الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

بعدمه ، وربما يفهم من مثل هذا التشنيع من العلامة هنا ومثله ما وقع في كلام شيخنا المفيد في مقام الرد على الصدوق ـ في مسألة نفى السهو عن المعصوم ، وفي شرح الاعتقادات ومثلهما غيرهما أيضا من المتأخرين ـ جواز الغيبة واستثنائها من التحريم المتفق عليه في مثل هذه المواضع ، والا فالأمر مشكل ، فان جلالة مثل هؤلاء المشايخ وعدالتهم وورعهم وتقواهم الظاهر كالشمس في رابعة النهار ، يمنع من قدومهم على هذا الأمر المتفق على تحريمه نصا وفتوى ، وان كانوا لم يصرحوا بذلك في مستثنيات الغيبة. والله سبحانه العالم.

تذنيب : قال في المختلف : قال ابن إدريس : الدين المؤجل لا يجوز بيعه على غير من هو عليه بلا خلاف ، والوجه عندي الكراهة ، للأصل الدال على الجواز والإجماع ممنوع ، وأما ان كان حالا لم يجز بيعه بدين آخر مثله ، وهل يجوز بيعه نسيئة؟ قال في النهاية : يكره ذلك مع أنه منع من بيعه بدين آخر مثله ، وقال ابن إدريس : لا يجوز بيعه نسيئة ، بل هو حرام محظور ، لانه بعينه بيع الدين بالدين ، وهو حسن انتهى.

أقول : قد تقدم في مباحث الفصل الثاني في السلف ما يتعلق بهذا المقام ويأتي إنشاء الله تعالى في بعض مسائل هذا الكتاب ما فيه كفاية لذوي الأفهام.

المسألة الثالثة ـ قال الشيخ في النهاية : إذا رأى صاحب الدين المديون في الحرم لم يجز له مطالبته فيه ولا ملازمته ، بل ينبغي أن يتركه حتى يخرج من الحرم ، ثم يطالبه كيف شاء.

وقال على بن بابويه على ما نقله عنه العلامة في المختلف والشهيد في الدروس : إذا كان لك على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا تطالبه ، ولا تسلم عليه ، فتفزعه الا أن يكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس بأن تطالبه به في الحرم.

وقال ابن إدريس : قول الشيخ محمول على أن صاحب الدين طالب المديون خارج الحرم ، ثم هرب منه فالتجأ الى الحرم ، فلا يجوز لصاحب الدين مطالبته ولا إفزاعه ، فأما إذا لم يهرب الى الحرم ولا التجأ اليه خوفا من المطالبة بل وجده

١٦١

في الحرم وهو ملي‌ء بماله موسر بدينه ، فله مطالبته وملازمته ، وقول ابن بابويه ـ الا ان يكون أعطيته حقك في الحرم فلك أن تطالبه في الحرم ـ يلوح ما ذكرناه ، ولو كان ما روى صحيحا لورد ورود أمثاله متواترا ، والصحابة والتابعون والمسلمون في جميع الأمصار يتحاكمون الى الحكام في الحرم ، ويطالبون الغرماء بالديون ، ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء الى عصرنا هذا من غير تناكر منهم في ذلك ، والإنسان مسلط على أخذ ماله ، والمطالبة عقلا وشرعا.

وقال العلامة في المختلف : والأقرب عندي كراهة ذلك على تقدير الإدانة خارج الحرم ، دون التحريم ، عملا بالأصل والإباحة مطلقا على تقدير الإدانة في الحرم ، وبما ذهب اليه الشيخ في النهاية من التحريم صرح ابن إدريس وأبو الصلاح ، إلا أنهما أضافا إلى الحرم مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومشاهد الأئمة (عليهم‌السلام).

أقول : أما ما ذهب اليه الشيخ من التحريم في الحرم فيدل عليه موثق سماعة (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل لي عليه مال فغاب عنى زمانا فرأيته يطوف حول الكعبة ، فأتقاضاه؟ قال : فقال : لا تسلم عليه ولا تروعه حتى يخرج من الحرم». وظاهر العلامة الاستدلال بهذه الرواية على الكراهة كما اختاره.

وفيه أن النهى حقيقة في التحريم كما صرح به هو وغيره في الأصول ، والحمل على خلافه يحتاج إلى قرينة ، وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه فهو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي على النهج الذي كررنا ذكره في كتب العبادات ، حيث إنه (٢) قال (عليه‌السلام) «ان كان لك على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا تطالبه ، ولا تسلم عليه فتفزعه ، الا أن تكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس أن تطالبه في الحرم».

