الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

الأحكام الشرعية والعقلية ، فإن من لم يطلب دينه أو وديعته لا يبطل حقه بالتغافل عن الطلب

ثم أجاب عن الضرر على المشترى ـ الذي احتج به الأولون ـ بأنه يمكنه التحرز عن ذلك بأن يعرض المبيع على الشفيع ، ويبذل تسليمه اليه ، فاما أن يتسلم ، أو يترك الشفعة ، فيزول الضرر على المشترى ، فان لم يفعل المشترى ذلك كان التفريط من قبله ، ثم أطال كما عادته هي (قدس‌سره) بأدلة أخرى أيضا ، وأجاب في المختلف عن ذلك بما يطول بنقله الكلام.

والتحقيق أن المسألة لعدم النص الواضح محل اشكال ، وان كان القول الأول لاعتضاده بالأصل الذي قدمنا ذكره في غير موضع مما تقدم ، مع اعتضاده بالاحتياط الذي هو واجب في موضع الاشتباه الذي منه خلو المسألة من الدليل لا يخلو من قرب.

وأما استدلال العلامة على هذا القول برواية على بن مهزيار بالتقريب الذي ذكره ، فيمكن معارضته بأنه لو كانت الفورية واجبة لما رخص في التأخير ثلاثة أيام ايضا.

السابعة ـ حيث تعتبر الفورية فإذا علم وأهمل مختارا بطلت شفعته ، ويعذر جاهل الفورية كما يعذر جاهل الشفعة ، ويقبل دعوى الجهل ممن يمكن في حقه عادة وكذا لا يقدح فيها تأخيره لعذر يمنع المباشرة أو التوكيل.

ومن الأعذار التي صرح بها الأصحاب في هذا الباب ما لو ترك لتوهمه كثرة الثمن لامارة أوجبته ، كاخبار مخبر ثم ظهر كذبه ونحو ذلك ، لا مجرد الاحتمال ، فإن الشفعة باقية الى حين العلم بالحال ، فتصير فورية على القول بها وانما كان ذلك عذرا ، لأن قلة الثمن مقصودة في المعاوضة ، ومثله ما لو أعتقده ذهبا فبان فضة ، أو حيوانا فبان قماشا ، ونحو ذلك ، فإن الأغراض قد يتعلق بجنس دون آخر لسهولته ، وكذا لو كان محبوسا بحق عاجز عنه ، بخلاف ما لو كان قادرا ، فان التقصير من

٣٢١

من قبله (١) وأولى منه الحبس بظلم ، لكن الظاهر أنه يشترط في هذين (٢) عجزه عن الوكالة.

ثم انه ينبغي أن يعلم أن وجوب المبادرة على تقدير الفورية ليس المبادرة بكل وجه ممكن ، بل المرجع فيه الى العادة والعرف ، فيكفي مشيه إلى المشتري لأخذ الشفعة بالمعتاد وان قدر على الزيادة ، وانتظار الصبح لو علم ليلا ، ولا يمنع من ذلك أيضا الصلاة إذا حضر وقتها ، وكذا مقدماتها ومتعلقاتها الواجبة والمندوبة.

ومنها انتظار الجماعة ، وانتظار زوال الحر والبرد المانعين ، والخروج من الحمام لو علم فيه بعد قضاء وطره ، وتحرى الرفقة حيث يكون الطريق مخوفا والمشترى في غير البلد ، والسلام على المشترى بعد الدخول عليه بل التحية المعتادة ونحو ذلك. هذا كله مع غيبة المشتري عنه في حال العلم ، أما مع حضوره فلا يعد شي‌ء من هذه عذرا ، لان قوله أخذت بالشفعة لا ينافي شيئا من ذلك.

الثامنة ـ قد صرح الأصحاب رضوان الله عليهم ، من غير خلاف يعرف أنه لا تسقط الشفعة بتقابل المتبايعين (٣) ، لان استحقاق الشفعة قد حصل بالعقد ، فحق الشفيع متقدم ، نعم لو عفى الشفيع سقطت الشفعة من جهة الشراء ، وهل يتجدد بالإقالة بناء على انها بيع مطلقا أو في حق الشفيع؟ الأشهر الأظهر العدم ، لعدم كون الإقالة بيعا ، وانما هي فسخ كما تقدم تحقيقه في بعض نكت الفصل الثاني عشر من كتاب البيع.

ولو قلنا بأنها بيع أخذ الشقص من البائع بعد الشفعة ، ثم انه ان حصل التقايل

__________________

(١) وانما كان التقصير من قبله لانه يجب عليه دفعه الثمن ليخلص من الحبس المانع من تعجيل المطالبة. منه رحمه‌الله.

(٢) يعنى من الحبس بحق هو عاجز عنه منه رحمه‌الله.

(٣) بل الظاهر أنه لا خلاف فيه منه رحمه‌الله.

٣٢٢

قبل علم الشفيع بالشفعة لم تسقط بالإقالة ، (١) لما عرفت من سبق حق الشفيع فله فسخ الإقالة ، والأخذ من المشترى على قاعدة الشفعة ، ودركه على المشترى كما لو يكن ثمة إقالة ، فان درك المشفوع في جميع أفراد الشفعة على المشترى ، فلو ظهر استحقاق الشقص رجع عليه بالثمن وغيره مما يغرمه ، ولو كان المشترى لم يقبضه من البائع لم يكلف أخذه منه ثم إقباضه الشفيع بل الشفيع يقبضه من البائع ، لانتقال الحق إليه فقبضه كقبض المشترى.

وعلى كل حال فيبقى الدرك على المشترى ، وكما لا تسقط الشفعة بالتقايل ، فكذا لا تسقط ببيع المشترى ، ولا وقفه ولا جعله مسجدا ، ولا نحو ذلك من تصرفاته ، لأنها وان كانت صحيحة من حيث أن المشفوع ملكه ، لكن لا يبطل ذلك حق الشفيع لسبقه على هذه التصرفات فمتى أخذ بالشفعة بطل ما سبقها من التصرفات.

بقي الكلام في أن تصرف المشترى ان كان مما تثبت فيه الشفعة كالبيع ، فالظاهر من كلامهم أنه يتخير الشفيع بين أخذه من المشترى الأول أو الثاني أو الثالث ، وهكذا لو تعدد ، لان كل واحد من البيوع المتعددة سبب تام في ثبوت الشفعة.

