الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

في السفيه بعد زوال الحجر عنه.

وظني أن هذه المناقشة ليست في محلها ، فإنه وان كان الأمر كما ذكره من أن مورد الآية انما هو الحجر على الصبي ابتداء ، لكن من المعلوم الظاهر عند التأمل بالفكر الصائب أن التعليق على الرشد هنا انما هو من حيث كونه في حد ذاته مناطا لصحة التصرف حيثما كان ، لا من حيث خصوصية الصبي ، حتى يتم قوله فلا يلزم كونه شرطا في السفه ، وعلى هذا بنى الاستدلال بالآية المذكورة.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف ويثبت حجر السفيه بحكم الحاكم لا بمجرد سفهه على اشكال ـ ما لفظه : المراد ثبوت حجر السفيه بالمعنى المتقدم بعد أن صار رشيدا وزال حجره ، ثم صار سفيها بحيث لو كان قبله كان ممنوعا ومحجورا ، هكذا ينبغي التقييد ، فالظاهر أنه لا نزاع في أنه يثبت الحجر على السفيه المتصل سفهه بعدم البلوغ بمجرد السفه ، وعدم توقفه على حكم الحاكم ، وكذا زواله بزواله من دون الحكم ، للاية بل الإجماع على ما فهم من شرح الشهيد ولما سيأتي ، فتأمل

فقيل : المشهور توقفه على حكم الحاكم وحجره ، وهو مذهب المصنف في التذكرة ، للأصل «وتسلط الناس على أموالهم» عقلا ونقلا (١) وشمول أدلة التصرفات تصرفه الذي فعله في زمان سفهه من الكتاب والسنة ، وصدقها عليه حينئذ ، ولعدم الدليل من الكتاب والسنة الا على استصحاب السفه الى ان يرشد ، وأما الحادث بعده فلا ، وهذا دليل قوى ، ويؤيده الإجماع على عدم تحققه في المفلس الا بعده. ويؤيده أيضا الشريعة السهلة ، فإنه ان كان مجرد السفه حجرا أشكل المعاملات والأنكحة فان غالب الناس مجهول الحال أو معلوم السفاهة انتهى.

أقول : ظاهر كلامه أن محل الخلاف انما هو حدوث السفه بعد بلوغه رشيدا ، والا فلو كان متصلا بالصغر ، فإنه لا خلاف هنا بأنه يحكم بالحجر عليه بمجرد السفه ، ولا يتوقف على حكم الحاكم ، وأنت خبير بان الظاهر من كلام الأصحاب

__________________

(١) البحار ج ٢٧٢ ط جديد.

٣٦١

ان محل الخلاف ما هو أعم من الأمرين ، وما نقله عن شرح الشهيد من الإجماع على ما ادعاه.

والظاهر انه أشار به الى شرحه على الإرشاد ، كما يشير إليه دائما ، فلم أقف عليه في الكتاب المذكور ، ولم يتعرض لهذه المسألة بالكلية ، بل ظاهر عبارته مثل عبارات غيره انما هو العموم ، لأنهم جعلوا العنوان في الخلاف السفيه بقول مطلق ، كما عنونا به المسألة ، وهو أعم من أن يكون متصلا بالصغر أو منفصلا ، غاية الأمر أنهم لم يبحثوا عنه في حال الصغر متى كان متصلا ، اعتمادا على ثبوت الحجر بمجرد الصغر ، فإنه أحد أسبابه كما عرفت ، وانما بحثوا عنه بعد البلوغ ، لزوال ذلك السبب الأول ، ومرادهم ما هو أعم كما ذكرنا ، وهذا التفصيل الذي ذكره لم أقف عليه الا في كلامه.

وأما استناده الى الآية فإن كان المراد بها قوله سبحانه «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» فقد عرفت ـ في الجواب عما أورده الشهيد على الاستدلال بها فيما تقدم ما يدل على الجواب هنا ـ من أن التعليق على الرشد في الآية انما وقع من حيث ان الرشد حيث ما كان هو مناط صحة التصرف ، ومفهومه انه مع عدم الرشد وهو السفه يجب الحجر ، ولا دلالة فيها على ما ذكره من التفصيل بوجه.

نعم هي دالة على الحجر بمجرد ظهور السفه من غير توقف على حكم الحاكم في الصبي المتصل سفهه ببلوغه كما اخترناه ، الا أن القائل بالتوقف على حكم الحاكم يقول به هنا أيضا ولكن الآية حجة عليه ، والآية أيضا دالة بالتقريب الذي قدمناه على السفه غير المتصل ، وأنه يثبت الحجر بمجرد السفه ، لتعليق رفع الحجر على الرشد ، ومفهومه ثبوت الحجر مع عدمه الذي هو السفه ، وسياق الآية في اليتيم لا ينافي ذلك ، لان التعليق فيها وقع على علة عامة له ولغيره ، ودخوله تحتها انما هو من حيث العموم.

وأما ما اختاره من التوقف على حكم الحاكم وحجره في موضع الخلاف ، ففيه أن الظاهر من الآية بالتقريب الذي ذكرناه أن الرشد شرط في رفع الحجر حيثما

٣٦٢

كان ، وحيث إن السفه هو ما يقابل الرشد كما عرفت ، فإنه يكون شرطا في الحجر حيثما كان ، وأينما كان السفه هو المقتضى للحجر بالتقريب المذكور ، كان الحجر بمجرد حصول السفه ولو لم يتحقق الحجر به لم يكن مقتضيا ، وقد عرفت أنه مقتض ، وهذا خلف.

وحينئذ فلا وجه للتوقف على حكم الحاكم ، وما استدل به من الأدلة التي أطال بها فغايتها ان يكون مطلقة دالة على ما ذكره بإطلاقها ، وما استدلنا به خاص ، فيجب تقديمه كما هو القاعدة ، وتخصيص تلك العمومات به ، وأما تأيده بالإجماع على المفلس ، ففيه أن ثبوت الحكم هناك بدليل لا يستلزم إجراءه فيما لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه كما عرفت.