وهي عين عبارة الشيخ المذكور ، كما قدمنا ذكره في جملة من المواضع ، سيما في كتب العبادات في إفتاء الشيخ المذكور في رسالة الى ابنه بعبارات الكتاب ،

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩٤.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٣.

١٦٢

ونحوه ابنه الصدوق في الفقيه ، كما تقدم التنبيه عليه في الكتب المذكورة ، ومن ثم اعتمدنا على الكتاب المذكور لاعتماد هذين العمدتين عليه.

وأنت خبير بأنه لا منافاة بين الخبرين ، فان الخبرين متفقان على أن تحريم المطالبة انما هو في صورة ما إذا كان الدين خارج الحرم ، ثم انه وجده في الحرم ، وأما لو كانت الاستدانة في الحرم فحكمها في موثق سماعة غير مذكور ، إذ مورده ظاهرا انما هو ما قلناه ، فاشتمال رواية الكتاب المذكور على حكم الاستدانة في الحرم لا معارض لها ، فيجب العمل بها كما عمل بها الشيخ المذكور.

وقال المحدث الكاشاني (رحمه‌الله عليه) في المفاتيح في ضمن عد جملة من المستحبات : وأن لا يطالبه في الحرم ، بل لا يسلم عليه ، ولا يروعه حتى يخرج ، كذا في الخبر ، أما لو التجأ المديون اليه لم يجز مطالبته فيه ، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب ، الى أن يخرج ، لقوله تعالى (١) «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» كذا قالوه انتهى.

أقول : ما نقله عنهم من الكلام الأخير لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم في الدين. نعم ذلك في الجناية كما وردت به الأخبار ، وصرح به الأصحاب.

وأما ما ذكره ابن إدريس وطول به من الكلام فهو نفخ في غير ضرام ، وأى موجب لتأويل كلام الشيخ مع وجود الرواية به ، وأي منافاة في الخبر المذكور مع ما علم من اختصاص الحرم بأحكام عديدة لا يشاركه غيره فيها ، فتخصص به العمومات ، وهذا من جملتها. ثم من الذي اشترط في الاخبار ـ الواردة في الأحكام ـ ورودها متواترة في كل حكم حكم ، وجزئي جزئي حتى أنه يرد هذه الرواية لعدم كونها كذلك.

ثم أى دليل فيما احتج به من فعل الصحابة والتابعين ومن بعدهم الى يومه ، والجميع انما هم من قضاة المخالفين ، وعلمائهم ـ الذين نسبهم إلى الإسلام هنا ـ

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ـ ٩٧.

١٦٣

مع قوله بكفرهم ونجاستهم ونحو ذلك مما تقدم في كتب العبادات ، وهل يدعي أحد أنه منذ وقت موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى يومنا هذا صار للشيعة حكم وقضاة ، يحكمون ويقضون في الحرم أو غيره ، يحسبون ونحو ذلك مما ذكره حتى أنه يمكنه الاحتجاج بما ذكره ، ما هذا الا تحكمات باردة ، وتمحلات شاردة.

والعجب منه عفى الله تعالى عنه في رده هذا الاخبار وأمثالها ، وتكذيبه بها مع ما استفاض عنهم عليهم‌السلام من النهى عن التكذيب بما جاء عنهم ولو جاء به خارجي أو قدري ، وأن ما رانت له قلوبكم فاقبلوه ، وما اشمأزت منه فردوه إلينا ، ما هذه الا جرءة زائدة من هذا الفاضل النحرير ، وخروج عن الدين من حيث لا يشعر صاحبه نسأل الله ـ تعالى ـ المسامحة لنا وله من هفوات الأقلام ، وزلات الاقدام.

وأما ما ذكره العلامة من التفصيل ـ تبعا لابن بابويه لكنه حكم بالكراهة فيما حكم به ابن بابويه بالتحريم ـ ففيه ما عرفت من أن ظاهر الرواية هو التحريم ، وحمله لها على الكراهة يحتاج الى دليل.

والاستناد الى الأصل في مقابلة الخبر الذي ظاهره التحريم غير مسموع ، هذا بالنسبة إلى الاستدانة خارج الحرم ، وأما مع وقوعها في الحرم فجيد ، لما عرفت من كلام الرضا عليه‌السلام في الكتاب المتقدم ، والأنسب له هنا الاستناد الى الأصل ، فإنه في محله ، وتخرج الرواية المذكورة شاهدة على ذلك.

وأما إضافة مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمشاهد المقدسة إلى الحرم كما ذكره الفاضلان المتقدمان فلم نقف له على مستند ، وكأنهما لاحظا اشتراك الجميع في شرف المكان ، وهو قياس محض والله العالم.