ثم ان أخذ الشفيع بالشراء الأول وقع الثمن الأول وبطل المتأخر مطلقا ، وان أخذ بالشراء الأخير أخذها بثمنه ، وصح السابق عليه مطلقا ، لان الرضا به يستلزم الرضا بما سبق عليه. وان أخذ من المتوسط أخذ بثمنه ، وصح ما تقدمه ، وبطل ما تأخر عنه.

وان كان التصرف مما لا تثبت فيه الشفعة ، كالوقف والهبة والإجارة فللشفيع نقضه وأخذ الشقص بالشفعة ، لسبق حقه ، والثمن في الهبة للواهب لازمة كانت أو

__________________

(١) لأنه في صورة الإقالة صار مشتريا ، فان بالإقالة على تقدير كونها بيعا يصير المشتري بائعا والبائع مشتريا منه رحمه‌الله.

٣٢٣

جائزة ، والمتصدق ، ولا خلاف عندهم في هذه الأحكام ، وانما نقلوا الخلاف في بعضها عن بعض العامة حيث صرحوا بصحة التصرف بالبيع والوقف ونحوهما ، وأبطلوا الشفعة بعض آخر منهم حيث حكموا ببطلان التصرف المشترى والله العالم

التاسعة ـ قالوا : لو انهدم البيت أو عاب فهنا صور ، أحدها أن يكون ذلك بفعل المشترى قبل مطالبة الشفيع بالشفعة ، ولا يحصل معه (١) تلف شي‌ء من العين ، والمشهور أن للشفيع الخيار بين الأخذ بكل الثمن أو الترك ، لأن المشتري إنما تصرف في ملكه تصرفا سائغا ، فلا يكون مضمونا عليه.

والعائب (٢) لا يقابل بشي‌ء من الثمن فلا يستحق الشفيع في مقابلته شيئا كما لو تعيب في يد البائع ، فإن المشتري يتخير بين الفسخ ، وبين الأخذ بمجموع الثمن ، وقيل بضمانه على المشترى ، لأن حق الشفيع قد تعلق به بمجرد البيع وان لم يطالب ، والمطالبة إنما تفيده تأكيدا كما تضمن الراهن الرهن إذا جنى عليه.

وثانيها ـ أن يكون ذلك بفعل المشترى بعد المطالبة بالشفعة ، والمشهور أنه يضمن النقص بمعنى سقوط ما قابله من الثمن ، لان الشفيع قد استحق أخذ المبيع كاملا بالمطالبة ، وتعلق حقه به ، فإذا نقص بفعل المشترى ضمنه له.

وقيل : بعدم الضمان ، وهو ظاهر الشيخ في المبسوط استنادا الى ان الشفيع

__________________

(١) وانما هو مثل شق الجدار ، وافك الجذع ونحو ذلك ، أما لو تضمن تلف شي‌ء من العين فإنه يضمن بحصته من الثمن لو اختار الشفيع الأخذ بالشفعة ، لأن الثمن في مقابلة العين ، فإذا تلف منها شي‌ء سقط من الثمن بنسبة التالف فيضمنه المشتري حينئذ ـ منه رحمه‌الله.

(٢) قوله والعائب لا يقابل بشي‌ء من الثمن ، كأنه جواب عن سؤال مقدر بأن يقال : ان الشفيع يأخذه بالشفعة ، ولكن ينقص من الثمن ما قابل العائب ، وأجاب بأن الثمن انما جعل في مقابلة الصحيح دون العائب ، ولهذا لو بقيت في يد البائع تخير المشترى بين الفسخ والأخذ بالثمن كملا ، دون أخذ الصحيح بما يلحقه من الثمن كما ذكرناه ـ منه رحمه‌الله.

٣٢٤

لا يملك بالمطالبة بل يملك الأخذ فيكون المشترى قد تصرف في ملكه تصرفا سائغا ، فلا يتعقبه الضمان ، ورد بأن التصرف في الملك لا ينافي ضمانه كتصرف الراهن ، وهذا منه لاشتراكهما في تعلق حق العين.

وثالثها ـ أن يكون ذلك بفعل غيره ، سواء كان قد طالب الشفيع أم لا ، فإنه يتخير الشفيع بين الأخذ بمجموع الثمن ، والترك ، لانه لا تقصير من المشترى ، ولا تصرف حال استحقاق الغير ، ووجه الضمان المذكور في الصورة الأولى آت هنا ، الا أنه هنا أضعف باعتبار أن العيب بغير فعل المشتري.

أقول : وقد ورد في هذه الصورة ما يدل على ما ذكروه ، وهو ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن الحسن بن محبوب (١) عن رجل قال : «كتبت الى الفقيه عليه‌السلام في رجل اشترى من رجل نصف دار مشاعا غير مقسوم ، وكان شريكه الذي له النصف الأخر غائبا ، فلما قبضها وتحول عنها تهدمت الدار وجاء سيل جارف وهدمها وذهب بها ، فجاء شريكه الغائب فطلب الشفعة من هذا فأعطاه الشفعة على أن يعطيه ماله كملا الذي نقد في ثمنها فقال له : ضع عني قيمة البناء ، فان البناء قد تهدم وذهب به السيل ، ما الذي يجب في ذلك؟ فوقع عليه‌السلام ليس له الا الشراء والبيع الأول إنشاء الله». وما تقدم في الصورتين السابقتين من القول المشهور فيهما وان لم يرد به نص ، الا أنه موافق للقواعد الشرعية والله العالم.

العاشرة ـ اختلف الأصحاب في أن الشفعة هل تورث أم لا؟ فقال : الأكثر منهم الشيخ المفيد والسيد المرتضى (رضى الله عنهما) انها تورث كالأموال ، وبه قال ابن الجنيد ، وقال الشيخ في النهاية والخلاف أنها لا تورث ، وبه قال ابن البراج والطبرسي وابن حمزة.

وللشيخ قول آخر في كتاب البيوع من الخلاف يدل على انها تورث حيث قال : خيار الثلاثة موروث ، وكذا إذا مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة قام وارثه

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٩٢.

٣٢٥

مقامه ، وهو اختيار ابن إدريس والعلامة في المختلف وهو المشهور بين المتأخرين وبه صرح في المسالك ، واحتجوا على ذلك بآيات الإرث (١) الدالة على إرث ما ترك (٢) وحق الشفعة من جملة المتروكات كما دخل فيه الخيار الثابت بالمورث بالإجماع ، والشفعة في معنى الخيار ثبتت لدفع الضرر ، واحتج في المسالك ايضا بقوله (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ترك الميت من حق فهو لوارثه» قال : وهي أوضح دلالة من الاية.