وأما تأيده بالشريعة السهلة وان غالب الناس مجهول الحال أو معلوم السفاهة ، ففيه أنه يجب المنع من معاملة معلوم السفاهة إجماعا ، وأما مجهول الحال وهو الأغلب في الناس فلا مانع منه إذ المقتضي للمنع كما عرفت هو وجود السفاهة والأصل عدمها حتى تثبت ، فعده مجهول السفاهة في قرن معلوم السفاهة غلط محض ، وبالجملة فالظاهر ان كلامه (قدس‌سره) في هذا المقام لا يخلو من مجازفة ومسامحة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المسألة قولين آخرين أحدهما عدم توقف ثبوته على حكم الحاكم ، وتوقف زواله عليه ، وهو مذهب الشهيد في اللمعة ، وعلل الأول بأن المقتضي له هو السفه ، فيجب تحققه بتحققه ، ولظاهر قوله عزوجل (١) «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» حيث أثبت الولاية عليه بمجرد السفه.

وعلل الثاني بأن زوال السفه يفتقر الى الاجتهاد وقيام الأمارات ، لأنه أمر خفي فيناط بنظر الحاكم ، ولا يخفى ما في الأخير من الضعف ، وعدم صلوحه لتأسيس حكم شرعي.

وثانيهما عكسه ، قال في المسالك : قيل ان به قائلا ولا نعلمه. نعم في التحرير جزم بتوقف الثبوت على حكمه ، وتوقف في الزوال بحكمه : انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨٢.

٣٦٣

أقول : وفي الإرشاد استشكل في ثبوت الحجر ، وجزم في زواله بالتوقف على حكم الحاكم فهو عكس ما في التحرير.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه الشيخ في التهذيب (١) في تفسير قوله عزوجل «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً» عن الصادق عليه‌السلام قال : «السفيه الذي يشترى الدرهم بأضعافه ، والضعيف الأبله».

وفي تفسير العياشي عنه (٢) عليه‌السلام «السفيه شارب الخمر ، والضعيف الذي يأخذ واحدا باثنين».

وروى العياشي في تفسير قوله (٣) عزوجل «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» الاية عن الصادق عليه‌السلام قال : «هم اليتامى لا تعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد ، قيل : فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ فقال : إذا كنت أنت الوارث لهم». وفي خبر (٤) كل من يشرب الخمر فهو سفيه».

وفي الفقيه عن الباقر «عليه‌السلام» (٥) أنه سئل عن هذه الآية ، قال : «السفهاء والولد ، إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد ، لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهم على ماله الذي جعل الله له قياما» الحديث. وفي خبر آخر (٦) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) في هذه الآية «قال لا تؤتوها شراب الخمر ، ولا النساء ، ثم قال : وأى سفيه أسفه من شارب الخمر». وفي مجمع البيان «اختلف في معنى

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٨٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٦ من أبواب أحكام الوصايا الرقم ـ ٨.

(٣ ـ ٤) الوسائل الباب ـ ٤٥ من أبواب أحكام الوصايا الرقم ـ ١٠ و ٨.

(٥) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٠ وفيه عن على بن إبراهيم.

(٦) الفقيه ج ٤ ص ١٦٨.

٣٦٤

السفهاء على أقوال : أحدها ـ أنهم النساء والصبيان ، ورواه أبو الجارود (١) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) ، وثانيها ـ أنه عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير».

وقريب منه ما روى (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «أنه قال : ان السفيه شارب الخمر ومن جرى مجراه» الى آخره.

وروى في الفقيه في تفسير قوله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» (٣) عن الصادق (عليه‌السلام) «إيناس الرشد حفظ المال».

وروى في المجمع عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) «الرشد : العقل وإصلاح المال».

والقمي في تفسيره عنه (عليه‌السلام) «في هذه الآية قال : من كان في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له أن يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم ، فإذا احتلم وجب عليه الحدود واقامة الفرائض ، ولا يكون مضيعا ، ولا شارب خمر ، ولا زانيا ، فإذا آنس منه الرشد دفع اليه المال ، وأشهد عليه ، وان كانوا لا يعلمون أنه بلغ فإنه يمتحن بريح إبطه ، أو نبت عانته ، فإذا كان كذلك فقد بلغ ، فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا ، ويجوز أن يحبس عنه ماله ويعتل عليه انه لم يكبر بعد».

وروى في الكافي عن أبى الجارود (٥) قال : «قال أبو جعفر «عليه‌السلام» : إذا حدثتكم بشي‌ء فسلوني من كتاب الله ، ثم قال : وفي حديثه ان الله نهى عن القيل والقال : وفساد المال وكثرة السؤال فقيل : يا بن رسول الله وأين هذا من كتاب الله؟

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٢٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤٦ من أبواب أحكام الوصايا الرقم ـ ٢.

(٣) الفقيه ج ـ ٤ ص ١٤٦.

(٤) المستدرك ج ٢ ـ ٤٩٦.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٢٣١ الكافي ج ٥ ص ٣٠٠.

٣٦٥

قال : ان الله يقول (١) «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ» وقال (٢) «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً» وقال (٣) «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».

أقول : يستفاد من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض أن السفه مقابل للرشد ، كما ذكره الأصحاب ، وأن مجرد السفه موجب ومقتض لعدم الدفع الى من اتصف به ، لان قوله سبحانه «لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» اما أن يراد به أموالهم كما عرفت من خبر العياشي المذكور ، أو ما هو الظاهر من الآية كما يدل عليه غيره ، والنهى عن إعطائهم انما هو من حيث السفه ، لان التعليق على الوصف يشعر بالعلية ، فيكون المعنى لا تدفعوا الى السفهاء أموالهم أو أموالكم من حيث اتصافهم بالسفه.