المسألة الرابعة ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه بموت ـ المديون تحل ديونه المؤجلة ، وانما الخلاف في الحل بموت الغريم ، فذهب جماعة منهم الشيخ في النهاية وأبو الصلاح وابن البراج والطبرسي الى ذلك.

والمشهور وهو قول الشيخ في الخلاف ، والمبسوط خلافه ، وعلل الأول بأن بقاء الدين على الميت بعد موته لا معنى له ، ومعلوم أنه لم ينتقل إلى ذمة الورثة ،

١٦٤

للأصل (١) ، ولعدم تكليف أحد بفعل غيره ، وعلل الثاني بأن المال كان مؤجلا وانتقل الى الوارث ، وينبغي أن يكون كما كان ، لعدم لزوم شي‌ء على أحد بموت غيره ، وللاستصحاب.

والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام ما رواه في الكافي مسندا عن أبى بصير (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام والصدوق في الفقيه مرسلا «قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا مات الرجل حل ماله ، وما عليه من الدين».

وما رواه في التهذيب والفقيه عن السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه ع «أنه قال : إذا كان على رجل دين إلى أجل ومات الرجل حل الدين».

وما رواه في التهذيب عن الحسين بن سعيد (٤) في الصحيح قال : «سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ، ثم مات المستقرض أيحل مال القارض عند موت المستقرض منه ، أو للورثة من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال : إذا مات فقد حل مال القارض».

والقائلون بالحلول بموت الغريم استندوا إلى رواية أبي بصير المذكورة ، وظاهر الصدوق بناء على قاعدته المذكورة في صدر كتابه القول بذلك أيضا ، ولكن لم أطلع على من نقله عنه ، الا أنه لازم مما ذكرناه ، حيث أنهم يستندون المذهب إليه في هذا الكتاب بما ذكرناه ، وغاية ما أجاب به المتأخرون عن الخبر المذكور

__________________

(١) أقول : والأظهر تعليله بأن الحق لا ينتقل من شخص الى آخر الا برضاء صاحب الحق فلا ينتقل إلى ذمة الوارث بمجرد موت المورث وأظهر في الدلالة قوله سبحانه «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» تمنع الورثة من التصرف في التركة إلا بعد أداء الدين ومحل المسألة داخل تحت إطلاق الآية كما لا يخفى والعمدة مع ذلك ـ الأخبار المذكورة مضافا الى الاتفاق على الحكم. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٩٩ الفقيه ج ٣ ص ١١٦.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ١٩٠ الفقيه ج ٣ ص ١١٦.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ١٩٠.

١٦٥

هو رده بضعف السند ، كما ذكره جملة منهم ، وهو مشكل عند من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، سيما ان الخبر من مرويات الفقيه التي يعتمدونها في غير مقام.

وحمله بعض الأفاضل ـ (١) في حواشيه على كتاب الفقيه ـ على سائر الحقوق غير الدين ، مثل العمرى الموقت بحياته ، والإجارة ، والعارية ، والشركة ، والقراض ، والأمانات ، قال : ومعنى حلولها انتهاء العقد ، فيلزم تسليمها إلى الورثة ، أو تسليم العقد انتهى.

ولا يخفى ما فيه من البعد عن الظاهر ، فان الخبر مصرح بالدين ، فكيف يحمل على غير الدين ، ومع قطع النظر عن ذلك فهو ظاهر في مساواة ماله لما عليه ، مع اتفاقهم على الحلول فيما عليه من الدين ، فيكون ماله كذلك.

وبالجملة فإن الخبر لا معارض له الا ما تقدم من التعليلات العقلية الراجعة إلى الاستصحاب ، وفيها ما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب ، والحكم لذلك موضع اشكال والله العالم.

تذنيب : قال المرتضى رضى الله عنه في المسائل الناصرية : هذه المسألة ـ وأشار بها الى أن الدين المؤجل لا يصير حالا بموت من عليه الدين ـ لا أعرف إلى الان لأصحابنا فيها نصا معينا فأحكيه ، وفقهاء الأمصار كلهم يذهبون الى أن الدين المؤجل يصير حالا بموت من عليه ، ويقوى في نفسي ما ذهب اليه الفقهاء ، ويمكن أن يستدل عليه بقوله ـ تعالى (٢) «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» علق القسمة بقضاء الدين ، فلو أخرت تضررت الورثة ، ولانه يلزم انتقال الحق من ذمة الميت إلى ذمة الورثة ، والحق لا ينتقل الا برضاء من له انتهى.

وليت شعري كيف غفل عن الروايات الواردة في المسألة ، ولكنه قليل

__________________

(١) هو الفاضل الشيخ محمد بن الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني «قدس الله أرواحهم» منه رحمه‌الله.

