الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

دارا لها غلة لمن الغلة؟ قال : لصاحب الدار». وادعاء ابن إدريس ـ ان قوله : مذهب أهل البيت ، وان إجماعهم عليه ، وان ما ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط مذهب المخالفين ـ خطأ لا برهان عليه ، ولا شبهة له انتهى كلامه في المختلف.

أقول : لا يخفى ما في حجج الأولين ، اما ما احتجوا به من الإجماع فقد عرفت ما فيه في غير مقام ، وانه لا يحسم مادة النزاع ، واما دعوى التبعية والاستناد إلى تبعية الولد المدبر لأمه في التدبير ، ففيه ما ذكره شيخنا في المسالك حيث قال ـ بعد نقل احتجاجهم بما ذكرناه ـ والإجماع ممنوع ، والتبعية في الملك مسلمة لا في مطلق الحكم ، وتبعية ولد المدبرة لتغليب جانب العتق.

وأما ما احتج به على القول الثاني من التمسك بالأصل فهو قوى ، ويعضده ما عللوا به عدم التبعية في مسألة بيع الحامل من أن العقد انما وقع على الأم ، واللفظ لا يتناول سواها ، فكذلك هنا.

وأما احتج به العلامة في المختلف ، ففيه أن محل الخلاف على ما قرره هو وغيره انما هو الزيادات المنفصلة ، أو القابلة الانفصال كما ينادى به التمثيل بالولد والثمرة والشعر والصوف ، لا أنه مطلق المنافع كغلة الدار ونحوها ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في كونها للراهن ، كما استفاضت به الاخبار ، وستأتي إنشاء الله ـ تعالى في الفصل الثالث.

وحينئذ فلا وجه لاستدلاله بموثقة إسحاق بن عمار التي وصفها بكونها صحيحة ، لاعتضاده بها تنويها بشأنها ، مع أنه وغيره انما يعدونها في الموثق.

وأما رواية السكوني ـ وان وصفها بكونها موثقة ، لاتفاقهم على عدها في الضعيف ـ فغاية ما تدل عليه كون النفقة في مقابلة النفقة في كل من الركوب وشرب اللبن وسيأتي الكلام في ذلك ،

وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص الواضح لا تخلو من الاشكال ، وان كان القول الثاني لا يخلو من قوة لما عرفت ، ويظهر من المسالك اختياره أيضا ، وربما اعترض على القول بعدم التبعية بأنه يلزم جواز انتفاع الراهن بالرهن ، لأن المنفعة

٢٤١

إذا لم تكن رهنا لا وجه لمنعه من التصرف فيها ، مع أن الإجماع على منعه.

والجواب عن ذلك أولا : بمنع هذه الدعوى ومنع الإجماع ، كما سيأتي إنشاء الله تعالى تحقيقه في بعض مواضع الفصل الثالث.

وثانيا : أنه مع تسليم ذلك يمكن أن يقال : ان منعه من التصرف لا من حيث المنفعة ، بل من حيث استلزامه التصرف في المرهون ، ولهذا لو انفصلت المنفعة كالثمرة والولد لم يمنع من التصرف فيها ـ وينبغي أن يعلم أنه لو شرط المرتهن دخولها أو الراهن خروجها زال الاشكال ، لوجوب الوفاء بالشرط ، هذا كله بالنسبة إلى النماء المتجدد بعد الرهن.

وأما الموجود حال الرهن فالمشهور بينهم عدم الدخول ، ونقل في المختلف عن ابن الجنيد الخلاف في ذلك ، قال في المختلف : النماء الموجود حالة الارتهان إذا كان منفصلا كالولد واللبن أو متصلا اتصالا لا يقبل الانفصال كالصوف والشعر خارج عن الرهن ، ذهب إليه أكثر علمائنا. وقال ابن الجنيد : ان جميع ذلك يدخل في الرهن ، لنا أن العقد تناول الأصل ، وليس النماء جزء من المسمى ، فلا يدخل في الرهن ، احتج بأن النماء تابع في الملك ، فكذا في الرهن ، والجواب المنع من الملازمة انتهى.

أقول : لا يبعد التفصيل بالفرق بين مثل الولد والثمرة ، وبين مثل الشعر والصوف على ظهر الحيوان ، بخروج الأول ، ودخول الثاني ، فإن من الظاهر عدم دخول الولد والثمرة في مسمى الام والنخل ، ودخول الشعر والصوف في الحيوان اللذين هما على ظهره ، فإنه كالمتبادر عرفا ، فإنه متى باعه حيوانا كذلك أو وهبه أو نقله له بأحد النواقل الشرعية ، فإن ظاهر العرف الحكم بدخول ذلك فيه.

ولهذا انه في التذكرة استقرب دخول الصوف والشعر على ظهر الحيوان ، محتجا بأنه كالجزء ، واستحسنه المحدث الكاشاني في المفاتيح ، وتردد في التذكرة في دخول اللبن في الضرع ، وفي القواعد تردد في الأمرين ، وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال والله العالم.

٢٤٢

المسألة الخامسة : لا خلاف في أن الرهن لازم من جهة الراهن حتى يخرج من الحق الموجب للرهن ، اما بأدائه ولو من متبرع عنه ، أو ضمان الغير له مع قبول المرتهن ، أو الحوالة أو إبراء المرتهن له ، قالوا : وفي حكمه الإقالة المسقطة للثمن المرهون به ، أو الثمن المسلم فيه المرهون به.

وبالجملة فالظابط براءة ذمة الراهن من جميع الدين ، وإذا خرج من بعضه دون بعض فهل يخرج الرهن بأجمعه عن الرهانة ، أو يبقى كذلك أو بالنسبة ، أوجه :

صرح في الدروس بالثاني ، وهو ظاهره في الروضة أيضا ، ولو شرط كونه رهنا على المجموع خاصة تعين الأول ، كما انه لو جعله رهنا على كل جزء جزء تعين الثاني.