ومنه يعلم أنه العلة في المنع والمقتضى له وهو الظاهر من جملة الأخبار المذكورة وبه يظهر قوة القول الذي اخترناه من الحكم بالحجر بمجرد السفه ، وعدم التوقف على حكم الحاكم ، وأنه يزول أيضا الحجر بزواله ، لانه متى زالت العلة زال معلولها.

ومنها يعلم أيضا أن الرشد مناط صحة التصرف حيث ما كان ، وذكره في الاية أعنى قوله «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» انما وقع من حيث كونه كذلك ، فان قوله عليه‌السلام إيناس الرشد حفظ المال ، وفي الرواية الأخرى الرشد العقل وإصلاح المال ، انما هو تفسيره للرشد في حد ذاته ، لا لخصوصية رشد الصبي.

ويستفاد أيضا من قوله عليه‌السلام في رواية القمي ـ فيمن يجهل حال بلوغه ، فإنه يمتحن بريح إبطيه ، ونبت عانته ، وإذا كان كذلك فقد بلغ ـ أن نبت العانة علامة على البلوغ ، لا على سبقه ، كما قيل.

وظاهر الاخبار المذكورة هو ترتب السفه على مجرد تضييع المال وإفساده ، واما اعتبار كون ذلك ملكة كما تقدم ذكره ، فهو غير ظاهر منها.

__________________

(٢ ـ ٢) سورة النساء الآية ـ ١١٤ و ٥.

(٣) سورة المائدة الآية ـ ١٠١.

٣٦٦

وظاهرها ايضا حصول السفه بارتكاب بعض المعاصي ، كشرب الخمر والزنا ، وان لم يتضمن تضييع المال ، ولم أطلع على قائل به ، الا أن يحمل على ما يتضمن التضييع وفيه بعد.

وحمل بعض أصحابنا السفه الوارد في الاخبار في شارب الخمر على معنى غير المعنى المذكور هنا ، وكأنه أراد به الفسق ، وهو غير بعيد الا ان في بعض الاخبار في تفسير الآية وهي قوله «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» تفسيرها بشارب الخمر ، فلا يتم ما ذكره.

وظاهر كلام العلامة في التذكرة ـ المتقدم نقله في المقام الثالث من الموضع الأول في الصغر ـ أن ما لا يتضمن تضييع المال من المعاصي كمنع الزكاة وترك الصلاة ونحوهما لا يعد سفها مع حفظ المال.

الا أن في المقام اشكالا قل من تنبه له ، وهو أنه قد دلت الاخبار على جواز معاملة الظلمة والحكام ، وأخذ جوائزهم وعطاياهم ، وقد تقدم نقل جملة من الاخبار بذلك وقبول الأخماس والزكوات منهم ، ونحو ذلك مع انه لا إشكال في ثبوت السفاهة في حقهم بصرف الأموال في غير حلها ، مثل شراء الخمر وآلات اللهو وصرف الأموال إلى المغنين ، وأصحاب اللهو واللعب كما شاهدناه في زماننا ، وصرف الأموال رياء وسمعة ونحو ذلك من المصارف المحرمة.

ومقتضى ذلك الحكم بسفاهتهم وعدم جواز معاملتهم ، ولأصحاب والاخبار على خلافه ، وأن غاية ما حكم به الأصحاب الكراهة ، تفاريا من طرح الأخبار الدالة على جواز ذلك ، وأيضا أن الأصحاب صرحوا بأن الرشد شرط في صحة المعاملات كما هو ظاهر الآية المتقدمة.

وحينئذ فلا بد من تحققه ، والعلم به في صحة المعاملة ، تحقيقا للشرطية ، وعلى هذا فمن دخل سوقا ليشتري متاعا سيما إذا كان غريبا كيف له بمعرفة ذلك ، والعلم به أولا لتصح معاملته ، مع أنه شرط إجماعا ، ومقتضى الأصل العدم ، حتى يعلم ذلك.

٣٦٧

اللهم الا أن يقال : ن البناء هنا على الظاهر دون الأصل ، باعتبار حمل أفعال المسلمين على الصحة ، كما ورد في جملة من الاخبار من الأمر بحسن الظن بالمؤمن ، حتى أن الفقهاء جعلوا هذا أصلا من الأصول المتداولة في كلامهم ، وبنوا عليهم فروعا كثيرة ، الا أن هذا انما يحسم مادة الإشكال الثاني ، دون الأول. والله العالم.

الثالثة ـ إذا ثبت الحجر على السفيه فباعه انسان كان البيع باطلا ، فان كان المبيع موجودا فلصاحبه استعادته ، قالوا : ولا فرق في جواز استعادته مع وجوده بين كون من باعه عالما بالسفه أو جاهلا ، لان البيع في نفسه باطل ، فله الرجوع في ماله متى وجده ، وان تلف وكان القبض باذن صاحبه مع كونه عالما بالسفه ، فان تلفه من مال صاحبه ، لانه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه ، وان فرض فك الحجر عنه بعد ذلك ، لأنه إذا لم يلزم حال الإتلاف لا يلزم بعد الفك.

وبالجملة فإن العلم بوجود السفه مانع من العوض ، فإذا تلف والحال هذه ففك الحجر بعد ذلك لا أثر له في ضمانه ، أما لو تلف والحال أن البائع جاهل بالسفه فالمشهور أن حكمه كذلك.