(٢) سورة النساء الآية ـ ١١.

١٦٦

المراجعة للاخبار ، كما لا يخفى على من له أنس بطريقته (رضى الله عنه) وقاعدته.

المسألة الخامسة : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز اقتضاء الدين من أثمان المحرمات على المسلم ، إذا كان المديون البائع ذميا مستترا ، والتقييد بالذمي لإخراج الحربي ، إذ لا يجوز أخذ ثمن ذلك منه ، لعدم إقرار الشريعة له على ذلك ، والمسلم لعدم جواز بيعه وبطلانه ، وبالاستتار الاحتراز عما لو تظاهر به ، فإنه لا يجوز أخذ ذلك لما ذكر ، فان من شرائط الذمة عدم التظاهر بأمثال ذلك.

والواجب أولا ذكر ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام فيها بما يسر الله سبحانه فهمه منها.

ومن الاخبار المذكورة ما رواه ثقة الإسلام والشيخ (عطر الله مرقديهما) عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام ورواه الشيخ أيضا في التهذيب بسند آخر عن داود بن سرحان (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا أو خنازير وهو ينظر اليه فقضاه؟ قال : لا بأس به ، أما للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام».

وما رواه في الكافي عن زرارة (٣) في الصحيح عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا أو خنزيرا ثم يقضى عنها فقال : لا بأس أو قال : خذها».

وما رواه الشيخ عن محمد بن يحيى الخثعمي (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر والخنازير فيقضينا فقال : لا بأس به ليس عليك من ذلك بأس.

وعن أبى بصير (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا أو خنازير يأخذ ثمنه قال لا بأس».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣١.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٩٥.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣٢.

(٤ ـ ٥) التهذيب ج ٧ ص ١٣٧.

١٦٧

وما رواه في الكافي عن منصور (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : لي على رجل ذمي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر فهل لي أن آخذها؟ فقال : انما عليه دراهم فقضاك دراهمك».

وأنت خبير بأن إطلاق الروايات الأربع المتقدمة ظاهر في حل أخذ ذلك ولو من المسلم ، إذ لا تقييد فيها بالذمي ، ولا قائل به فيما أعلم إلا ما يظهر عن صاحب الكفاية ، حيث قال : قال بعضهم : ولو كان البائع مسلما لم يجز ، وهو مناف لإطلاق أخبار كثيرة ، فالحكم به مشكل ، الا أن يكون المقصود المنع بالنسبة إلى البائع انتهى ملخصا.

أقول : ويمكن تأييد ما ذكره من حمل المنع على البائع خاصة ، وان جاز لصاحب الطلب أخذه بقوله عليه‌السلام أما للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام ، الا أنه لا يخلو من الإشكال أيضا ، فإن تحريمه على البائع يوجب رده على مالكه ، لبطلان البيع فكيف يكون حلالا على المقتضى.

ومما يؤيد ما دل عليه ظاهر إطلاق الاخبار المذكورة ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) عن أبى جعفر عليه‌السلام «في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصره خمرا ثم باعه قال : لا يصلح ثمنه ، ثم قال : ان رجلا من ثقيف اهدى الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايتين من خمر بعد ما حرمت فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأهريقتا وقال : ان الذي حرم شربها قد حرم ثمنها ، ثم قال : أبو عبد الله عليه‌السلام ان أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها».

وما رواه في الكافي عن أبي أيوب الخراز (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٣٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٣١.

١٦٨

: رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا فباعه خمرا ثم أتاه بثمنه؟ فقال : ان أحب الأشياء الى أن يتصدق بثمنه».

والأمر بالتصدق في هذين الخبرين مع بطلان البيع وتحريم الثمن الموجب لرده على صاحبه لا يجتمعان ، الا أن يحمل على عدم معرفة المشتري ، أو عدم إمكان تحصيله ، وهو غاية البعد.

وبالجملة فإن ظاهر الخبرين مشعر بالحل في هذه الصورة واليه يميل كلام بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين (١) حيث قال : ولا يبعد القول بكون البائع مالكا للثمن ، لأنه أعطاه المشترى باختياره وان كان فعل فعلا حراما ، ثم قال : المقطوع به في كلام الأصحاب وجوب الرد انتهى.