احتج الشيخ بما رواه في التهذيب عن طلحة بن زيد (٤) عن جعفر عن أبيه عن على عليهم‌السلام في حديث قال : «لا تورث الشفعة». واحتج أيضا بأن ملك الوارث متجدد على الشراء فلا يستحق شفعة ، وأجيب عن الرواية بضعف السند وأن طلحة بتري ، وعن الثاني بأن الوارث يأخذ ما استحقه مورثه وحقه ، فلا يقدح تجدد ملكه.

أقول : والمسألة لا يخلو من توقف ، فان ثبت الحديث النبوي الذي رواه في المسالك من طرقنا فإنه لا يحضرني الان ذلك ، فالقول الأول أصح ، والا فالمسألة محل إشكال ، لمعارضة الأدلة المذكورة لرواية طلحة ، وردها بضعف السند جيد

__________________

(١) سورة النساء الآية ١١ ـ ١٤ ـ ١٧٦.

(٢) واما الآيات فإن إطلاقها يحمل على الافراد الشائعة المتكررة ، لما تقرر عندهم في أمثال هذه المواضع ، دون الأفراد الشاذة النادرة ، ومن الظاهر ان الافراد المتكررة انما هي أعيان الأموال دون الحقوق ، وأما الشفعة في الخيار فان ثبت بدليل شرعي ـ فوجوب العمل بها فيه ـ لا يقتضي حمل غيره عليه ، فإنه قياس محض ، والاشتراك في العلة المذكورة لا يوجب ذلك ، مع أنها غير منصوصة ، وبالجملة فإن باب المناقشة في ذلك غير منسد ، ويظهر من المحقق الأردبيلي الميل الى القول بالعدم ، من حيث عدم الدليل الواضح على القول المشهور ، قال : إذ شمول آية الإرث لها غير ظاهر ، وهو مؤيد لما ذكرناه بالنسبة إلى استدلالهم بآيات الميراث والله العالم منه رحمه‌الله.

(٣) ما اثرنا على هذه الرواية بعد الفحص في مظانها.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٦٧.

٣٢٦

على الاصطلاح المحدث ، واما على طريقة القدماء والمحدثين فلا ، فتبقى المعارضة بينها وبين ما ذكر من الأدلة المشار إليها ، مع ما يتطرق إلى الأدلة المشار إليها من المناقشة ، وإمكان تأييد رواية طلحة المذكورة بما قدمناه من أن مقتضى الأدلة العقلية والنقلية عدم جواز الشفعة إلا ما دل عليه دليل واضح.

ثم أنها على تقدير القول المشهور لو مات وخلف زوجة (١) وابنا قال الشيخ في المبسوط تفريعا على هذا القول : ان الإرث على فريضة الله فللزوجة الثمن ، وقيل : انه كذلك على رأى من يقول الشفعة في صورة الكثرة على قدر السهام ، أما من يقول بأنها على عدد الرؤس ، فإنه يجعلها في المثال المذكور نصفين بين الزوجة والولد ، كما يظهر من المبسوط أيضا ، فحينئذ تصير المسألة خلافية ، وقد تقدم نقل الخلاف المذكور بالنسبة إلى الشفعة مع الكثرة في آخر المقصد الثاني ، والأظهر كما صرح به الأكثر أنها هنا على تقدير القول المذكور على قدر السهام وان لم نقل به في كثرة الشركاء ، لظهور الفرق بين الموضعين ، لان كل واحد من الورثة لا يستحق الشفعة باعتبار نفسه ، بل باعتبار مورثه ، ومورثه مستحق للجميع ، وقد انتقل عنه الى ورثته فيجب أن يثبت لهم على حد الإرث ، فهم بالإرث يأخذون لا بالشركة ، ولهذا أثبتها هنا من لم يثبت الشفعة مع الشركة ، والمراد بحق الشفعة الذي هو محل البحث هو مجرد استحقاق الشفعة ، وان لم يأخذ بها الشفيع قبل موته ، فان لوارثه أن يأخذ بها كما هو صريح عبارة الشيخ المتقدم نقلها من كتاب الخلاف ، وبطريق الاولى ما لو أخذ بها قبل الموت ولكن لم يقبض ولم يتصرف.

قالوا : ولو عفى أحد الورثة عن نصيبه من الشفعة لم يسقط الشفعة ، لأن

__________________

(١) قال في المسالك : وخص المثال بالزوجة لدفع توهم أنها لا تورث من الشفعة من حيث أنها ممتنع في الجملة من بعض المتروكات ، أقول : هذا المثال قد ذكره الشيخ في المبسوط وتبعه الجماعة في التمثيل به ، وشيخنا المذكور ذكر وجه النكتة في اختياره دون غيره من أمثلة الميراث ـ منه رحمه‌الله.

٣٢٧

الحق للجميع فلا يسقط حق واحد بترك غيره ، وكان لمن لم يعف أن يأخذ الجميع ، لانه لا يجوز تبعيض الصفقة على المشترى ، فالمستحق اما أن يأخذ الجميع أو يتركه.

قيل : ويحتمل هنا سقوط حق الآخر بعفو صاحبه وان لم نقل بذلك في الشريكين ، لان الوارث يقوم مقام المورث ، فعفوه عن نصيبه كعفو المورث عن البعض ، فيسقط الباقي.

ورد بأن الشركاء ، في الإرث يصيرون بمنزلة الشركاء في أصل الشفعة ، لأنها شفعة واحدة بين الشركاء سواء كان بالإرث أو بالشركة ، ولا يسقط من البعض بعفو البعض ، بخلاف عفو المورث عن بعض نصيبه ، فان حقه في المجموع من حيث هو مجموع لا في الأبعاض ، فعفوه عن بعض حقه كعفوه عن جميعه.

وظاهر المحقق الأردبيلي «قدس‌سره» المناقشة في أصل هذا الحكم ، حيث قال : ولو ترك بعضهم وعفى لم يسقط حق الباقين ، بل لهم الأخذ ، ولكن أخذ الجميع أو الترك ، وليس لهم أخذ حصتهم فقط ، للزوم التشقيص والتبعيض الممنوع منه عندهم فتأمل ، فإن الأصل والاستصحاب يقتضي جواز أخذ الحصة فقط ، ولعل عدم التبعيض مجمع عليه ، والا فالقول به متوجه انتهى.

وبالجملة فالمسألة لعدم النص الواضح في أصلها محل اشكال كما عرفت ، وفي فروعها أشكل والله العالم.