السادسة : قال الشيخ في المبسوط : إذا وجد المرتهن بالرهن عيبا سابقا كان له الرد بالعيب ، فيتخير معه في فسخ البيع ، وأجازته بلا رهن إذا كان الرهن باقيا بالصفة التي قبضه ، فأما إذا مات أو حدث في يده عيب فليس له رده في فسخ البيع ، لان رد الميت لا يصح ، ورد المعيب مع عيب حدث في يده لا يجوز ، لانه لا دلالة عليه كما نقوله في البيع ، ولا يرجع في ذلك بأرش العيب ، بخلاف البيع.

قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك ـ عنه : والأقوى عندي أنه له الفسخ ، لفقدان الشرط ، سواء مات العبد أو رده ، لان العبد في يده أمانة فليس للراهن الامتناع من قبضه بالعيب السابق ، فكذا الموت انتهى. ومرجع مناقشته للشيخ الى عدم الفرق بين الموت ، وظهور العيب السابق في جواز الفسخ ، وهو لا يخلو من قوة.

وأما العيب الحادث في يد المرتهن فالحكم فيه كما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) لما ورد من الاخبار الدالة على بقاء الرهانة وعدم انفساخها بذلك ، والرد انما يتجه مع الفسخ.

ومن الاخبار المشار إليها ما تقدم في المسألة الخامسة من الاخبار الدالة على أن العبد إذا أصابه الجذام أو العمى أو نحو ذلك فإنه باق على الرهانة ، وان نقص ذلك على الراهن ، والاخبار ثمة إنما اختلفت في الضمان وعدمه ، والا فصحة الرهانة لا خلاف فيها ولا اشكال والله العالم.

٢٤٣

السابعة : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه إذا رهن عصيرا فصار خمرا بطل الرهن ، وبالغ أبو الصلاح فقال : فان صار خمرا بطلت وثيقة الرهن ، ووجبت إراقته ، والشيخ في الخلاف قال : يجوز إمساكه للتخلل والتخليل ، ولا يجب عليه الإراقة ، لأنه لا خلاف بين الطائفة في جواز التخلل والتخليل.

وقال في الشرائع : ولو رهن عصيرا فصار خمرا بطل الرهن ، فلو عاد خلا عاد الى ملك الراهن. وظاهر هذه العبارات بطلان الرهن رأسا بعد صيرورته خمرا.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ في المسالك ـ حمل البطلان في كلامهم على كونه بطلانا مراعى ببقائه على الخمرية ، لأنه متى صار خمرا خرج عن ملك صاحبه فيبطل الرهانة لذلك ، لأنها مشروطة بالملكية ، ومتى صار خلا وصلح أن يكون ملكا عادت الملكية والرهانة.

ولهذا استدرك على المصنف في عبارته المذكورة ، من حيث حكمه بالبطلان ، وأنه بصيرورته خلا يعود الى الملك ، ولم يصرح بكونه يعود إلى الرهانة ، قال : والحاصل انهم لا يعنون ببطلان الرهن هنا اضمحلال أثره بالكلية ، بل ارتفاع حكمه ما دامت الخمرية باقية ، وتبقى علاقة الرهن لبقاء أولوية المالك على الخمر المتجدد للتخليل ، فكأن الملك والرهن موجودات فيه بالقوة القريبة ، لأن تخلله متوقع ، والزائل ـ المعبر عنه بالبطلان ـ الملك والرهن ، لوجود الخمرية المنافية ، ونظير ذلك أن زوجة الكافر إذا أسلمت خرجت بذلك من حكم العقد ، وحرم وطؤها عليه فإذا أسلم قبل انقضاء العدة عاد حكم العقد ، وكذلك إذا ارتد أحد الزوجين انتهى.

أقول : لقائل أن يقول : ان ما ذكره (قدس‌سره) من التوجيه لعود الرهن بعد بطلانه ـ وأن حكم الأصحاب بالبطلان مراعى ببقاء الخمرية ـ انما يصلح وجها للنص ، وبيان الحكمة فيه لو كان هنا نص ، لا أنه يصلح لتأسيس الحكم المذكور ، وبنائه عليه ، فان قضية الحكم بالبطلان بصيرورته خمرا وعدم صحة

٢٤٤

تملك الخمر ، هو بقاء البطلان واستمراره وان انقلب خلا ، والعود الى كونه رهنا يتوقف على الدليل.

وهذا هو الظاهر من إطلاقهم ، سيما عبارة الشيخ ابى الصلاح وحكمه بوجوب الإراقة ، فإنه لا ينطبق الا على ما ذكرناه ، ومجرد عوده في الملك بعد انقلابه خلا لا يستلزم عوده رهنا للفرق بين الأمرين ، فإن الرهن متوقف على الصيغة والعقد الشرعي وقد بطل ، فعوده يحتاج الى عقد آخر بخلاف الملك ، ولانه قد قام الدليل على ذلك في الملك ، فيجب القول به ، ولم يقم دليل عليه في الرهن الا مجرد هذا التخريج المذكور الذي لا يصلح لتأسيس حكم شرعي عليه.

وما ذكرناه هو الظاهر من إطلاقهم ، سيما عبارة الشرائع ، وحكمه فيها بالملك بعد العود دون الرهانة ، واستدراكه عليها ليس في محله ، لعدم الدليل كما عرفت ، والتنظر بما ذكره لا يفيد فائدة ، فإن الأحكام الشرعية لا تبنى على النظائر والمشابهات كما يقوله أهل القياس ، وانما يعمل فيها على النصوص الواضحة.

وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) غير خال عندي من النظر ، وان اقتفاه فيه المحقق الأردبيلي أيضا حيث قال : وسبب عودها بعد صيرورته خلا عود الملكية فيما كان رهنا ، وزوال المانع عن الرهانة ، فيعود ما كان ثابتا تابعا للملكية ، وما كان سبب النزول إلا زوال الملكية. فتأمل فيه انتهى.

وفيه ان زوال المانع غير كاف في الصحة ، بل لا بد من وجود المقتضى أولا ، والمقتضى قد حكم ببطلانه ، والكلام في محل البحث في عوده ، ومجرد عود الملكية لا يستلزمه كما عرفت.

