الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

في حياة المالك ، وهو مشكل ، لان منافع العبد مملوكة للمالك ، وكسبه له فاستسعاؤه متفرع على ضمان المالك ، مع أنه لا ضمان عليه ، لعدم الإذن بالكلية ، فلا بد من حمل الاستسعاء على كونه بعد العتق ، وحينئذ يكون الرواية دالة على قول ابن إدريس ، وهو الأوفق بالقواعد الشرعية.

الخامس : إذا اقترض المملوك مالا فأخذه المولى وتلف في يده تخير المقرض في المطالبة للعبد أو المولى ، وعلل بان كلا منهما قد ثبت يده على المال ، فيتخير في الرجوع على من شاء منهما ، فان رجع على المولى قبل ان يعتق العبد لم يرجع المولى على العبد وان عتق ، لاستقرار التلف في يده ، ولان المولى لا يثبت له مال في ذمة عبده ، وان كان الرجوع على المولى بعد عتق العبد ، فان كان عند أخذه المال عالما بأنه قرض فلا رجوع له على العبد أيضا ، وان كان قد غره العبد بأن المال له ، ومن جملة أمواله وليس بقرض اتجه رجوعه على العبد ، للغرور.

ولو رجع المقرض على العبد بعد عتقه ويساره فله الرجوع على المولى لاستقرار التلف في يده ، الا ان يكون قد غر المولى ، فلا رجوع عليه كما تقدم ، كذا قيل ، وفي بعض المواضع منه تأمل ، ومنها قوله لا يثبت له مال في ذمة عبده ، فان الظاهر أنه مبنى على أن العبد لا يملك ، والا فمع القول بملكه وان كان محجورا عليه كما هو الأظهر ، فإنه لا مانع من رجوعه عليه.

ومنها أنه إذا كان العبد مأذونا في الاقتراض وقلنا بملكه فإنه يكون المال للعبد. قد ملكه بالاقتراض والقبض ، فلا يجوز للمالك أخذه ، ومقتضى ذلك رجوع المقرض على العبد. لاستقرار المال في ذمته وملكه له ، ورجوع العبد على سيده لانه غاصب.

ومنها إذا كان الاقتراض للمولى وكان عن إذنه فإنه لا رجوع للمولى على العبد ، وبالجملة فإن كلامهم هذا انما يتم فيما إذا كان القرض بغير اذن المولى ، سواء اقترضه لنفسه أو للمولى ، فان القرض يكون حينئذ باطلا فيلزمه لوازم القبض بالعقد الفاسد والله العالم.

٢٢١

كتاب الرهن

والرهن لغة الثبوت والدوام ، يقال : رهن الشي‌ء رهونا : كقعد قعودا إذا ثبت ودام ، ومنه نعمة راهنة : أى دائمة ثابتة ، قال في كتاب المصباح المنير :

ويتعدى بالألف فيقال أرهنته : إذا جعلته ثابتا ، وإذا وجدته كذلك ، ورهنته المتاع بالدين رهنا حبسته به ، فهو مرهون ، والأصل مرهون بالدين ، فحذف للعلم به ، وأرهنته بالدين بالألف لغة قليلة ومنعها الأكثرون. انتهى.

وبه يظهر ما في قوله في المسالك بعد نسبة المعنى الأول إلى اللغة ، ويطلق على الحبس بأي سبب كان ، قال الله تعالى (١) «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي محبوسة بما كسبته من خير وشر ، وأخذ الرهن الشرعي من هذا المعنى أنسب ، فإن ظاهره أن المعنى اللغوي للفظ انما هو الأول ، وبه صرح غيره أيضا ، وأن الثاني انما هو معنى مجازي يطلق عليه ، ويستعمل فيه مع أن مقتضى كلام المصباح ان الثاني أيضا معنى لغوي ، فاستعماله شرعا في هذا المعنى هو أحد معنييه لغة.

والكلام في هذا الكتاب يجب بسطه في فصول الفصل الأول ـ في الرهن وفيه مسائل ، الأولى ـ في الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول ، ظاهر كلام بعض الأصحاب الاكتفاء في الإيجاب بكل لفظ دل على الارتهان ، كقوله رهنتك أو هذا وثيقة عندك ، وهذا رهن عندك وزاد في الدروس أنه لو قال : خذه على مالك أو بمالك فهو رهن.

أقول : في قوله خذه بمالك ما يوهم المعاوضة ، ودخوله في قسم البيع ، بناء على عدم اشتراط الصيغة الخاصة ، ووقوعه لكل ما دل على التراضي من الطرفين ، فلا ينبغي عده في سياق هذه الألفاظ.

وبالجملة فإنه يستفاد منه أنه أن الرهن لا يختص بلفظ. وربما ظهر من عبائر جملة منهم في التعبير عنه بأنه عقد ، أنه يشترط فيه ما يشترط في العقود اللازمة من الإيجاب

__________________

(١) سورة المدثر الآية ـ ٣٨.

٢٢٢

والقبول باللفظ العربي على صيغة الماضي والمقارنة ، وتقديم الإيجاب كما في غيره من العقود اللازمة ، لأنه المتبادر من لفظ العقد.

قيل : لعل دليله أن الأصل عدم الانعقاد وترتب أحكام الرهن الا على ما ثبت كونه رهنا بالإجماع ونحوه والإجماع هنا غير ثابت ، وكذا غيره.

أقول : فيه ما عرفت مما تقدم في صدر الفصل الأول من كتاب البيع (١) من عدم الدليل على ما ذكروه ، واستفاضة الاخبار في العقود بخلاف ما اعتبروه ، مضافا الى أصالة العدم ، ويؤيده ـ ما ذكره بعض المحققين ـ من أن الرهن ليس على حد العقود اللازمة ، لأنه جائز من طرف المرتهن ، فترجيح جانب اللزوم ـ ولزوم ما يعتبر في اللازم ـ ترجيح من غير مرجح ، وأما القبول فهو عبارة عن الرضا بذلك الإيجاب ، والقبول فيه كما تقدم في الإيجاب.

