الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

الى مخصص ، فبأي جهة قدموا العمل بأدلة الحجر ، وخصصوا بها تلك الأدلة ، مع أن الأمر عند النظر بعين التحقيق انما هو بالعكس ، فإن أدلة الحجر كما عرفت لا عموم فيها ، كما يدعونه على وجه تشتمل هذه الأمور ونحوها ، وحينئذ فيجب العمل بتلك الأخبار الدالة على وجوب الوفاء لهذه الأمور وما يترتب عليها ،

وبذلك يظهر لك أن حكمهم بكون النذر بالصدقة بمال معين باطلا ، وكذا كونه موقوفا لو نذر التصدق بمال في الذمة في محل المنع ، لعدم الدليل عليه مع قيام الأدلة على الصحة كما عرفت.

والاستناد في منع ذلك الى أنه لو صح تصرفه كذلك لأمكن أن يجعل ذلك وسيلة إلى ذهاب ماله ، لان مقتضى السفه يوجب صرفه الى ما لا ينبغي ـ مردود بأن السفيه ليس مجنونا يصرف ماله فيما لا يشعر به ، بل غاية أمره انه لسفهه وعدم خوف الله عزوجل يصرف أمواله في المصارف المحرمة الموجبة للذاته كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك من المصارف التي يتلذذ بها.

وحينئذ فكيف يصير صرفه المال في النذر والصدقة والكفارة وسيلة إلى صرفه فيما لا ينبغي ، وكيف تصير هذه الأشياء مما لا ينبغي ، وهي عبادات يترتب عليها الأجر والثواب وهو مكلف عاقل قد يريد الثواب والأجر وان كان سفيها في بعض أموره ، على أنا قد اعتبرنا تولى الولي لذلك ، وعدم تمكينه من المال كما تقدم.

وأما ما ذكره في المسالك في الجواب عن دليل القول الثاني من الفرق ، ففيه أنه كما أن الزكاة قد أوجبه الله سبحانه كذلك الكفارة قد أوجبها لانه مكلف مخاطب بالأحكام وليس بمجنون يسقط عنه التكليف ، فإنه لا خلاف في كون يمينه مشروعة ولازمة له ، وأنه بالحنث تجب عليه الكفارة كما في غيره من المكلفين ،

وحينئذ فلما حنث أوجب الله عليه الكفارة كما أوجب عليه الزكاة ، وكون السبب في إيجابها الحنث الذي هو من المكلف لا يمنع من تعلق حكم الوجوب بها ، وأن المطالب بها هو الله عزوجل ، كما يطالب بالزكاة ونحوها ، على أن من جملة المعدودات التي وافق على وجوبها الكفارة التي سبق وجوبها الحجر ، فان

٣٨١

سببها أيضا مستند الى المكلف والفرق بينها ، وبين ما نازع فيه غير واضح.

وبالجملة فإن غاية ما يتمسكون به هنا هو ما يدعونه من عموم الحجر ، وقد عرفت ما فيه ، وما ذكره في المسالك في آخر كلامه المتقدم نقله بقوله فلو أخرجها من المال أمكن جعل ذلك وسيلة الى آخره ، فيه ما عرفت والله العالم العالم.

المطلب الثالث في المفلس

وهو بكسر اللام لغة الذي ذهب خيار ماله من دراهم ودنانير ، وبقي فلوسه ، فهو مأخوذ من الفلس ، واحد الفلوس يقال : أفلس الرجل بصيغة اللازم ، فهو مفلس بكسر اللام ، إذا صار كذلك كما يقال : أذل الرجل أى صار ذا ذل ، فالمعنى هنا أنه صار ذا فلوس ، بعد أن كان ذا دراهم ، ومرجعه الى الانتقال من حال اليسر الى حال العسر ، حيث أنه قد ذهب خيار ماله ، فلم يبق الا الفلوس.

واما شرعا فإنه يقال : مفلس بفتح : وهو الممنوع من التصرف في ماله ، يقال فلسه القاضي تفليسا إذا حكم بإفلاسه ، ونادى عليه ، وشهره بين الناس بأنه صار مفلسا ، والمراد به هنا من يكون عليه ديون تقصر أمواله عن أدائها.

قالوا : ولا يتحقق الحجر عليه الا بشروط أربعة الأول ـ أن يكون ديونه ثابتة عند الحاكم.

الثاني ـ أن يكون أمواله قاصرة عن الديون التي عليه. الثالث ـ أن يكون ديونه حالة ، الرابع ـ أن يلتمس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه.

أقول : اما الأول ـ من هذه الشروط فظاهر ، لان الحجر انما يقع من الحاكم ، وحينئذ فلا بد من ثبوت الديون عنده بإقرار أو بنية أو علم منه بذلك على أظهر القولين

وأما الثاني فلأنه لو كانت أمواله زائدة أو مساوية فلا حجرا جماعا ، كما نقله في المسالك ، بل يطالب لها ، فان قضاها والا رفع أمره الى الحاكم ، فيحبسه الى أن يقضى ذلك ، أو يبيع عليه متاعه ويقضى عنه دينه ، والمراد بأمواله القاصرة عن أداء ديونه ما يشمل معوضات الديون ، وهي الأموال التي ملكها بعوض ثابت في

٣٨٢

ذمته ، كالأعيان التي اشتراها أو استدانها ، فإنها ملكه فيكون من جملة أمواله ، وان تخير أصحابها بين الرجوع فيها عند قسمة أمواله أو الطلب بعوضها ، وكما تحتسب هذه الأشياء من جملة أمواله ، فتحتسب أعواضها من جملة ديونه.

وأما الثالث فلانه مع كون الديون مؤجلة لا وجه للحجر ، لعدم استحقاق المطالبة وان لم يف ماله بما عليه ، ويجوز أن يسهل الله (سبحانه) له الوفاء عند حلول الأجل والمطالبة ، وأما ما نقل عن ابن الجنيد من حلول ديونه المؤجلة قياسا على الموت فضعيف.

واما الرابع فلان الحق للغرماء فلا يتبرع الحاكم بالحجر لأجلهم مع عدم طلبهم ذلك ـ الا أن تكون الديون لمن له الولاية عليه ، كاليتيم والمجنون والسفيه وكذا لو كان بعضها لهم والبعض الآخر لغيرهم مع التماس ذلك الغير.