قيل : ووجهه أن البائع تصرف في معاملته قبل اختبار حاله ، وعلمه بأن العوض المبذول منه ثابت أم لا ، فهو مضيع لماله ، ولا يخفى ما في هذا التعليل العليل من الضعف ، فإنه لا قائل بتوقف صحة البيوع على اختيار البائع أو المشتري بكونه محجورا عليه أم لا ، بل والأصل عدم ذلك

وقد تقدم في سابق هذه المسألة ما يؤيده ، وظهور المانع بعد ذلك لا يوجب ما ذكروه ، ولهذا ان العلامة في التذكرة نقل عن بعض الشافعية أن السفيه إذا أتلف المال بنفسه ضمن بعد رفع الحجر ، ثم قال : ولا بأس به ، ومراده مع الجهل ، والا فمع العلم لا خلاف ولا إشكال في كون تلفه من صاحبه ، وأما إذا كان السفيه قد قبضه بغير اذن صاحبه وأتلفه ، فإنه يضمنه مطلقا ، سواء كان البائع عالما أو جاهلا ، لان البيع كما عرفت فاسد ، فلا يقتضي الاذن في القبض ، فيدخل فيمن تصرف في مال غيره بغير اذن ، كما لو غصب مالا أو أتلفه بغير اذن مالكه ، فإنه يضمنه

٣٦٨

ولو أذن الولي للسفيه في البيع ، قال الشيخ في المبسوط : لا يصح ، وتبعه ابن البراج ونقل العلامة القول بالصحة في المختلف عن بعض علمائنا ، وقال : انه الأقوى ، واحتج عليه بأن المقتضي للصحة وهو صدور البيع من أهله في محله موجود ، والمانع وهو السفه مفقود ، إذ التقدير الاذن ، فأمن من الانخداع ، فيثبت الحكم انتهى وهو جيد.

ولو أودعه شخص وديعة فأتلفها ، فقيل : بأنه لا ضمان عليه ، واختاره المحقق في الشرائع ، وعلل ذلك بتفريط المودع بإعطائه ، وقد نهى الله عن ذلك بقوله «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» فيكون بمنزلة من ألقى ماله في البحر وقيل : انه يضمن إذا أتلفها أو تلفت بتفريطه ، واختاره العلامة في التذكرة ، وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، واحتج على ذلك بأن المالك لم يسلطه على الإتلاف ، وانما أمره بالحفظ فقد حصل منه الإتلاف بغير اختيار صاحبها ، كما لو غصب ، والحال أن السفيه بالغ عاقل ، والأصل عصمة مال الغير الا بسبب ، مع أن وضع اليد حال الإتلاف غصب.

قالوا : وفي حكم الوديعة العارية ، وأيده المحقق الأردبيلي بعد ان استظهر بعموم دليل الضمان ، قال : وكونه سفيها وتسليم مالكه إياه لا يستلزم عدم الضمان لان له أهلية الضمان والحفظ ، لانه بالغ عاقل ، الا أنه تسامح في ماله وذلك غير قادح في أهليته فلا يستلزم كون المالك هو المضيع ولهذا يجوز توكيله انتهى.

أقول : ويمكن تأييد القول الأول بأنه لا ريب في دلالة الآية المتقدمة على النهى عن إعطاء السفيه الأموال ، ومن الظاهر أن تحريم ذلك انما هو من حيث تطرق التلف إليها ، وفواته من جهة السفه ، ولو تم القول بالضمان المستلزم لعدم الفوات لم يكن لهذا النهى وجه بالكلية ، لأنه لا فرق بين أن يرده بعينه ، أو عوضه من قيمة أو مثل ، فلا يحصل هنا ضرر على المودع والمعير ، فأي ثمرة لهذا التحريم الذي دلت عليه الآية ويمكن أيضا تأييد ذلك بما رواه

في الكافي عن حريز في الصحيح أو الحسن (١)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٩.

٣٦٩

قال : كان لاسماعيل بن أبى عبد الله (عليه‌السلام) دنانير وساق الخبر ومضمونه أنه أراد أن يستبضع رجلا فنهاه أبوه (عليه‌السلام) عن ذلك لان ذلك الرجل كان يشرب الخمر ، فخالف أباه فاستبضعه ، فاستهلك ماله فحج أبو عبد الله (عليه‌السلام) وحج معه ابنه إسماعيل ، فجعل يطوف البيت ويقول : اللهم أجرني ، واخلف على ، فلحقه أبو عبد الله عليه‌السلام فهمزه بيده من خلفه.

فقال له : مه يا بنى ، فلا والله ما لك على الله حجة ، ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته الى أن قال : ولا تأتمن شارب الخمر فان الله عزوجل يقول : في كتابه (١) «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» فأي سفيه أسفه من شارب الخمر ان شارب الخمر لا يزوج ولا يؤتمن على أمانة فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله عزوجل أن يأجره ويخلف عليه».

والتقريب فيه ان الظاهر من قوله عليه‌السلام انه ليس لمن ائتمن شارب الخمر لكونه سفيها أن يأجره الله ويخلف عليه هو أنه قد أتلف ماله بنفسه ، وضيعه بدفعه الى من كان كذلك كمن رمى ماله في البحر فليس له على الله حق لتفريطه في نفسه ، ولا على من دفعه اليه فهو غير مستحق لشي‌ء بالكلية عقوبة له ومؤاخذة له بمخالفته الله سبحانه.

ولو كان المال مضمونا والحق ثابتا في ذمة ذلك السفيه كسائر الحقوق المضمونة في ذمم المديونين ـ لم يكن للمنع من الدعاء بخروجه ، أو المعاوضة عنه بالأجر والثواب وجه لانه حق ثابت كسائر الحقوق ، يستحق التوصل اليه بكل وجه ممكن ، ومن وجوه التوصلات الدعاء مع عدم الحيلة في الوصول بغيره من الأمور الموجبة لذلك.

وبالجملة لو ثبت كونه حقا شرعيا في ذمة من دفعه اليه لاستحق المعاوضة من ـ الله سبحانه عليه عقلا ونقلا ، كسائر الحقوق التي تفوت على أصحابها ، وكيف

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٥.