ونحن ولو خلينا وظاهر الحكم بالبطلان ثم لا يحكم بعود الملكية ولا الرهن ، لكن لما قام الدليل من خارج ودلت الاخبار على عود الخمر بصيرورته خلا الى ملك صاحبه حكمنا بذلك ، وأما عوده رهنا فيحتاج ايضا الى الدليل كما احتاج اليه عوده في الملك ، ولعل في قوله فتأمل فيه إشارة الى ما ذكرناه والله العالم.

٢٤٥

الفصل الثاني في شرائط الرهن

وفيه مسائل الأولى ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يشترط كون الرهن عينا مملوكة ، فلا يصح رهن ما في الذمة من الديون ، ولا المنافع ، مثل سكنى الدار وخدمة العبد ، والوجه في الثاني ظاهر ، وهو أنه ليس هنا شي‌ء موجود يمكن استيفاء الدين منه الذي هو الغرض من الرهن ، لان هذه المنافع تستوي شيئا فشيئا ، وكل ما حصل منها شي‌ء عدم ما قبله ، والمطلوب من الرهن أنه متى تعذر استيفاء الدين استوفى من الرهن.

وبالجملة فإن المنافع لا يصح إقباضها إلا بإتلافها ، ومع ذلك فالمنع من رهنها موضع وفاق ، كما صرحوا به ، وأما الوجه في الأول فهو مبنى على أمرين أحدهما ـ عدم صحة بيع ما في الذمة ، وثانيهما ـ اشتراط القبض في الرهن ، والدين لا يمكن قبضه ، لأنه أمر كلي لا وجود له في الخارج.

وفي كل من الأمرين نظر ، أما عدم صحة بيع ما في الذمة فهو على إطلاقه ممنوع ، وانما ذلك في صورة خاصة كما تقدم تحقيقه ، وأما اشتراط القبض فقد تقدم ما فيه من البحث ، وأنه لم يقم دليل واضح عليه ، ومع تسليمه فإنه يجتزي بقبض ما يعينه المديون ، ويحصل الشرط المذكور ، والأصل والعمومات يقتضي الجواز.

والى ما ذكرنا يميل كلام جملة من محققي متأخري المتأخرين كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني ، وقد صرح العلامة في التذكرة ببناء المنع على اشتراط القبض ، فقال : لا يصح رهن الدين ان شرطنا في الرهن القبض ، لانه لا يمكن قبضه لعدم تعينه حالة الرهن.

لكنه في القواعد جمع بين الحكم بعدم اشتراط القبص ، وعدم جواز رهن الدين ، فتعجب منه الشهيد في الدروس.

واعتذر له المحقق الشيخ على في شرحه بأن عدم اشتراط القبض لا ينافي

٢٤٦

اشتراط كون الرهن مما يقبض مثله ، نظرا الى أن مقصوده لا يحصل الا بكونه مما يقبض ، كما أرشدت اليه الآية الكريمة ، فأحدهما غير الآخر.

واعترضه في المسالك بأن فيه مع ما أشرنا إليه من تصريح العلامة ببناء الحكم على القبض ، مع اعتبار كون الرهن مما يقبض مثله معجلا ، إذ لا دليل عليه ، والآية قد تقدم عدم دلالتها على اعتبار القبض بل الإرشاد اليه.

والمعتذر (رحمه‌الله) قد بالغ في تحقيق دلالتها على ذلك ، ومنع دلالتها على اعتبار القبض ، ولو سلم اعتبار صلاحية الرهن للقبض فالدين صالح لذلك بتعيين المديون له في فرد من أفراد ماله ، فالمنع من رهنه على القول بعدم اشتراط القبض غير متوجه. انتهى.

أقول : وقد تلخص من ذلك أنه لا مانع من رهن الدين حتى ولو قلنا باشتراط القبض كهبة ما في الذمم ويجتزى بقبض ما يعينه هنا.

والمراد باشتراط كون الرهن مملوكا ما هو أعم من ملك الأصل أو المنفعة ، كما لو أذن له المالك في رهن ماله ، فلا يصح رهن ما لا يملكه ولا يؤذن فيه ، وعلى هذا فالمملوكية بمعنييها من شروط الصحة ، كما في الشروط الآتية ، الا أنه قد صرح بعضهم بجواز رهن غير المملوك ولا المأذون وصحته ، ويكون موقوفا على اجازة المالك ، كالبيع الفضولي وعلى هذا يكون هذا الشرط من شروط اللزوم ، ومقتضى ما قدمناه من البحث عن عدم صحة بيع الفضولي عدم جواز رهن ما كان كذلك ، لانه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، وهو قبيح عقلا ونقلا.

الثانية اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في رهن المدبر ، فالأكثر على أنه يوجب ابطال تدبيره ، بمعنى أنه يصح الرهن ولكن يبطل التدبير ، وقيل بصحتها فان رهنه لا يوجب إبطال تدبيره ، ونقل ذلك عن الشيخ.

وعلل الأول بأن التدبير من الصيغ الجائزة التي يصح الرجوع فيها كالوصية ، فإذا تعقبه الرهن أبطله ، كما لو تعقبه غيره من العقود كالبيع والهبة ، لكون ذلك رجوعا عنه ، لان الغرض من العقود المملكة ملك من انتقل اليه ، ولا يتم الا بالرجوع ،

٢٤٧

والغرض من الرهن استيفاء الدين من قيمته ، فهو مناف لتدبيره.

وعلل الثاني بأن الرهن لا يستلزم نقل المرهون عن ملك الراهن ، ويجوز فكه ، فلا يثبت التنافي بين الرهن والتدبير بمجرد الرهن ، بل التصرف فيه.

ونقل عن الشيخ (رحمة الله عليه) الاحتجاج عليه بعدم الدليل على بطلان كل واحد منهما ، وعلى هذا فيكون التدبير مراعى بفكه ، فان فكه استقر وثبت ، والا أخذ في الدين ، فيبطل التدبير (١)

ونقل عن الشهيد في الدروس أنه استحسن هذا القول ، والمسألة لا يخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وان كان القول الثاني لا يخلو من قرب ، لما ذكر في بيان وجهه.