وكذا لو سأل هو الحجر على المشهور ، فإنه لا يجاب الى ذلك ، وعلل بأن الحجر عقوبة ، والرشد والحرية ينافيانه فلا يصار اليه الا بدليل ، واستقرب العلامة في التذكرة جواز اجابته ، استنادا إلى انه كما أن في الحجر مصلحة للغرماء بحفظ حقوقهم ، كذلك فيه مصلحة للمفلس ببراءة ذمته ، وخلاصها من حق الغرماء ، وأنه

قد روى عن النبي (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله «أنه حجر على معاذ بالتماسه». وفيه من الضعف ما لا يخفى ، فان بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة ، وأما الخبر المذكور فلم أقف عليه في أخبارنا ، والظاهر أنه عامي.

بقي هنا شي‌ء لم أقف على من تنبه له ، وهو ان ما اشتهر في كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه من كون المفلس يجب الحجر عليه ، كما يجب على الصبي والسفيه والمجنون ، لم أقف فيه على نص واضح ، كما ورد في الثلاثة المذكورة من الآيات والروايات المتقدمة في سابق هذا المطلب.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٤٨.

٣٨٣

والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بهذا المقام ، التي ربما يدعى منها ذلك موثقة عمار (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم ، يعنى ماله».

ورواية غياث بن إبراهيم (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أن عليا عليه‌السلام ، كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسم ماله» الحديث. المتقدم

وما رواه في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة (٣) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «انه قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل ، وقضى عليه‌السلام في الدين أنه يحبس صاحبه ، فان تبين إفلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا ، وقضى عليه‌السلام في الرجل يلتوي على غرمائه أن يحبس ، ثم يأمر به فيقسم ماله بين غرمائه بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم».

ورواه الصدوق في الفقيه ، وزاد لفظ المفسد بعد الغلام في صدر الخبر ورواية السكوني (٤) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام عن على صلوات الله عليه «أنه كان يحبس في الدين ثم ينظر فان كان له مال أعطى الغرماء ، وان لم يكن له مال دفعه الى الغرماء ، فقال لهم : اصنعوا به ما شئتم ، ان شئتم آجروه ، وان شئتم فاستعملوه».

وأنت خبير بأن غاية ما يدل عليه أكثر هذه الاخبار انه عليه‌السلام كان يحبس في الدين إذا التوى على غرمائه ، وهذا لا دلالة فيه على كونه مفلسا ، بل ظاهرها أن الحبس انما هو من حيث المطل وعدم الأداء ، لأنه معنى الالتواء ، فيجوز أن يكون عنده ما يفي بالديون التي عليه ، ولكنه يماطل في دفعه ، فهو عليه‌السلام يحبسه حتى يتبين حاله ، فان وجد عنده مالا قسم ما وجده عنده بين غرمائه ، وان لم يجد عنده شيئا أطلقه حتى

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩١.

(٢ ـ ٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٣٠٠.

٣٨٤

يستفيد مالا (١) كما دل عليه حديث الأصبغ.

ومثله أيضا رواية غياث ، أو دفعه الى أصحاب الدين كما تضمنه خبر السكوني. نعم في خبر غياث يفلس الرجل أى يحكم بكونه مفلسا.

وكيف كان فإن غاية ما تدل عليه هذه الاخبار هو أنه بعد رفع الأمر إليه أنه يحبس الرجل ، فان وجد له مالا قسمه بين الغرماء ، والا فلا ، وأما أنه يحجر عليه التصرف فيه مع بقاء المال في يده ، كما هو المفروض في كلامهم والمبنى عليه تفريعاتهم الاتية فلا دلالة في شي‌ء منها عليه ، والشروط المتقدمة إنما بنيت على ذلك.

وبالجملة فإن غاية ما تدل عليه الاخبار هو استيفاء المال منه ، وتحصيله بعد رفع الأمر إلى الحاكم ، وقسمته بين الغرماء ، ومرجع البحث معهم في هذا المقام هو صحة الحجر من الحاكم الشرعي وعدمه ، فإنه إذا كان الامام عليه‌السلام في هذه الاخبار لم يحجر عليه ، ولم يأمر به ، وليس غيرها في الباب فكيف يسوغ لنائبه وهو الفقيه أن يفعل ذلك ، وهو غير مأذون فيه ولا مأمور به عنهم عليهم‌السلام.

وانما الوارد عنهم كما عرفت انما هو قسمة ماله بالحصص إذا رفع الأمر اليه ، وهذا حكم على حده ، والحجر حكم على حده ، والأحكام الشرعية توقيفية مقصورة على ما ورد عنهم عليهم‌السلام والبحث في هذا الكتاب كله انما ترتب على الحجر كما سيظهر لك.

ثم انه بناء على ما ذكروه من الشروط المتقدمة قالوا : إذا تحققت الشروط المذكورة ، وحصل الحجر من الحاكم ، تعلقت به أمور أربعة : الأول : منع التصرف بأن يمنعه الحاكم من جميع التصرفات ، والكلام هنا في مواضع أحدها ـ قالوا : ان المراد من التصرفات الممنوع منها هي التصرفات الابتدائية المتعلقة بالمال

__________________

(١) وهي ما رواه عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أن عليا عليه‌السلام كان يحبس في الدين فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا». منه رحمه‌الله.

٣٨٥

الموجود حال الحجر ، كالعتق والرهن والبيع والهبة ، ولا يمنع من إمضاء تصرف سابق أو إبطاله ، مثل فسخ بيع أو إمضائه في زمن الخيار أو بالعيب.

وكذا لا يمنع من التصرفات المتعلقة بغير المال كنكاح المرأة بنفسها ، والرجل ايضا بشرط عدم إيقاع العقد على المال الممنوع ، وكالطلاق واللعان والخلع ، واستيفاء القصاص والعفو عنه ، ولا عن كسب المال مثل قبول الوصية ، وقبول الهبة ، والاحتشاش والاحتطاب.