وقال في التذكرة : الخلاف في الاكتفاء بالمعاطاة ـ والاستيجاب والإيجاب المذكور في البيع ـ آت هنا ، واعلم أن الرهن اما أن يكون مبتدأ متبرعا به ، وهو الذي لا يقع شرطا في عقد لازم ، بل يقول الراهن : رهنت هذا الشي‌ء عندك على الدين الذي على ، فيقول المرتهن : قبلت ، واما أن يقع شرطا في عقد لازم كبيع أو إجارة أو نكاح أو غير ذلك ، فيقول : بعتك هذا الشي‌ء بشرط أن ترهنني عبدك ، فيقول : اشتريت ورهنت ، أو زوجتك ابنتي على مهر قدره كذا ، بشرط أن ترهنني دارك على المهر ، فيقول الزوج : قبلت ورهنت.

والقسم الأول لا بد فيه من الإيجاب والقبول عند من اشترطهما ولم يكتف بالمعاطاة.

وأما القسم الثاني فقد اختلفوا فيه ، فقال بعض الشافعية : إذا قال البائع : بعتك كذا بشرط أن ترهنني كذا ، فقال المشترى : شريت ورهنت ، لا بد وأن يقول البائع بعد ذلك : قبلت الرهن ، وكذا إذا قالت المرأة : زوجتك نفسي بكذا بشرط أن

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٥٥.

٢٢٣

ترهنني كذا ، فقال الزوج : قبلت النكاح ورهنتك كذا ، فلا بد وأن تقول المرأة بعد ذلك : قبلت الرهن. لانه لم يوجد في الرهن سوى مجرد الإيجاب ، وهو بمجرده غير كاف في إتمام العقد.

وقال آخرون : ان وجود الشرط من البائع والزوجة ، يقوم مقام القبول لدلالته عليه انتهى. وظاهر نقله الخلاف في القسم الثاني من غير ترجيح شي‌ء يؤذن بالتوقف في ذلك ، واحتمال الاكتفاء بالإيجاب هنا.

وفيه اشكال ـ كما أشار إليه بعض المحققين ـ من أن مقتضى الشرط أنه لا يقع البيع والتزويج الا بعد الرهن ، مع أن الرهن متأخر. ولانه يلزم أن يرهن على الثمن قبل إتمام الشراء ولزومه ، ويتحقق الشراء قبل الرهن ، مع أنه قد جوز المعاطاة في البيع ، فيجوز هنا أيضا بل بالطريق الاولى ، فيحتمل الاكتفاء بها ، وعدم اشتراط الإيجاب والقبول انتهى وهو جيد.

قالوا ولو عجز من النطق كفت الإشارة ، ولو كتبه والحال هذه وعرف ذلك من قصده جاز ، وقيد بعضهم الإشارة أيضا بأنه لا بد أن تكون مفهمة للمقصود ، وهو كذلك.

وبالجملة فإنه كما يعتبر في اللفظ افهام المقصود ، كذلك يعتبر فيما قام مقامه مع تعذره ، ولهذا مال بعض المحققين الى الاكتفاء بالإشارة والكتابة المفهمين ، وان كان مع القدرة على اللفظ ، لان الغرض فهم ذلك ، فحيثما وجد كفى.

المسألة الثانية ـ اختلف الأصحاب في أن قبض الرهن شرط في الرهن أم لا؟ وبالأول قال الشيخ في النهاية ، والشيخ المفيد ، وابن الجنيد ، وأبو الصلاح ، وابن البراج ، وسلار ، وأبو منصور الطبرسي ، وابن حمزة ، والمحقق في الشرائع ، والشهيد في الدروس ، وكتاب النكت واللمعة.

وبالثاني قال في الخلاف ، فإنه صرح بأنه يلزم بالإيجاب والقبول خاصة ، وبه قال ابن إدريس ، والعلامة في المختلف ، وهو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، واختلف كلامه في المبسوط ، ففي كتاب الرهن كما في النهاية

٢٢٤

وقال فيه أيضا كما قال في الخلاف في فصل بيع الخيار : الأحوط أن نقول ان الرهن من قبل الراهن بالقول ، ويلزمه إقباضه.

احتج الأولون بقوله عزوجل (١) «فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» والتقريب فيها أنه سبحانه أمر بالرهن المقبوض فلا يتحقق المطلوب شرعا بدونه ، كما اشترط التراضي في التجارة ، والعدالة في الشهادة ، حيث قرنا بهما وبما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن قيس (٢) عن أبى جعفر عليه‌السلام ، قال : «لا رهن الا مقبوضا» (٣).

أقول : وروى العياشي في تفسيره أيضا عن محمد بن عيسى (٤) عن أبى جعفر عليه‌السلام : قال : «لا رهن إلا مقبوضا».

أجاب العلامة في المختلف أما عن الآية فبأنها انما تدل من حيث دليل الخطاب وليس حجة عند المحققين ، ثم قال : على أنا نقول : دليلنا ، أما أولا فلان القبض لو كان شرطا كالإيجاب والقبول لكان قوله تعالى «مَقْبُوضَةٌ» تكرارا لا فائدة تحته ، وكما لا يحسن أن يقول : مقبولة ، كذا كان يحسن أن لا يقول : مقبوضة ، واما ثانيا فلان الآية سيقت لبيان الإرشاد إلى حفظ المال ، وذلك انما يتم بالإقباض كما أنه لا يتم الا بالارتهان (٥) فالاحتياط يقتضي القبض كما يقتضي الرهن ، وكما أن الرهن ليس شرطا في الدين ، فكذا القبض ليس شرطا في الرهن ، ثم أجاب عن الرواية بضعف السند مع أنها مشتملة على إضمار ، فلا تبقى حجة انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٧٦.