٣٧٠

كان فالمسألة لا يخلو من شوب الاشكال.

قال العلامة في التذكرة : وحكم الصبي والمجنون كما قلناه في السفيه من من وجوب الضمان عليهما إذا أتلفا مال غيرهما بغير اذنه أو غصبا فتلف في يديهما ، وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه كالبيع والقرض ، وأما الوديعة والعارية إذا دفعها صاحبها إليهما فتلف فلا ضمان عليهما ، فإن أتلفاهما فالأقرب انه كذلك ، ولبعض العامة وجهان انتهى.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بالنسبة إلى الوديعة والعارية إذا دفعهما صاحبهما إلى الصبي والمجنون فتلفتا أو أتلفاهما بعد ان ذكر أن في ضمانهما قولين : التفصيل في ذلك ، والفرق بين التلف والإتلاف ، وأن الأجود الضمان في الثاني دون الأول.

وعلل بأن الضمان باعتبار الإهمال انما يثبت حيث يجب الحفظ والوجوب من باب خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين ، فلا يتعلق بالصبي والمجنون ، ووجوب الضمان في الثاني بأن إتلاف مال الغير مع عدم الاذن فيه سبب في ضمانه ، والأسباب من باب خطاب الوضع لا يتوقف على التكليف ، قال : ومنه يعلم وجه ضمان ما يتلف به من مال الغير بغير اذنه.

أقول عندي فيما ذكروه وحكموا به من الضمان على الصبي والمجنون في جميع هذه من الصور المفروضة نظر ، لحديث (١) «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق». وظاهر رفع التكليف والمؤاخذة بحقوق الله (سبحانه) وحقوق الناس وأن كلما يفعلانه فهو في حكم العدم.

ولو قيل ـ ان المراد برفع القلم انما هو بالنسبة إلى المؤاخذة ، والمعاقبة فيما يفعلانه مخالفا للشرع ـ قلنا : إيجاب الضمان عليهما في الصور المذكورة ان تم فهو موجب للمؤاخذة ، لان من أخذ بما أوجب الله عليه استحق المؤاخذة

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات الرقم ١١.

٣٧١

والمعاقبة ، فاللازم اما سقوط وجوب الضمان الذي ادعوه أو حصول المؤاخذة والمعاقبة ، وفي الأول رد لقولهم ، وفي الثاني رد للخبر المتفق على صحته ، وأيضا فإن قوله في المسالك بان الوجوب من باب خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين فلا يتعلق بالصبي والمجنون ، يجري في الحكم بوجوب الضمان عليهما في هذه الصور التي ذكروها والله العالم.

الرابعة ـ لا خلاف في أن الولاية في مال الصغير والمجنون المتصل جنونه بالبلوغ للأب والجد له وان علا ، وأما السفيه فان ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ان المشهور ان ولايته للحاكم ، سواء تجدد سفهه بعد البلوغ رشيدا أو بلغ سفيها ، قال : ووجهه على تقدير القول بتوقف الحجر بالسفه على حكم الحاكم ورفعه عليه ظاهر ، لكون النظر حينئذ إليه ، ثم نقل القول بأنه ان بلغ سفيها فالولاية للأب والجد ثم وصي أحدهما ثم الحاكم والصبي ان بلغ رشيدا ثم تجدد سفهه فأمره إلى الحاكم دونهما ، قال : وهو أجود استصحابا لحكم ولايتهما في الأول ، وارتفاعها في الثاني فيحتاج عودها الى دليل ، والحاكم ولى عام ، لا يحتاج الى دليل. نعم يتخلف إذا قدم عليه غيره وقد انتفى هنا.

أقول : ان من القائلين بتوقف الحجر وزواله على حكم الحاكم العلامة في جملة من كتبه ، كالمختلف والتذكرة ، مع أنه قال في التذكرة : إذا بلغ الصبي لم يدفع اليه ماله ، الا بعد العلم برشده ، ويستديم التصرف في ماله من كان متصرفا فيه قبل بلوغه ، أبا كان أو جدا أو وصيا أو حاكما أو أمين حاكم ، فان عرف رشده انفك الحجر عنه ، ودفع اليه المال ، وهل يكفى بالبلوغ والرشد في فك الحجر عنه ، أم يقتصر الى حكم الحاكم وفك القاضي؟ الأقرب الأول ، لقوله تعالى (١) «فَإِنْ آنَسْتُمْ» ولزوال المقتضى للحجر كالمجنون ، ولانه لو توقف على ذلك ، لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحاكم ، ولكان عندهم من أهم الأشياء

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٦.

٣٧٢

الى آخره.

وهو ظاهر في استمرار ولاية الأب والجد على من بلغ سفيها ، مع أن مذهبه كما قدمنا نقله عنه ، توقف الحجر وزواله على حكم الحاكم ، وما ذاك الا من حيث تخصيصهم القول بالتوقف على حكم الحاكم بصورة تجدد السفه بعد البلوغ ، وأنه لا نزاع في عدم توقف حجر السفيه على حكم الحاكم ، إذا كان السفه متصلا بالبلوغ ، وحينئذ فتفريع ولاية الحاكم في صورة اتصال السفه بالبلوغ على القول بتوقف الحجر وزواله على حكم الحاكم كما ذكره لا وجه له ، مع أن ظاهر الآية والاخبار التي قدمناها انما هو استمرار ولاية الأب والجد الثابتة قبل البلوغ في صورة اتصال السفه بالبلوغ ، كقوله في رواية هشام بن سالم (١) «وان احتلم ولم يونس منه رشد أو كان ضعيفا ، أو سفيها فلممسك عنه وليه». وهو الظاهر من قوله سبحانه «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» فإن مفهومه أنه مع عدم إيناس الرشد ان كان سفيها أو مجنونا لا يدفع اليه ، والخطاب للأولياء حال الصغر ، وهم الأب والجد ومن تفرع عليهما ، بغير خلاف الا مع عدم الجميع (٢).