ويمكن تأييده أيضا بما رواه في الكافي عن يونس (٢) «في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمى ثم أسلم قبل أن يحل المال؟ قال : له دراهمه ، وقال : ان أسلم رجل وله خمر وخنازير ثم مات وهي في ملكه وعليه دين قال : يبيع ديانه أو ولى له غير مسلم خمره وخنازيره ويقضى دينه ، وليس له أن يبيعه وهو حي ولا يمسكه». الا أن الاخبار متظافرة بتحريم بيع الخمر والخنازير كما تقدم شطر منها في المقدمة الثالثة ، وان ذلك من السحت ، ومن الممكن وان كان لا يخلو عن بعد تقييد هذه الاخبار بالذمي كما اشتمل عليه الخبر الأخير.

لكن يبقى الإشكال أيضا عن وجهين أحدهما ما اشتمل عليه بعضها صريحا وبعضها ظاهرا من حضور المسلم البيع ، مع ان الأصحاب قيدوا الجواز بالتستر كما عرفت ، وصرحوا بالعدم مع عدمه ، والحمل على أن الذمي يبيع في بيته أو نحوه من الأماكن المستورة ، وان اطلع عليه صاحب الطلب من حيث لا يشعر به بعيد غاية البعد ، أو يقال : بعدم كون التستر مشروطا عليهم في الذمة ، ولعله الأقرب وان كان خلاف ما

__________________

(١) هو شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في حواشيته على كتب الاخبار ـ منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٣٢.

١٦٩

عليه ظاهر الأصحاب فإن الذي وقفت عليه في الاخبار بالنسبة إلى شرائط الذمة خال من ذلك ، بل من أكثر الشروط التي ذكرها الأصحاب رضوان الله عليهم (١).

وثانيا ما اشتمل عليه الخبر الأول من قوله «أما للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام» والظاهر أنه لا اشكال فيه بعد حمل الخبر على أهل الذمة ، لما ورد في أخبار أخذ الجزية مع التصريح بحل أخذها من ثمن خمورهم وخنازيرهم ، كما في

صحيحة محمد بن مسلم (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «حيث قال : فيها عليهم الجزية في أموالهم ، تؤخذ منهم من ثمن لحم الخنزير أو الخمر ، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم ، وثمنه للمسلمين حلال ، ويأخذونه في جزيتهم».

ونحوه روى شيخنا المفيد في المقنعة عن محمد بن مسلم (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

وظاهر هذين الخبرين هو عدم التستر ايضا ، واحتمال كون المراد ذلك بحسب الواقع مع عدم علم المسلمين الظاهر بعده ، وبذلك يظهر ما في توقف بعض (٤)

__________________

(١) ومنه ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت ، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمة الله وذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : وليست لهم اليوم ذمة ، وزاد في خبر آخر على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا ، ولم أقف على غير هذين الخبر بعد التتبع والله العالم ـ منه رحمه‌الله.

(٢ ـ ٣) الوسائل الباب ـ ٧٠ ـ من أبواب كتاب الجهاد.

(٤) وهو المحقق الأردبيلي قدس‌سره حيث قال بعد ذكر رواية المشار إليها أن فيها تأملا لأنه إن حملت على كون البائع مسلما ، فظاهر الأصحاب وبعض الاخبار عدم جواز الأخذ ، وان حملت على الذمي فقوله للبائع حرام محل التأمل ، إذ يجوز له ذلك خاصة الا أن يحمل على الإظهار كما هو الظاهر ، ولو سلم تحريمه للبائع حينئذ فكونه حراما للقابض مشكل ، وبالجملة هذا لا يخلو عن اشكال انتهى أقول : وبما ذكرناه وأوضحناه فلا اشكال بحمد الله سبحانه في هذا المجال ـ منه رحمه‌الله.

١٧٠

المحققين في تحريمه على البائع وحله للقابض ـ مع تسليمه حمل الخبر على الذمي فإنه لا وجه له بعد تصريح هذه الاخبار بذلك ، والفرق بين الجزية وقضاء الدين غير ظاهر.

وكيف كان فان القول المشهور هو الأوفق بالاحتياط المطلوب في الدين ، كما لا يخفى على الحاذق المكين ، فيتعين حمل إطلاق الاخبار المتقدمة على أهل الذمة وارتكاب جواز ذلك للمسلم مع استفاضة الأخبار بتحريم ذلك عليه ، وبطلان بيعه مضافا الى اتفاق الأصحاب على ذلك لا يخلو من شناعة ، وحينئذ فلا يلتفت الى ما ذكره أولئك الفضلاء المشار إليهم آنفا والله العالم.

المسألة السادسة ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه إذا كان لاثنين فصاعدا مال في ذمم غيرهم وأرادوا قسمته ، فإنه لا تصح ما لم يقبض ، ولو اقتسموا والحال كذلك لم يصح ، بل يكون كل ما خرج فهو على الشركة ، وما توى على الجميع.