قال في الكفاية : وفي جواز رهن المدبر خلاف ، فقيل يصح وأن رهن رقبته إبطال لتدبيره ، وقيل : لا يصح ، وقيل : ان التدبير يراعى بفكه ، فيستقر أو يأخذه في الدين فيبطل.

أقول : ما نقله هنا من القول بعدم صحة الرهن لم أقف على من نقله سواه ، والمنقول في المسألة هو ما قدمنا ذكره من القولين ، وهو الذي صرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، وتعبيره عن القول الثاني الذي قدمناه بما ذكره ـ من أن التدبير يراعى الى آخره ـ غير جيد ، فان القول المنقول عن الشيخ انما هو صحة الرهن والتدبير كما قدمنا ذكره ، الا أن اللازم منه أن صحة التدبير هنا ليست صحة مستقرة ، بل هي مراعاة بفكه ، وتعبيره عن القول بلازمه ليس بجيد

__________________

(١) أقول : والى ذلك أيضا يميل كلام العلامة المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) حيث قال ما ملخصه : إذ الظاهر صحة الرهن مع عدم بطلان التدبير لعموم أدلة الرهن وجواز التصرف في المدبر ، ولكن لما لم يكن بينه وبين الرهن منافاة فالظاهر بقاؤه موقوفا فان بيع في الرهن بطل تدبيره ، وان لم يبع بقي مدبرا ، ويؤيده أنه لو كان بينهما منافاة لزم عدم صحة الرهن بوجود التدبير قبله انتهى منه رحمه‌الله.

٢٤٨

في التعبير.

ثم انهم اختلفوا في صحة رهن خدمة المدبر ، مع أن ظاهرهم الاتفاق ـ كما تقدم في المسألة المتقدمة ـ على عدم صحة رهن المنافع ، فقيل : بالصحة هنا ، للرواية الواردة بجواز بيع خدمته ، وقد تقرر عندهم أن ما جاز بيعه جاز رهنه ، والرواية المذكورة لم أقف عليها بعد التتبع ، والموجود في كلام جملة منهم انما هو بهذا العنوان من غير نقل مضمونها.

ومنه يظهر قوة القول بالعدم ، لما عرفت فيما تقدم في تعليل عدم صحة بيع المنفعة ، مع عدم وجود ما يعارضه ، ويوجب الخروج عنه ، والرواية المذكورة غير معلومة ، ولعلها من روايات العامة.

الثالثة ـ قالوا : لا يجوز رهن المسلم الخمر ولو كان عند ذمي ، وكذا لو رهنها الذمي عند مسلم لم يصح وان وضعها على يد ذمي.

وللشيخ في الخلاف هنا قول بأنه يجوز للذمي أن يرهن عند المسلم خمرا إذا وضعها عند ذمي ، لأن الحق في وفاء الدين للذمي ، فيصح الرهن ، كما لو باعها ووفاه ثمنها ، لان الرهن لا يملك للمرتهن ، وانما يصير محبوسا عن تصرف الراهن.

ورده الأكثر بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم ، وله تسلط على الرهن بالبيع والاستيفاء ، وهو هنا ممتنع.

ومنعوا أيضا من رهن الأرض الخراجية الا أن تكون بعنوان التبع لآثار التصرف من بناء وشجر ونحوهما ، وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة بالنسبة إلى البيع.

ومنعوا أيضا من رهن ما لا يصح إقباضه ، كالطير في الهواء ، والسمك في الماء الا أن يكون الطير مما يعتاد عوده ، والسمك في ماء محصور ، فيصح.

واختلفوا فيما لو رهن عند الكافر عبدا مسلما أو مصحفا ، فقيل بعدم الجواز ، لان ارتهانه لهما يقتضي الاستيلاء عليهما من بعض الوجوه ببيع ونحوه ، وان كان في

٢٤٩

يد غيره ، وهو سبيل عليهما منفي بالآية ، ويؤيده القول بعدم جواز بيعهما على الكافر.

وقيل بالجواز إذا وضعا على يد مسلم ، لمنع تحقق السبيل بذلك ، لأنه إذا لم يكن تحت يده لم يستحق الاستيفاء من قيمته الا ببيع المالك ، أو من يأمره بذلك ، ومع التعذر رفع أمره الى الحاكم ليبيع ويوفيه ، ومثل هذا لا يعد سبيلا.

أقول : قد قدمنا في المسألة السادسة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه من كتاب البيع ما في الاستناد الى هذه الآية في مثل هذا الموضع ونحوه ، من النظر الذي شرحناه ثمة ، وأن المراد بالسبيل المنفي في الآية انما هو من جهة الحجة والدليل ، كما ورد به الخبر في تفسير الآية المذكورة ، وحينئذ فتبقى المسألة خالية من الدليل نفيا وإثباتا كسائر فروعهم التي من هذا القبيل.

وأما ما ذكره القائل بالجواز إذا وضع على يد مسلم وأنه بذلك يتحقق منع السبيل ، ففيه ما تقدم من إيرادهم على الشيخ في جواز رهن الخمر عند المسلم إذا وضع على يد ذمي ، حيث أوردوا عليه بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم ، وله تسلط على الرهن بالبيع ، فإنه بعينه جار فيما ذكروه هنا ، لان يد المسلم هنا يقام مقام الكافر ، ونيابته عنه كيد الكافر ، وما أطالوا به من التعليل لا يشفي العليل ، ولا يبرد الغليل.

وبالجملة فإن الحكم في أمثال هذه الفروع مع خلوها عن النصوص اعتمادا على هذه التعليلات لا يخلو من جازفة ، ولهم في هذا المقام جملة من الفروع التي من هذا القبيل ، طوينا عن نقلها لما ذكرنا والله العالم.

الفصل الثالث في الحق والراهن والمرتهن

فههنا مقامان المقام الأول ـ في الحق الذي يؤخذ عليه الرهن ، والمشهور أنه الدين الثابت في الذمة ، وظاهر اشتراط كونه دينا عدم جواز الرهن على العين ، سواء كانت أمانة في يده كالوديعة ، والعارية الغير المضمونة والمستأجرة ، أو مضمونة عليه كالمغصوبة ، والعارية المضمونة ، والمقبوض بالسوم ، وعدم جواز

٢٥٠

الرهن في الأول موضع وفاق ، كما ذكره غير واحد منهم ، وان احتمل طرو الضمان بالتعدي في الوديعة ونحوها مما ذكر.

