آخر له في ذمته ، أو في ذمة ثالث أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر للآخر ، ونحو ذلك لاقتضاء الباء كون الدين نفسه عوضا ، والمضمون الذي لم يكن ثابتا في الذمة قبل ذلك لا يعد جعله عوضا بيع دين بدين ، وأما ما يقال : اشترى فلان كذا بالدين ، مريدين به أن الثمن في ذمته لم يدفعه ، فهو مجاز يريدون به أن الثمن بقي في ذمته دينا بعد البيع ، ولو لا ذلك لزم مثله في الحال لإطلاقهم فيه ذلك نعم. الدين المبيع يطلق عليه اسم الدين قبل حلوله وبعده ، فلا بد في المنع من دين آخر يقابله ، فظهر أن ما اختاره المصنف من جواز ذلك على كراهية أوضح. انتهى وهو جيد ، الا ان ما ذكره من ان الدين المبيع كالسلم مثلا يطلق عليه اسم الدين بعد الحلول أيضا وان كان هو الظاهر من كلام غيره من الأصحاب أيضا ، الا ان الدين لغة كما صرح به جملة من أرباب اللغة مخصوص بالمؤجل دون الحال ، قال في القاموس : الدين ماله أجل ، وما لا أجل له فقرض.

وقال في النهاية الأثيرية فيه انه نهى عن الكالي أي النسيئة ، بالنسيئة وذلك ان يشترى الرجل شيئا الى أجل ، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضى به فيقول بعينه

٤٨

إلى أجل آخر بزيادة شي‌ء فيبيعه منه ، ولا يجرى بينهما تقابض.

وقال في كتاب الغريبين قوله تعالى «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ» الدين ما له أجل ، والقرض ما لا أجل له ، وهو عين ما ذكره في القاموس ، الا ان الظاهر من كلام الفيومي في المصباح المنير خلاف ذلك ، قال بعد ذكر كلمات جملة من أهل اللغة في مادة الاشتقاق : تشتمل على إطلاق الدين على القرض ، ثم ذكر قوله سبحانه «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ» اى تعاملتم بدين من سلم وغيره : ما لفظه فثبت بالآية وبما تقدم ان الدين لغة هو القرض ، وثمن المبيع الى آخره ، وربما ظهر منه الاختصاص بما ذكره ، والحال كما ترى لا يخلو من الاشكال ، ومثله يأتي فيما ألزمهم به من إطلاق الدين على المضمون الحال ، فإنه يمكن الجواب عنه بأنه بناء على ما ذكره من تخصيص الدين بالمؤجل لغة لا يرد ما أورده ، الا ان يكون مراده الإطلاق عرفا كما هو ظاهر سياق الكلام ، وكيف كان فالمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال كما تقدمت الإشارة اليه والله العالم.

المسألة الثالثة إذا دفع دون الصفة ورضى المشترى فلا إشكال في الجواز ، وبراءة ذمة البائع ، وان دفع فوق الصفة فظاهر الأصحاب وجوب قبوله ، اما لو دفع أكثر لم يجب قبول الزيادة.

قال في المسالك : الفرق بين العين والصفة ان زيادة الصفة لا تنافي عين الحق ، بل تؤكده ، إذ المفروض كونه مساويا للحق في النوع وغيره ، ويزيد الصفة ، اما العين فهي خارجة عن الحق زائدة عليه ، فلا يجب قبولها ، لأنها عطية جديدة ، ويمكن تخليصها والحق معها غير متعين انتهى.

ولا يخفى ما فيه فان ما ذكره في العين يمكن إجراءه في زيادة الصفة ، فان الحق الذي له موصوف بصفة خاصة ، والمدفوع موصوف بصفة أخرى ، وبه يحصل التغاير ، فكيف لا تنافي عين الحق ، واما قوله في الزيادة فلا يجب قبولها لأنها عطية ، فإنه يجري في زيادة الوصف ، فإنها مشتملة على المنة ، ولا يجب قبولها ايضا كما صرحوا به في غير موضع ،

٤٩

ومنه قبول ما يوهب مما يستطيع به الحج ، والمنقول عن ابن الجنيد التسوية بين الأمرين في عدم وجوب القبول ، ويدل عليه بعض الاخبار الآتية ، وبالجملة فإنه مع التراضي من الطرفين لا اشكال ولا خلاف في جواز الأخذ ناقصا وزائدا في العين أو الصفة ، وانما الكلام في وجوب القبول وتحتمه شرعا.

والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام ما رواه في الكافي عن قتيبة الأعشى (١) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وانا عنده فقال رجل : ان أخي يختلف الى الجبل فيجلب الغنم فيسلم في الغنم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم ، فيعطى الرباع جذاعا مكان الثني فقال له : أبطيبة من نفس صاحبه؟ قال : نعم قال : لا بأس».

وما رواه المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن أبى بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السلم في الحيوان؟ قال : ليس به بأس ، قلت : أرأيت أن أسلم في أسنان معلومة أو شي‌ء معلوم من الرقيق فأعطاه دون شرطه أو فوقه بطيبة النفس منهم؟ قال : لا بأس».

وما رواه في الكافي عن الحلبي (٣) في الصحيح قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل يسلم في وصفاء أسنان معلومة ولون معلوم ثم يعطى دون شرطه أو فوقه فقال : إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس». ورواه الشيخ عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وعن معاوية بن عمار (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل أسلف في وصفاء أسنان معلومة وغير معلومة ثم يعطى دون شرطه؟ قال : إذا كان بطيبة النفس منك ومنه فلا بأس ، الى أن قال : ولا يأخذ دون شرطه إلا بطيبة نفس صاحبه».

وعن الحلبي (٥) في الصحيح ورواه في الفقيه أيضا عن الحلبي في الصحيح

__________________

(١ ـ ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٢٢ التهذيب ج ٧ ص ٤٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٢١ التهذيب ج ٧ ص ٤٦ و ٤١.

(٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٢٢١.

٥٠

عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، في حديث قد تقدم قال : «ويأخذون دون شرطهم ولا يأخذون فوق شرطهم ،».

ورواه الشيخ في الصحيح أيضا عن سليمان بن خالد (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله ، ويمكن الاستدلال بهذا الخبر لما نقل آنفا عن ابن الجنيد من عدم وجوب أخذ ما زاد على الوصف ، والمراد أنه لا يجب عليهم قبول ما زاد على الوصف ، ولا ينافيه ما تقدم في صحيحة الحلبي من نفى البأس مع طيبة النفس منهما إذا كان فوقه ، لان الكلام كما عرفت في وجوب الأخذ عليه لا في الجواز ، بل هذه الرواية أيضا ظاهرة فيما ذكره ابن الجنيد حيث شرط فيها أخذ ما فوق الشرط بطيبة نفسي الآخذ ، فلا يجبر عليه ، كما هو ظاهر كلامهم من وجوب القبول.

وبالجملة فإن الظاهر هو قوة ما ذهب اليه ابن الجنيد لما عرفت من ضعف التعليل الذي ذكره في المسالك ، مع اعتضاد قول ابن الجنيد بظاهر الصحيحة المذكورة ، ولو دفع اليه ما هو على الصفة المشروطة وجب القبول أو الإبراء من حقه ، ولو امتنع من الأمرين جبره الحاكم ، والا قبضه له إذا سأل المسلم اليه ذلك ، والظاهر انه يبرئ لو عزله له ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة (٢) من المطلب الأول في النقد والنسيئة من الفصل الرابع في أحكام العقود ومتى قبضه برئت ذمة المسلم إليه.

المسألة الرابعة لو وجد في المبيع أو الثمن عيب بعد القبض فهنا مقامان الأول ـ لو وجد بالمبيع عيبا بعد القبض فإنه يتخير بين الرضاء به مجانا وبين رده ، فيرجع الحق إلى ذمة المسلم اليه ، بمعنى أن المدفوع لا يتعين بمجرد الدفع ، وان كان من الجنس وعلى الوصف ، للعيب المذكور ، لأنه إنما أسلفه في صحيح ، ولا أرش هنا ، لانه لم يتعين الحق حتى يجب قبوله ويجبر بالأرش ، بل الحق في الذمة أمر كلي ، ودفع هذا المعيب عنه بعد ظهور العيب يكون ملكا متزلزلا يتخير فيه بين الرضاء به

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٢ ـ.