الحادية عشر ـ لو حمل النحل بعد الابتياع فأخذه الشفيع قبل التأبير قال الشيخ : الطلع للشفيع ، لانه بحكم السعف ، ولانه يتبع الأصل في البيع ، فكذا هنا ، لأن المقتضي للتبعية هناك ليس الا كونه جزءا من المسمى ، ورده المتأخرون بأن هذا الحكم مختص بالبيع ، وقوفا على مورد النص ، فإلحاق غيره به قياس ، وكونه بحكم السعف ممنوع ، وكذا دعواه كونه جزءا من المسمى ، والمقتضي في البيع انما هو النص.

وظاهرهم أنه لا خلاف في أن الثمرة إذا ظهرت في ملك المشترى قبل الأخذ

٣٢٨

بالشفعة يكون للمشتري وان بقيت على الشجرة ، لأنها بحكم المنفصل ، ومنه ثمرة النخل بعد التأبير ، أما قبله فقد عرفت خلاف الشيخ في ذلك ، فيكون هذا الفرد مستثنى من الإجماع المشار اليه.

والحق كما عرفته ـ أن حكمها بالنسبة إلى الشفعة قبل التأبير كحكمها بعده في كونها للمشتري غير داخلة في الشفعة ، وعلى هذا فيكون الطلع غير مؤبر وقت الشراء للمشتري ، فإن أخذه الشفيع وهو بتلك الحال بقي للمشتري ، كما لو أخذه بعد التأبير ، ويكون البيع في هذه الصورة بمنزلة ما إذا ضم غير المشفوع ، فيأخذ الشفيع المشفوع وهو غير الثمرة بحصته من الثمن ، وطريقه كما تقدم في غير موضع أن تقوم المجموع ، ثم يقوم الثمرة وتنسب قيمتها الى المجموع ، ويسقط من الثمن بتلك النسبة.

الثانية عشر ـ قد صرح الأصحاب «رضوان الله عليهم» ، بأنه إذا باع الشريك الذي له الشفعة نصيبه من المال المشترك قبل الأخذ بالشفعة فهنا صورتان

الاولى ـ أن يكون بيعه بعد العلم بالشفعة ، وحصول شرائطها وشرائط فوريتها على تقدير القول بالفورية ، ولا إشكال في بطلان شفعته ، أما على تقدير الفورية فلفواتها بالاشتغال بالبيع ، لانه مخل بالفورية ، وأما على تقدير عدم الفورية ، فلان السبب في استحقاق الشفعة الملك ، وقد زال فيزول معلوله.

الثانية أن يكون قبل العلم بالشفعة ، ومثله أيضا ما لو كان قبل ثبوت الفورية فيها لما تقدم من الاعذار ، كعدم العلم بقدر الثمن ، أو جهله بالفورية أو نحو ذلك ، فباع والحال هذه ففي بقائها مطلقا ، أو زوالها مطلقا ، أو التفصيل أقوال :

أحدها ما اختاره المحقق في الشرائع من بقائها مطلقا ، لان الاستحقاق ثبت بالشراء سابقا على بيعه ، فيستصحب لأصالة عدم السقوط ، ولقيام السبب المقتضى له ، وهو الشراء ، فيجب أن يحصل المسبب.

وبهذا القول صرح الشيخ في المبسوط أيضا ، حيث قال : الاولى ثبوت الشفعة ، لأنها وجبت له أولا ولم يوجد سبب إسقاطها والأصل بقاؤها.

٣٢٩

وثانيها سقوطها ، وهو اختيار العلامة وجمع من الأصحاب ، وعللوه بأن السبب في جواز الأخذ ليس هو الشراء وحده ، بل هو مع الشركة ، وقد زال أحد جزئي السبب فتزول ، ولا يكفى وجودها حال الشراء ، بل لا بد من وجودها حال الأخذ بالشفعة ، لقوله عليه‌السلام «لا شفعة إلا لشريك غير مقاسم». فلو أثبتنا له الشفعة بعد البيع ، لاثبتناها لغير شريك مقاسم ، والجهل مع انتفاع السبب لا أثر له.

وثالثها ـ التفصيل بالجهل بالشفعة حال البيع ، والعلم ، فتثبت في الأول دون الثاني ، وهو منقول عن الشيخ رحمه‌الله ، لان البيع بعد العلم يؤذن بالإعراض عنها ، كما لو بارك ، بخلاف ما إذا لم يعلم ، فإنه معذور : وأجيب بأن الجهل لا أثر له إذا انتفى السبب ، لان خطاب الوضع لا يتفاوت الأمر فيه بالعلم والجهل.

أقول : والمسألة لعدم النص لا يخلو من توقف ، الا أن الأظهر بحسب هذه التعليلات وقربها وبعدها من القواعد الشرعية هو القول الثاني من هذه الأقوال الثلاثة.

أما الأول ـ فقد علم جوابه من دليل القول الثاني ، ويزيده تأكيدا أن ما استند اليه من الاستصحاب وهو الذي عبر عنه في المبسوط بالأصل ، فقال : والأصل بقاؤها مردود بما حققناه في مقدمات الكتاب في جلد كتاب الطهارة من عدم ثبوت حجية هذا الاستصحاب.

واما الثالث ـ فلما سمعت من الجواب عن دليله ، والى ما ذكرناه من القول الثاني يميل كلامه في المسالك أيضا ، حيث قال ـ بعد ذكر الأقوال الثلاثة على الترتيب الذي ذكرناه ـ : والقول الوسط لا يخلو من قوة انتهى والله العالم.

الثالثة عشر ـ لو عرض البائع الشي‌ء على صاحب الشفعة بثمن معلوم فلم يرده فباعه من غيره بذلك الثمن أو زائدا عليه ، فهل يكون لصاحب الشفعة المطالبة بها أم لا؟ قولان : وبالثاني قال الشيخان وابن حمزة ، وبالأول قال ابن إدريس ، واحتج الشيخان ـ على ما نقله في المختلف ـ بأن الشفعة تثبت في موضع الاتفاق على خلاف الأصل ، لكونه أخذ ملك المشترى من غير رضاه ، ويجبر على المعاوضة ، لدخوله مع البائع في العقد الذي أساء فيه بإدخال الضرر على شريكه ، وترك الإحسان إليه

٣٣٠

في عرضه اليه ، وهذا المعنى معدوم هنا ، فإنه قد عرضه عليه ، فامتناعه من أخذه دليل على عدم الضرر في حقه ببيعه ، وان كان فيه ضرر ، فهو الذي أدخله على نفسه كما لو أخر المطالبة. انتهى.

