الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

السادسة من المقصد المتقدم.

ومنها أن يأذن للمشتري في الابتياع ، وفيه أيضا قولان : أظهرهما عدم الابطال واحتج القائل بالإبطال بدلالة الاذن على الرضا المبطل لها ، وفيه منع ظاهر ، لما عرفت آنفا من أن الرضا ان لم يكن دالا على الجواز لكونه وسيلة إلى الأخذ بالشفعة لم يكن مبطلا.

والتحقيق في هذه المواضع الخلافية ونحوها أن الشفعة لا تبطل الا مع التصريح بإسقاطها بمد ثبوتها ، أو منافاته الفورية على القول باعتبارها.

ومنها وهو من الحيل أيضا في إسقاط الشفعة أن ينقل الشقص بغير البيع كالهبة والصلح على الأشهر الأظهر من اختصاص الشفعة بالبيع ، كما تقدم تحقيقه في المقصد الثاني في الشروط ، وسقوط الشفعة هنا حقيقة لفقد الشرط المقتضى لثبوتها ، وهو انتقال الشقص بالبيع.

ومنها أن يبيع جزءا من الشقص بثمن كله ، ثم يهب له باقي الشقص.

ومنها أن يبيع عشر الشقص مثلا بتسعة أعشار الثمن ، ثم يبيع تسعة أعشاره بعشر الثمن ، فالشريك الأول لا يرغب في الشفعة في البيع الأول لقلة المبيع ، وكثرة الثمن ، ولا شفعة له أيضا في البيع الثاني لتعدد الشركاء ، لان الأشهر الأظهر اشتراط وحدة الشريك كما تقدم تحقيقه ، وذلك لان المشتري حال البيع الثاني صار شريكا.

ومنها أن يبيعه بثمن قيمي كثوب مثلا ، ثم يبادر البائع بعد قبضه إلى إتلافه قبل العلم بثمنه ، أو يخلطه بغيره بحيث لا يتميز ، فإنه تندفع الشفعة هنا لعدم معلومية الثمن والجهل به ، لأن الشفعة في القيمي انما يكون بقيمته ، وهي هنا غير معلومة.

٣٤١

كتاب الحجر

وهو لغة المنع ، ومنه سمى الحرام حجرا ، لما فيه من المنع ، قال الله تعالى (١) «وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» أى حراما محرما ، وسمى العقل حجرا ، لانه يمنع صاحبه من ارتكاب القبيح ، قال الله تعالى (٢) «هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» وشرعا هو المنع من التصرف في المال ، أى مال ذلك المحجور عليه ، أعم من أن يكون في الجميع أو البعض ، فيشمل الممنوع من التصرف في الجميع ، كالصبي أو في البعض كالمريض ، وأيضا فالظاهر المنع في الجملة وعلى بعض الوجوه ، إذ لا منع شرعا من الكل ، إذ لا يكون أضعف من الصبي والمجنون ، وهما غير ممنوعين من الأكل والشرب والسكنى ونحوها.

ثم اعلم ان جملة من الأصحاب كالعلامة في التذكرة والمحقق في الشرائع جعلوا للحجر كتابا وبابا على حدة ، وللمفلس كتابا وبابا على حدة ، والعلامة في الإرشاد أدرج المفلس في كتاب الحجر ، وجعله من جملة مباحثه ، وهو الأظهر كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى ، وكأن أولئك نظروا إلى كثرة الأبحاث المتعلقة بالمفلس فجعلوه لذلك مستقلا بالبحث ، والأمر في ذلك هين.

ونحن قد جرينا في هذا الكتاب على ما جرى عليه شيخنا العلامة في الإرشاد

وحينئذ فالبحث في هذا الكتاب يقع في مطالب ثلاثة المطلب الأول ـ في موجبات الحجر، وهي عند الأصحاب ستة ، الصغر ، والجنون ، والرق ، والمرض والفلس ، والسفه ، والحصر في هذه الستة المذكورة جعلي لا استقرائي ، حيث قد جرت عادتهم بالبحث في هذا المقام عن هذه الستة.

والا فهنا أقسام كثيرة غير هذه الستة ، كالحجر على الراهن والمرتهن في

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ـ ٢٢.

(٢) سورة الفجر الآية ـ ٥.

٣٤٢

الرهن ، وعلى المشترى فيما اشتراه قبل دفع الثمن ، وعلى البائع في الثمن المعين ، وعلى المكاتب في كسبه لغير الأداء والنفقة ، وعلى المرتد الذي يسوغ عوده ، وغير ذلك مما هو مذكور في تضاعيف الفقه. (١)

وكيف كان فالكلام في هذه الستة المذكورة يقع في مواضع الأول ـ الصغر ، وفيه مقامات المقام الأول ـ لا خلاف في الحجر على الصغير ما لم يبلغ في الجملة ، ويدل عليه الآية وهي قوله تعالى (٢) «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» الآية.

والاخبار منها ما رواه في التهذيب عن الأصبغ بن نباتة (٣) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «أنه قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل» الحديث.

قال في التذكرة : وهو محجور عليه بالنص والإجماع ، سواء كان مميزا أو لا ، في جميع التصرفات الا ـ ما استثنى كعباداته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ، ووصيته وإيصال الهدية واذنه في دخول الدار على خلاف في ذلك.

أقول : المفهوم من كلام جملة من الأصحاب كالمحقق في الشرائع وغيره أن الحجر انما هو باعتبار التصرف المالي ، فإنه عرفه في الشرائع بأنه الممنوع من التصرف في ماله ، وهو المتبادر من الإطلاق أيضا ، وظاهر كلام العلامة هنا أن المراد جميع

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٦.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٣٢ الفقيه ج ٣ ص ـ ١٩.