(٢) ح ١٩ ص ١٣١.

٥١

مجانا فيستقر ملكه عليه ، وبين أن يرده ، فيرجع الحق إلى الذمة سليما بعد ان خرج خروجا متزلزلا.

بقي الكلام في النماء المنفصل المتجدد زمن الخيار بعد القبض وقبل الرد متى اختار الرد ، والظاهر من كلامهم أنه للقابض ، فإنه متجدد في ملكه وان كان متزلزلا ، كنظائره من النماء المتجدد زمن الخيار ، واما المتصل كالسمن فإنه تابع للعين.

الثاني : قالوا : إذا ظهر في الثمن بعد قبضه عيب فان كان من غير الجنس كان يكون نحاسا والثمن فضة ، بطل العقد ، وان كان من جنسه رجع بالأرش ان اختار البيع ، وان اختار الرد كان له ذلك ، وهو لا يخلو من إجمال ، وتفصيل الكلام في ذلك بمعونة ما تقدم في باب الصرف أن يقال هنا ان العيب اما أن يكون من الجنس أو من غيره ، وعلى كل من التقديرين فاما أن يكون في جملة الثمن أو بعضه ، وعلى كل من هذه التقادير اما ان يظهر قبل التفرق أو بعده ، وعلى كل من هذه التقادير اما أن يكون الثمن معينا أو كليا.

وجملة الأقسام تنتهي إلى ستة عشر ، أحدها ان يكون العيب من غير الجنس ، ويكون في جملة الثمن بعد التفرق ، وكان معينا ولا إشكال في البطلان هنا ، لانتفاء شرط السلم ، وهو القبض قبل التفرق ، كما تقدم.

ثانيها : الصورة بحالها ولكن قبل التفرق ، والحكم هو المطالبة بالبدل قبل التفرق.

ثالثها : الصورة الأولى بحالها ولكن كان العيب في بعض الثمن ، والحكم فيها صحة البيع فيما هو من الجنس ، والبطلان في غيره.

رابعها : الصورة بحالها ولكن قبل التفرق ، والحكم فيها الصحة فيما هو من الجنس ، والمطالبة بالبدل قبل التفرق.

خامسها : العيب من غير الجنس في جملة الثمن بعد التفرق ، ولكن الثمن كلي في

٥٢

الذمة وحكمها كالصورة الأولى لعدم العيب للعلة المذكورة ثمة.

سادسها : الصورة بحالها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الصورة الثانية سابعها : العيب من غير الجنس بعد التفرق وكون الثمن كليا لكن العيب في بعض الثمن ، والحكم فيها كما في الصورة الثالثة.

ثامنها : الصورة كسابقها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الرابعة ، فهذه ثمان صور فيما لو كان من غير الجنس.

تاسعها : العيب من الجنس كخشونة الجوهر واضطراب السكة ونحوهما وكون ذلك في جملة الثمن بعد التفرق ، مع كون الثمن معينا والحكم فيها التخيير بين الرد والرضاع مع الأرش ، كما تقدم في كلامهم.

عاشرها : الصورة بحالها لكن مع كون الثمن كليا في الذمة ، فهل يكون العقد صحيحا لحصول التقابض سابقا ولو في الجملة أو يكون باطلا لعدم التقابض حقيقة قبل التفرق؟ اشكال تقدم بيانه في المسألة الحادية عشر من مسائل الصرف.

الحادي عشر : الصورة كسابقتها لكن ظهور العيب قبل التفرق ، والحكم هنا وجوب الإبدال ، لأن الثمن أمر كلي في الذمة محمول على الصحيح السالم من العيب ، فمتى كان المدفوع معيبا وجب رده قبل التفرق ، لان المقبوض في حكم العدم ، ويرجع الحق إلى الذمة ، فيجب الأبدال ولا خيار هنا ولا أرش ، لاختصاص ذلك بما إذا كان الثمن معينا.