وأما في الثاني فهو أحد القولين ، حيث أطلقوا المنع عن أخذ الرهن في الأعيان ، نظرا الى أن مقتضى الرهن استيفاء المرهون به من الرهن ، وفي الأعيان يمتنع ذلك ، لامتناع استيفاء العين الموجودة من شي‌ء آخر.

وقيل : بجواز الرهن عليها ، وبه صرح العلامة في التذكرة ، فقال : فالأقوى جواز الرهن عليها ، أى على الأعيان المضمونة (١) وأجابوا عما علل به وجه المنع ، بأن الأمر لا ينحصر في الاستيفاء عند وجود العين ، بل يمكن التوثق بالرهن ، لأجل أخذ عوضها عند تلفها ، قالوا : ولا يرد مثله في الأعيان التي ليست مضمونة ، حيث يحتمل تجدد سبب الضمان ، لعدم كونها وقت الرهن مضمونة ، فان الرهن انما يصح عند وجود سبب الضمان اما بدين أو ما في حكمه ، كالعين المضمونة ، بخلاف ما يمكن تجدد سبب ضمانه ، كما سيتجدد من الدين ، وإطلاق الأدلة الدالة على جواز الرهن على الحقوق يتناول محل النزاع ، والمراد بالثابت على الذمة في العبارة المتقدمة ما كان مستحقا فيها ، أعم من أن يكون ثبوته مستقرا كسائر الديون أو غير مستقر كالثمن في زمن الخيار ، وظاهر الأكثر أنه لا بد من ثبوته واستقراره في الذمة قبل الرهن.

قال في التذكرة : يصح عقد الرهن بعد ثبوت الحق وتقرره في الذمة ، وفي جوازه مع المقارنة وجه ، مال إليه في التذكرة حيث قال ـ بعد الكلام المتقدم نقله عنه ـ : أما لو قارنه وامتزج الرهن بسبب ثبوت الدين مثل أن يقول : بعتك هذا العبد بألف ، وارتهنت هذا الثوب به ، فقال المشترى : اشتريت ورهنت ، أو قال : أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها دارك فالأقرب الجواز انتهى.

__________________

(١) قال في المسالك : حيث جوز الرهن على الأعيان المضمونة فمعناه الاستيفاء منه إذا تلف أو نقصت أو تعذر الرد ، والا فلا انتهى ـ منه رحمه‌الله.

٢٥١

وأيده المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بعموم الأدلة وعدم ظهور مانع الا اشتراطهم ذلك ، وهو غير ثابت بالدليل في محل النزاع ، قال : ولذا نجد تجويزهم في الدرك على الثمن في المبيع وغير ذلك فتأمل انتهى.

أقول : والمسألة لخلوها من النص الصريح لا يخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكره المحقق المشار اليه لا يخلو من قرب.

ثم انهم قد صرحوا بأنه لا يجوز الرهن على الحق الذي لا يمكن استيفاؤه من من الرهن كالحق المتعلق بعين مخصوصة ، كما لو آجره نفسه شهرا أو دابته المعينة ، أو داره ونحو ذلك ، فان تلك المنفعة لا يمكن استيفاؤها الا من تلك العين المخصوصة ، حتى لو تعذر الاستيفاء منها لموت أو خراب أو نحوهما بطلت الإجارة ، بخلاف الإجارة المطلقة المتعلقة بالذمة ، كما لو استأجره على تحصيل عمل كخياطة ثوب أو كتابة كتاب أو نحو ذلك بنفسه أو غيره ، فان الواجب عليه تحصيل تلك المنفعة بأي وجه اتفق ، ومن أى عين كانت ، فيصح الرهن عليها ، لكونها حقا ثابتا في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن.

فروع : الأول ـ هل يلحق بالأعيان المضمونة على تقدير القول بجواز أخذ الرهن عليها أخذ الرهن على المبيع وثمنه؟ لاحتمال فساد البيع باستحقاقهما أو نقصان قدرهما كيلا أو وزنا ، ونحو ذلك مما يوجب الضرر على أحد المتبايعين ، قولان :

اختار أولهما الشهيد (رحمة الله عليه) وجماعة ، لتحقق الفائدة ، وهي التوثق والإرفاق ، وقيل : بالعدم ، لعدم تحقق المقتضى الآن.

وأما ما يتجدد فلو جاز بالنسبة إليه لجاز أيضا في الأمانات باعتبار ما يتجدد من موجبات الضمان ، مع أن ظاهرهم الإجماع على عدم جواز الرهن عليها.

وأجيب بالفرق بين ما نحن فيه وبين الأمانات ، بأن ما يتجدد من الأسباب للموجبة للضمان فيما نحن فيه كاشف عن حصوله من حين العقد ، كما هو واضح في نقصان المبيع

٢٥٢

أو الثمن ، أو ظهور استحقاقهما ، فيكون عقد الرهن مضمونا في نفس الأمر على تقدير الحاجة إليه ، بخلاف الأمانات ، فإن سبب الضمان متجدد ظاهرا وفي نفس الأمر ، فلا يتحقق المقتضى حين العقد ، وهو جيد ، الا ان المسألة لخلوها من النصوص محل التوقف.

الثاني : المشهور أنه لا يصح الرهن على مال الجعالة لعدم استحقاق المجعول له المال قبل تمام العمل وان شرع فيه ، وقيل بجوازه بعد الشروع وان لم يتم ، لانتهاء الأمر فيه الى اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار ونقل عن العلامة في التذكرة.

ورد بعدم استحقاقه الآن شيئا وان عمل أكثره ، والفرق بينه وبين المبيع في زمن الخيار ظاهر ، لان المبيع متى أبقى على حاله انقضت مدة الخيار ، وثبت له اللزوم ، والأصل فيه عدم الفسخ ، بخلاف الجعالة ، فإن العمل فيها لو ترك على حالة لم يستحق بسببه شي‌ء ، والأصل عدم الإكمال.