(٣) أقول عد المشترى هنا والبائع فيمن يحجر عليه بناء على ما تقدم في كتاب البيع من انه لا يجب على واحد منهما التسليم قبل الأخر كما هو المشهور ، فيكون المبيع محجورا على المشترى ، ولا يجب على البائع تسليمه قبل قبض الثمن وقد تقدم ما فيه ، واحترز بالمعين عما في الذمة ، فإن الحجر انما يتوقف بالنسبة إلى العين والمنع من التصرف فيها بأحد وجوه التصرفات ، وما في الذمة أمر كلي لا وجود له في الخارج إلا بالتبعية في فرد خارجي منه (رحمه‌الله).

٣٤٣

التصرفات ، وعلى هذا فاستثناء الثلاثة الأول ظاهر.

وأما تدبيره ووصيته فهو محل خلاف بين الأصحاب الا أن الاخبار قد دلت على جواز ذلك من ابن عشر سنين وكذا العتق ، وسيأتي في أبوابها إنشاء الله تعالى.

وأما إيصال الهدية والاذن فقد صرحوا بأنه لا يحتاج علم المهدى اليه ، والداخل يكون ذلك بإذن الولي صريحا.

قال المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) بعد نقل ذلك عنهم لعله اكتفى بالظاهر للعادة بأن الهدية في محلها لم يجئها الولد إلا بإذن وليه ، وكذا الاذن في الدخول لا يكون إلا بإذنه للقرينة ، فكأنه اكتفى فيهما بمثله للظهور وسهولة الأمر لكثرة التداول ، والشيوع بين المسلمين من غير نكير ، وكأنه كان في زمانهم (عليهم‌السلام) مع عدم المنع فتقريرهم هنا ثابت ، وهو حجة ولا يبعد ذلك وأمثاله ، مثل قبول مثله من عبده وولده وتسليم ظرفه إليهما ، وكذا تسليم ما كان عند الإنسان بالعارية ونحوها الى شخص يوصله اليه من غير اذنه ، سواء كان عبد المرسل أو ولده أو غيرهما ، كما هو المتعارف خصوصا إذا كان بينهما الصداقة ، أو عرف من حاله أنه لا يكره ، بل يرضى علما أو ظنا متاخما له ، ويدل عليه عموم أدلة قبول الهدية من غير تفصيل ، بأن يكون الموصل حرا بالغا ، ومع ذلك الاحتياط أمر مطلوب انتهى.

أقول : لو ثبت عموم الحجر كما هو ظاهر كلام التذكرة بالأدلة القاطعة من كتاب أو سنة لكان في الخروج عنه بما ذكره (قدس‌سره) من هذه التوجيهات محل نظر وإشكال ، الا؟ أن القدر المعلوم ثبوته من الكتاب والسنة والإجماع ، انما هو التخصيص بالمالي ، وحينئذ فيهون الخطب فيما ذكره ، ويقوى اعتباره.

المقام الثاني قد عرفت أن الصغر سبب في الحجر ، ولا يزول الا بالبلوغ ، وهو يعلم في الذكور بأمور ، منها ـ خروج المنى وتشركه في هذه العلامة الأنثى ، والمراد منه الماء الدافق الذي يخلق منه الولد في يقظة كان أو نوم ، وعليه تدل

٣٤٤

جملة من الآيات والروايات ، كقوله تعالى (١) «إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ» ـ «وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ» «وحَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» الاية ، والحلم بالضم لغة واحد الأحلام النومية ، قال في التذكرة : الاحتلام هو خروج المنى وهو الماء الدافق الذي يخرج منه الولد ، وقال أيضا : «الحلم خروج المنى من الذكر أو قبل المرأة مطلقا ، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة ، وسواء كان بجماع أو غير جماع ، وسواء كان في نوم أو يقظة» وكأنه يريد أن ذلك المعنى المقصود منه شرعا ، والا فإن المذكور في كلام أهل اللغة انما هو التخصيص بالنوم كما يظهر من القاموس وغيره ، ولهذا قال في التذكرة : ولا يختص بالأحلام.

والاخبار بذلك متكاثرة أيضا ففي رواية على بن جعفر (٢) عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن الغلام متى يجب عليه الصوم والصلاة؟ قال : إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة ، فان احتلم قبل ذلك فقد وجب عليه الصلاة ، وجرى عليه القلم».

وفي صحيحة البزنطي (٣) عن الرضا عليه‌السلام قال : «يؤخذ الغلام بالصلاة وهو ابن سبع سنين ، ولا تغطي المرأة شعرها عنه حتى يحتلم». وفي هذه الخبر دلالة على جواز كشف المرأة رأسها ما لم يبلغ ، والظاهر أن ذكر الشعر انما خرج مخرج التمثيل ، لانه لا فرق بينه وبين سائر الجسد في تحريم النظر اليه من الأجنبي الذي ليس بمحرم.

وفي صحيحة هشام (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام وهو أشده ، وان احتلم ولم يونس منه رشده وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله».

__________________

(١) سورة النور الآية ٥٩.

(٢) التهذيب ج ٢ ص ٣٨١ لكن عن عمار الساباطي.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ١٦٣.

(٤) الفقيه ج ٤ ص ١٦٣.