الثانية عشر : الصورة الاولى من صور العيب الجنسي لكن مع ظهور العيب قبل التفرق ، والحكم فيها كما في تلك الصورة من التخيير ، وهذه الصور الأربع في العيب الجنسي مبنية على ما إذا كان العيب في جملة الثمن ، وقس عليها ما إذا كان العيب في بعض الثمن ، فإنه يأتي فيه الصور الأربع المذكورة ، والحكم فيما قابل الصحيح صحة البيع ، وفيما قابل المعيب ما تقدم في كل من الصور الأربع من الخيار في الاولى ، والاشكال في الثانية ، ووجوب الإبدال في الثالثة ، والتخيير في الرابعة.

٥٣

المسألة الخامسة لو اختلفا في قبض الثمن هل كان قبل التفرق أو بعده؟ أو ادعى البائع انه قبضه ثم رده قبل التفرق.

والكلام هنا في موضعين الأول ـ ما إذا اختلفا في القبض هل هو قبل التفرق أو بعده؟ ومقتضى هذا الكلام أنهما قد اتفقا على القبض ، الا أن أحدهما ادعى أن القبض وقع قبل التفرق ، فيصح العقد حينئذ لوجود شرطه.

والأخر ادعى انه بعده فيبطل ، ومقتضى قواعد الأصحاب أن القول قول مدعى الصحة ، وبه أفتوا في المسألة ، أما لو اختلفا في أصل قبض الثمن ، فان القول قول منكر القبض وان تفرقا واستلزم البطلان ، والنزاع في الحقيقة في كل من المسألتين يرجع الى طرو المفسد ، والا فهما متفقان على أصل الصحة ، ولا نزاع بينهما فيها ، لاتفاقهما على وقوع العقد.

ولكن في المسألة الأولى ادعى أحدهما أن القبض انما وقع بعد التفرق ، وهو موجب لبطلان العقد ، وفي الثانية ادعى البائع عدم القبض ، وحصول التفرق الموجب للبطلان ، وفي الأولى قدم قول مدعى الصحة المتفق عليها ، لأن الأصل عدم طرو المفسد ، وفي الثانية المقتضي للفساد قائم وهو التفرق ، ويترتب على ما هو الأصل من عدم قبض الثمن ، فان مقتضى الأصل ذلك ، فمن أجل ذلك حكم بالبطلان.

هذا مع عدم البينة ، ولو أقام كل منهما بينة بالنسبة إلى المسألة الأولى ، بنى على تقدم بينة الداخل ـ وهو هنا مدعى الصحة ـ أو الخارج ، واختار في المسالك الثاني ، ونقل عن العلامة تقديم بينة الأول لقوة جانبه بدعوى أصالة عدم طرو المفسد ، ولكون دعواه مثبتة ، والأخرى نافية ، وبينة الإثبات مقدمة.

الثاني لو قال البائع : قبضت الثمن ثم رددته إليك ، وأنكر المشتري القبض ، وظاهرهم أن القول قول البائع مع يمينه ، مراعاة لجانب الصحة ، وتفصيل ذلك أنهما الان متفقان على أن الثمن عند المشترى ، اما في ذمته ، أو أمانة عنده (١) وانما

__________________

(١) أقول كون الثمن في ذمته بناء على إنكار المشتري الإقباض ، وكونه عنده يعني امانة بناء على دعوى البائع أنه رده عليه ـ منه رحمه‌الله.

٥٤

اختلفا في كون ذلك على وجه مفسد للعقد بأن لا يكون البائع قبضه بل بقي في ذمة المشترى ، فلم يحصل التقابض ، أو على وجه مصحح بأن يكون قبضه البائع ثم رده اليه ، والأصحاب قدموا قول البائع رعاية لصحة العقد.

وقد يقال : ان أصالة صحة العقد معارضة بأن الأصل عدم حصول القبض ، الا انه يمكن أن يقال أيضا أنه مع تعارض الأصلين المذكورين يحصل الشك في طرو المفسد ، والأصل عدمه ، أو يقال المقتضى للفساد مشكوك فيه ، إذ لا يعلم ان التفرق كان قبل القبض ، والأصل عدمه ، فيتمسك بأصل الصحة.