الثالث : المشهور جواز الرهن على مال الكتابة مطلقا ، لانه لازم للمكاتب بكلا معنييه ، ونقل عن الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وجماعة التفصيل في ذلك ، بأنها ان كانت مطلقة فهي لازمة إجماعا فيجوز الرهن على مالها بغير خلاف ، وان كانت مشروطة فهي جائزة من قبل العبد ، فيجوز له تعجيز نفسه فلا يصح الرهن على مالها ، لانتفاء فائدة الرهن ، وهي التوثق ، إذ للعبد إسقاط المال متى شاء. ولانه لا يمكن استيفاء الدين من الرهن ، لأنه ان عجز صار الرهن للسيد ، لانه من جملة مال المكاتب.

أقول : ومنشأ الخلاف من أن مال المكاتبة المشروطة هل هو لازم مطلقا كما هو المشهور ، أو أنه جائز من قبل العبد ، كما يدعيه الشيخ ومن تبعه.

وقد احتج الأصحاب على لزومه مطلقا بالأدلة العامة ، مثل قوله عزوجل (١) «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ونحوه ومتى كان لازما تحققت الفائدة ، وصح الرهن عليه ، قالوا : ـ ومع تسليم ما ادعاه الشيخ من جوازها ـ لا يمتنع الرهن ، كالثمن في مدة الخيار

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ١.

٢٥٣

فإنه يجوز الرهن عليه مع كونه في معرض السقوط بانقضاء الخيار ولزوم البيع.

ونقل عن شيخنا الشهيد الثاني في الروضة قولا ثالثا ، وهو ان المشروطة جائزة من الطرفين ، والمطلقة لازمة من طرف السيد خاصة ، قال : ويتوجه عدم صحة الرهن ايضا كالسابق ، ونقل هذا القول في باب المكاتبة من الكتاب المذكور عن ابن حمزة ، ثم قال : وهو غريب.

أقول : لعل وجه غرابته من حيث الإجماع المدعى عندهم على لزوم المطلقة ، وانما الخلاف في المشروطة.

الرابع ـ قالوا : لو رهن على مال رهنا ثم استدان مالا آخر وجعل ذلك الرهن عليهما معا جاز ، لعدم المانع منه مع وجود المقتضى ، فإن التوثيق بشي‌ء لشي‌ء آخر لا ينافي التوثق لاخر به ، خصوصا مع زيادة قيمته على الأول ، ولا يشترط فسخ الرهن الأول ثم تجديده لهما ، بل يضم الثاني بعقد جديد ، ويجوز العكس أيضا ، بأن يرهن على المال رهنا آخر فصاعدا ، وان كانت قيمة الأول تفي بالدين الأول ، لجواز عروض ما يمنع من استيفائه منه ، ولزيادة الارتفاق ، وأنت خبير بأنه ان كان الدين الأخر الذي يريد جعل الرهن الأول عليه لصاحب الدين الأول فيمكن ما ذكروه ، وان كان لغيره فان وقع باذنه ورضاه فكذلك ، والا فإشكال.

قال في التذكرة ـ في مقام الرد على أبى حنيفة حيث نقل عنه أنه لا يجوز الرهن عند غير المرهون وان وفى بالدينين جميعا بعد كلام في المقام ما صورته : فإنه لا استبعاد في صحة الرهن عند غير المرتهن ، ويكون موقوفا على اجازة المرتهن وان أجاز المرتهن الأول صح الثاني وهو مؤذن بتوقف صحة ذلك على اذن المرتهن الأول وسيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ تحقيق المسألة في محلها.

المقام الثاني في الراهن والمرتهن ويشترط فيهما كمال العقد ، وجواز التصرف برفع الحجر عنهما في التصرف المالي والاختيار ، فلو أكرها أو أحدهما لم ينعقد ، والمراد أنه لم ينعقد انعقادا تاما

٢٥٤

على حسب ما يقع من المختار ، لانه لو أجازه بعد ذلك مختارا صح ، فهو كعقد الفضولي ، لا أنه يقع باطلا كعقد الغير الكامل العقل ، الا أن يبلغ الإكراه إلى كونه رافعا للقصد ، فإنه يصير كعقد غير الكامل.

والكلام في هذا المقام يقع في مواضع الأول ـ يجوز لولي الطفل رهن ماله إذا ألجأته الحاجة الى الاستدانة له ، مع مراعاة المصلحة في ذلك ، ولو كانت المصلحة في بيع شي‌ء من ماله دون الاستدانة فهو أولى ان أمكن البيع ، وحيث يجوز الرهن يجب كونه في يد أمين يكون وديعة عنده.

وفي المسالك ان هذا الحكم لا خلاف فيه عندنا ، وانما خالف فيه بعض الشافعية ، فمنع من رهن ماله مطلقا ، ولولي اليتيم أخذ الرهن له وجوبا كما هو ظاهر كلام الأصحاب فيما لو أدان ماله أو باعه نسيئة.

قالوا : ويعتبر كون الرهن مساويا للحق ، أو زائدا عليه ، ليمكن استيفاؤه منه ، وكونه بيد الولي أو بيد عدل ليتم التوثق والاشهاد على الحق لمن يثبت به عند الحاجة إليه عادة ، فلو أخل ببعض هذه الشروط ضمن مع الإمكان ، وهو جيد لما فيه من الاحتياط لمال اليتيم المبنى جواز التصرف فيه على المصلحة والغبطة ، فضلا عن عدم دخول نقص عليه.

الثاني ـ قالوا : لا يجوز إقراض مال اليتيم : لعدم ظهور الغبطة والمصلحة الا أن يخشى عليه من التلف بحرق أو غرق أو نحوهما ، فإذا أقرضه فليكن من ثقة ملي ، ويأخذ رهنا عليه ، ويشهد كما تقدم ، هذا إذا أقرضه غيره.