ولا اعرف لهم دليلا في المقام الا ما ربما يدعى من الإجماع ، وقد عرفت ما في أصل المسألة من تطرق النزاع ، وحينئذ فلو تصرف فيما منع من التصرف فيه كان تصرفه باطلا ، وهل المراد بالبطلان هنا حقيقة ـ وكون عبارته كعبارة الصبي ، فلا تصح وان لحقته الإجازة ـ أو البطلان بمعنى عدم اللزوم؟ فلا ينافي صحته لو أجاز الغرماء ، أو فضل عن الدين بعد قسمة ماله عليهم قولان :

قالوا : ويؤيد الأول : أنه هو المناسب للحجر ، فان معنى قول الحاكم حجرت عليك منعتك من التصرفات ، ومقتضاه تعذر وقوعها منه.

ويؤيد الثاني : أنه لا يقصر عن التصرف في مال الغير ، فيكون كالفضولي وحينئذ فلا ينافيه منعه من التصرف ، لان المراد منه التصرف المنافي لحق الغرماء ، ولا دليل على ارادة غيره ، وعلى التقدير الثاني فان اجازه الغرماء نفذ ، والا أخر الى أن يقسم المال ، فلا يباع ولا يسلم الى الغرماء ، فان لم يفضل من ماله شي‌ء يبين بطلانه ، وان فضل ما يسعه صح.

وثانيها ـ لو أقر بدين سابق صح ، لعموم (١) «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». والظاهر أنه لا خلاف فيه ، انما الخلاف في أنه هل يشارك ذلك المقر له بالدين الغرماء أم لا؟ والى الأول ذهب الشيخ في المبسوط ، والمحقق والعلامة في الشرائع والتذكرة والتحرير ، وقيل : بعدم المشاركة ، وقواه في المسالك ، وهو ظاهر العلامة

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب الإقرار الرقم ـ ٢.

٣٨٦

في الإرشاد حيث قال : لو أقر بمال فالوجه اتباعه بعد الفك ، بمعنى أنه يتبع المقر بعد فك حجره ، ولا يشارك الغرماء ، وهو اختيار المحقق الأردبيلي في شرحه ايضا جازما به حيث لم ينقل خلافا في المسألة بالكلية ، مع ما عرفت من تعدد القائل بذلك القول الأخر.

حجة القول الأول أنه عاقل فينفذ إقراره للخبر ، وعموم الخبر في قسمة ماله بين غرمائه ، والمقر له أحدهم ، ولأن الإقرار كالبينة ، ومع قيامها لا إشكال في المشاركة ، ولانتفاء التهمة على الغرماء ، لان ضرر الإقرار في حقه أكثر منه في حق الغرماء ، ولان الظاهر من حال الإنسان أنه لا يقر بدين عليه مع عدمه ، هكذا قرر في المسالك حجة القول المذكور.

ثم اعترضه فقال : ويشكل بمنع دلالة الخبر على المدعى ، لأنا قبلناه على نفسه ، ومن ثم التزمناه بالمال بعد زوال الحجر ، ولم يدل على أنه جائز على غيره ، ولو شارك المقر له الغرماء لنفذ عليهم ، لتعلق حقهم بجميع ماله ، ولا معنى لمنعه من التصرف الا عدم نفوذه في ماله الموجود ، والمشاركة يستلزم ذلك ، وتمنع مساواة الإقرار للبينة في جميع الأحكام ، ويظهر أثره فيمن لا يقبل إقراره إذا أقيمت عليه البينة ، وإذا لم تكن القاعدة كلية لم تصلح كبرى للشكل (١) فلا ينتج المطلوب والتهمة موجودة في حق الغرماء ، لانه يريد إسقاط حقهم بإقراره ، وتحقق الضرر عليه لا يمنع من إيجابه الضرر عليهم ، ولإمكان المواطاة بينه وبين المقر له في ذلك ، فلا يتحقق الضرر الا عليهم.

وعلى كل حال لا يمكن الحكم بنفي التهمة على الإطلاق ، بل غايته أنه قد يكون متهما وقد لا يكون ، فلا يصلح جعل عدم التهمة وجها للنفوذ مطلقا ، والأقوى عدم المشاركة انتهى.

__________________

(١) بان يقال : هذا إقرار ، وكل إقرار كالبينة ، يصح ان هذا كالبينة في المشاركة ، والمنع هنا توجه إلى كلية الكبرى فإنه ليس كل إقرار كالبينة لما عرفت منه رحمه‌الله.

٣٨٧

أقول : وأنت خبير بأنه بمقتضى ما قررناه سابقا من عدم وجود الحجر عليه في الاخبار وانما غاية ما تدل عليه هو أنه عليه‌السلام يقسم أمواله بين غرمائه بالحصص ـ إذا رفع الأمر إليه ـ هو قوة القول الأول ، لأن هذا المقر له من جملتهم ، وبه يظهر قوة قوله في حجة القول الأول ، وعموم الخبر في قسمة ماله بين غرمائه ، والمقر له أحدهم.

وأما جواب شيخنا المذكور عن ذلك بقوله : ولو شارك المقر له الغرماء الى آخره فإنه صحيح لو كان هنا دليل على الحجر ، بأن قام الدليل على أن للحاكم الشرعي أن يحجر على المفلس التصرف في أمواله ، مع أنه ليس كذلك ، والذي ثبت له انما هو قسمته بالحصص بعد رفع الأمر إليه ، فإن قيل ـ : ان مقتضى قسمته بين الغرماء بالحصص بعد رفع الأمر إليه أنه يحجر على صاحبه التصرف فيه حتى يقسمه بين الغرماء بالحصص ـ ، قلنا قد عرفت من كلامهم أنه لا بد أن يقول الحاكم بعد رفع الأمر إليه : قد حجرت عليك التصرف في أموالك ، فإنه يترتب عليه الأحكام الأربعة المشار إليها آنفا ، وبدونه لا يثبت شي‌ء منها.

ومن جملة فروع ذلك ما نحن فيه ، من أنه بهذه الصيغة الواقعة من الحاكم انتقل المال الى الغرماء قبل القسمة ، فلا يجوز لمن أقر له بعد الحجر المشاركة لهم ، كما أشار إليه شيخنا المذكور بقوله لتعلق حقهم بجميع ماله ، وأصرح منها في هذا المعنى ما يأتيك ـ إنشاء الله تعالى ـ في عبارة المحقق الأردبيلي.