(٣) هذه الرواية رواها في المسالك ونقله العلامة في التذكرة عن الصادق عليه‌السلام والذي في التهذيب انما هو عن الباقر عليه‌السلام كما نقلناه في الأصل ـ منه رحمه‌الله.

(٤) الوسائل الباب ٣ من أبواب الرهن الرقم ـ ٢.

(٥) ويعضده أن الآية قد اشتملت ايضا على السفر وعلى عدم وجود الكاتب وهما غير شرط في الرهن اتفاقا ، فيكون القبض كذلك كما هو ظاهر ـ منه رحمه‌الله.

٢٢٥

وأجاب الشهيد في نكت الإرشاد عن ذلك ، قال : والجواب ان الآية دلت على شرعية الرهن مع القبض ، فإذا لم يقبض كان منفيا بالأصل ، لا بدليل الخطاب ، وحفظ المال واجب ، فيجب مقدمة ، والحديث متلقى بالقبول ، فلا يضره ضعف سنده ، والإضمار بالصحة أولى ، ولا تكرار في قوله «مَقْبُوضَةٌ» لأن اللغوي صادق فيصير شرعيا بالقبض انتهى.

ويمكن تطرق المناقشة إليه بما يخرجه عن الاعتماد عليه ، أما قوله ان الآية دلت على شرعية الرهن مع القبض ـ الى آخر دليله ـ ففيه أن صدق الرهن ـ وتحقق عقد بدون القبض الموجب لدخوله تحت قوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «والمؤمنون عند شروطهم» مما يمنع ذلك ، ويعضده إطلاق الاخبار الواردة في جملة من أحكام الرهن التي لا تكاد تحصى كثرة ، كما ستمر بك إنشاء الله تعالى ـ فإنها كلها اشتملت على ذكر الرهن من غير تقييد بالقبض ، فلو كان شرطا كما هو المدعى لم يحسن ذلك ، بل يجب التفصيل ، وقد تقرر في كلامهم أن عدم التفصيل دليل على العموم.

وأما قوله ان حفظ المال واجب فيجب مقدمة ، ففيه أنه لا قائل بوجوب أخذ الرهن ، فالوجوب هنا غير ظاهر.

وأما قوله : ان الحديث متلقى بالقبول ، ففيه أنه وان كان كذلك الا أن الدلالة غير صريحة ، بل ولا ظاهرة ، ودعوى أولوية ترجيح إضمار الصحة لا دليل عليها.

وأما قوله لا تكرار في قوله «مَقْبُوضَةٌ» الى آخره ففيه أنه متى وجد المعنى الشرعي فمقتضى القاعدة الحمل عليه ، وانصراف معنى اللفظ اليه ، على أن الوصف بالقبض لا يناسب المعنى اللغوي عندهم الذي هو الثبوت والدوام ، الا أن يكون بمعنى المرهون.

وأما ما أجاب به هنا ـ في المسالك ـ من أن الصفة قد يكون للكشف ، ففيه أن الأصل في الوصف عدم كونه كذلك ، لما تقرر من «أن التأسيس خير من

٢٢٦

التأكيد» كما هو مشهور في كلامهم ، وبالجملة فالمسألة لما عرفت محل اشكال والله العالم.

بقي الكلام هنا في شيئين : أحدهما ـ في تعيين محل الخلاف في المسألة ، وان شرطية القبض هل هي في الصحة ، أو اللزوم؟ قد اضطرب في ذلك كلامهم ، فظاهر جملة منهم أن محل الخلاف نفيا وإثباتا انما هو في كونه شرطا في الصحة ، فالقائل بشرطيته يحكم بكون الرهن بدونه باطلا ، والقائل بكونه شرطا في اللزوم يحكم بالجواز.

فممن ظاهره الأول العلامة في الإرشاد والقواعد ، والشهيد في نكت الإرشاد والمحقق الثاني في شرح القواعد ، والشهيد في الدروس ، وفرع عليه فروعا كثيرة

قال في كتاب نكت الإرشاد بعد قول المصنف ـ ولا يفتقر الى القبض : هذا قول الشيخ في الخلاف الى أن قال : وذهب الشيخ في النهاية ـ وموضع من المبسوط ـ الى أن القبض شرط في صحته ، وهو مذهب المفيد وابن الجنيد الى آخره وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه.

وممن ظاهره الثاني العلامة في التذكرة حيث قال : اختلف علماؤنا في القبض هل هو شرط في لزوم الرهن أولا على قولين : الى آخره ، ثم ذكر جملة من الفروع المرتبة على ذلك.

ومنهم الشهيد الثاني في المسالك حيث قال : اختلف أصحابنا في اشتراط القبض في الرهن بمعنى كونه جزء لسبب لزومه من قبل الراهن ، كالقبض في الهبة في كونه كذلك بالنسبة إلى ملك المتهب وعدمه ، وهو أيضا كالأول ، ظاهر فيما قلناه.

ومن هنا قال بعض المحققين : إنه يمكن أن تكون المذاهب ثلاثة ، أحدها ـ عدم اشتراط القبض بوجه ، وثانيها ـ اشتراطه في الصحة ، وثالثها اشتراطه في اللزوم فقط ، كما في الهبة ، فإنه نقل فيها في الدروس ثلاثة أقوال ، مثل ما قلناه هنا ، وان قال في شرح الشرائع ـ بعد تقرير الخلاف ـ في لزوم الرهن من جانب

٢٢٧

الراهن ، كالقبض في الهبة ، وهو مشعر بكون الخلاف في الهبة أيضا في اللزوم وعدمه والظاهر أنه ليس كذلك ، ولهذا قال في القواعد وغيره : لو مات الواهب بطلت الهبة ، ولهذا يحصل الجمع بين كلام القوم انتهى وهو جيد.