واما اقتراضه لنفسه ، فيحتمل كونه كذلك ، لانه تصرف في مال اليتيم وهو منوط بالمصلحة ، ويحتمل جواز الاقتراض وان لم يظهر وجه للغبطة والمصلحة من غير رهن متى كان ثقة مليا ، ويدل على هذا الوجه الأخير جملة من الاخبار الدالة على جواز الاستدانة في الصورة المذكور.

منها ما رواه في الكافي بسندين أحدهما صحيح عن منصور بن حازم (١)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٣١ التهذيب ج ٦ ص ٣٤١.

٢٥٥

«عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل ولى مال اليتيم أيستقرض منه؟ قال : على بن الحسين عليهما‌السلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره» ـ وزاد في الرواية الصحيحة «ولا بأس بذلك».

وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض المسائل المقدمة الرابعة من كتاب التجارة ، وظاهر الخبر المذكور جواز الاستقراض من غير رهن ، ولا ظهور وجه للغبطة والمصلحة كما ادعوه.

قال في المسالك : ويحتمل جواز اقتراضه مع عدم الضرر على الطفل ، وان لم يكن له مصلحة ، لإطلاق رواية أبي الربيع (١) عن الصادق عليه‌السلام «انه سئل عن رجل ولى لليتيم فاستقرض منه؟ فقال : ان على بن الحسين عليه‌السلام». ثم ساق الرواية كما قدمنا ، ثم قال : والرواية مع تسليم سندها مطلقة ، يمكن تقييدها بالمصلحة ، ثم نقل عن التذكرة أنه شرط في جواز اقتراضه الولاية والملائة ومصلحة الطفل ، واحتج عليه بالرواية المذكورة

أقول : ما ذكره من السند المشتمل على ابى الربيع مذكور في التهذيب ، والذي في الكافي انما هو عن منصور بن حازم بسندين ، أحدهما صحيح ، فلا مجال حينئذ للطعن بالسند ، وأما تقييدها بالمصلحة فالظاهر بعده ، ويعضد هذه الرواية أيضا

رواية أحمد بن محمد بن أبى نصر (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج اليه فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده؟ فقال : لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد ، ولا يسرف وان كان من نيته أن لا يرده عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله تعالى عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً».

وهذه الرواية أظهر في عدم المصلحة لأن ظاهرها أن المسوغ للاقتراض هو مجرد

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٣٢ التهذيب ج ٦ ص ٣٤١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٢٨ التهذيب ج ٦ ص ٣٣٩.

٢٥٦

الاحتياج وان لم يكن ثمة مصلحة ، نعم يجب تقييده بعدم الضرر كما يشير اليه قوله وان كان من نيته أن لا يرده إلى أخره.

ومن العجب استدلاله في التذكرة على اعتبار المصلحة بالرواية الاولى ، مع أنها مطلقة ، ثم ظاهر جملة منهم العلامة في التذكرة أنه يشترط في إقراضه غيره الوثاقة والملاثة والرهن جميعا مع الإمكان ، وأسقط اعتبار الرهن مع عدم إمكانه.

وظاهر بعضهم أنه مع إمكان الرهن لا يعتبر كونه ثقة ولا مليا ، لانضباط الدين بالرهن ، والظاهر أنه الأقرب ، وان كان الأحوط ، وظاهرهم انه مع تعذر الرهن والوثاقة لا يجوز الإقراض ، واستشكله بعضهم حيث يؤدى تركه الى تلف المال ، كالحنطة تتلف بالسوس ونحوها ، فإنه لا يزيد على أكل المقترض له ، قال : بل الظاهر أن المقبوض كذلك أولى ، لإمكان حصوله منه بخلاف ما لو ترك ، وعلى تقدير تحقق عدم الوفاء وتحقق التلف بدون الإقراض ، يمكن أولوية الإقراض لثبوته في ذمته ، فيحتمل تخلصه أو وارثه منه ، أو أخذه في الآخرة ، بخلاف التلف من الله الا أن يقال : بثبوت العوض عليه تعالى ، فيحتمل ترجحه لأنه أكثر.

الموضع الثالث : لا يخفى أن مجرد إطلاق الرهن لا يقتضي كون المرتهن وكيلا في بيع الرهن لو تعذر الأداء. نعم يجوز له ان يشترط كونه وكيلا في البيع عند الحلول وتعذر الوفاء ، لانه من الشروط السائغة ، وكذا يجوز اشتراطها لوارثه من بعده أو وصيه بعد موته ، وكذا يجوز اشتراطها لأجنبي غيره ، وغير وارثه ووصيه ودليل لزوم الشرط المذكور ما تقدم من أدلة وجوب الوفاء بالشروط الواقعة في العقود اللازمة ، ولما كان الرهن لازما من جهة الراهن فقط ، كانت الوكالة لازمة من جهته ، وأما من جانب المرتهن فلا : وله عزل نفسه وكذا الغير فإنه لمصلحته ، وهل للراهن فسخها بعد ذلك؟ قولان ، أظهرهما العدم ، لما عرفت من أن عقد الرهن لازم من جهته ، فيلزم ما شرط فيه كذلك.

احتج القائلون بالجواز بوجوه : أحدها ـ أن الوكالة من العقود الجائزة ومن شأنها تسلط كل منهما على الفسخ ، وثانيها ـ أن الشروط لا يجب الوفاء بها

٢٥٧

وان كانت في عقد لازم ، بل غايتها تسلط المشروط له على فسخ العقد المشروط فيه ، وثالثها ـ أن لزوم الشرط انما يكون مع ذكره في عقد لازم كالبيع ونحوه ، والرهن ليس كذلك ، فان ترجيح أحد طرفيه على الأخر ترجيح من غير مرجح.

والجواب عن الأول أن الوكالة وان كانت في نفسها ومن حيث هي كذلك ، الا أنه لا ينافي حصول اللزوم لها بعارض ، كجعلها شرطا في عقد لازم وهو هنا كذلك.

وعن الثاني ـ بمنع ما ذكره ، وقد تقدم تحقيق المسألة في المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام الخيار من كتاب البيع ، وأن الأظهر هو وجوب الوفاء بالشرط الواقع في العقد اللازم.