٣٤٥

وفي رواية عبد الله بن سنان المروية في الخصال (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سأله أبى وأنا حاضر عن اليتيم متى؟ قال : حتى يبلغ أشده ، قال : وما أشده؟ قال : احتلامه» الحديث. الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

ومنها الإنبات ، والمراد به ما على العانة من الشعر ، وهذه العلامة أيضا مشتركة بين الذكر والأنثى ، قال في التذكرة : وهو مختص بشعر العانة الخشن ، ولا اعتبار بالشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر ، بل الخشن الذي يحتاج في إزالته إلى الحلق حول ذكر الرجل وفرج المرأة ، وقال أيضا في الكتاب المذكور : إنبات هذا الشعر دليل البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع (٢).

أقول : ويدل عليه أيضا مضافا الى الإجماع المذكور الأخبار ، ففي حسنة يزيد الكناسي (٣) عن الباقر عليه‌السلام وهي طويلة قال في آخرها : «ان الغلام إذا زوجه أبوه كان له الخيار إذا أدرك ، أو بلغ خمس عشرة سنة ، أو أشعر في وجهه ، أو أنبت في عانته».

والظاهر أن المراد بالشعر في وجهه هو اللحية والشارب ، واستقرب في التحرير كون نبات اللحية دليلا دون غيره من الشعور ، والعادة قاضية به.

وفي معنى هذه الرواية رواية حمران (٤) وفيها «ان الغلام تجب عليه الحدود إذا احتلم ، أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبله ، والجارية لتسع». وهل الإنبات دليل بنفسه على البلوغ كالسن ، أو على سبقه كالحيض والحمل؟ قولان :

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ من أبواب أحكام الحجر الرقم ـ ٥.

(٢) نبه به على خلاف بعض العامة نظرا إلى انه لا يمكن الرجوع إليهم في الاخبار بالسن والاحتلام بخلاف المسلم ، قال في المسالك : وربما نسب هذا القول الى الشيخ رحمه‌الله وهذا التفصيل بالنسبة إلى الحرب من الكفار : باعتبار جواز القتل في البالغ دون غيره ـ منه رحمه‌الله.

(٣ ـ ٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٣٤٦

قال في المسالك بعد قول المصنف «ويعلم بلوغه بإنبات الشعر الخشن على العانة» ما لفظه : احترز بالشعر الخشن عن الشعر الضعيف ـ الذي ينبت قبل الخشن ثم يزول ويعبر عنه بالزغب ـ ويشعر العانة عن غيره ، كشعر الإبط والشارب واللحية فلا عبرة بها عندنا إذ لم يثبت كون ذلك دليلا شرعا ، خلافا لبعض العامة ، ولا شبهة في كون شعر العانة علامة على البلوغ ، انما الكلام في كونه نفسه بلوغا أو دليلا على سبق البلوغ ، والمشهور الثاني ، لتعليق الأحكام في الكتاب والسنة على الحلم والاحتلام ، فلو كان الإنبات بلوغا بنفسه لم يختص غيره بذلك ، ولان البلوغ غير مكتسب ، والإنبات قد يكتسب بالدواء ، ولحصوله على التدريج ، والبلوغ لا يكون كذلك ، ووجه الأول ترتب أحكام البلوغ عليه وهو أعم من الدعوى انتهى.

أقول : فيه أولا أن ما ذكره ـ من أن شعر الشارب واللحية لا عبرة به إذ لم يثبت كونه دليلا شرعيا ـ مردود بدلالة الروايتين المذكورتين على كونه دليلا شرعيا ، والثانية منهما وان كانت مجملة حيث لم يذكر موضع الشعر فيها ، الا أن الأول مصرحة بكونه شعر الوجه.

ومن الظاهر أن الشعر في الوجه انما هو اللحية والشارب ، فيحمل إجمالها على تفصيل الاولى وبيانها ، فإنه عليه‌السلام ، جعل إنبات الشعر في عداد البلوغ بالسن والإنبات والاحتلام ، فيكون احدى علامات البلوغ ، والظاهر أنه غفل عن الاطلاع على الخبرين المذكورين ، كما غفل عنهما غيره ، حيث لم يعدوا ذلك في العلامات المذكورة ورد الخبرين المذكورين من غير معارض ظاهر لا يخفى ما فيه.

وثانيا ان ما ذكره من الخلاف ـ في كون الإنبات دليلا على البلوغ أو على سبقه ، واختياره الثاني وقوله أنه هو المشهور ـ فيه أن ظاهر عبارة العلامة المتقدمة وقوله نبات هذا الشعر دليل البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع عدم الاعتداد بهذا القول المشهور ، وانه لا خلاف في كونه دليلا على البلوغ بنفسه ، وهو المؤيد بظاهر الخبرين المذكورين ، فان ظاهر عد الإنبات في عداد السن والاحتلام ـ اللذين لا خلاف في كونهما علامتين للبلوغ لا على سبق البلوغ ـ كون الإنبات مثلهما في ذلك.

٣٤٧

وبذلك يظهر لك ما في قوله في الاحتجاج للقول المشهور ، لتعليم الأحكام في الكتاب والسنة على الحلم والاحتلام الى آخره ، فإنه ظاهر في ما قدمنا ذكره من عدم اطلاعه على الخبرين المذكورين ، والا فمع الوقوف عليهما كيف يتم له دعوى تعليق الحكم في السنة على الاحتلام ، وأنه مختص بذلك دون الإنبات ، والروايتان قد اشتملتا كما عرفت على عد الجميع من علامات البلوغ ، والمتبادر منه كون كل منها علامة على البلوغ لا على سبقه.