وبالجملة فإنه لا بد عندهم من هذه العبارة المذكورة ليترتب عليها الأحكام المذكورة ، مع أنك قد عرفت أنه لا دليل عليها ، لا أن مجرد الأمر بالقسمة يستلزم الحجر ، فإنه وان استلزمه لكنه ليس من محل البحث عندهم في شي‌ء.

وملخص الكلام انه بالنظر الى ما جروا عليه في هذا الباب من دعوى الحجر وثبوته فالأقوى هو القول الثاني ، لما ذكره شيخنا المذكور ، ومثله المحقق الأردبيلي حيث أنه ممن اختار القول المذكور ، فقال في الاستدلال له : دليله أن

٣٨٨

المال المحجور عليه صار بسبب الحجر للديان الذي حجر بسبب ديونهم ، فلا يمكن أن يتعلق به غيرها بسبب إقرار المديون ، فإنه بالحقيقة إقرار في حق الغير انتهى.

وبالنظر الى ما ذكرناه من عدم دليل على هذا الحجر ، فليس للحاكم الشرعي إيقاعه ، فالأقوى هو القول الأول ، لأن غاية ما دلت عليه الاخبار هو أن للحاكم قسمة أمواله بالحصص بين الغرماء بعد رفع الأمر إليه.

نعم لو تأخر الإقرار عن القسمة ، فالظاهر أنه لا يلتفت اليه ، ويصح ما ذكروه ، وأما قبلها فظاهر الأخبار اشتراك جميع الغرماء ، وغاية ما استندوا اليه تقدم حق أولئك بالحجر أولا قبل القسمة ، وقد عرفت أنه لا أثر لهذا الحجر.

ثم انه لا يخفى ان محل البحث هو الاعتراف بالدين السابق ، كما وقع في عنوان المسألة ، وهو احتراز عما لو أسند الدين الى ما بعد الحجر ، فإنه وان كان الإقرار به صحيحا في نفسه للخبر المتقدم ، الا أنه لا ينفذ عندهم في حق الغرماء ، لما تقدم من الحكم ببطلان المعاملات الابتدائية المتعلقة بالمال ، والإقرار بها في حكم وقوعها ، ويأتي فيها الخلاف المتقدم من بطلان المعاملة بالكلية ، أو كونها موقوفة ، هذا كله في الإقرار بالدين.

ولو أقر بعين فقيل : بأنها تدفع الى المقر له ، وهو اختيار ابن إدريس وظاهر المحقق في الشرائع على تردد ، وقيل : بالعدم ، وهو اختيار العلامة في الإرشاد.

واعلم أن الأقوال بالنسبة إلى العين والدين ترجع إلى أربعة أقوال : أحدها نفوذ الإقرار فيهما ، وهو خيرة العلامة في التذكرة ، وثانيها عدم النفوذ وهو خيرة العلامة في الإرشاد ، والمحقق الأردبيلي في شرحه ونقل عن الشهيد وجماعة ، وهو اختياره في المسالك ، وثالثها ـ ثبوته في العين دون الدين ، ونقل عن ابن إدريس ، ورابعها العكس ونسبه في المسالك الى المصنف ، وفيه إشكال ، فإن ظاهره في الشرائع انما هو القول الأول ، لكنه تردد في العين بعد أن حكم بالمشاركة كما قدمنا نقله عنه والله العالم.

٣٨٩

وثالثها لا خلاف ولا اشكال عندهم في تعلق الحجر بالمال الموجود حال الحجر ، وانما الإشكال في المتجدد بعده ، فيحتمل تحقق الحجر فيه أيضا لوجود المقتضي في الأول ، وهو صيانة حق الغرماء ، حيث أنه يجب قسمة أمواله على ديونه ، وهو مشترك في الموجود والمتجدد ، وهو مختار العلامة في القواعد والتحرير ، وعدمه للأصل في تسلط المسلم على ماله ، ولخبر (١) «الناس مسلطون على أموالهم». فالحجر عليه خلاف الأصل ، ولا خلاف في الحجر فيما كان موجودا وقت الحجر ، فيبقى ما عداه في حكم الأصل ، اقتصارا على موضع الوفاق ، قيل : والتحقيق (٢) أن يقال : ان كان المراد شمول حجر الحاكم لذلك المال ، فإنه ينظر فان كان كلامه في حجره شاملا له يتعدى اليه الحجر ، مثل أن يقول : حجرتك عن جميع التصرفات المالية ، والا فلا ، لانه قد ثبت أنه لا بد فيه من حكم الحاكم ، وأنه لا يثبت بدونه ، وان كان شاملا له ثبت ، والا فلا ، وهو ظاهر

وان كان المراد أنه هل له أن يحجره عن جميع المال الموجود والمتجدد حينئذ حتى يؤدى الديون؟ فالظاهر التعدي ، لأن دليل الثبوت وشرائطه ثابت ، وان كان المراد هل للحاكم أن يحجره ثانيا في ذلك المال المتجدد؟ فالظاهر التعدي بمعنى أن له الحجر عليه فيه أيضا بالشرائط المتقدمة ، إذ لا فرق ولا مانع ، ولا يمنع من ذلك ثبوت الحجر أولا على غيره ، وهو أيضا واضع انتهى.

وملخصه انه يجب أن يرجع الى الحاكم الذي صدر منه الحجر ، فان لم يمكن ولا يعلم شموله وعدم شموله فلا يتعدى ، للأصل وعدم الدليل.

أقول : أنت خبير بأن مقتضى ما قدمنا ذكره من أنه ليس على هذا الحجر دليل ولا نص ، وانما المستفاد من الاخبار هو قسمة مال المفلس بالحصص بعد رفع

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ط جديد.

(٢) هذا التحقيق للمحقق الأردبيلي قدس‌سره في شرح الإرشاد ـ منه رحمه‌الله.

٣٩٠

الأمر إلى الحاكم ، فإنه لا ثمرة لهذا الخلاف ، وأن الواجب هو قسمه كل ما كان له من مال يومئذ على الغرماء.