وبذلك يظهر لك ضعف القول المذكور. وان كان هو المشهور.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول ـ قال في المفاتيح في باب النكاح : تثبت الولاية في النكاح للأب والجد وان علا على الصغير ، للنصوص المستفيضة وعلى السفيه والمجنون ذكورا كانوا أو اناثا مع اتصال السفه والجنون بالصغر بلا خلاف.

وفيه أن دعوى عدم الخلاف ـ هنا بالنسبة إلى السفيه ـ يدفعه ما قدمنا نقله ـ

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٨٣.

(٢) يعنى ان الولاية لهؤلاء دون الحاكم الا مع عدم الجميع فإذا عدموا رجعت الولاية للحاكم ـ منه رحمه‌الله.

٣٧٣

عن المسالك ـ من أن المشهور ان الولاية للحاكم على السفيه مطلقا ، اتصل سفهه بالبلوغ ، أو تجدد بعده بل صرح بذلك هو نفسه في الباب الخامس في التصرف بالنيابة فقال بعد أن صرح بأن ولاية الصبي والمجنون للأب والجد : ما لفظه قيل : وكذا حكم الولاية في مال من بلغ سفيها استصحابا لولاية الأب والجد ، أما من تجدد سفهه بعد أن بلغ رشيدا والمفلس فولايتهما للحاكم لا غير ، وقيل : بل الولاية في السفيه مطلقا للحاكم لا غير ، كالمفلس ، وهو أشهر انتهى.

نعم المفهوم من كلام بعض الأصحاب في كتاب النكاح أن هذا الإجماع انما هو في المجنون خاصة ، بمعنى انه ان بلغ مجنونا فان ولايته للأب والجد بلا خلاف.

وبه يظهر ان الظاهر ان لفظ السفيه هنا في العبارة المتقدمة وقع سهوا من قلمه ، وأما حمل ذلك على النكاح بالخصوص ـ دون المال كما ربما يتوهم من ذكر ذلك في باب النكاح ـ فيرده ما يفهم من المسالك من أنه لا فرق في هذا الخلاف بين المال والنكاح (١).

الثاني ـ لو بلغ عاقلا ثم تجدد سفهه فقد تقدم أن الولاية فيه للحاكم ، وهو المشهور ، وقيل : يعود ولاية الأب والجد بعد زوالهما ، قال : وكذا في الجنون لو طرء بعد البلوغ والرشد.

__________________

(١) حيث قال بعد قول المصنف ولايته يعنى الحاكم على من بلغ غير رشيد أو تجدد فساد عقله : ما لفظه وأما من بلغ غير رشيد فإطلاق الولاية فيه للحاكم مشكل ، لأن ولاية الأب والجد مع وجودهما متحققة قبل البلوغ ، ولا مانع من استصحابها ، والظاهر ان مراد المصنف ثبوتها للحاكم مطلقا ، وان ولاية الأب والجد مخصوصة بالصغير ، وقد تقدم في باب الحجر مثله في ولاية المال ، والمتجه التصفية بينهما في التفصيل باتصال السفه وتجدده ، فيكون الولاية في الأول للأب والجد ، وفي الثاني للحاكم مطلقا ـ منه رحمه‌الله.

٣٧٤

قال : في المفاتيح وان طرأ الوصفان بعد البلوغ والرشد ففي ثبوت ولايتهما قولان : وبذلك صرح في الكفاية أيضا.

أقول : والمسألة خالية من النص الظاهر ، الا أن الأقرب بالنظر الى ما ذكروه من التعليلات هو القول المشهور ، لانه بعد زوال الولاية بالبلوغ والرشد فرجوعها يحتاج الى دليل.

وغاية ما يفهم من الآيات والاخبار هو ثبوت الولاية على الصغير ، ومن اتصل جنونه أو سفهه بالصغر ، وأما من تجدد له بعد البلوغ فلا دليل عليه ، وولاية الحاكم ثابتة على الإطلاق ، والمراد به الامام (عليه‌السلام) أو نائبه الخاص ، أو العام وهو الفقيه الجامع للشرائط ، فيدخل هذا الفرد تحت ذلك (١).

الثالث ـ قد عرفت في صدر المسألة أن الولاية في مال الصغير والمجنون المتصل جنونه بالبلوغ للأب والجد وان علا بلا خلاف ولا اشكال ، وانما الإشكال فيما لو تعارض عقد الأب والجد ، بأن أوقعاه دفعة ، فهل يقع باطلا لاستحالة الترجيح أو تقدم عقد الجد ، أو عقد الأب؟ أوجه : والكلام في ولاية المال ، أما النكاح فسيأتي الكلام في بابه إنشاء الله تعالى ، ونقل عن التذكرة في هذا الباب : القول بتقديم عقد الجد ، وفي باب الوصايا من الكتاب المذكور قال : ان ولاية الأب مقدمة على ولاية الجد ، وولاية الجد مقدمة على ولاية الوصي للأب.

وبذلك صرح في المسالك أيضا في كتاب الوصايا فقال : الأمور المفتقرة إلى الولاية ، اما أن تكون أطفالا ، أو وصايا ، أو حقوقا ، أو ديونا ، فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية الأقرب

__________________

(١) فقال : لو طرء الجنون بعد البلوغ والرشد ففي ثبوت الولاية لهما أو للحاكم قولان : وقال في السفه بعد ذكر حكم السفه المتصل بالبلوغ والخلاف فيه : أما الطاري بعد البلوغ والرشد المشهور انها للحاكم ـ منه رحمه‌الله.