وثانيهما ـ أنه قد صرح في المسالك بأن إطلاق الشرطية على القبض انما هو بطريق المجاز ، لان الشرط مقدم على المشروط في الوجود ، وهنا لا يعتبر تقدمه إجماعا ، فكونه جزء من السبب أنسب ، وقيل عليه : ان الظاهر أن المراد بالشرط هنا انما هو الأمر الذي لا بد من حصوله ، لحصول المشروط ، لا الخارج المقدم على المشروط الذي يجب حصوله قبله ، وهو إطلاق شائع خصوصا عند الفقهاء في مثل هذا الباب وهو جيد.

فروع

الأول ـ لو قبض المرتهن الرهن بغير اذن الراهن ، فان قلنا : بأن القبض شرط في الصحة كان عقد الرهن باطلا ، لان القبض على هذا الوجه كلا قبض ، وان قلنا : أنه شرط في اللزوم كان العقد صحيحا غير لازم.

ويمكن التفصيل بناء على الأول بأنه ان كان قبضه بغير اذنه من حيث امتناع الراهن من الإقباض ، فالظاهر أنه لا وجه للبطلان ، لانه من قبيل الحقوق المستحقة عليه ، فإذا أخل بدفعها جاز لصاحب الحق التوصل إلى أخذ حقه وان كان لا كذلك فما ذكروه صحيح والله العالم.

الثاني ـ لو عرض للراهن الجنون أو الإغماء أو الموت بعد العقد وقبل القبض ، وقلنا : باشتراط القبض كما هو المشهور ، فان قلنا : بكون القبض شرطا في الصحة فإنه يبطل العقد من أصله ، وبذلك صرح في القواعد والدروس تفريعا على ما اختاراه من كون القبض شرطا في الصحة كما تقدم نقله عنهما.

وان قلنا بكونه شرطا في اللزوم كان العقد صحيحا ، وبه قطع في التذكرة تفريعا على ما اختاره فيها من كون القبض شرطا في اللزوم ، كما تقدم نقله عنه ، فعلى

٢٢٨

الثاني يقوم الولي مقام الراهن في استحقاق الإقباض ، لكن ولى المجنون يراعى مصلحته في ذلك ، فان رأى أن المصلحة في الإقباض كما إذا كان في بيع يتضرر بفسخه أو نحو ذلك من المصالح التي يقتضيها الحال أقبضه ، والا فلا.

وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المسالك في هذا المقام ، حيث أنه فرع البطلان وعدمه على القول بكون القبض شرطا في اللزوم ، كما اختاره وغفل عن الخلاف الذي قدمنا ذكره من أن جملة منهم انما جعله شرطا في الصحة ، وآخرين في اللزوم ، والصحة والبطلان هنا انما تفرعا على ذلك كما أوضحناه ، ولو كان عروض أحد هذه الأشياء المتقدمة للمرتهن قبل قبضه.

فالظاهر ان العقد صحيح على كل من القولين المتقدمين ، وينتقل حق القبض إلى الولي ، ولهذا انه في الدروس مع قوله بالبطلان بموت الراهن أو جنونه قال : بالصحة هنا (١) ووجه ذلك هو الفرق بين المقامين ، فإنه في صورة موت الراهن قبل الإقباض تعلق حق الورثة والديان به ، فلا يستأثر به أحد ، بخلاف موت المرتهن فان الدين باق فتبقى وثيقة لعدم المنافي ، هذا كله على تقدير القول باشتراط القبض (٢) واما على القول

__________________

(١) قال في الدروس : لو مات الراهن أو جن بطل ، وفي المبسوط إذا جن الراهن أو أغمي عليه أو رجع قبل القبض ، قبض المرتهن لان العقد أوجب القبض ، وهذا يشعر بان القبض ليس بشرط ، وان كان للمرتهن طلبه ليتوثق به ، ولو مات المرتهن انتقل حق القبض الى وارثه والفرق تعلق حق الورثة والديان بعد موت الراهن به فلا يستأثر به أحد ، بخلاف موت المرتهن فان الدين باق فتبقى وثيقته ، ويحتمل البطلان فيها لانه من العقود الجائزة قبل القبض والصحة فيهما وفاقا للقاضي والمبسوط والفاضل الى آخر كلامه منه رحمه‌الله.

(٢) أما على القول بالصحة بناء على ان القبض شرط في اللزوم فظاهر وأما على القول بالبطلان بناء على ان القبض شرط في الصحة فللفرق المذكور في الأصل ، وتوضيحه أنه بموت الراهن قبل الإقباض مع كون القبض شرطا في الصحة يتعلق حق الورثة والديان بالرهن ، ولا ترجيح لأحدهما بعد الحكم بالبطلان ، واما على

٢٢٩

الأخر فلا اثر لهذا البحث ولا لما قبله لحكم هذا القائل بصحة العقد ولزومه قبل القبض فلا تؤثر فيه هذه العوارض والله العالم.

الثالث ـ قد صرحوا بأنه ليس استدامة القبض شرطا ، فلو عاد الى الراهن أو تصرف فيه لم يخرج عن الرهانة ، وظاهرهم أنه موضع وفاق ، بل نقل عن التذكرة دعوى الإجماع عليه (١).

الرابع ـ لو رهن ما في يد المرتهن قبل الرهن ، فان كان بعارية أو وديعة أو إجارة ونحو ذلك مما كان قبضا مأذونا فيه شرعا ، فالظاهر أنه لا خلاف في الصحة ، لأن المعتبر تحقق القبض وهو حاصل ، ولو بالاستصحاب ، فان استدامة القبض قبض حقيقة ، فيصدق عليه أنه رهن مقبوض ، وأما انه يشترط كون القبض واقعا ابتداء بعد الرهانة ، فلا دليل عليه ، وحينئذ فلا فرق بين السابق والمقارن.