وعن الثالث ـ بما قدمنا من أن عقد الرهن لما كان لازما من طرف الراهن كان ما يلتزمه الراهن لازما من قبله ، عملا بمقتضى اللزوم ، والشرط وقع من الراهن على نفسه فيلزم ، ولما كان من طرف المرتهن جائزا كان ما يلتزمه كذلك ، فيجوز له فسخ الوكالة ، لأنها حقه ، فيجوز له تركه.

وتبطل الوكالة بموت المشروط له ، لا من حيث كونها من العقود الجائزة ومن شأنها أن تبطل بالموت ، بل من حيث أن الغرض من الوكالة الاذن في التصرف ، فيقتصر فيها على من أذن له ، فإذا مات بطلت من هذه الجهة. كما تبطل العقود اللازمة الجارية على نحو ذلك ، كالإجارة المشروطة فيها العمل بنفسه ، فإنها بموته تبطل وأما أصل عقد الرهن فلا يبطل بموت أحدهما ، لأنه وثيقة على الدين ، فيبقى ببقائه فعلى هذا لو كانت الوكالة للمرتهن فإنه بموته ينتقل الرهانة إلى وارثه ، دون الوكالة ، الا أن يكون مشترطة للوارث.

ولو كان المرتهن وكيلا في بيع الرهن ، فهل يجوز له ابتياعه وتولى طرفي العقد أم لا؟ قولان : وعلل الأول ـ بأن الغرض وهو البيع بثمن المثل حاصل ، وخصوصية المشتري ملغاة ، حيث لم يتعرض لها.

وعلل الثاني ـ بأن ظاهر الوكالة لا يتناوله ، قال في المسالك بعد نقل ذلك : و

٢٥٨

الأقوى الجواز في كل وكالة انتهى.

والمشهور جواز البيع على ولده بطريق أولى. ونقل عن ابن الجنيد المنع من البيع على نفسه وولده وشريكه ومن يجرى مجريهما للتهمة.

أقول : ومرجع المسألة الاولى الى جواز بيع الوكيل من نفسه وعدمه ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في المقدمة الثانية في آداب التجارة من كتاب التجارة ، وكذا في بعض مواضع المسألة الرابعة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع من الكتاب المذكور ، وأما ما نقل عن ابن الجنيد من التعميم المذكور فلم نقف له على مستند معتمد.

الموضع الرابع : المشهور ان الراهن إذا مات وعليه ديون يقصر ماله عنها ، فالمرتهن أحق باستيفاء دينه من الرهن ، دون غرماء الميت ، وعلل بأن ذلك مقتضى الرهانة ، وأنه استحق الاستيفاء من المرتهن قبل تعلق سائر الديون بالأموال والتركة ، فلا يشاركه أحد ، وهو جيد الا أن ما وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بذلك على خلافه.

ومنها ما رواه الشيخ عن عبد الله بن الحكم (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أفلس وعليه دين لقوم ، وعند بعضهم رهون ، وليس عند بعضهم فمات ، ولا يحيط ماله بما عليه من الدين ، قال : يقسم جميع ما خلف من الرهون وغيرها على أرباب الدين بالحصص». ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن حسان عن أبى عمران الأرمني عن عبد الله بن الحكم مثله.

وما رواه الشيخ والصدوق جميعا عن محمد بن عيسى بن عبيد عن سليمان بن حفص المروزي (٢) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام في رجل مات وعليه دين ، ولم يخلف شيئا إلا رهنا في يد بعضهم فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال المرتهن ، أيأخذه بماله أو هو وسائر الديان فيه شركاء؟ فكتب عليه‌السلام جميع الديان في ذلك سواء ،

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ١٧٨ الفقيه ج ٣ ص ١٩٦.

٢٥٩

يوزعونه منهم بالحصص» الحديث. ولم أر من تعرض للجواب عن الخبرين المذكورين من القائلين بالقول المشهور.

والمشهور وجوب تقديم صاحب الرهن أيضا فيما لو كان الراهن حيا ، بل صرح بعض محققي متأخري المتأخرين بأن ذلك إجماع ، قال : ومستنده كون ذلك من خصائص الرهن ، فان الدين المتعلق بالرهن لا محالة له تعلق بالاستيفاء ، وان ذلك من فوائده التي شرع لها.

أقول : ولم أقف هنا على نص ينافي ذلك ، فلا بأس بالقول به ، وانما الإشكال في الميت ، فان ظاهرهم القول بالاختصاص ، بل لم أقف على مخالف صريح في الحكم المذكور ، وصريح الخبرين المذكورين التشريك ، واطراحهما ـ والخروج عنهما بغير معارض ـ مشكل ، فالظاهر هو القول بما دلا عليه من التشريك ، ويكون الحكم هنا مستثنى من قاعدة الرهن التي أشاروا إليها وتمسكوا بها.

ونقل عن بعض الفضلاء المعاصرين (١) (قدس الله روحه) القول بذلك ، بعد أن اختاره عن ظاهر الصدوق في الفقيه ، ولعله لذكره خبر المروزي في الكتاب المذكور ، بناء على ما ذكره في صدر كتابه ، ونقله عن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر ، وعن جده العلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري طاب ثراهما ، ثم قال : وهو لازم على جميع أهل الاخبار ، لصراحتهما في المطلوب ، وسلامتهما من المعارض.

ثم نقل عن الفاضل المشهور بخليفة سلطان ـ في حواشيه على كتاب الفقيه ـ تأويل الخبرين بأن المراد ما رهنه بعد الحكم بإفلاسه ، ثم رده بأنه مع يعده غير محتاج اليه لتوقفه على وجود المعارض ، ثم قال : وما استندوا إليه في التسوية بين الحي والميت ـ من سبق تعلق حق المرتهن بالرهن ـ يمكن منعه ، بما أورده ابن فهد في المهذب

__________________

(١) هو الفاضل الآقا السيد عبد الله بن المقدس السيد نور الدين بن العلامة السيد نعمة الله الجزائري (نور الله تعالى مراقدهم) في بعض أجوبة مسائل له ـ منه رحمه‌الله.

٢٦٠