٣٧٥

فالأقرب منهم الى الميت ، فان عدم الجميع فوصى الأب ، ثم وصى الجد ، وهكذا فان عدم الجميع فالحاكم ، والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي ، ثم الحاكم انتهى.

هذا كلامه في كتاب الوصايا وظاهره الجزم به ومع أنه في كتاب الحجر اقتصر على نقل الاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها ، ونقل كلام التذكرة ولم يرجح شيئا في البين ، والظاهر أن وصى الأب لا حكم له مع الجد ، وبه صرح في التذكرة ، لأن ولاية الجد شرعية ، وولاية الوصي جعلية ، ولو تعدد الأجداد بوجود الأدنى والأعلى ، فإنه يأتي فيهم ما تقدم في الجد والأب من الأوجه الثلاثة كذا صرح في المسالك في هذا الكتاب ، مع أن ظاهر كلامه الذي نقلناه في كتاب الوصايا تقديم الأقرب فالأقرب من الأجداد إلى الميت.

الرابع ـ هل يعتبر العدالة في الأب والجد؟ أكثر عبارات الأصحاب عارية عن ذلك ، قيل : وفي عبارة القواعد وشرحه اشارة اليه ، والاخبار الدالة على ولايتهما مطلقة ، والأصل عدمها حتى يقوم دليل واضح على ثبوتها ، وهو اختيار جملة من محققي متأخري المتأخرين والظاهر من كلام الأصحاب أيضا وأما الوصي فالمشهور بين الأصحاب اعتبار العدالة فيه ، وظاهر جملة من أفاضل متأخري المتأخرين كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني عدم اعتبار ذلك ، استنادا الى عموم الروايات الدالة على اجراء حكم الوصي من غير اشتراط العدالة ، وكذا عموم ما دل على مضاربة الرجل بمال ولده ، والوكالة فيه من غير اشتراط العدالة.

أقول : ويمكن أن يستدل على اشتراطها في الوصي بما رواه محمد بن إسماعيل (١) في الصحيح قال : ان رجلا من أصحابنا مات ولم يوص ، فرفع أمره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد بن سالم القيم بماله ، وكان رجلا خلف ورثة صغار أو متاعا

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٤٠ ولكن عن سماعة.

٣٧٦

وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن ، ان لم يكن الميت صير اليه وصيته ، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي لأنهن فروج ، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر «عليه‌السلام» فقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ، ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن ، أو قال : يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ قال : فقال : إذا كان القيم مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس». والمراد المماثلة في الوثاقة والعدالة

ورواية رفاعة (١) قال : «سألته عن رجل مات وله بنون صغار وكبار من غير وصية ، وله خدم ومماليك وعقار كيف يصنعون الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال : ان قام رجل ثقة فقاسمهم ذلك كله فلا بأس». وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٢) الواردة في وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيها : «وان حدث بالحسن والحسين عليهما‌السلام حدث فإن الأخر منهما ينظر في بنى على ، فان وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته ، فإنه يجعله ان شاء ، وان لم ير فيهم بعض الذي يريد ، فإنه يجعله الى رجل من أبى طالب يرضى به ، فان وجد آل أبى طالب قد ذهب كبراؤهم وذوو آرائهم فإنه يجعله الى رجل يرضاه من بنى هاشم» الخبر.

ومورد هذا الخبر الوصي لكنه لا دلالة له على العموم في كل وصى ، وبما يفرق بين الوصي وبين ما دل عليه الخبران الأولان ، بأن الوصي قد عينه وان كان غير عدل ، وفي تبديله وعزله دخول تحت قوله تعالى (٣) «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ».

وفيه أن تبديله وعزله انما وقع رعاية للموصى ، ومحافظة على تنفيذ وصاياه ، حيث أن الوصي لما كان غير عدل فلا يؤمن منه التغيير والتبديل ، والإخلال بتنفيذ

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٤٠ ولكن عن سماعة.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٢٧.

(٣) سورة البقرة الآية ١٨١.

٣٧٧

الوصايا كما أمر.

والظاهر أن الاحتياط في المقام أن يضم الحاكم اليه عدلا يكون ناظرا عليه في تنفيذ الوصايا ، ويستفاد من الخبرين الأولين الاذن لعدول المؤمنين في تولى بعض الأمور الحسبية المنوطة بالحاكم الشرعي ، وبه صرح الأصحاب أيضا.

الخامسة ـ المفهوم من كلام جملة من الأصحاب ان السفيه حكمه في العبادات البدنية والمالية الواجبة حكم الرشيد في وجوب الإتيان بهما ، الا أنه لا يمكن من من صرف المال ، وعلى هذا فمتى كان الحج عليه واجبا فليس للولي منعه ، بل يجب عليه المبادرة اليه ، وعلى الولي تولى الإنفاق عليه بنفسه أو وكيله ، سواء زادت نفقته سفرا على نفقة الحضر أم لا ، ولا فرق في ذلك بين حجة الإسلام أو حج النذر إذا كان النذر سابقا على الحجر.

وأما لو أراد الحج ندبا فإنهم اشترطوا فيه أن لا يزيد نفقته سفرا عن نفقته حضرا لعدم الضرر.

ولا أعرف لهذا الشرط وجها إذا كان الولي هو أو وكيله المتولي الإنفاق عليه ، والضرر انما يتطرق بتمكينه من النفقة على نفسه ، على انه من الظاهر البين أن نفقة السفر يزيد على نفقة الحضر غالبا ، لما يحتاج اليه من الدواب ، والغرم كما هو المشاهد المعلوم في جميع الأزمان ، وحينئذ فكيف يمنع من هذا الثواب العظيم المرتب على الحج ، وهو مكلف عاقل لا مانع سوى السفه الذي هو عبارة عن صرف المال في غير محله ، وهو هنا مندفع بتولي الولي أو وكيله لذلك ، والمسألة المذكورة غير منصوصة كما اعترف به في المسالك ، ليجب الوقوف فيها على ما ذكروه ، والعجب انهم قالوا : كما تقدم نقله عنهم أنه يجوز للإنسان أنه يتصدق بجميع أمواله ، وينفقها في الخيرات والطاعات ولا يكون ذلك سفها مع ما فيه من الضرر العظيم ، ويمنعون هنا من زيادة نفقة السفر ، لكون ذلك ضررا.