وثالثا أن قوله «ان البلوغ غير مكتسب ، والإنبات قد يكون مكتسبا» فإنه بظاهره لو تم لدل على عدم جواز عد الإنبات في العلامات المذكورة ، ولو بكونه علامة على السبق ، مع أنه لا يقول به ، والقائلون بعده انما يريدون به الإنبات الحاصل من الله ـ «سبحانه» ـ بمقتضى العادة والطبيعة ، وهو بهذا المعنى لا يمنع من كونه علامة على البلوغ ، لا أنه مراد به ما هو أعم حتى يتجه ما ذكره ، وكذا قوله «ولحصوله على التدريج» فان فيه ان العلامة تحصل بمجرد خروج شي‌ء من الشعر ، ولا توقف لها على تزايده وكماله ، حتى يتجه قوله «والبلوغ لا يكون كذلك» يعنى تدريجا ، وبالجملة فإن كلامه «قدس‌سره» هنا لا يخلو من الغفلة عن النصوص المذكورة ، والمجازفة في هذه التعليلات العليلة.

وأنت خبير بأن مورد الروايات في هذه العلامة والتي قبلها انما هو المذكر ، فكان مستند هاتين العلامتين في الأنثى انما هو الإجماع ، حيث لا قائل بخلاف ذلك.

ومنها السن والمشهور أنه في الذكر ببلوغ خمس عشرة سنة ، وفي الأنثى ببلوغ تسع ، ويدل عليه بالنسبة إلى الذكر ما تقدم في حسنة يزيد الكناسي (١) ورواية حمران (٢) وبالنسبة إلى الأنثى ما في رواية حمران المذكورة ، حيث قال قال فيها : «ان الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ، ودفع إليها مالها ، وجاز أمرها في الشراء والبيع» الحديث.

__________________

(١ ـ ٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٣٤٨

ورواية عبد الله بن سنان (١) عن ابى عبد الله «عليه‌السلام» وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك ، وذلك لأنها تحيض لتسع سنين». وعن الشيخ في كتاب الصوم من المبسوط وابن حمزة أن بلوغ المرأة بعشر سنين. مع أن الشيخ وافق المشهور في موضع آخر من الكتاب المذكور ، وما ذكر من القول بالعشر لم نقف له على دليل ، وفي موثقة عمار (٢) بلوغها بثلاث عشرة ، وهو غير معمول عليه ، وقيل في المذكر بأربع عشرة سنة ، نقله في المختلف عن ابن الجنيد ، ونقل بعض أفاضل متأخر المتأخرين (٣) عن بعض القدماء والشيخ في كتابي الاخبار وأكثر محققي المتأخرين أنهم قالوا بحصول البلوغ بالدخول في الرابع عشر ، قال : في المفاتيح : ولا يخلو من قوة ، ويدل عليه قوله «عليه‌السلام» : في صحيحة عبد الله بن سنان (٤) إذا بلغ الغلام أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة وجب عليه ما يجب على المحتلمين ، احتلم أو لم يحتلم كتب عليه السيئات ، وكتبت له الحسنات وجاز له كل شي‌ء الا أن يكون سفيها أو ضعيفا».

ومنها موثقة أخرى له (٥) وعلى هذا فما تقدم نقله عن ابن الجنيد من القول بالأربع عشرة ان أريد به الدخول فيها فهو راجع الى هذا القول الذي دلت عليه هذه الاخبار.

وان أريد به إكمالها فيمكن أن يكون مستنده قوله «عليه‌السلام» في رواية عيسى بن زيد (٦) «ويحتلم لأربع عشرة». بحملها على كمال الأربع عشرة ، وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في كتاب الصيام (٧) وذكرنا جملة من الاخبار وما قيل في الجمع

__________________

(١ ـ ٤) الوسائل الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب أحكام الوصايا.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٣) هو الفاضل المولى أبو الحسن بن محمد طاهر المجاور بالمشهد الغروي حيا وميتا في شرحه على المفاتيح ـ منه رحمه‌الله.

(٥ ـ ٦) الوسائل الباب ٤٤ ـ من أبواب أحكام الوصايا.

(٧) ج ١٣ ص ١٨١.

٣٤٩

بينها ، فمن أحب الوقوف عليه فليرجع إليه ، بقي هنا شي‌ء وهو أن ظاهر عبارات الأصحاب الاكتفاء بمجرد الدخول ، وهو ظاهر الاخبار ، حيث صرحت بأن بلوغ الخمس عشرة موجب للبلوغ ، وظاهره هو الاكتفاء بالدخول فيها وان لم يتمها ، الا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال : ويعتبر إكمال السنة الخامسة عشرة ، والتاسعة في الأنثى ، فلا يكفى الطعن فيها عملا بالاستصحاب وفتوى الأصحاب ، ولان الداخل في السنة الأخيرة لا يسمى ابن خمس عشرة ستة لغة ولا عرفا ، والاكتفاء بالطعن فيها وجه للشافعية انتهى. وتبعه على ذلك جملة ممن تأخر عنه ، وظاهره أن ذلك فتوى من تقدمه من الأصحاب ، مع أن أكثر العبارات على ما حكيناه ، وكذا عبارات الاخبار.

وظاهر المحقق الأردبيلي الميل الى ما ذكرنا ، الا أن عبارته لا يخلو من تعقيد ، أو غلط في النسخة الموجودة عندنا ، فإنه قال ما ملخصه : والظاهر أنه لا يشترط إكمال خمس عشرة ، بل يحصل بالمشروع فيه ، وإكمال أربع عشرة ، وبذلك يمكن الجمع بين الاخبار ، ثم نقل عبارة المسالك المتقدمة ، ثم قال بعد كلام في البين : وتعرف أنه ليس فتوى جميع الأصحاب وليس بحجة ، وأن ليس خامس عشر بواقع في كتاب ولا سنة معتبرة ولا إجماع حتى يكون معناه إكماله انتهى.