ورابعها ـ المشهور انه لا تحل الديون المؤجلة عليه بالحجر ، وانما تحل بالموت كما تقدم في كتاب الدين ، ونقل عن ابن الجنيد أنها تحل ، وكذا المشهور أنه لا يحل بالحجر الدين المؤجل الذي له على غيره ، وعن ابن الجنيد أنه يحل أيضا ، ورد بالأصل ، لأن الأصل بقاء ما كان عليه ، حتى يقوم دليل على خلافه.

احتج ابن الجنيد للقول الأول بالقياس على الميت ، ورد ببطلان القياس ، سيما مع وجود الفارق بتحقق الضرر على الورثة ان منعوا من التصرف في التركة إلى حلوله ، وصاحب الدين ان لم يمنعوا بخلاف المفلس.

قيل : ولا فرق في دين الميت بين مال السلم والجناية المؤجلة وغيرهما على الأقوى ، لعموم النص.

ووجه احتمال خروجها أن الأجل في السلم جزء من العوض ، فلو حل مال السلم لزم نقصان العوض ، وأجل الجناية بتعيين الشارع ، فبدونه لا يكون له تلك الدية ، وعموم النص يدفع ذلك ، ويسقط ما ادعى تأثيره ، لأنهما فردان من افراد الديون فيتناولهما كغيرهما انتهى.

وأما ما ذكره ابن الجنيد من القول الثاني فإنه احتج أيضا بالقياس على الميت ، ورد بمنع ذلك في الميت أيضا ، وفيه أن رواية أبي بصير قد دلت على ذلك في الميت كما تقدم في كتاب الدين ، وبه قال الشيخ وجماعة ، الا أن الأصحاب ردوا الرواية بضعف السند ، وقد تقدم الكلام في ذلك في الكتاب المذكور.

وكيف كان فإنه وان ثبت ذلك في الميت الا ان حمل الحجر عليه قياس لا يوافق أصول المذهب ، ولكنه لما كان يذهب الى العمل بالقياس كالعامة قال به هنا ، والعجب من أصحابنا كيف يعتمدون أقواله وينقلونها مع ارتكابه هذا المرتكب الفاحش الموجب لفسق فاعله.

وخامسها ـ قالوا : لو أقرض إنسان مالا بعد الحجر أو باعه بثمن في ذمته لم

٣٩١

يشارك الغرماء ، بل كان ثابتا في ذمته ، وهو في العالم بحاله موضع وفاق بينهم ، لان فعله ذلك مع علمه بإفلاسه وحجر الحاكم عليه وتعلق حق الغرماء بأمواله رضا منه ببقاء ماله في ذمته الى أن يفك حجره.

أما لو كان جاهلا فقد جزم المحقق في الشرائع بأنه كذلك ، لتعلق حق الغرماء الموجودين عند الحجر بأمواله ، وان كانت متجددة بناء على دخول المتجدد في الحجر أيضا ، فلا يتوجه له الضرب مع الغرماء بدينه ، ولا أخذ عين ماله.

وقيل : فيه وجهان آخران : أحدهما ـ جواز فسخه واختصاصه بعين ماله ، لعموم قوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله «صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه». وثانيهما الضرب مع الغرماء ، لان له حقا ثابتا في الذمة ، وهو غريم فيضرب به كسائر الغرماء ، ولانه قد أدخل في مقابلة الثمن مالا فيضرب بالثمن ، إذ ليس فيه إضاعة على الغرماء.

ورد كل من الوجهين بما تقدم من أن حق الغرماء بالحجر قد تعلق بعين تلك الأموال وصارت لهم وان كانت متجددة ، على أن الوجهين متنافران ، لأنه ان كان غريما اختص بعين ماله كما يأتي إنشاء الله تعالى فيمن وجد عين ماله بعد الحجر ، وان لم يكن غريما لم يضرب.

أقول : وأنت خبير بما في هذا الفرع أيضا بناء على ما قدمنا ذكره ، فان مقتضى ما قدمنا ذكره هو المشاركة للغرماء ما لم يكن بيعه وقرضه بعد قسمة المال بين الغرماء فإنه غريم ، قولهم ان أمواله قد صارت للغرماء بسبب الحجر ، قلنا : لا دليل على هذا الحجر ولا مستند له.

وليت شعري كيف رتبوا هذه الأحكام على الحجر بما ذكر ، وما سيأتي من جميع الأحكام المذكورة في كتاب الفلس مع أنه لا مستند له ، اللهمّ الا أن يكون إجماعهم على ذلك ، والا فالروايات كما عرفت خالية عنه.

وبالجملة فإني لا أعرف لهم حجة سوى الإجماع فالقول بخلافه لا ضير فيه

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٦.

٣٩٢

عند من لا يلتفت الى هذه الإجماعات ، الا أن يثبت ذلك في كلام المتقدمين ، ويعلم اتفاقهم عليه ، فإنه يكون حجة عندنا كما قدمنا ذكره في محله.

وسادسها ـ قالوا : لو كان له حق فليس له قبض دون حقه ، وكان للغرماء منعه عن ذلك ، لانه محجور عليه في أمواله والتصرف في أمواله ابتداء ، وهذا منه ، حتى لو تعين له الأرش فإنه لا يجوز له إسقاطه ، وبه صرح في التذكرة.

أقول : وفيه ما عرفت. ومن ثم أعرضنا عن نقل جملة من تفريعاتهم في هذا المقام لعدم الدليل الواضح على صحة هذه القاعدة ، فالتطويل بكثرة فروعها عار عن الفائدة وفي ما ذكرناه أنموذجا كفاية للمتدرب في الصناعة.

الثاني من الأمور الأربعة المتقدم ذكرها : اختصاص الغريم بعين ماله إذا وجده ، وتحقيق الكلام هنا ايضا يقع في موارد

الأول ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن من وجد منهم عين ماله كان له أخذها وان لم يكن سواها ، وله أن يضرب بدينه مع الغرماء سواء حصل في المال وفاء أم لا.