والى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي أيضا كما أشار إليه بقوله :

٣٧٨

الظاهر عدم منعه من المندوب أيضا ، كمثل ما مر ، وان استلزم صرف المال زائدا على الحضر ، على أن ما ذكروه من عموم الحجر ـ على وجه يتناول منعه من فعل الطاعات ، والقربات المستحبة والنذر ونحو ذلك في محل المنع ، فإن غاية ما يفهم من الاخبار والآيات التي تقدم ذكرها ، هو أنه لسفهه لا يمكن من المال خوفا أن يصرفه في المصارف الغير الشرعية.

وحينئذ فلو أراد أن يتصدق بصدقة أو يبنى مسجدا أو نحو ذلك ، على وجه لا يدفع المال اليه ، فما المانع منه ، حتى انهم يحكمون بالحجر فيه وفي أمثاله ، فإنه عاقل كامل داخل تحت الخطاب بتلك الأخبار الدالة على استحباب الصدقة ، وفعل الخير وبذل المعروف ، وتخصيص هذه الأخبار بأخبار الحجر ليس اولى من العكس ، بل العكس أولى ، فإن غاية ما يتمسكون به كونه سفيها ، ومجرد السفه من حيث هو لا يصلح للمنع من ذلك كالفاسق.

نعم الذي يقتضيه السفه هو الحجر عليه في المال ، لئلا يصرفه في غير المصارف الشرعية من وجوه السفه ، والفرض هنا أنه انما صرف في المصارف الشرعية التي ليست بسفه على وجه لم يدفع اليه المال بنفسه (١).

وبالجملة فإن دعوى عموم الحجر على وجه يتناول ما ذكرناه وأمثاله ممنوعة ، لا أعرف عليها دليلا ، ثم انهم قالوا أيضا : أنه إذا حلف انعقدت يمينه ، لانه لا تعلق له بالمال ، ومثله لو نذر أو عاهد على وجه لا تعلق له بالمال ، أما لو كان النذر أو

__________________

(١) وان قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار إذا علم الرجل أن أقرانه سفيهة مفسدة وولده سفيه لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهم على ما حوله ، ان النهى من تسليطهم انما هو لخوف وقوع صرفه في الفساد وهو الأمور غير المشروعة ، وكذا قوله في آخر لا يعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد ، انما هو خوف صرف المال في تلك الأمور الممنوع منهما شرعا ، وحينئذ فلا تعلق لذلك بما لو تصدق بمال ونحوه من وجوه الطاعات على وجه يكون صرف المال فيه بواسطة الولي من غير أن يدفع المال إليه ، فإنه من أفعال العقلاء وذوي الرشد فلا مانع منه. منه رحمه‌الله.

٣٧٩

العهد متعلقا بالمال كأن نذر أن يتصدق بمال مثلا ، فان كان معينا بطل النذر ، وان كان في الذمة روعي في انعقاده زوال السفه.

وإذا حلف وحنث في يمينه فإنه يجب عليه الكفارة قطعا ، لانه بالغ عاقل ، الا أنه يبقى الإشكال في تعين التكفير بالصوم ، لانه محجور عليه المال ، فيصير كالعبد والفقير ، أو جواز التكفير بالمال؟ نظرا الى أن الكفارة تصير واجبة عليه ، وهو مالك للمال ، فيخرج من المال ، كما يجب أخرج الزكاة والخمس ومؤنة الحج الواجب ، والكفارة التي قد سبق وجوبها الحجر قولان :

وبالأول صرح العلامة في جملة من كتبه ، وظاهر المحقق في الشرائع التردد في المسألة لما ذكرنا من تعارض الوجهين المذكورين ، وظاهره في المسالك الميل الى القول الأول ، وأجاب عن دليل الثاني قال : ويضعف بأن هذه الواجبات ثبت عليه بغير اختياره ، فلا تصرف له في المال ، وانما الحاكم به الله تعالى ، بخلاف الكفارة في المتنازع فان سببها مستند الى اختياره ، ومخالفته لمقتضى اليمين ، فلو أخرجها من المال أمكن جعل ذلك وسيلة له الى ذهابه ، لان مقتضى السفه توجيه صرفه الى ما لا ينبغي انتهى.

أقول : فيه ما عرفت من أنه لا دليل على ما ادعوه في هذا المقام ، بل الدليل على خلافه ظاهر من أخبارهم عليهم‌السلام وذلك فإنه متى حلف أو نذر أو عاهد دخل تحت الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بهذا الأشياء وما يترتب عليها ، لانه مكلف وسفهه لم يسقط عنه التكليف.

وغاية ما يوجبه السفه منعه من الصرف في المال بغير الوجوه المشروعة ، لا مطلقا كما ادعوه ، فانا لم نقف لهم فيه على دليل ، بل ظاهر الآية والاخبار المتقدمة انما هو ما قلناه على أنا لا يجوز دفع المال اليه فيما يتوقف على المال في هذه الأمور ، بل المتولي لصرفه هو وليه الذي بيده المال.

والتحقيق انه قد تعارض هنا أدلة وجوب الوفاء بهذه الأمور ، وما يترتب عليها كما في غيره من المكلفين ، وأدلة الحجر وتخصيص أحد الدليلين بالاخر يحتاج

٣٨٠