وان كان قبضا غير مأذون فيه شرعا كقبض الغاصب ، والمستام ، والمشترى فاسدا ، فقد أطلق الأكثر الاكتفاء به أيضا ، لما تقدم من الدليل ، ولانه متى اشترط القبض في الرهن كان مستحقا على الراهن ، فإذا كان في يد المرتهن وصل الى حقه وعلى تقدير كون القبض منهيا عنه لا يقدح هنا ، لأن النهي في غير العبادة لا يقتضي الفساد.

وقيل : بعدم الاكتفاء به ، لان القبض على تقدير اشتراطه ركن من أركان العقد من الجهة التي تعتبر لأجلها وهو اللزوم ، ولهذا أوجبوا عليه الإقباض لو كان الرهن مشروطا عليه ، وإذا وقع منهيا عنه لا يعتد به شرعا ، وانما لا يقتضي النهي

__________________

تقدير موت المرتهن فان دينه باق ، ووثيقته تقتضي عقد الرهن باقية على مقتضاه ولم يبق الا حق قبضه ، حيث مات قبله ، فلذا الحق ينتقل الى وليه ويقوم مقام الميت في القبض ولا يبطل الرهن بذلك وهو ظاهر منه رحمه‌الله.

(١) اى كرنه في يده يأخذ هذه الأشياء منه رحمه‌الله.

٢٣٠

الفساد في مثل ذلك حيث تكمل أركان العقد ، مع أنهم قطعوا بأنه لو قبض بلا اذن الراهن لم يعتد به ، فلو كان مطلق القبض كافيا ، لزم مثله في ذلك القبض المبتدأ بغير اذن الراهن ، ونمنع استحقاقه على الراهن بمجرد الصيغة.

أقول : والمسألة لما كانت عارية عن النص تطرق إليها الإشكال ، الا انه يمكن أن يقال : ان المقبوض بيد أحد هؤلاء المذكورين وان كان قبل الرهن غير مأذون فيه شرعا وهو منهي عنه ، الا أنه بعد عقد الرهن وحصول الرضا من الراهن ببقائه في يد المرتهن من أحد هؤلاء لا مانع من ذلك ، واما القياس على القبض بغير اذن الراهن فهو قياس مع الفارق إذ المفروض هنا كما ذكرنا هو رضا الراهن ببقائه رهنا عند أحد هؤلاء واذنه في ذلك ، وكونه سابقا مقبوضا بغير وجه شرعي لا يمنع من ذلك مع تجدد الرضا والاذن أخيرا ، بخلاف المقبوض بعد الرهن بغير اذن على ما تقدم من التفصيل فيه.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قطع باشتراط الاذن ومضى زمان يمكن فيه تجدد القبض هنا ، قال في المسالك : وهو متجه ، بل ربما قيل : باشتراطهما في المقبوض صحيحا ثم أطال في بيان تعليل ذلك بعلل عليلة.

أقول : أما اشتراط الاذن فلا ريب أن قرينة المقام شاهدة به ، لانه مع جعله رهنا ، والعلم باشتراط القبض في الرهن لا يتجه ولا يتم الا مع الرضا والاذن في القبض ، والا فكيف يجعله رهنا يجب عليه إقباضه للمرتهن ، مع عدم الرضا والاذن في قبضه ، ولا ريب أنه وان كان مقبوضا سابقا على غير وجه شرعي ، الا انه بعد جعله رهنا صار الأمر على خلاف ما كان سابقا ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه.

وأما اشتراط مضى زمان يمكن فيه تجدد القبض فلا وجه له ، وما علل به مما طوينا نقله لا يخفى ما فيه على من راجعه.

الخامس ـ لو رهن ما هو غائب وقلنا باشتراط القبض ، فلا بد من حضور المرتهن أو وكيله عند الرهن وقبضه ، وأنه لا يصير رهنا صحيحا أو لازما بناء على القولين المتقدمين الا بذلك.

٢٣١

والمعتبر في القبض ما تقدم في كتاب البيع من اعتباره في كل بما يناسبه من النقل في المنقولات ، والكيل والوزن في المكيلات والموزونات ، والتخلية فيما لا يكون كذلك ـ حسبما تقدم تحقيقه.

وبالجملة فإن القبض هنا كالقبض في البيع ، فجميع ما تقدم آت هنا ، ولو قلنا بعدم اشتراط القبض سقط البحث.

السادس ـ قالوا ـ : لو أقر الراهن بالإقباض قضى عليه به ، إذا لم يعلم كذبه ولو رجع لم يقبل رجوعه ، وتسمع دعواه لو ادعى المواطاة على الاشهاد ، فيتوجه اليمين على المرتهن على الأشبه.

أقول : أما القضاء عليه بإقراره فظاهر ، لما ورد من أن «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (١)». وأما عدم ذلك مع علم كذبه فظاهر أيضا ، كما لو قال : رهنته اليوم داري التي بالحجاز وأقبضته إياها مع كونهما في الشام مثلا فإنه لا يسمع ، لانه محال عادة ، وقد عرفت أن شرطه وصول المرتهن أو وكيله الى موضع الرهن وقبضه.

وأما أنه لو رجع عن إقراره بالإقباض لم يقبل رجوعه ، فلانه بإقراره أولا دخل تحت مضمون الخبر المتقدم فيجب إلزامه والحكم عليه ، ولا تسمع دعواه ، بحيث تتوجه على المرتهن اليمين.

نعم لو ادعى الغلط في إقراره وأظهر تأويلا ممكنا في حقه كما لو قال استندت فيه الى كتاب كتبه وكيلي فظهر مزورا ونحو ذلك فان الظاهر سماع دعواه ، بمعنى توجه اليمين على المرتهن بان القبض حقيقي ، أو على نفى ما يدعيه الراهن ، لأن الأصل صحة الإقرار ومطابقته للواقع.