ويدل على ذلك جملة من الاخبار منها ما رواه الشيخ في الصحيح عن سليمان بن خالد (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين كان لهما مال بأيديهما ومنه متفرق عنهما ، فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما ، وما كان غائبا عنهما ، فهلك نصيب أحدهما مما كان غائبا ، واستوفى الآخر عليه أن يرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله». ورواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان عن سليمان بن خالد (٢) مثله.

وعن عبد الله بن سنان (٣) في الموثق عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين ، فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر أيرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله».

__________________

(١ ـ ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٧ الفقيه ج ٣ ص ٢٣.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٨٦.

١٧١

وعن أبي حمزة (١) قال : سئل أبو جعفر (عليه‌السلام) عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كل واحد منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الأخر ، قال : ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بينهما».

نعم روى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن (٢) عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : «سألته عن رجلين اشتركا في السلم أيصلح لهما أن يقتسما قبل أن يقبضا قال : لا بأس». وحمل على الجواز دون اللزوم.

وبما ذكرنا من الاخبار الصريحة الدلالة على القول المذكور يظهر لك ما في كلام المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا من القصور ، حيث انه لم يقف في المقام الا على رواية غياث المذكورة ، فقال بعد ذكر كلام الأصحاب : ما لفظه الحكم مشهور بينهم ، ومستندهم رواية غياث ثم ساق الرواية الى أن قال : والشهرة ليست بحجة ، وابن إدريس مخالف ، ونقل عنه ان لكل واحد ما اقتضى كما هو مقتضى القسمة ، والمستند غير معتبر ، لوجود غياث كأنه ابن إبراهيم البتري ، وأدلة لزوم الشرط تقتضيه ، وكذا التسلط على مال نفسه ، وجواز الأكل مع التراضي والتعيين التام ليس بمعتبر في القسمة ، بل يكفي في الجملة كما في المعاوضات ، فإنه يجوز البيع ونحوه ، ولان الدين المشترك بمنزلة دينين لشخصين ، وللمالك ان يخص أحدهما دون الأخر ، فلو كان قابل بتخصيص كل واحد قبل القسمة بحصة لأمكن ذلك أيضا ، فإن الثابت في الذمة أمر كلي قابل للقسمة ، وانما يتعين بتعيين المالك فله ان يعين ، ولكن الظاهر انه لا قائل به قبل القسمة ، وبعدها القول به نادر من غير دليل ، والشهرة مع الخبر المجبور بها يمنع ذلك ، ويؤيد بالاستصحاب

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الدين الرقم ـ ٢.

١٧٢

والاحتياط فتأمل انتهى.

وليت شعري كيف ذهب عليه الوقوف على هذه الاخبار مع تعددها ـ وروايتها في الأصول متكثر الطرق ـ حتى ارتكب ما ارتكب من هذه التمحلات ـ التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ـ وتجاوز ذلك الى احتمال القول بتخصيص كل واحد قبل القسمة بحصة ، ولم يمنعه منه الا عدم وجود القائل ، والكل كما عرفت نفخ في غير ضرام ، كما لا يخفى على من وقف على ما نقلناه من أخبارهم عليهم‌السلام.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : والحيلة في تصحيح ذلك أن يحيل كل منهما صاحبه بحصته التي يريد إعطائها صاحبه ، ويقبل الآخر بناء على صحة الحوالة ممن ليس في ذمته دين ، فلو فرض سبق دين له عليه فلا إشكال في الصحة ، ولو اصطلحا على ما في الذمم بعضها ببعض فقد قرب في الدروس صحته ، وهو حسن بناء على أصالته انتهى.

أقول : ما ذكره من الحيلة ـ في تصحيح ذلك بالحوالة ـ فيه أن رواية أبي حمزة ورواية غياث ظاهرتان في عدم صحتها ، وأنها لا تفيد فائدة ، بل الواجب هو اقتسام ما خرج وما ذهب فهو على الجميع ، ويمكن بناؤه على ما ذكره من عدم صحة الحوالة ممن ليس في ذمته دين ، فيكون الخبران المذكوران حجة لذلك ، وأما ما ذكره من الصلح فالظاهر صحته لعموم أدلة الصلح.

ويؤيده ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح أو الحسن عن أحدهما عليهما‌السلام «أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما : لك ما عندك ولي ما عندي قال : لا بأس إذا تراضيا ، وطابت أنفسهما».

ومن هذه الرواية وأمثالها يظهر أن الصلح عقد برأسه ، لا متفرع على البيع كما أشار إليه ، لعدم صحة البيع في الصورة المذكورة ، والرواية المذكورة وان لم تكن من محل البحث ، الا أن صحة الصلح على هذه الكيفية مستلزمة للصحة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٥٨.