واحتج ابن إدريس بأنه انما يستحق المطالبة بعد البيع ، ولا حق له قبل البيع فإذا عفى قبله ، فما عفى عن شي‌ء يستحقه ، فله إذا باع شريكه أخذ الشفعة ، لأنه تجدد له حق ، ولا دليل على إسقاطه ، وقبل البيع لم يسقط شيئا ، وكذا لو قال الشفيع للمشتري : اشتر نصيب شريكي ، فقد نزلت عن الشفعة وتركتها ، ثم اشترى المشترى ذلك على هذا ، لا تسقط شفعته بذلك ، وله المطالبة ، لأنه انما يستحق الشفعة بعد العقد ، فإذا عفى قبل ذلك لم يصح ، لانه قد عفى عما لم يجب له ولا يملكه ، فلا يسقط حقه حين وجوبه ، وكذا الورثة إذا عفوا عما زاد على الثلث في الوصية قبل موت الموصى ، ثم مات بعد ذلك ، فلهم الرجوع لمثل ما قلناه على الصحيح من المذهب انتهى.

والى هذا ذهب ابن الجنيد أيضا فقال : وكما ان الشفعة لا تجب الا بعد صحة البيع وتمامه ، فكذلك لا يكون ترك الشفيع إياها قبل البيع مبطلا لما وجب له منها بعد البيع ، والعلامة في المختلف بعد أن نقل كلامي ابن إدريس وابن الجنيد قال : وهو المختار ، لنا أنه إسقاط حق قبل ثبوته ، فلا يصح كما لو أبرأه عما لم يجب له ، أو أسقطت المرأة صداقها قبل التزويج ، ثم نقل بعد هذا احتجاج الشيخين بما قدمنا نقله عنهما ، وقال : وفيه قوة ، وهو ظاهر في تردده في المسألة.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ترجيح مذهب ابن إدريس للوجه الذي ذكره ، والظاهر أنه الأقرب نظرا الى عموم أدلة الشفعة ، وأن الاسقاط قبل ثبوت الشفعة غير مؤثر في المنع ، والا لصح ذلك في غير هذا الحق من الحقوق ، مع أنهم لا يقولون به.

وظاهر المحقق الأردبيلي قدس‌سره ، الميل الى مذهب الشيخين ، لكن لا لما تقدم في الاحتجاج المنقول عنهما ، بل من حيث أن هذا وعد ، والأدلة دالة على وجوب

٣٣١

الوفاء بالوعد ، قال : ولو لا خوف خرق الإجماع (١) لكان القول بوجوب الإيفاء ـ كما هو قول بعض العامة ـ متوجها ، فالقول به هنا غير بعيد ، لعدم الإجماع على خلافه ، الى أن قال : وأما دليل القول بعدم البطلان فهو أنه إسقاط لما ليس له ، فهو مثل إبراء عما لم يكن في الذمة ، ويمكن أن يقال : ليس هذا إبراء وإسقاط ، بل قول ووعد وشرط ، ومخالفته قبيحة عقلا وشرعا ، وانه غدر وإغراء وليس من صفات المؤمن انتهى.

وظاهر شيخنا الشهيد في شرح نكت الإرشاد الميل أيضا الى مذهب الشيخين ، قال : لأن الشفعة وضعت لازالة الضرر ، ونزوله عنها يؤذن بعدم الضرر ، ولما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) أنه قال : «لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، فان باع ولم يؤذن فهو أحق به». علق الاستحقاق على عدم الاستيذان ، فلا يثبت معه والنزول ، أما بعد الاستيذان فالظاهر سقوط الشفعة ، وأما قبله فكذلك إذ لا يبقى للاستيذان معنى معقول ، ولا نسلم ان ذلك من باب الاسقاط ، فيتوقف على تحقق الاستحقاق كالدين انتهى.

والمحقق الأردبيلي بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه اعتضد أيضا بهذا الكلام ، ولم ينكر منه شيئا ، وظاهره الموافقة على صحة الحديث المذكور ، حيث قال : ودلالته

__________________

(١) ظاهر كلامه (قدس‌سره) ان الأصحاب ادعوا الإجماع على عدم وجوب الوفاء بالوعد ، والا لم يمنعه من القول بالوجوب الا ذلك ، وفيه ما حققناه في غير موضع من مؤلفاتنا وبه صرح جمع من المحققين منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك من أن ذلك غير مانع متى قام الدليل على الحكم ، لما علم من إجماعاتهم المدعاة في غير موضع ، وهو قد اعترف فيما تركنا نقله من كلامه بأن الأدلة على وجوب الوفاء بالوعد كثيرة ، والأدلة دالة على وجوب الوفاء بالشروط فالخروج منها بمجرد ما ذكره مجازفة ظاهرة ـ منه رحمه‌الله.

(٢) المستدرك ج ٣ ص ١٤٧.

٣٣٢

ظاهرة على السقوط بعد الاستيذان ، وأنت خبير بأنا لم نقف على هذا الخبر في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه عامي وسيما شيخنا المذكور كثيرا ما يستسلفون الأخبار العامية ويستدلون بها في أمثال هذه المقامات الخالية من الاخبار المعصومية ، ولو صح الخبر المذكور لما كان عنه معدل لدلالته بالمفهوم الشرطي الذي هو حجة صحيحة كما أوضحناه في صدر كتاب الطهارة على ما يدعونه ، ولكن الأمر كما ترى وأما منعه أن ذلك من باب الاسقاط ، فليس بعده الا ان يكون من قبيل الوعد ، كما ذكره المحقق المتقدم ذكره ، وتعليله الأول ، وقوله فيه «ونزوله عنها يؤذن بعدم الضرر» انما يناسب الاسقاط ، لا الوعد ، لان المراد بنزوله عنها معنى تركه لها ، قال في كتاب المصباح المنير : ونزلت عن الحق تركته ، على أنه متى لم يكن من باب الاسقاط كما ذكره ، فالحق باق لا مزيل له ، ومجرد عدم إرادته بعد العرض عليه لا يوجب منع الإرادة بعد تحقق حقه واستحقاقه الشفعة بالبيع.

وأما دعوى كونه وعدا وشرطا كما ذكره المحقق المشار اليه واستدل بأدلة وجوب الوفاء بالوعد والشرط فظني بعده ، وان أمكن احتماله على بعد باعتبار حصوله ذلك من هذا الكلام ضمنا ، فإن غاية الأمر أنه عرض عليه الشراء فامتنع منه ولم يرده وهذا لا يسمى بحسب العرف وعدا إلا بتأويل وتمحل.

وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص محل اشكال كغيرها من الفروع المذكورة ، وان كان القول بما ذهب اليه ابن إدريس ومن تبعه أقرب لما عرفت. والله العالم.

الرابعة عشر ـ اختلف الأصحاب فيما لو كان الثمن مؤجلا فالمشهور أنه يأخذ بالشفعة عاجلا بالثمن المؤجل الذي وقع عليه العقد ، فان العقد انما وقع على المؤجل وهو قول الشيخ المفيد وابن البراج وابن إدريس ، وبه قال الشيخ في النهاية ، وزاد أنه ان لم يكن الشفيع مليا الزم بإقامة كفيل يضمنه.

وقال في الخلاف والمبسوط : انه يتخير الشفيع بين أخذه بالثمن حالا وبين التأخير إلى حلول الأجل وأخذه بثمن حال ، ونقل في الكتابين ما ذكره في النهاية قولا عن بعض أصحابنا.

٣٣٣

وقال في الخلاف ـ بعد نقله وقد ذكرناه في النهاية ـ : وهو قوى وبهذا القول الثاني قال ابن الجنيد والطبرسي على ما نقله في المختلف ، والأقرب هو الأول بناء على القول بالفورية ، كما هو المشهور عندهم ، وقد تقدم تحقيق الكلام فيه.

وتوضيحه أن الشفيع بمنزلة المشتري يأخذ بالثمن الذي أخذ به المشترى ، وليس له أكثر من حقه قدرا وأجلا ، على أنه قد تقرر أن للأجل قسطا من الثمن ، فلو أخذ بالثمن حالا في الصورة المذكورة للزم الزيادة في الثمن المأخوذ به على أصل الثمن الذي وقع به الشراء.

وبه يظهر أن القول الثاني يستلزم أحد محذورين ، اما إسقاط الشفعة بعد ثبوتها ان أخر إلى حلول الأجل للإخلال بالفورية المستلزم لبطلانها ، أو زيادة وصف في الثمن ان أخذ بالشفعة ، وعجل بالثمن ، لان تعجيله زيادة وصف فيه من غير موجب ، بل يستلزم زيادة الثمن ، لما عرفت من أن التأجيل له قسط من الثمن ، فليرم زيادة الثمن على الأصل ، ويتفرع على هذا القول أنه لو مات المشترى حل عليه الثمن ، وبقي الشفيع على التخيير الثابت له أولا ، فإن شاء عجل ، وان شاء أخر إلى حلول الأجل.

احتج الشيخ على ما ذهب إليه في الخلاف والمبسوط بأن الشفعة قد وجبت بنفس الشراء والذمم لا تتساوى فوجب عليه الثمن حالا أو يصبر الى وقت الحلول فيطالب بالشفعة مع الثمن ، وأجيب عنه بأنه لا يلزم من عدم تساوى الذمم ، ثبوت أحد الأمرين المذكورين لإمكان التخلص بالضمين ، اما مطلقا كما يظهر من العلامة في المختلف ، أو مع عدم الملاءة.

أقول : وأشار إليه الشيخ فيما قدمنا من عبارته في النهاية بقوله ان لم يكن الشفيع مليا الزم بإقامة كفيل.

الخامسة عشر ـ إذا اختلف المشترى والشفيع في القيمة بعد الاتفاق في الشراء ، فقال المشترى : اشتريت بمأة ، وقال الشفيع : بل بخمسين ، فان لم يكن بينة لأحدهما فالظاهر من كلام أكثر الأصحاب أن القول قول المشترى مع يمينه ،

٣٣٤

وبه صرح الشيخ في النهاية والشيخ المفيد وأبو الصلاح وابن إدريس.

قال في المختلف : وهو جيد ، لانه العاقد فهو أعرف بالثمن ، ولان الشقص ملكه ، فلا ينزع منه بالدعوى بغير بينه ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الخلاف في ذلك ، قال : لان النزاع ليس في العقد ، لاتفاقهما معا على وقوعه صحيحا ، واستحقاق الشفعة به ، وانما نزاعهما في القدر الواجب على الشفيع دفعه من الثمن ، فالمشتري يدعى زيادته عما يدعيه ، والشفيع ينكره ، فيكون المشترى هو المدعى والشفيع هو المنكر ، فيدخل في عموم اليمين على من أنكر انتهى. وهو جيد.

وأما مع البينة قال في المسالك : فان كان من الشفيع على ما يدعيه قبلت ، بناء على أنه خارج ، وقد تقدم قول المشترى فيكون البينة بينة الأخر ، فإن كانت من المشترى قيل : أفادت اندفاع اليمين عنه ، وان كان في دفع اليمين عن المنكر بالبينة في غير هذه الصورة تردد ، والفرق أنه يدعى دعوى محضة ، وقد أقام بها بينة فتكون مسموعة ، ويشكل بأن جعله مدعيا دعوى محضة يوجب عدم قبول قوله فإنما توجه قبوله بتكلف كونه منكرا فلا يخرج عن حكم المنكر انتهى.

وان كانت من الطرفين فقد اختلف كلامهم في ذلك فقال الشيخ في الخلاف والمبسوط : البينة بينة المشتري أيضا ، وعلله في المبسوط بأنه الداخل ، وفي الخلاف بأنه المدعي لزيادة الثمن ، والشفيع ينكره فالبينة على المدعى ، وقال ابن الجنيد : إذا اختلف الشفيع والمشترى في الثمن كانت البينة على الشفيع في قدر الثمن إذا لم يقر له بالشفعة ، فإن أقر بها المشترى كانت البينة في قدر الثمن عليه ، والا كانت له يمين الشفيع ، لانه لا يستحق عليه زيادة على ما يقر به له من الثمن.

وقال ابن إدريس : البينة بينة الشفيع ، لانه خارج ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : ويحتمل عندي في هذه المسألة أمور ثلاثة أقويها تقديم بينة المشتري ، لأنها يرجح يقول المشتري ، فإنه مقدم على قول الشفيع ، وهذا بخلاف الداخل والخارج ، لان بينة الداخل يمكن أن تستند الى اليد ، فلهذا قدمنا بينة الخارج.

٣٣٥

الثاني ـ بينة الشفيع ، لأنهما بينتان معارضتان ، فقدمت بينة من لا يقبل قوله عند عدمها كالداخل والخارج ، والثالث ـ القرعة لأنهما تنازعا في العقد ، ولا يد لهما عليه فصارا كالمتنازعين في عين في يد غيرهما انتهى.