واستقرب العلامة في التذكرة توجه اليمين له على المرتهن وان لم يظهر تأويلا ، محتجا بأن الغالب في الوثائق كون الشهادة قبل تحقق ما فيها ، فلا حاجة

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ من أبواب الإقرار ـ الرقم ٢.

٢٣٢

الى تلفظه به.

وأما لو ادعى المواطاة في الإشهاد إقامة لرسم الوثيقة أي لأجل كتابتها والشهادة عليها حذرا من تعذر ذلك إذا تأخر الى أن يتحقق القبض ، فالأقوى أنها مسموعة ، بمعنى توجه اليمين بها كما على المرتهن أيضا ، حسبما تقدم ، لجريان العادة بوقوع مثل ذلك ، وقيل : انه يحتمل عدم السماع لانه مكذب لإقراره الأول.

وينبغي أن يعلم أن سماع دعواه انما يتم لو شهد الشاهدان على إقراره ، فادعى الغلط أو المواطاة كما تقدم ، أما لو شهدا على نفس الإقباض وفعله لم تسمع دعواه ، لتضمنها تكذيب الشاهدين ، بخلاف الشهادة على الإقرار ، فإنها لا تنافي دعواه بأحد الوجهين المذكورين ، وعلى هذا فلا يثبت على المرتهن باليمين لو وقعت الشهادة على نفس الإقباض ، وكذا لو شهدا على إقراره بالإقباض فأنكر الإقرار ، فإنه لا يلتفت الى إنكاره ، لما تقدم من استلزامه تكذيب الشاهدين.

السابع ـ لو رهن ما هو مشترك بينه وبين غيره على سبيل الإشاعة. فإن كان مما ينقل ويحول فإنه لا يجوز الإقباض إلا بإذن الشريك ، لاستلزامه التصرف في مال الغير بغير اذنه ، فلو أقبضه والحال هذه فعل محرما.

وهل يحصل الإقباض بذلك ويتم شرط الرهن أم لا؟ قولان : ثانيهما للشهيد (رحمة الله عليه) لانه كما لو قبضه بدون اذن المرتهن ، وأولهما للعلامة وجماعة ، ووجهه أن النهى انما هو من حيث حق الشريك فقط ، والا فالإذن حاصل من الراهن بالنسبة إلى حقه ، واشتمال المقبوض على حق الراهن وغيره لا يمنع من تحقق القبض لحق الراهن الذي هو شرط في صحة الرهن على القول به ، وان فعل محرما بالتصرف في حق الغير ، وهذا القول بحسب الاعتبار أقوى.

وان كان مما لا ينقل ولا يحول فان ظاهر المحقق في الشرائع إلحاق ذلك بالصورة الاولى في اشتراط الاذن ، حيث قال : ولا يجوز تسليم المشاع الا برضاء شريكه ، سواء كان مما ينقل أو لا ينقل على الأشبه.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك العدم ، حيث قال : وأما ما يكفى

٢٣٣

فيه مجرد التخلية ففي اشتراط اذنه نظر ، أقربه العدم ، لان الغرض مجرد رفع يد الراهن وتمكين المرتهن من قبضه ، وهو لا يستدعي تصرفا في ملك الغير انتهى وهو جيد.

المسألة الثالثة ـ المشهور بل ادعى عليه الشيخ الإجماع أن الرهن أمانة في يد المرتهن ، لا يضمن الا مع التفريط ، فلا يسقط بتلفه شي‌ء مع عدم التفريط.

ويدل عليه جملة من الاخبار منها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن جميل بن دراج (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في رجل رهن عند رجل رهنا فضاع الرهن قال : هو من مال الراهن ، ويرجع المرتهن عليه بماله».

وعن أبان بن عثمان (٢) «عن رجل عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل رهن عند رجل دارا فاحترقت أو انهدمت؟ قال : يكون ماله في تربة الأرض ، وقال في رجل رهن عنده مملوك فجذم أو رهن عنده متاع فلم ينشر المتاع. ولم يتعاهده ولم يتحركه فتأكل هل ينقص من ماله بقدر ذلك؟ فقال : لا».

وفي الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يرهن الرهن عند الرجل فيصيبه شي‌ء أو يضيع قال : رجع بماله عليه».

وعن عبيد بن زرارة (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل رهن سوارين فهلك أحدهما قال : يرجع عليه بحقه فيما بقي ، وقال في رجل رهن عند رجل دارا فاحترقت» الحديث. كما تقدم في مرسلة أبان بأدنى تفاوت ، وفيه «فأكل» يعني أكله السوس.

وفي الصحيح عن الفضيل بن عبد الملك (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الأخر؟ قال : نعم ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٥.

(٢ ـ ٣) التهذيب ج ٧ ص ١٧١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٧٠.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٩٩.

٢٣٤

قلت : أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال : نعم ، أو دابتين فهلكت إحداهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال : نعم ، قلت : أو متاعا فهلك من طول ما تركه ، أو طعاما ففسد أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو ثيابا تركها مطوية لم يتعاهدها ولم ينشرها حتى هلكت؟ قال : هذا نحو واحد يكون حقه عليه».

وعن أبان (١) عن رجل «عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته كيف يكون الرهن بما فيه ان كان حيوانا أو دابة أو ذهبا أو فضة أو متاعا فأصابته جائحة حريق أو لص فهلك ماله أو نقص متاعه ، وليس له على مصيبته بينة ، قال : إذا ذهب متاعه كله فلم يوجد له شي‌ء فلا شي‌ء عليه ، وان قال : ذهب من بيتي مالي وله مال فلا يصدق».

وعن إسحاق بن عمار (٢) في الموثق «عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يرتهن العبد فيصيبه عور أو ينقص من جسده شي‌ء على من يكون نقصان ذلك؟ قال : على مولاه ، قال : قلت : ان الناس يقولون ان رهنت العبد فمرض أو انفقأت عينه فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل بقدر ما ـ ينقص من العبد ، قال أرأيت لو أن العبد قتل قتيلا على من يكون جنايته؟ قال : جنايته في عنقه».