ونقل عن الشيخ أنه لا اختصاص الا أن يكون هناك وفاء وبالأول صرح الشيخ في الخلاف وابن إدريس وابن جنيد ، وبالثاني صرح الشيخ في النهاية والاستبصار ورجحه في المبسوط.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا المقام صحيحة عمر بن يزيد (١) عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده بعينه ، قال : لا يحاصه الغرماء». وهذه الرواية حجة القول المشهور ، وهي ظاهرة فيه تمام الظهور. وصحيحة جميل (٢) عن بعض أصحابنا «عن ابى عبد الله عليه‌السلام في رجل باع متاعا من رجل فقبض المشترى المتاع ، ولم يدفع الثمن ثم مات المشترى والمتاع قائم بعينه فقال : إذا كان المتاع قائما بعينه رد الى صاحب المتاع ، قال :

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩٣.

(٢) الوسائل الباب ٥ من أبواب الحجر الرقم ـ ١.

٣٩٣

وليس للغرماء ان يحاصوه».

وصحيحة أبي ولاد (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باع من رجل متاعا إلى سنة ، فمات المشترى قبل أن يحل ماله ، وأصاب البائع متاعه بعينه ، إله أن يأخذه إذا حقق له؟ قال : فقال : ان كان عليه دين ، وترك نحوا مما عليه فليأخذ ان حقق له ، فان ذلك حلال له ، ولو لم يترك نحوا من دينه فان صاحب المتاع كواحد ممن له عليه شي‌ء يأخذ بحصته ، ولا سبيل له على المتاع».

وهذه الرواية هي مستند الشيخ فيما تقدم نقله عنه ، ورد بأن مورد الرواية الميت ، والحكم فيه ذلك كما سيظهر لك ، ومحل البحث انما هو الحي وحينئذ فلا دلالة للخبر على مدعاه ، ورواية أبي بصير (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل كانت عنده مضاربة ووديعة ، وأموال أيتام وبضائع ، وعليه سلف لقوم فهلك وترك ألف درهم أو أكثر من ذلك ، والذي للناس عليه أكثر مما ترك ، فقال : يقسم لهؤلاء الذين ذكرت كلهم على قدر حصصهم أموالهم». والشيخ جمع بين هذه الاخبار بحمل الأولين على الآخرين ، فقال : انه لا يحاصه الغرماء إذا كان له ما يفي بمالهم من غير ذلك ، فان لم يكن له شي‌ء سوى ما للرجل بعينه كان هو وغيره من الديان في ذلك سواء ، لان دينه ودين غيره متعلق بذمته ، وهم مشتركون في ذلك.

أقول : وتفصيل الكلام في المقام أن يقال : إذا كان المديون مفلسا ووجد صاحب الدين عين متاعه فلا يخلو اما أن يكون ذلك في حياة المديون أو بعد موته ، فان كان ذلك في حياته فالمشهور كما عرفت أن لصاحب المتاع أخذ عين متاعه ولو لم يكن سواها ، ويدل عليه صحيحة عمر بن يزيد المذكورة ، وخالف الشيخ كما تقدم نقله عنه ، وقال : أنه لا اختصاص له الا أن يكون هناك وفاء استنادا إلى صحيحة أبي ولاد.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٦٩.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٦١.

٣٩٤

وقد عرفت عدم دلالتها على موضع النزاع لان موردها الميت ، والفرق بينه وبين الحي ظاهر ، لإمكان تجدد الوفاء بالنسبة إلى الحي بإرث أو اكتساب أو زيادة قيمة في أعيان أمواله ، أو تجدد نماء أو نحو ذلك ، بخلاف الميت.

وان كان ذلك بعد موته ، فالمشهور أنه إذا وجد صاحب الدين عين متاعه فليس له أخذه الا ان يترك الميت نحوا مما عليه ، فيجوز له أخذها ، وعليه تدل صحيحة أبي ولاد المذكورة.

ونقل عن ابن الجنيد الحكم باختصاصه هنا وان لم يكن غيرها ، كما هو المشهور في الحي (١) ويدل عليه إطلاق مرسلة جميل ، الا أن يحمل إطلاقها على وجود ما يحصل به وفاء الدين سواها ، كما تقدم نقله عن الشيخ ، وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور في الموضعين ، بحمل الاخبار مطلقها على مقيدها.

تنبيهات

الأول ـ قال في المسالك : ولا فرق في الحكم المذكور في الميت بين أن يموت المديون محجورا عليه أم لا ، لان الموت بمنزلة الحجر وقيل الحكم مختص بالمحجور عليه ، وإطلاق النص يدفعه. انتهى.

أقول : لا إشعار في هذه الروايات المذكورة هنا بالحجر لا في الميت ولا في الحي ، بل قد عرفت آنفا أنه لا دليل عليه مطلقا ، ومقتضى كلامهم أنه في الحي لا بد

__________________

(١) بمعنى انه يشترط في الاختصاص بالعين كونه حيا ولو لم يكن سواها ، بخلاف صورة الموت ، فإنه لا يختص الا أن يكون هناك وفاء فإن الحكمة في ذلك ظاهرة ، لان الميت لا تبقى له ذمة ، فلا يناسب الاختصاص الا مع الوفاء ، لئلا يتضرر الغرماء ، بخلاف الحي فإن ما يتخلف من الدين يتعلق بذمته ، وربما لا يضيع ، بأن يحصل بأحد الوجوه المذكورة في الأصل ـ منه رحمه‌الله.

٣٩٥

من حصول الحجر ، مع ان إطلاق النصوص المذكورة يدفعه ، وحينئذ فتكلف الجواب بالنسبة إلى الميت خاصة لا وجه له.

الثاني ـ لا يخفى أن ما ذكروه من الخيار في صورة جواز أخذ العين في الحي أو الميت وانه يتخير بين أخذ العين أو الضرب مع الغرماء لا أعرف له دليلا واضحا ، فان الروايات انما اشتملت على أخذ العين ، وظاهرها ان ذلك هو مقتضى الحكم شرعا ، واما ان ذلك محمول على الرخصة ان اختاره ، وإلا فسبيله سبيل الغرماء كما هو ظاهر كلامهم ، فلا إشارة في الأخبار المذكورة إليه ، فضلا عن الدلالة عليه ، ولربما لم يرض الغرماء بذلك ، وظاهرهم انه يشاركهم لو أراد رضوا أم لم يرضوا (١) وهو مشكل لعدم ظهور الدلالة عليه من هذه الاخبار ، بل ظاهرها كما عرفت انما هو اختصاصه بمتاعه.