وكيف كان فإنه يبقى هنا إشكال في المقام ، وهو ان دعوى البائع مشتملة على شيئين ، قبض الثمن ورده ، وانما قدم قوله في القبض مراعاة لصحة العقد ، وأما في الرد فمقتضى القواعد الشرعية أنه غير مقبول كنظائره ، إذ لا مدخل له في الصحة وحينئذ فمع قبوله في القبض هل له مطالبة المشتري بالثمن أم لا؟ إشكال ينشأ من عدم قبوله في الرد مع اعترافه بحصول القبض ، فليس له المطالبة ، ومن اتفاق المتبايعين على أن الثمن عند المشترى ، اما على دعوى البائع فظاهر ، وأما على دعوى المشترى فلاعترافه بعدم الإقباض ، فإذا قدم قول البائع في صحة العقد ألزم المشتري بالثمن ، فيجوز المطالبة حينئذ ، الا أنه يشكل أيضا بأن المشتري بناء على فرض المسألة لا يدعى شيئا في ذمة البائع ، لاعترافه بفساد البيع ، وأنه لم يقبضه الثمن قبل التفرق ، فلا تبقى الا دعوى البائع ، وهي مشتملة على الاعتراف بالقبض ، ودعوى الرد ، والثانية غير مقبول بمقتضى القواعد الشرعية فكيف تجوز له المطالبة.

وبالجملة فأمثال هذه الفروع الخالية من النصوص على العموم والخصوص سيما مع تعارض الاحتمالات العقلية فيها محل الاشكال ، وان كان الأقرب بالنظر الى هذه التعليلات هو عدم المطالبة ، إلزاما له بالاعتراف بالقبض الذي بنوا عليه صحة العقد ، وعدم سماع دعوى الرد ، والله العالم.

٥٥

الفصل الحادي عشر في بيع الغرر والمجازفة

وفيه مسائل الاولى قال الشيخ في النهاية من اشترى شيئا بحكم نفسه ولم يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلا ، فان هلك في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتياعه ، الا أن يحكم على نفسه بأكثر من ذلك ، فيلزمه ما حكم به دون القيمة ، وان كان الشي‌ء قائما بعينه كان لصاحبه انتزاعه من يد المبتاع ، فإن أحدث المبتاع فيه حدثا نقص به ثمنه كان له انتزاعه منه وأرش ما أحدث فيه ، فان كان الحدث يزيد في قيمته وأراد انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه فيه ، فان ابتاعه بحكم البائع فحكم بأقل من قيمته كان ذلك ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وان حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع ، الا أن يتبرع المبتاع بالتزام ذلك على نفسه ، فان لم يفعل لم يكن عليه شي‌ء وكذا قال الشيخ المفيد وابن البراج وأبو الصلاح على ما نقله في المختلف.

وقال سلار : من لم يسم ثمنا بطل بيعه وشراؤه فإن هلك المبيع في يد من ابتاع ولم يسم الثمن كان عليه قيمته يوم أخذه ، فإن كان باقيا فللبائع أخذه ، فإن كان قد أحدث فيه حدثا فان نقصت به قيمته فللبائع أرش النقصان ، وان زادت فالأرش للمبتاع.

وقال العلامة في المختلف : لا يجوز البيع بحكم أحدهما في الثمن ، فان بيع كذلك بطل البيع ، ولو حكم الحاكم منهما بأي شي‌ء كان لم يلزم بل يبطل البيع ، فان كانت السلعة قائمة استردها البائع ، وان كانت تالفة وجب على المشترى قيمتها ولا اعتبار بما يحكم به أحدهما ، هذا إذا كانت من ذوات القيم ، وان كانت من ذوات الأمثال وجب عليه مثلها ، فان تعذر المثل فقيمة المثل يوم الإعواز ثم قال : وقال ابن إدريس كما قلناه إلا في موضعين.

أحدهما أن مع التلف ولا مثل يجب عليه أكثر القيم من وقت القبض الى وقت التلف كالغصب.