وعن إسحاق بن عمار (٣) أيضا في الموثق قال : «قلت : لأبي إبراهيم عليه‌السلام الرجل يرهن الغلام أو الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال : على مولاه ، ثم قال : أرأيت لو قتل هذا قتيلا على من يكون؟ قلت : هو في عنق العبد ، قال : ألا ترى فلم يذهب من مال هذا؟ ثم قال : أرأيت لو كان ثمنه مأة دينار فزاد وبلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟ قلت : لمولاه ، قال : وكذلك يكون عليه ما يكون له».

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٧٣ الفقيه ج ٣ ص ١٩٨.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٤ التهذيب ج ٧ ص ١٧٢.

٢٣٥

الا أن بإزاء هذه الاخبار أيضا ما يدل على خلاف ما دلت عليه وهو وجوب الضمان على المرتهن.

ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن قيس (١) في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قضى ـ أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا كان الرهن أكثر من مال المرتهن فهلك ـ ان يؤدى الفضل الى صاحب الرهن ، وان كان أقل من ماله فهلك الرهن ادى الى صاحبه فضل ماله ، وان كان الرهن يسوى ما رهنه فليس عليه شي‌ء».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن بكير (٢) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرهن؟ فقال : ان كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدى الفضل الى صاحب الرهن ، وان كان أقل من ماله فهلك الرهن أدى اليه صاحبه فضل ماله ، وان كان سواء فليس عليه شي‌ء».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة (٣) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول على عليه‌السلام في الرهن يترادان الفضل؟ قال : كان على عليه‌السلام يقول : ذلك ، قلت : كيف يترادان الفضل؟ فقال : ان كان الرهن أفضل مما رهن به ثم عطب رد المرتهن على صاحبه ، وان كان لا يساوى رد الراهن ما نقص من حق المرتهن ، قال : وكذلك كان قول على عليه‌السلام في الحيوان وغير ذلك».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن إسحاق (٤) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يرهن بمأة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فهلك ، أعلى الرجل ان يرد على صاحبه مائتي درهم؟ قال : نعم لأنه أخذ رهنا فيه فضل ـ وضيعه ، قلت :

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٩.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٤ التهذيب ج ٧ ص ١٧١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٤.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٧٢ الكافي ج ٥ ص ٢٣٤ الفقيه ج ٣ ص ١٩٩.

٢٣٦

فهلك نصف الرهن فقال : على حساب ذلك» وزاد في الكافي والفقيه «قلت : فيترادان الفضل قال : نعم».

وما رواه في الفقيه عن محمد بن حسان عن ابى حمران الأرمني (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل رهن عند رجل على ألف درهم ، والرهن يساوي ألفين فضاع فقال : يرجع عليه بفضل ما رهنه ، وان كان انقص مما رهنه عليه رجع على الراهن بالفضل ، وان كان الرهن يساوى ما رهنه عليه فالرهن بما فيه». قيل :

ويعنى قوله «والرهن بما فيه» انه يحسب الرهن من دينه ويرجع بالباقي. أقول : وهو معنى صحيح في حد ذاته ، الا أنه بعيد عن ظاهر اللفظ المذكور وجمع الشيخ (رحمة الله عليه) بين هذا الاخبار بحمل الأخبار الأولة على عدم التفريط ، والأخيرة على التفريط استنادا الى ما رواه

في الكافي عن أبان (٢) عمن أخبره عن أبى عبد الله عليه‌السلام وفي الفقيه والتهذيب عن أبان عن أبى عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في الرهن إذا ضاع عند المرتهن من غير أن يستهلكه : رجع في حقه على الراهن فأخذه فإن استهلكه ترادا الفضل فيما بينهما».

أقول : ويشير الى ذلك أيضا قوله عليه‌السلام ، في رواية إسحاق الأخيرة «لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعة».

وعلى ذلك أيضا يحمل ما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان بن خالد (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا ارتهنت عبدا أو دابة فماتا فلا شي‌ء عليك ، وان هلكت الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن».

فإنه لا بد من حمل هلاك الدابة وإباق الغلام على التفريط ، والا يحصل التنافي بين صدر الخبر وعجزه.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٩٦.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٤ التهذيب ج ٧ ص ١٧٢ الفقيه ج ٣ ص ١٩٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٧٣ الكافي ج ٥ ص ٢٣٦.

٢٣٧

قال الشيخ بعد نقل الخبر المذكور : المعنى فيه أن يكون سبب هلاكها أو سبب إباق الغلام شيئا من جهة المرتهن ، فاما إذا لم يكن كذلك فلا يلزمه شي‌ء ، وكان حكمه حكم الموت سواء انتهى.

واحتمل بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين حمل الأخبار الأخيرة على التقية ، قال : فقد روى العامة عن الشعبي وشريح والحسن (١) ذهبت الرهانة بما فيها ويدل عليه خبر أبان أيضا انتهى.

أقول نقل العلامة في التذكرة القول بما عليه الأصحاب عن عطاء ، والزهري ، والأوزاعي والشافعي ، وأبى ثور وأحمد وابن المنذر ، ونقل عن شريح والنخعي والحسن البصري ، أن الرهن يضمن بجميع الدين ، وان كان أكثر من قيمته ، ونقل عن الثوري وأصحاب الرأي أنه يضمنه المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين ، فان كانت قيمته أقل سقط بتلفه من الدين قدر قيمته ، والا سقط الدين ، فلا يضمن الزيادة انتهى.