وبالجملة فإن الأصل عدم المشاركة لهم. وإثباتها يحتاج الى الدليل ، وظاهرها ايضا اختصاصه بعين ماله ، فلا يشاركه الغرماء فيها ، وهو أعم من ان يقتصر على أخذ العين أو يشاركهم وتضرب معهم فيشاركونه في تلك العين كما شاركهم في غيرها ، فان نفى المحاصة في الروايتين أعم من الأمرين المذكورين.

الثالث ـ قيل : الظاهر أن المراد برجوع صاحب العين إليها هو فسخ العقد الذي كان موجبا لملكية المفلس ، وقال في التذكرة : الفسخ قد يكون بالقول مثل فسخت البيع ونقضته ورفعته ، وقد يكون بالفعل كما لو باع صاحب السلعة سلعته ،

__________________

(١) قال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) : والظاهر أن رجوعه على سبيل الجواز فله أن يترك ، ويشارك الغرماء رضوا أم لا ، ثم ان بعد نقل صحيحة أبي ولاد والكلام فيها قال : وهي تدل على أن أخذ العين جائز لا واجب متعين. انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر الخبر ان لم يدل على ما قلناه ، فلا يدل على ما ذكره ، لانه لما سأله السائل إله أن يأخذ إذا تحقق كون ذلك ماله؟ أجاب عليه‌السلام «بأنه ان تحقق ذلك ، فليأخذ بالشرط المذكور» وظاهر الأمر هو تعين الأخذ ووجوبه ، لا جوازه ، كما ادعاه ـ منه رحمه‌الله.

٣٩٦

أو وهبها أو وقفها.

وبالجملة إذا تصرف فيها تصرفا يدل على الفسخ كوطئ الجارية المبيعة على الأقوى ، صونا للمسلم عن فاسد التصرفات.

أقول : المفهوم من الاخبار أن الفسخ لا يتوقف على صيغة ، وانما هو عبارة عن تراضى الطرفين على نقض البيع الأول ، وقد تقدم في بحث خيار الشرط (١) الإشارة الى ذلك ، فإن غاية ما دلت عليه تلك الاخبار هو انه برد مثل الثمن في المدة المضروبة يحصل الفسخ ويبطل البيع الأول ، وأما هنا فإنه لما كان المفلس يجب قسمة أمواله على الغرماء وهذا المتاع من جملتها ، فيخص به الحاكم صاحبه ، ويصير ذلك فسخا للبيع الأول ، وان لم يحصل الرضا من المالك ، لان جميع هذه التصرفات وقسمة أمواله قهرية غير متوقفة على رضاه.

الرابع ـ ما تقدم من القول المشهور وهو الرجوع الى العين مشروط عندهم بشروط ثلاثة : أحدها تعذر استيفاء تمام ثمن العين الذي في ذمة المفلس الا من العين. فلو كان في ماله وفاء مع كونه مفلسا بأن نمى المال بعده ، أو وجد مال آخر ، أو حصلت الزيادة يسبب ارتفاع القيمة السوقية وصارت القيمة أعلى من وقت الحجر ، فلا رجوع له الى العين ، إذ سبب الرجوع انما هو تعذر الثمن ، والفرض أنه ممكن بناء على ما ذكرناه.

وثانيها كونه مفلسا محجورا عليه لفلسه ، فلو كان المفلس غير محجور عليه لفلسه ، فان الحكم فيه كما في غيره من أصحاب الديون ، فان كان قادرا على الأداء وامتنع حبسه الحاكم حتى يوفي ، أو يبيع ماله ويوفى عنه ، ومع تعذر الحكم يمكن الأخذ منه مقاصة ، وان لم يكن قادرا فالأشهر الأظهر الصبر عليه ، وقد تقدمت الأخبار المتعلقة بذلك في صدر هذا المطلب

وثالثها ـ كون المال حالا حين الحجر ، فلو كان مؤجلا يومئذ فلا رجوع

__________________

(١) ج ١٩ ص ٣٥.

٣٩٧

له ، لأنك قد عرفت أنه بالحجر لا تحل الديون المؤجلة عليه ، وانما تحل بالموت خاصة ، والعين المذكورة وغيرها قد تعلق بها حق الغرماء الذين حجر لأجلهم ، وصاحب هذا الدين لكونه مؤجلا ليس منهم ، بل وجوده كعدمه.

الخامس ـ هل الخيار المذكور هنا في الحي أو الميت على الفور أو على التراخي؟ قولان : قالوا : للأول وجوب الوفاء بالعقد ، وبناء البيع على اللزوم ، فيقتصر في الخروج عن ذلك على موضع الضرورة جمعا ، وللثاني إطلاق النص بثبوته ، فيستصحب الى ان يثبت المزيل ، والى هذا القول مال في المسالك قال : وهو اختيار المصنف أيضا.

أقول : ليت شعري أي نص هنا دل بإطلاقه هذا الخيار ، وظاهر النصوص كما عرفت انما هو تعين أحد القولين ، قال في المسالك : والحق ان هذا الخيار خاص ، خرج لما ذكر عن العموم ، أو مقيد له ، فيثبت مطلقا ، وان كان مراعاة الفورية أولى انتهى وفيه ما عرفت من أنه لا دليل عليه ، ودعوى إطلاق النص به مجازفة ظاهرة والله العالم.

الثاني قال الشيخ في المبسوط : إذا وجد العين ناقصة ، فإن كان الناقص يمكن افراده بالبيع ـ كما لو كان المبيع عبدين تلف أحدهما كان له أخذ الباقي بحصته من الثمن ، وضرب مع الغرماء بما يخص التالف من الثمن ، لتقسط الثمن عليهما على قدر قيمتهما ـ وان لم يمكن افراده بالبيع كذهاب طرف العبد ، فان لم يوجب أرشا بأن يذهبه الله تعالى أو المشتري ، تخير البائع بين الضرب بالدين ، وبين أخذ العين ناقصة من غير أن يضرب مع الغرماء بما نقص ، لأن الأطراف لا يقابلها الثمن ولا جزء منه ، وان أوجب أرشا بأن يتلف بجناية أجنبي تخير البائع بين الضرب بدينه ، وبين أخذه والضرب بقسط ما نقص بالجناية من الثمن

وقال ابن الجنيد ان وجد بعض متاعه أخذ بالقيمة يوم يسترده ، وضرب بما بقي له من الثمن مع الغرماء فيما وجد للمفلس ، وكذلك لو وجده ناقصا أخذه بقيمته وكان بما بقي من أصل ثمنه كالغرماء في باقي مال المفلس.