ومنها الحيض ، والحبل للأنثى بغير خلاف يعرف في ذلك ، ولا في كونهما دليلين على سبقه.

ويدل على الأول رواية عبد الرحمن بن الحجاج (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : «ثلاث يتزوجن على كل حال ، وعد منها التي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قلت : ومتى يكون كذلك؟ قال : ما لم يبلغ تسع سنين ، فإنها لا تحيض ومثلها لا تحيض». وقوله في رواية عبد الله بن سنان المتقدمة (٢) «لأنها تحيض لتسع سنين».

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ١٣٧.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٨٤.

٣٥٠

ولا خلاف في جواز تصرف المرأة في مالها بعد البلوغ ، وما ورد في بعض الاخبار الصحيحة «من توقف عتقها على اذن زوجها ، وكذا تصرفها في مالها» فقد حمله بعض الأصحاب على تأكد استحباب استيذانه.

المقام الثالث

كما أن الحجر لا يرتفع عن الصغير الا بالبلوغ كذلك يعتبر معه الرشد أيضا ، فلا يرتفع عنه الحجر الا بالبلوغ والرشد ، ويدل عليه قوله عزوجل (١) «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» قال في المسالك : الحق أن الرشد ملكة نفسانية يقتضي إصلاح المال ، وتمنع من إفساده وصرفه في غير الوجوه اللائقة بأفعال العقلاء.

أقول : مرجعه إلى أنه يعتبر فيه أمور ثلاثة : أحدها أن يكون مصلحا لماله على الوجه اللائق بحاله ، وثانيها ـ كونه غير مفسد له بالتضييع ، وثالثها ـ أن لا يصرفه في المصارف الغير اللائقة بحاله ، ولا يخفى ما بين هذه الأمور من التلازم.

وبالجملة فالظاهر أنه لا بد أن يكون هذه الأمور عن ملكة يقتدر بها عليها من حفظه ، وصرفه في الأغراض الصحيحة ، فلا يكفى ذلك مرة أو مرات من غير أن يكون ذلك على جهة الملكة ، بل يكون من عقله ومعرفته أن لا يضيع المال ، ولو بتحمل الغبن الفاحش في المعاملات ، والصرف في المحرمات ، والتبذير والإسراف ، فإنه مناف للرشد بغير خلاف.

وانما الخلاف في اشتراط العدالة في الرشد ، فالمشهور العدم ، وذهب الشيخ (رحمه‌الله) الى اعتبارها ، وهو مذهب جماعة من العامة منهم الشافعي ، واحتج الشيخ ومن قال بهذا القول بقوله عزوجل (٢) «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» وما روى عن ابن عباس في قوله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» هو أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل».

__________________

(١ ـ ٢) سورة النساء الآية ـ ٦.

٣٥١

وما روى في أخبارنا (١) «أن شارب الخمر سفيه». فيثبت في غيره ، إذ لا قائل بالفصل.

والظاهر أن الأقوى هو القول المشهور للأصل ، ولصدق مطلق الرشد على غير العادل ، ولقوله «عليه‌السلام» (٢) «الناس مسلطون على أموالهم». خرج منه ما خرج بدليل ، فيبقى الباقي تحت العموم ، ولزوم الحرج والضيق بذلك ، قال في المسالك ونعم ما قال : واعلم أنه لو اعتبرت العدالة في الثبوت لم تقم للمسلمين سوق ، ولم ينتظم للعالم حال ، لان الناس الا النادر منهم اما فاسق ، أو مجهول الحال ، والجهل بالشرط يقتضي الجهل بالمشروط ، ويؤيده ورود الأوامر بالمعاملة والمناكحة مطلقا من غير تقييد بالعدالة.

وفي الاخبار ما يدل على معاملة الفساق مثل الأخبار (٣) الدالة على جواز بيع الخشب ممن يعمله صنما ، والعنب والتمر ممن يعمله خمرا ، ولو كان الأمر كما ذكره القائل المذكور لما جاز ذلك ، ولكان مع عموم البلوى به يخرج فيه خبر يدل على المنع.

وبالجملة فالظاهر أن القول المذكور في غاية من الضعف ، قالوا : وانما تعتبر العدالة على القول باعتبارها ابتداء لا استدامة ، نقل في التذكرة الإجماع عليه ، وقال في التذكرة أيضا : ان الفاسق ان كان ينفق ماله في المعاصي لشرب الخمور وآلات اللهو والقمار ، أو يتوصل به الى الفساد ، فهو غير رشيد لا يدفع إليه أمواله إجماعا ، لتبذيره ماله ، وتضييعه إياه في غير فائدة ، وان كان فسقه بغير ذلك كالكذب ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة مع حفظه ماله دفع اليه ماله ، لان الغرض من الحجر حفظ المال ، وهو يحصل بدون الحجر ، فلا حاجة اليه ، وكذا إذا طرأ الفسق

__________________

(١) الفقيه ـ ج ٤ ص ١٦٨.

(٢) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ط جديد.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٣٧٣.

٣٥٢

الذي لا يتضمن تضييع المال ولا تبذيره ، فإنه لا يحجر عليه إجماعا انتهى.