وأنت خبير بان ثبوت التقية انما يتم على قول شريح ومن معه ، وهو أشد الأقوال الثلاثة فإن ظاهر المشهور عندهم موافق لما عليه الأصحاب ، وقول أبي حنيفة وأتباعه وهم المشار إليهم بأصحاب الرأي لا ينطبق عليه الاخبار المذكورة ، لأنها دلت على أن المرتهن يضمن الزيادة لو كان الرهن أكثر ، وهم ينفون ذلك ، والحمل على التقية باعتبار هؤلاء الثلاثة بعيد.

الا أنه ربما يمكن تأييده بما تقدم في موثقة إسحاق بن عمار من قوله ، قال : «قلت : أن الناس يقولون : ان رهنت العبد فمرض أو أنفقا عينه فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل بقد ما ينقص من العبد».

ويؤيده أن جل الاختلاف في الاخبار انما نشأ من التقية ، ولا ينافيه التفصيل الذي دلت عليه مرسلة أبان المتقدمة ونحوها ، فإنه يجوز أن يكون الحكم الشرعي هو التفصيل الذي دلت عليه ، وان كان إطلاق هذه الاخبار انما خرج مخرج التقية.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٣٩.

٢٣٨

وأما قول شيخنا المشار اليه ويدل عليه خبر أبان أيضا فلا أعرف له وجها ، فان خبر أبان دل على التفصيل بالتفريط وعدمه ، كما هو المعمول عليه بين الأصحاب ، ولا دلالة فيه على أزيد من ذلك.

بقي الإشكال فيما قدمنا من الاخبار في مقامين ، أحدهما : ما دل عليه جملة منها كصحيحة الفضل بن عبد الملك ورواية عبيد بن زرارة ، ومرسلة أبان ـ من عدم ضمان المتاع إذا لم ينشره ولم يتعاهده ، ولم يتحركه حتى تأكل وهلك ، وان كان بذلك أفتى الصدوق في المقنع ، فقال : ان رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع ، ولم يخرجه ولم يتعهده ، ففسد فان ذلك لا ينقص من ماله شيئا انتهى وهو مشكل.

فإنك قد عرفت أن الرهن في يده أمانة مضمونة مع التفريط ، ومن الظاهر ان ترك المتاع الذي يتوقف حفظه وسلامته على النشر والتعاهد بغير نشر ولا تعاهد تفريط ، ولهذا قال العلامة في المختلف ـ بعد نقل عبارة المقنع : والأقرب أن على المرتهن الضمان ، لان ترك نشر الثوب المفتقر الى نشره يكون تفريطا ، والمفرط ضامن انتهى.

وكأنه (قدس‌سره) لم يخطر بباله الأخبار المذكورة التي هي مستند الصدوق في هذه الفتوى ، والا لكان الواجب عليه الجواب عنها ، ويمكن ـ وان بعد ـ حملها على عدم علمه بوصول الضرر الى المتاع مع بقائه على تلك الحال.

وثانيهما : ما دلت عليه مرسلة أبان الثانية من عدم تصديق المرتهن إذا ادعى ذهاب الرهن وحده ، فإنه مخالف لمقتضى القواعد المعمول عليه بين الأصحاب أيضا ، حيث أن المرتهن أمين كما عرفت ، والأمين مصدق بيمينه.

وبمضمون هذه الرواية أفتى ابن الجنيد ، فقال : والمرتهن يصدق في ضياع الرهن إذا كانت جائحة ظاهرة ، أو إذا ذهب متاعه ، والمرهون فان ادعى ذهاب الرهن وحده لم يصدق.

ورده العلامة في المختلف بما ذكرناه ، فقال : لنا انه أمين والقول قوله مع اليمين ، ونقل عنه الاحتجاج بأن دعواه ذهاب الرهن بخصوصه خلاف الظاهر وبالرواية ، ثم رد الأول بالمنع ، والرواية بالإرسال ، وأن في أبان قولا ، وهذا الجواب

٢٣٩

عندنا غير حاسم لمادة الاشكال ، ولا يحضرني الآن وجه تحمل الرواية عليه ، الا أن يكون للتقية ، ويمكن تأييده بذهاب ابن الجنيد الموافق للعامة غالبا في كثير من فتاويه الى ذلك ، والله العالم.

المسألة الرابعة : المشهور بين الأصحاب أن فوائد الرهن وزوائده المتجددة بعد الرهن ان كانت منفصلة كالولد والثمرة بعد الجذاذ أو يقبل الانفصال كالشعر والصوف والثمرة قبل الجذاذ ، فإنها تدخل في الرهن ، وبه قال الشيخ في النهاية والشيخ المفيد وابن الجنيد وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس مدعيا عليه الإجماع ، وقبله المرتضى على ما نقله عنه في الكفاية.

واما المتصلة اتصالا لا يقبل الانفصال كالسمن والطول فإنه لا خلاف بينهم في دخولها ، وانما الخلاف فيما عداه مما ذكرناه ، فإنه قد ذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط الى عدم الدخول ، واختاره العلامة وولده فخر المحققين والمحقق الشيخ على.

احتج الأولون بالإجماع المنقول بخبر الواحد ، وان النماء من شأنه تبعية الأصل في الحكم كما يتبع ولد المدبرة لها فيه ، واحتج الآخرون بأصالة العدم وبأن الأصل في الملك ان يتصرف فيه مالكه كيف شاء خرج منه الأصل بوقوع الرهن عليه.

واحتج العلامة في المختلف بما رواه السكوني (١) في الموثق «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الظهر يركب إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب نفقته ، والدر يشرب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يشرب نفقته». قال : فأثبت عليه‌السلام منفعة الحلب والركوب ، وليس ذلك للمرتهن إجماعا ولانتفاء ملكه ويبقى أن يكون للراهن.

وعن إسحاق بن عمار (٢) في الصحيح عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : «فان رهن

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٧٦.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٥ التهذيب ج ٧ ص ١٧٣.

٢٤٠