٣٩٨

قال في المختلف بعد نقل ذلك : فقد خالف الشيخ في موضعين ، الأول إطلاق الضرب بالنقص ، الثاني احتساب المأخوذ بالقيمة والتالف بها ، والشيخ نسبهما الى الثمن ، وقول ابن الجنيد لا يخلو من قوة انتهى.

وتفصيل هذه الجملة أنه إذا وجد البائع بعض ماله المبيع دون بعض ، فالبعض الفائت لا يخلو اما أن يكون مما يقسط عليه الثمن ، بمعنى أنه يبسط عليه ، وذلك فيما يصح افراده بالبيع كعبد من عبدين ، ونصف الأثواب ، أو لا يكون كذلك كيد العبد ، وعلى التقديرين فاما أن يكون تلفه من قبل الله تعالى بآفة سماوية أو جناية أجنبي أو المشتري أو البائع ، فالصور ثمان ، وملخص الكلام فيها أنها ترجع الى ثلاث صور احديها ان يكون للفائت قسط من الثمن ، ويجوز افراده بالبيع ، فإن البائع عندهم يتخير هنا بين أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن ، ويضرب مع الغرماء بحصة التالف ، وبين أن يضرب بجميع الثمن مع الغرماء ، ولا خلاف في الحكم المذكور عندهم وسبيله سبيل ما لو وجد العين سالمة كاملة كما تقدم ، حيث أن الموجود يصدق فيه أنه وجد عين ماله ، فله أن يأخذها ، وظاهرهم أنه لا فرق ههنا في وجوه التلف المتقدمة ، فإنه بأيها اتفق فالحكم فيه ما ذكر.

الثانية ما إذا كان الفائت لا قسط له من الثمن كيد العبد بأن وجده بعد البيع وعند ارادة الرجوع فيه بغير يد ، فان كان فواتها من الله عزوجل أو من المشترى ، فالمشهور وهو الذي ذكره الشيخ في عبارته أنه ليس للبائع إلا الرضا به على تلك الحال ، وأخذه ناقصا من غير أن يضرب مع الغرماء بنقصانه ، وهو أرشه ، أو الضرب بالدين ، وعللوا عدم الأرش هنا بأنه لا حق له في العين الا بالفسخ المتجدد بعد العيب ، وانما حقه قبل الفسخ في الثمن ، فالعين في يد المشترى غير مضمونة للبائع ، فلم يكن له الرجوع بأرش المتجدد ، وظاهر عبارة ابن الجنيد المتقدمة انه لا فرق في الرجوع بالنقصان إذا اختار أخذ العين الباقية بين الصورتين المذكورتين ، فكما أنه يرجع بالنقصان في صورة ما إذا كان للفائت قسط من الثمن ، كذلك فيما إذا لم يكن قسط ، فإنه حكم بأنه يضرب بالناقص في الموضعين ، وعبارته

٣٩٩

وان كانت لا يخلو من إجمال ، الا أن مراده بالأولى هي الأولى التي ذكرناه ، وبالثانية في كلامه هي الثانية التي نحن فيها ، ووافقه العلامة فحكم بقوة ما ذكره ، والى هذا القول مال جملة من أفاضل المتأخرين كالمحقق الشيخ على في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في المسالك ، معللين له بأن فسخ المعاوضة يوجب رجوع كل مال لصاحبه ، فان كان باقيا رجع به ، وان كان تالفا رجع ببدله كائنا ما كان قالوا : وكون العين في يد المشترى غير مضمونة للبائع ، معارض بماله قسط ، حيث أنهم أوجبوا للرجوع بالنقصان ثمة ، على أنا لا نقول أنها مضمونة مطلقا ، بل بمعنى أن الفائت في يد المشتري يكون من ماله ، لان ذلك مقتضى عقود المعاوضات المضمونة فإذا ارتفع عقد المعاوضة وحصل فسخه ، وجب رجوع كل من العوضين الى مالكه ، أو بدله ان فات ، على أن كون مثل اليد لا قسط لها من الثمن محل نظر ، فإنه لولاها لم يبذل المشترى ذلك الثمن كله قطعا.

الثالثة ـ ما إذا كان فوات ذلك الجزء الذي لا قسط له من الثمن بجناية أجنبي ، قالوا : تخير البائع بين أخذه والضرب بأرش العيب ، وبين الضرب بجميع الثمن ، وذلك لان الأجنبي لما ثبت عليه أرش الجناية وقبضه منه المشترى ، والأرش جزء من البيع ، فإذا فسخ البائع رجع به ، لانه جزء من مبيعه ، وهذا بخلاف العيب الذي من جهة الله عزوجل ، حيث أنه ليس له عوض.

أورد عليهم أولئك الفضلاء المتقدم ذكرهم ، بان ما ذكروه في هذه الصورة ينافي ما ذكروه سابقا في الصورة الثانية ، لأنه بمقتضى التعليل الذي عللوا به سقوط الأرش في تلك الصورة ، من أن العيب انما وقع في وقت لم تكن العين مضمونة على المشترى ، والبائع لم يستحقها الا بعد الفسخ ، فلم يكن له الرجوع بأرش المتجدد ، ينبغي أن لا يكون له هنا الا الرضا بالمعيب ، لانه لم يجد سواه ، قالوا : وعلى ما قررناه من أن الفسخ يوجب رجوع كل من المتعاوضين الى ماله أو بدله ، فالإشكال منتف ، قيل : وأما جناية البائع فيحتمل كونها كجناية الأجنبي ، ويحتمل كونها كالآفة السماوية ، وفي المسالك رجح الأول قال : لانه جنى على ما ليس

٤٠٠