٥٦

والثاني ـ أن الحدث الذي أبره المشترى ان كان عين مال له أخذه ، وان كان فعلا لم يكن له الرجوع على البائع بشي‌ء ، ثم انه احتج في المختلف على البطلان ، قال : لنا على بطلان البيع مع الجهالة الإجماع عليه ، والنهى عن الغرر والحكم غير لازم ، إذ ذلك لا يصير ما ليس بثابت في الذمة ثابتا ، أقول : الظاهر من كلام الشيخ ومن تبعه ممن تقدم ذكره هو التفصيل في البيع بحكم أحدهما ، وأنه ان كان الحاكم هو المشترى فالبيع عندهم باطل ، وان كان الحاكم هو البائع ، فإن حكم بأقل من قيمته كان البيع ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وان حكم بأكثر فالبيع أيضا صحيح ولكن ليس له أكثر من القيمة في حال البيع ، الا أن يرضى المشترى بتلك الزيادة ، وظاهر ابن إدريس ومن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما من المتأخرين هو البطلان مطلقا.

وابن إدريس قد خالف الشيخ في مواضع ، منها في قوله فان هلك في يد المبتاع كان عليه قيمة يوم ابتاعه ، فقال : هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والذي يقتضيه أصول المذهب أن الشي‌ء ان كان له مثل فعليه مثله لا قيمته ، وان أعوز المثل فعليه ثمن المثل يوم الإعواز ، وان كان المبيع مما لا مثل له فإنه يجب عليه قيمة أكثر ما كانت الى يوم الهلاك ، لان هذا بيع فاسد ، والبيع الفاسد عند المحصلين يجرى مجرى الغصب في الضمان.

أقول : ما ذكره من التفصيل بالمثلي والقيمي جيد كما هو المتكرر في كلامهم ، وأما تعيين وقت القيمة فقد تقدم الكلام فيه ، ومنها في قول الشيخ فان كان الحدث يزيد في قيمته وأراد انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه.

فقال : هكذا قال شيخنا في نهايته ، والاولى أن يقسم الحدث فيقول : ان كان آثار أفعال لا أعيان أموال ، فلا يرد على المبتاع شي‌ء ، وان كان الحدث أعيان أموال فهو على ما قاله رحمه‌الله.

٥٧

أقول : وبما أطلقه الشيخ هنا أفتى المحقق في الشرائع ، ووافقه في المسالك لكن قيده بصورة الجهل ، والظاهر أن مراده الجهل بصحة البيع ثم قال : أما مع علمه فليس له الا الزيادة العينية التي يمكن فصلها ، فالوصفية كالصنعة لا يستحق بسببها شي‌ء ، وبالجملة حكمه حكم الغاصب ، وهذا هو أصح الأقوال في المسئلة انتهى : وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا في المسألة.

ومنها في قوله «فان ابتاعه بحكم البائع فحكم بأقل من قيمته» الى آخر الكلام فقال : هكذا أورده في نهايته والاولى أن يقال البيع باطل ، لان كل مبيع لم يذكر فيه الثمن يكون باطلا بغير خلاف بين المسلمين ، فإذا كان كذلك فان كان باقيا بعينه فللبائع انتزاعه من يد المشترى ، وان كان تالفا وتحاكما فلصاحبه مثله ان كان له مثل ، وان كان لا مثل له فله قيمته أكثر القيم الى يوم الهلاك ، لا قيمته في حال البيع ، فإن أقر البائع بشي‌ء لزمه إقراره على نفسه ، الا أن يقر بأزيد من قيمته التي يوجبها الشارع ، وانما هذه أخبار آحاد أوردها في نهايته إيرادا لا اعتقادا انتهى.

وأنت خبير بأنه قد تقدم في المسئلة السابعة من مسائل المقام الثالث من الفصل الأول نقل صحيحة رفاعة الدالة على بيع الجارية بحكم المشترى وعدم قبول البائع لما حكم به بعد أن دفع الجارية إلى المشترى ، ووطأها المشترى ، وحكمه عليه‌السلام ، في الصورة المذكورة بأن يقوم الجارية قيمة عادلة ، فإن كان قيمتها أكثر مما بعث اليه كان عليه أن يرد عليه ما نقص من القيمة ، وان كان قيمتها أقل مما بعث فهو له ، ولا يسترد منه شيئا ، ولكن الأصحاب لم يذكروها ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك بما خطر بالبال العليل ، والفكر الكليل.

وأما ما ذكره الشيخ هنا من الصحة في صورة حكم البائع على الوجه الذي ذكره فلم أقف فيه على دليل ، واما ما ذكروه من الضمان على المشترى للقاعدة المقررة عندهم «من ان كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فقد تقدم الكلام

٥٨

فيه أيضا في بعض المواضع المشار إليها آنفا.