١٧٣

فيما نحن فيه ، فإنه إذا جاز مع هذه الجهالة التامة ففيما نحن فيه اولى ، والجميع مشترك في كون المال في الذمم والله العالم.

المسألة السابعة ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو دفع المديون عروضا عما في ذمته من غير مساعرة ، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القبض ، لأنه إنما دفعها عوضا عما في ذمته ، والظاهر أنها تدخل في ملك الغريم بمجرد القبض ، وان لم تحصل المساعرة.

ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (١) قال : «كتبت إليه في رجل كان له على رجل مال فلما حل عليه المال أعطاه بها طعاما أو قطنا أو زعفرانا ولم يقاطعه على السعر ، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الزعفران والطعام والقطن أو نقص بأي السعرين يحسبه؟ قال : لصاحب الدين (٢) سعر يومه الذي أعطاه وحل ماله عليه ، أو يوم حاسبه؟ فوقع عليه‌السلام ليس له الا على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام إنشاء الله ، قال : وكتبت اليه الرجل استأجر أجيرا ليعمل له بناء أو غيره من الأعمال وجعل يعطيه طعاما وقطنا أو غيرهما ثم يتغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة ، أفيحتسب له بسعره يوم أعطاه أو بسعر يوم شارطه؟ فوقع عليه‌السلام يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه ان شاء الله».

وروى في الكافي عن محمد بن يحيى (٣) في الصحيح قال : «كتب محمد بن الحسن الى أبى محمد عليه‌السلام رجل استأجر أجيرا يعمل له بناء وغيره وجعل يعطيه طعاما وقطنا أو غير ذلك ثم تغير الطعام والقطن من سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة أفيحتسب له بسعره يوم أعطاه أو سعر يوم شارطه؟ فوقع عليه‌السلام : يحسب له بسعر يوم شارطه فيه إنشاء الله ، وأجاب عليه‌السلام في المال

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩٦.

(٢) الظاهر زيادة لفظة قال.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٨١ مع اختلاف يسير.

١٧٤

يحل على الرجل فيعطى به طعاما عند محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر ، فوقع عليه‌السلام : له سعر يوم أعطاه الطعام». والخبران صريحان في المدعى بالنسبة إلى محل المسألة.

وأما بالنسبة إلى الأجرة وقوله عليه‌السلام بسعر يوم شارطه فلا يخلو من اشتباه وخفاء ، والأظهر عندي رجوعه الى يوم القبض ايضا ، كما في السؤال الأخر وتوضيحه أنه لا ريب أنه بالاستيجار يستحق الأجرة وان توقف وجوب الدفع على العمل ، وحينئذ فإذا دفع عروضا في ذلك الوقت انتقل اليه بالملك ، وصار عوضا عن أجرته كما أنه بالحلول ـ في السؤال الآخر ـ يستحق المال ، وكل ما يدفع اليه من العروض فإنه يملكه عوضا عما في ذمة المستدين ، وحينئذ فيعتبر في كلا المسألتين قيمة ذلك الوقت الذي دخل فيه في ملك القابض ، فكأنه بمنزلة نقد دفعه إليه في ذلك الوقت ، ولا ينافيه حصول مدة مثلا لو فرض بين يوم الإجارة ويوم القبض ، لان ظاهر الخبر أن السعر واحد في ذلك المدة ، وانما تغير بعد تمام القبض ، كما يشير اليه قوله في أحد الخبرين «بعد شهرين أو ثلاثة» يعنى من وقت القبض.

وحينئذ فلا منافاة في إطلاق سعر يوم الشرط على يوم القبض ، فإنه مبنى على عدم الفاصلة المعتد بها على استمرار القيمة وامتدادها ، وأنه لم يحصل التغير الا بعد مدة مديدة ، وباب التجوز في الكلام أوسع من ذلك.

والظاهر ايضا انسحاب الحكم في النقدين لو كان أحدهما في ذمته وأعطاه الأخر قضاء عن دينه من غير محاسبة ثم تغير السعر بعد مدة ، فإنه يحتسب يوم القبض.

ويدل عليه جملة من الاخبار منها ما رواه المشايخ الثلاثة نور الله مراقدهم عن إسحاق بن عمار (١) في الموثق قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يكون لي عليه المال فيقضيني بعضا دنانير وبعضا دراهم ، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير ، أى السعرين أحسب له؟ الذي يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي الذي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٨ التهذيب ج ٧ ص ١٠٧ الفقيه ج ٣ ص ١٨٥.

١٧٥

أحاسبه؟ فقال : سعر يوم أعطاك الدنانير ، لأنك حبست منفعتها عنه» (١).