أقول : وأنت خبير بأن مرجع هذا الخلاف الى الخلاف في تقديم بينة الخارج أو الداخل عند التعارض ، فعلى الأول تقدم بينة المشترى ، وعلى الثاني بينة الشفيع ، الا أن ظاهر كلامه في المختلف أن تقديم بينة المشترى لا من الحيثية المذكورة ، بل من حيث ترجحها بتقديم قوله ، وهذا الترجيح انما يتم بناء على ما هو المشهور عندهم ، والا فعلى ما قدمنا نقله عن المسالك من ان القول قول الشفيع بيمينه فلا.

وبالجملة فالمسألة لخلوها من النص الواضح صارت مطرحا للأنظار ، ومسرحا للافكار مع ما هي عليه من الاختلاف الذي لا يقف على حد ، ولا يصل الى عد. والله العالم.

السادسة عشر ـ إذا ظهر في الشقص الذي هو محل الشفعة عيب ، فان كان ذلك حال البيع وقبل أخذ الشفيع بالشفعة فالواجب أولا النظر فيما يستقر عليه حكم المشترى في هذه الصورة ، فإن اختار أخذ الأرش ، أو كان الحق منحصرا في الأرش بأن حدث في المبيع ما يمنع الرد ، فالحكم في الشفيع أنه يسقط عنه من الثمن ما قابل الأرش الذي أخذ المشتري ، لأنه جزء من الثمن ، والثمن حقيقة انما هو الباقي بعد الأرش ، وان لم يأخذ الأرش بل عفا عنه ، لانه حقه ان شاء تركه ، تخير الشفيع بين الأخذ بمجموع الثمن الذي وقع عليه العقد ، وبين الترك ، لانه لم يتجدد للثمن ما يوجب نقصه كما في الصورة الاولى.

وان كان ظهور العيب بعد الأخذ بالشفعة فهيهنا صور أربع ، لانه اما أن يكون المشترى والشفيع عالمين به وقت البيع ، أو جاهلين أو أحدهما عالم والأخر جاهل ، وهذه الصورة الثالثة تنحل الى صورتين ، وهو أن يكون المشترى عالما والشفيع جاهلا وبالعكس.

فالأولى أن يكونا عالمين فلا خيار لأحدهما ولا أرش ، لقدوم المشترى على الشراء والحال هذه ، والشفيع على الأخذ بالشفعة والحال كما عرفت ، وهذا ظاهر.

٣٣٦

الثانية أن يكونا جاهلين ، فان اتفقا بعد العلم على رده فلا بحث ، وان اتفقا على أخذه مع الأرش أو بدونه صح ، والثمن اللازم للشفيع على الأول هو ما بعد الأرش ، وعلى الثاني هو ما وقع عليه العقد.

وأطلق في المسالك أن الثمن اللازم للشفيع ما بعد الأرش ، ولا أعرف له وجها ، لانه مع الاتفاق على عدم الأرش يبقى الثمن الذي وقع عليه العقد على حاله ، لم يعرض له ما يوجب نقصانه ، فكيف يكون اللازم للشفيع ما بعد الأرش والحال أنه لا أرش ، لاتفاقهما على الأخذ بدونه ، وان اختلفت إرادتهما فأراد الشفيع رده دون المشترى فله ذلك ، ويرجع المبيع إلى المشتري فيتخير بين أخذه مع الأرش أو بدونه أو عدم الأخذ بالكلية ان لم يحدث في المبيع ما يمنع الرد ، وان انعكس الأمر بأن أراد الشفيع أخذه ، وأراد المشتري رده ، فظاهر الأصحاب تقديم ارادة الشفيع لثبوت حقه وسبقه (١) وعلل أيضا بأن فيه جمعا بين الحقين ، لأنا لو قدمنا المشترى بطل حق الشفيع بالكلية مع ما عرفت من ثبوته وسبقه ، وإذا قدمنا الشفيع فإن المشتري يحصل له مثل ثمنه أو قيمته من الشفيع ، ولا يفوت عليه شي‌ء فيكون تقديمه جامعا بين الحقين.

بقي الكلام في أنه على ما ذكرنا من تقديم الشفيع وأخذه المبيع بما وقع عليه العقد من الثمن ، فلو أراد المشتري طلب الأرش والحال هذه ، فهل تجب اجابته ودفعه إليه أم لا؟ قولان : وبالثاني قال الشيخ (رحمه‌الله) وعلله بأنه استدرك ظلامته برجوع جميع الثمن اليه من الشفيع ، فلم يقف منه شي‌ء يطالب به.

وبالأول قال المحقق في الشرائع ، لأن حقه انما هو عند البائع ، حيث أن الأرش جزء من الثمن عوض جزء فات من المبيع ، فلا يجب عليه أن يقبل عوضه من الشفيع ، لان الواقع بين البائع والمشترى معاوضة مستقلة مغايرة لما وقع بينه و

__________________

(١) وذلك فان حقه ترتب على البيع واما حق المشترى فإنه انما ثبت بظهور العيب المتأخر عن وقت البيع ووقت الشفعة كما هو المفروض في أصل المسألة فيكون حق الشفيع أسبق ـ منه رحمه‌الله.

٣٣٧

بين الشفيع ، وحقه انما هو عند البائع ، ولا يجب عليه قبول عوضه من الشفيع. والى هذا القول مال في المسالك أيضا ، وقال : انه أقوى ، قال : وحينئذ فله الرجوع على البائع بالأرش ، فيسقط عن الشفيع من الثمن بقدره ، لان الثمن ما يبقى بعد الأرش.

الثالثة ـ أن يعلم الشفيع بالعيب دون المشترى ، والحكم فيه لزومه للشفيع لقدومه على الأخذ مع علمه بالعيب ، وأما المشتري فالظاهر أنه ليس له الرد لانتقال المبيع الى الشفيع ، وبه صرح الأصحاب أيضا ، وعللوه بمراعاة حق الشفيع.

قالوا : وفي ثبوت الأرش للمشتري الوجهان المتقدمان ، قال في المسالك : والأصح ان له ذلك فيسقط عن الشفيع بقدره ، ولا يقدح فيه علمه بالحال لما بيناه من أنه يأخذ بالثمن وهو ما بعد الأرش.

الرابعة ـ أن يعلم المشتري خاصة ، وحينئذ فللشفيع رده بالعيب حيث أنه جاهل به ، وليس له أرش ، لأنه انما يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد ، والمشترى لا أرش له هنا لقدومه على الشراء مع علمه بالعيب ، واستحقاق الشفيع الأرش فرع أخذ المشتري إياه والله العالم.