ويعلم الرشد بالاختبار فيما يلائمه من الأعمال ، ذكرا كان أو أنثى ، ففي الذكر لا يفك عنه الحجر حتى ينظر لو كان من التجار مثلا في بيعه وشرائه ، لا بمعنى أن يفوض اليه البيع والشراء ، بأن يبيع ويشترى لانه لم يتحقق رشده بعد ، بل بمعنى أن تماكس في الأموال على هذا الوجه ، أو يدفع اليه المتاع ليبيعه أو الثمن ليشتري به ، ولا يلاحظ الى أن يتم المساومة فيتولاه الولي ، فإذا تكرر منه ذلك وسلم من الغبن ، والتضييع وصرف المال في غير موضعه ثبت رشده ، وهكذا في كل أحد بنسبة عمله الذي يمارسه ، والمرأة تستعلم بما يناسب حال النساء من الغزل ، والطبخ وتدبير المنزل ونحو ذلك مما يعتاد ممارسته النساء.

الموضع الثاني الجنون

ودليل الحجر على المجنون ظاهر من العقل والنقل.

الموضع الثالث ـ الرق والمملوك محجور عليه في التصرف إلا بإذن المولى ، أما على القول بعدم ملكه فظاهر ، وأما على القول بملكه فان الظاهر من الاخبار كما تقدم تحقيقه في المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان من كتاب المتاجر (١) أنه محجور عليه التصرف فيه الا بإذن المولى ، واستثنى من المنع الطلاق ، فيجوز بدون اذن مولاه بل وان كره ، لان الطلاق بيد من أخذ بالساق ، هذا في غير أمة مولاه.

الموضع الرابع ـ المرض ، والمريض ممنوع من الوصية بما زاد على الثلث إجماعا ، كما نقلوه ما لم يجز الورثة ، بمعنى أنه ممنوع من إيقاعها على جهة النفوذ بدون إجازتهم ، لا بمعنى انها يقع باطلة في حد ذاتها ، فهي صحيحة موقوفة على الإجازة ، فإن أجازوها صحت ولزمت ، ونقل في المسالك عن الشيخ على بن بابويه :

__________________

(١) ج ١٩ ص ٣٩٥.

٣٥٣

انه أجاز وصيته بجميع ماله ، ورده بأن الرواية قاصرة ، وحملت على من لا وارث له ، أو ما إذا أجاز الورثة.

أقول : قال العلامة في المختلف : المشهور عند علمائنا كافة أن الوصية تمضى من ثلث المال ، وتبطل في الزائد إلا مع الإجازة.

وقال على بن بابويه : فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، فإن أوصى له كله فهو اعلم وما فعله ، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى.

واحتج على ذلك برواية عمار الساباطي (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : «الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ، ان أوصى به كله فهو جائز له».

والرواية ضعيفة ، والمطلوب مستبعد ، والأحاديث الصحيحة معارضة لهذه الرواية ، مع ان الشيخ تأولها على من لا وارث له ، أو على ما إذا أجاز الورثة إلى آخر كلامه (زيد في مقامه)

وما ذكره (قدس‌سره) من ان مستند الشيخ المذكور هو هذه الرواية تكلف منه ، كما هي قاعدته في تكلف الأدلة للأقوال التي ينقلها في هذا الكتاب ، وانما مستنده هو كتاب الفقه الرضوي ، ومنه أخذ العبارة بلفظها ، فأفتى في رسالته بها كما أوضحنا مثله في كتب العبادات في مواضع عديدة ، فإنه «عليه‌السلام» قال في الكتاب المذكور (٢) «فإن أوصى رجل بربع ماله فهو أحب الى من أن يوصى بالثلث ، فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله ، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى به». وهي كما ترى عين عبارة الشيخ المذكور ، ولكن الكتاب المذكور لما لم يصل إليهم تكلفوا لدليله بهذه الرواية ، وأنت خبير بأن فتوى الشيخ المذكور بعبارة الكتاب المذكورة مع منافاتها لجملة من الاخبار المروية في الأصول المعتمدة دليل واضح على صحة الكتاب المذكور ، وثبوته عنه «عليه‌السلام» عنده واختلف

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٨٦ الفقيه ج ٤ ص ١٤٩.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥١٩ و ٥٢٠.

٣٥٤

الأصحاب ـ في منعه من التبرعات المنجزة الزائدة على الثلث ـ على قولين مشهورين ، وكل منهما معتضدة بجملة من الاخبار ، والذي يقرب عندي من الاخبار المشار إليها هو عدم المنع ، وأن مخرج الوصية على الوجه المذكور من الأصل دون الثلث ، كما هو القول الأخر ، والمراد بالمنجزة يعنى المعجلة في حال الحياة كالهبة والعتق والصدقة ونحو ذلك.

الخامس : الفلس ـ وسيأتي الكلام فيه مستوفى إنشاء الله ـ تعالى ـ في المطلب الثالث.

السادس : السفه ـ وهو مقابل الرشد ، ولما كان الرشد كما عرفت سابقا عبارة عن الملكة التي تترتب عليها تلك الأمور ، من إصلاح المال ، وعدم إفساده ، وعدم صرفه في غير الوجوه اللائقة ، فالسفه حينئذ عبارة عن الملكة التي تترتب عليها أضداد تلك الأمور ، فلا يقدح الغلط في بعض الأحيان ، والانخداع نادرا لوقوع ذلك من كثير من المتصفين بالرشد.

ومن السفه على ما ذكروه الإنفاق في المحرمات ، وصرف المال في الأطعمة النفيسة التي لا يليق بحاله ، ومثله اللباس الفاخر ونحوه

وأما صرفه في وجوه الخيرات كالصدقات وبناء المساجد والقناطر والمدارس واقراء الضيوف ونحو ذلك ، فان كان لائقا بحاله لم يكن سفيها قطعا ، فان زاد على ذلك فالمشهور على ما نقله في المسالك انه كذلك ، استنادا إلى أنه لا سرف في الخير ، كما لا خير في السرف.