الثانية قال في المختلف : لا خلاف بيننا في ان الثمن إذا كان مجهولا بطل البيع الا عن ابن الجنيد ـ فإنه قال : لو وقع على مقدار معلوم بينهما ، والثمن مجهول لأحدهما جاز إذا لم يكن بواجبه ، وكان للمشتري الخيار إذا علم ، وذلك كقول الرجل يعنى كر طعام بسعر ما بعت ، فاما ان جهلا جميعا قدر الثمن وقت العقد لم يجز ، وكان البيع منفسخا ـ والا من السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، فإنه قال : لا يشترط العلم برأس مال السلم إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة ـ والا من الشيخ في المبسوط في كتاب الإجارة فإنه قال : إذا باع شيئا بثمن جزاف جاز إذا كان معلوما مشاهدا وان لم يعلم وزنه ، وكذا مال السلم ، لنا انه غرر فيكون منهيا عنه انتهى.

أقول ـ ونحو هذا الكلام ذكر في الدروس ، وقد تقدم نقل عبارته ، والكلام في حكم هذه المسألة صحة وبطلانا تقدم في المسألة السابعة المشار إليها في سابق هذه المسألة.

الثالثة قال في المختلف : بيع الصبرة باطل الا ان يعلما قدرها أو يعلمه أحدهما ويخبر الآخر حالة العقد ، ولو جهلاها وقت العقد أو أحدهما بطل ، سواء شاهداها أم لا ، وسواء كالاها بعد ذلك أو لا ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، إلا ابن الجنيد فإنه جوز ذلك ، والشيخ قال في المبسوط : إذا قال : بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم صح البيع ، لأن الصبرة مشاهدة ، ومشاهدة المبيع تغني عن معرفة مقداره ، وقد روى أن ما يباع كيلا لا يباع جزافا وهو الأقوى عندي ، ثم فرع على الوجهين بعض الفروع وهو مشعر بتردده ، وان قوى أحدهما ، ورده المختلف بأنه غرر منهي عنه بالإجماع ، وجزم في الخلاف بالبطلان.

أقول وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة المشار إليها آنفا فيما يصح بيعه من صور بيع الصبرة وما يبطل.

٥٩

الرابعة قال الشيخ في النهاية : لا بأس أن يعطى الإنسان الغنم والبقر بالضريبة مدة من الزمان بشي‌ء من الدراهم والدنانير والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة أجود في الاحتياط ، ونقل عن المختلف عن ابن إدريس أنه لا يجوز ذلك ، وقال في المختلف بعد نقل ذلك : والتحقيق أن هذا ليس ببيع ، وانما هو نوع معاوضة ومراضاة غير لازمة ، بل سائغة ولا منع في ذلك.

أقول : والذي حضرني من الاخبار الواردة في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كل شاة كذا وكذا قال : لا بأس بالدراهم ، ولست أحب أن يكون بالسمن».

وما رواه في الكافي عن إبراهيم بن ميمون (٢) «أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها وله أصوافها وألبانها ويعطينا الراعي لكل شاة درهما قال : ليس بذلك بأس ، فقلت : ان أهل المسجد يقولون : لا يجوز لان منها ما ليس له صوف ولا لبن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وهل يطيبه الا ذاك يذهب بعضه ويبقى بعض».

ورواه في التهذيب مثله. وما رواه في الكافي والتهذيب عن مدرك بن الهزهاز (٣) عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون له الغنم فيعطيها بضريبة شيئا معلوما من الصوف أو السمن أو الدراهم فقال : لا بأس بالدراهم وكره السمن».

وما روياه في الكتابين ايضا عن عبد الله بن سنان (٤) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل دفع الى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكل شاة كذا وكذا في كل شهر قال : لا بأس بالدراهم ، واما السمن فما أحب ذلك الا ان تكون حوالب فلا بأس بذلك».

__________________

(١ ـ ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٢٣ التهذيب ج ٧ ص ١٢٧.

(٣ ـ ٤) الكافي ج ٥ ص ٢٢٤ التهذيب ج ٧ ص ١٢٧.

٦٠