السابعة عشر ـ قالوا : وطريق الأخذ بالشفعة أن يقول : أخذت أو تملكت أو اخترت الأخذ ، ولكن لا يكفى مجرد القول ، بل لا بد من تسليم الثمن مع ذلك ، هذا مع عدم رضى المشترى بالشفعة ، فتصح الشفعة بذلك رضى أو لم يرض ، وأما مع رضاه بالشفعة ، والصبر بالثمن فلا يلزم تسليمه في صحة الشفعة ، ولكن يجب على الشفيع تسليمه عند الطلب ، كسائر الحقوق ، أقول : الظاهر أن كلما دل من الألفاظ على الأخذ بالشفعة ، وطلبها فهو موجب لذلك ، إذ لا تعرض للتخصيص بشي‌ء من الألفاظ في الاخبار ، لا في هذا الباب ولا في غيره من العقود حتى البيع الذي هو مطرح الانظار في أمثال هذه المقامات وأما الكلام في الثمن ووجوب تسليمه أو لا فقد تقدم الكلام فيه في المسألة الخامسة من هذا المقصد ، ثم ان ظاهر كلامهم أنه لا بد في الأخذ بالشفعة من معلومية الثمن عند الشفيع جنسا وقدرا ووصفا ، وعللوه بأنه لما كان الأخذ بالشفعة في

٣٣٨

معنى المعاوضة المحضة ، لأنه يأخذ الشقص بالثمن الذي بيع به ، اشترط علمه به حين الأخذ حذرا من الغرر اللازم على تقدير الجهل ، لان الثمن يزيد وينقص والأغراض تختلف فيه قلة وكثرة ، وربما يزيد حيلة على زهد الشفيع في الأخذ مع اتفاقهما على إسقاط بعضه ، فلا يكفي أخذه بالشفعة مع عدم العلم به جنسا وقدرا ووصفا وان رضى بأخذه مهما كان الثمن ، لان دخوله على تحمل الغرر لا يرفع حكمه المترتب عليه شرعا من بطلان المعاوضة مع وجوده ، كما لو أقدم المشترى على الشراء بالثمن المجهول ورضى به كيف كان.

قالوا : وحيث لا يصح الأخذ لا تبطل الشفعة ، بل يجددها إذا علم به ، وظاهر المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) المناقشة في الحكم المذكور حيث قال بعد ان نقل قول المصنف «انه لو قال : أخذت بالثمن كائنا ما كان وكان عالما بقدره صح والا فلا» : ما صورته «لا شك في الصحة مع العلم وأما مع الجهل فقال المصنف : لا يكفى وان ضم إليه كائنا ما كان ، ولعل دليله الجهل بالثمن وان الشفعة بمنزلة البيع بينه وبين المشترى ، ولا بد من العلم بالعوضين ، وذلك غير ظاهر ، وما نعرف لاشتراط العلم دليلا لا عقليا ولا شرعيا الا أن يكون إجماعا فتأمل انتهى.

وبالجملة فإن مرجع ما قدمنا من كلامهم الى إلحاق الشفعة بالبيع ، وحملها عليه من حيث الاشتراك في كونهما معاوضة ، وقد قام الدليل في البيع على وجوب العلم بالعوضين جنسا وقدرا ووصفا فكذا هنا.

وأنت خبير بما فيه ، فإنه عند التحقيق لا يخرج عن القياس المنهي عنه في الاخبار ، حيث أن أخبار الشفعة على تعددها وتكاثرها لا إشعار في شي‌ء منها بذلك والحكم به بدون ذلك مشكل.

وأما التعليل بالغرر فيمكن دفعه بأن الشفيع قد أقدم على ذلك ورضى به ، وقوله «أن دخوله على تحمل الغرر لا يدفع حكمه» مسلم لو ثبت هنا عدم جواز الدخول في هذا الحال ، وقياسه على البيع ممنوع ، لقيام الدليل في البيع ، فيتم ما ذكروه فيه ، أما هنا فهو محل البحث وعين المتنازع فيه والله العالم.

٣٣٩

المقصد الخامس في موجبات سقوط الشفعة وبطلانها

فمنها أن يشترى شقصا لا يستوي إلا عشرة بمأة ويدفع عوض المأة ما يساوى عشرة ، فالشفيع اما ان يدفع المأة ، أو ينزل عن الشفعة ، لأنك قد عرفت أنه يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد ان أراد الشفعة ، وأما دفع المشترى عوض المأة ما يساوى عشرة فهي معاوضة أخرى ، لا تعلق للشفيع بها ، وهذا من جملة الحيل لإسقاط الشفعة ، وفي معناه أن يبرءه من بعض الثمن.

ومنها ترك المطالبة بالشفعة مع العلم وعدم العذر ، بناء على القول بالفورية ، وأما على القول بعدمها فلا ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في المسألة السادسة من المقصد السابق ، وأنه على القول الغير المشهور لا تسقط إلا بالإسقاط ، والا فهي ثابتة على التراخي.

ومنها ما لو نزل عن الشفعة قبل البيع على أحد القولين ، وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثالثة عشر من المقصد المذكور.

ومنها أن يشهد على البيع على أحد القولين فذهب الشيخ في النهاية وجماعة إلى بطلانها ، لدلالته على الرضا بالبيع ، وذهب في المبسوط الى عدمه ، للأصل ومنع الدلالة ، وتأثيرها على تقديرها في الابطال ، واختاره في المسالك.

ومنها أن يبارك للمشتري أو البائع العقد ، وهو محل خلاف أيضا ، وعلل القول بالبطلان اما لتضمنه الرضا ، أو لمنافاته الفورية ، قال في المسالك : والأصح عدم البطلان ، لمنع ، الأمرين ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلان المعتبر فيها العرف ، ونحو السلام والدعاء عند الاجتماع لذلك وأشباهه لا ينافيها عرفا ، بل ربما كانت المبادرة إلى الأخذ بدون الكلام مستهجنا عادة انتهى.

أقول : ويزيده تأكيدا بالنسبة إلى الدلالة على الرضا أنه من المحتمل قريبا بل هو الظاهر ـ متى حصلت منه الشفعة أن الرضا بالبيع انما كان لكونه وسيلة إلى الأخذ بالشفعة ، فيكون مؤكدا لا منافيا ، وبالنسبة الى الثاني ما تقدم في المسألة

٣٤٠