ونقل عن العلامة في التذكرة أن ما زاد منه على ما يليق به تبذير ، لأنه إتلاف في المال ، وقال الله تعالى (١) «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» قال : وهو مطلق فيتناول محل النزاع

وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الميل الى القول الأول مستندا

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ـ ٢٩.

٣٥٥

الى تصدق أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي نزلت فيه سورة «هل أتى» حيث ورد بأنهم صاموا ثلاثة أيام طاوين لم يذوقوا الا الماء القراح ، والقصة مشهورة.

وما روى في وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» (١) حيث قال فيها : «وأما الصدقة فجهدك حتى يقال أسرفت ولم تسرف ، ثم قال : ولا سرف في الخير». مشهور.

والروايات والاخبار الدالة على الإنفاق والترغيب اليه والترهيب على تركه لا تعد ولا تحصى كثرة (٢) ثم أطال بأمثال ذلك ، ونقل كلام التذكرة واعترض عليه وقال في المسالك أيضا : ومن المستفيض خروج جماعة من أكابر الصحابة وبعض الأئمة عليهم‌السلام كالحسن عليه‌السلام من أموالهم في الخير.

أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في هذا المضار ـ وتتبعها من مظانها حق التتبع ، وكذا الآيات القرآنية ـ ضعف هذا القول المشهور ، وأنه في محل من القصور ، لاستفاضتها وتكاثرها بالمنع عن ذلك ، وعده إسرافا محرما.

وها نحن نتلو عليك جملة مما وقفنا عليه ليظهر لك صحة ما ذكرناه ، فمنها رواية اللحام المروية في الكافي وتفسير العياشي (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ، ولا وفق للخير ، أليس الله تبارك وتعالى يقول «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» يعنى المقتصدين.

وصحيحة الوليد بن صبيح (٤) قال : «كنت عند أبى عبد الله عليه‌السلام فجاءه سائل فأعطاه ، ثم جاء آخر فأعطاه ، ثم جاء آخر فقال : يسع الله عليك ، ثم قال : ان رجلا لو كان له مال ثلاثين أو أربعين ألف درهم ، ثم شاء أن لا يبقى منها الا وضعها في حق فيبقى لا مال له ، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاءهم ، قلت :

__________________

(١ ـ ٢) الكافي ج ٣ ص ـ ٣ الى ١١.

(٣ ـ ٤) الكافي ج ٤ ص ١٠٠.

٣٥٦

من هم؟ قال : أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في وجهه ، ثم قال : يا رب ارزقني ، فيقال له : ألم أرزقك».

وهما كما ترى صريحا الدلالة في المنع عن ذلك. وظاهرهما أن الإنفاق في هذه الصورة معصية ، لاستدلاله «عليه‌السلام» في الخبر الأول بقوله سبحانه (١) «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» الذي لا خلاف في تحريمه إيذانا بأن الصدقة هنا من قبيل ذلك ، وقوله «عليه‌السلام» أنه ما أحسن يعني بل أساء ، وفي الثاني أنه يرد دعائه بذلك ، والمعاصي هي التي تحبس الدعاء ، كما ورد في جملة من الاخبار.

ومنها الآيات كقوله عزوجل (٢) «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» وقوله (٣) «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ»

ففي صحيحة عبد الله بن سنان (٤) عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى (٥) «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» فبسط كفه وفرق أصابعه وحناها شيئا ، وعن قوله «وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ» فبسط راحته وقال هكذا ، وقال : القوام ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه شي‌ء».

وما رواه ابن أبى نصر في الصحيح عن أبى الحسن عليه‌السلام (٦) قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا» قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يصدق الرجل بكفيه جميعا وكان أبى إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به أعط بيد واحدة ، القبضة بعد القبضة ، الضغث بعد الضغث من السنبل».

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٥.

(٢) سورة الفرقان الآية ـ ٦٧.

(٣) سورة الإسراء الآية ـ ٢٩.

(٤ ـ ٥) الكافي ج ٤ ص ٥٦.

(٦) الوسائل الباب ١٦ من أبواب زكاة الغلات.

٣٥٧

وفي الحسن عن ابن أبى عمير عن هشام بن المثنى (١) قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (٢) «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فقال كان فلان بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث وكان إذا أخذ يتصدق به ، ويبقى هو وعياله بغير شي‌ء فجعل الله ذلك سرفا».

ومما يدل أيضا على ذلك بأوضح دلالة الحديث المروي عن الصادق عليه‌السلام في الكافي (٣) في باب دخول الصوفية على أبى عبد الله عليه‌السلام «وإنكاره عليهم فيما يأمرون به الناس من خروج الإنسان من ماله بالصدقة على الفقراء والمساكين». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع البصير ولا ينبئك مثل خبير هذا.

وأما ما استندوا إليه في هذا المقام فبعضه قابل للحمل على عدم التصدق بجميع المال ، وأصرح ما يدعونه تصدق أمير المؤمنين عليه‌السلام بالأرغفة والجواب عنه الاختصاص بهم (صلوات الله عليهم) إذا شاؤا جمعا بين الاخبار ، على أن المروي (٤) عن الحسن عليه‌السلام : انما هو قاسم ربه ماله حتى النعل ، لا أنه خرج منه كملا ، كما ادعاه في المسالك.

والقول بما ذكروه على إطلاقه مستلزم لطرح هذه الاخبار التي ذكرناها ونحوها مع صحتها وصراحتها وتعددها مع اعتضادها بالآيات المذكورة وهو مما لا يلتزمه محصل كما لا يخفى.

المطلب الثاني في الأحكام

وفيه مسائل الاولى ـ الظاهر أنه لو باع السفيه في حال السفه لم يضمن بيعه ،

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٥.

(٢) سورة الانعام الآية ـ ١٤١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٦٥.

(٤) الوسائل الباب ـ ٥٤ من أبواب الصدقة.

٣٥٨

وكذا لو وهب أو تصدق أو أقر بمال ، والضابط هو منعه من جميع لتصرفات المالية ، ويصح طلاقه وخلعه وظهاره ، وإقراره بالنسب وما يوجب القصاص ، لانه ليس في شي‌ء من هذه ما يوجب تضييع المال الذي فسر به السفه.

نعم في الإقرار بالنسب اشكال باعتبار أنه قد يوجب النفقة ، فيرجع الى الإقرار بالمال ، ولا يبعد أن يقال انه لما كان الإقرار بالنسب على هذا التقدير يوجب شيئين أحدهما إلحاق النسب ، وهو ليس بمالي ، فلا مانع من الحكم به.

وثانيهما ـ الإنفاق ، وهو مالي مثله ثبت بإقراره ، فيحكم بالأول ، دون الثاني ، وحينئذ يجب ان ينفق على من استلحقه من بيت المال ، لانه معد لمصالح المسلمين

ونقل عن الشهيد قول بأنه ينفق عليه من ماله ، لانه فرع على ثبوت النسب ، ولأن في الإنفاق عليه من بيت المال إضرارا بالمسلمين ، فكما يمنع من الإضرار بماله ، فكذا يمنع من الإضرار بمال غيره.

ورد بأن إقراره انما ينفذ فيما لا يتعلق بالمال كما تقدم ، وبيت المال معد لمصالح المسلمين ، فكيف يقال : ان ذلك مضربهم ، وإلا لأدى ذلك الى كل ما يؤخذ منه جزاء ، ولانه لو قبل إقراره في النفقة لأمكن أن يفعل ذلك وسيلة إلى تضييع ماله ، لان ذلك من مقتضيات السفه ، وينبغي أن يعلم أنه في صورة الخلع لا يسلم اليه مال الخلع ، لانه تصرف مالي وهو ممنوع منه.

وأما توكله لغيره في البيع مثلا فهو صحيح للأصل ، وعموم أدلة جواز التوكل ، وصدق البيع في محله عن اهله ، ومنعه من التصرف في ماله ـ لاحتمال إضاعة المال ـ لا يستلزم منعه من مال غيره إذا كان باذن صاحبه ، ويمكن أن يكون اجازة الولي أيضا كافية على تقدير القول بصحة العقد الفضولي ، والا فلا.

الثانية ـ هل يثبت الحجر على السفيه بمجرد ظهور السفه ، أم يتوقف على حكم الحاكم؟ وهل يزول بزوال سفهه ، أم يتوقف على حكم الحاكم؟ أقوال : ووجه علل التوقف على حكم الحاكم في الموضعين ، أن الحجر حكم شرعي لا يثبت ولا يزول الا بدليل شرعي ، وأن السفه أمر خفي ، والانظار فيه يختلف ، فناسب كونه

٣٥٩

منوطا بنظر الحاكم.

وهذا القول مختار المحقق في الشرائع ، وهو قول الشيخ في المبسوط ، (١) وعلل القول بعدم التوقف في الموضعين بأن المقتضي للحجر هو السفه ، فيجب تحققه ، فإذا ارتفع زال المقتضى فيجب أن يزول ، ولظاهر قوله تعالى (٢) «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» حيث علق الأمر بالدفع على إيناس الرشد ، فلو توقف معه على أمر آخر لم يكن الشرط صحيحا ، ومفهوم الشرط حجة عند المحققين ، والمفهوم هنا ان مع عدم إيناس الرشد لا يدفع إليهم ، فدل على أن وجود السفه وزواله كافيان في إثبات الحجر ودفعه ، لان السفه والرشد متقابلان ، ولظاهر قوله تعالى (٣) «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً» الاية أثبت عليه الولاية بمجرد السفه ، فتوقفها على أمر آخر يحتاج الى دليل ، والآية الأخرى تساق لرفعه كما مر.

وهذا القول مختار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والروضة للتعليل المذكور هنا ، وهو الأقرب ، لأن المفهوم من الدليل آية ورواية أن الحجر وعدمه دائر مدار تحقق السفه وعدمه ، وسيأتيك الروايات في المقام إنشاء الله تعالى ، ولا دلالة في شي‌ء منها على حكم الحاكم لا في الحجر ولا في زواله وظاهر الشهيد في شرح الإرشاد المناقشة في دلالة الآية الأولى حيث قال : ولقائل أن يقول : إيناس الرشد شرط في زوال الحجر عن الصبي ابتداء فلا يلزم كونه شرطا

__________________

(١) حيث قال : حجر السفيه لا يثبت الا بحكم الحاكم ، ولا يزول الا بحكم الحاكم كذا نقله في المختلف ثم نقل عن ابن حمزة أنه ان صلح السفيه انفك الحجر ، ثم قال : والأقرب الأول لنا أنه على حكم شرعي يثبت فلا يزول الا بدليل شرعي وفيه ما عرفت في الأصل ـ منه رحمه‌الله.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٦.

(٣) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٢.

٣٦٠