والظاهر أن قوله «حبست منفعتها عنه» كناية عن انتقالها الى القابض بالملك ، وبزوال ملك الدافع عنها ، فلا انتفاع له بها بالكلية ، لخروجها عن ملكه ، وبه يحصل حبس منفعتها عنه ، وإذا انتقلت الى ملك القابض سقط بإزائها من تلك الدراهم ما قابلها بصرف ذلك اليوم ، لأنها لم ينتقل اليه مجانا ، وانما انتقلت عوضا فلا بد من سقوط عوضها ذلك اليوم بذلك الصرف الأول.

ومنها ما رواه في التهذيب عن يوسف بن أيوب (٢) شريك إبراهيم بن ميمون عن أبى عبد الله عليه‌السلام «قال في الرجل يكون له على الرجل دراهم فيعطيه دنانير ولا يصارفه ، فتغير الدنانير بزيادة أو نقصان قال : له سعر يوم أعطاه».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الملك بن عتبة الهاشمي (٣) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها ورقا في حوائجه وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلب صاحب المال بعض الورق ، وليست حاضرة فيبتاعها له من الصيرفي بهذا السعر ، ثم يتغير السعر قبل ان يحتسبا حتى صار الورق اثنى عشر درهما بدينار ، فهل يصلح له ذلك وانما هي بالسعر الأول من يوم قبضت كانت سبعة؟ وسبعة ونصف بدينار ، قال : إذا دفع اليه الورق بقدر الدينار فلا يضره كيف كان الصرف ، ولا بأس».

__________________

(١) وأما حمل حبس المنفعة على ظاهره ـ من انه كان يمكن صاحب الدنانير أن يبيعها بقيمة أزيد من ذلك الوقت ـ فلا يطرد كليا ، لان الكلام في تغيير السعر مطلقا زيادة ونقيصة ، فإنها قد ينقص صرفها بعد ذلك عن يوم القبض فالنفع حاصل لصاحب الدنانير كما لا يخفى ، بل المراد انما هو حبس الانتفاع بها لصيرورتها ملكا للقابض وخروجها عن ملك الدافع كما ذكرناه في الأصل ـ منه رحمه‌الله.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٠٨.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٠٦ الكافي ج ٥ ص ٢٤٥.

١٧٦

أقول : لعل المعنى في قوله عليه‌السلام «إذا دفع اليه الورق» الى آخره أنه إذا كان دفع الورق على جهة العوض عن الدنانير ، وأداء لها فإنه ينصرف مقدار قيمة الدينار في ذلك الوقت الى ما يقابلها من تلك الدنانير ، لان الفرض ان دفع تلك الورق انما هو لتفريغ ذمته من الدنانير التي عليه ، لا لغرض آخر. وحينئذ فلا يضره زيادة الصرف أو نقصانه بعد وقوع التهاتر والتساقط بين تلك الورق والدنانير ، فإنه قد برئت الذمة وخلت العهدة بما دفعه عن قدر ما دفعه كلا أو بعضا.

ومنها ما رواه الشيخ في الموثق عن إبراهيم بن عبد الحميد عن (١) عبد صالح عليه‌السلام ، قال : «سألته عن الرجل يكون له عند الرجل دنانير أو خليط له ، يأخذ مكانها ورقا في حوائجه وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلبها الصيرفي وليس الورق حاضرا فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة نصف ثم يجي‌ء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير فصار باثني عشر كل دينار ، هل يصلح ذلك له؟ أو انما هي له بالسعر الأول يوم قبض منه الدراهم فلا يضره كيف كان السعر؟ قال : يحسبها بالسعر الأول فلا بأس به».

ومنها ما رواه الصدوق والشيخ عن إسحاق بن عمار (٢) في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الرجل يكون له على الرجل الدنانير فيأخذ منه دراهم ثم يتغير السعر؟ قال : فهي له على السعر الذي أخذها منه يومئذ ، وان أخذ دنانير فليس له دراهم عنده ، فدنانيره عليه يأخذها برؤسها متى شاء». كذا في رواية الشيخ ، وفي رواية الصدوق «وليس له دراهم عنده» الى آخره.

قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر برواية التهذيب ما صورته : بيان : يعنى وقع الفضل بينهما بأخذه الدراهم أو لإمكان دنانيره ثم ان أخذ دنانير ثانيا بعد ذلك ، فليس للمعطي أن يجعلها في مقابلة دنانيره التي كانت

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٠٧.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٠٧ الفقيه ج ٣ ص ١٨٤.

١٧٧

له عليه أولا ، ويطلب منه دراهمه ، إذ لا دراهم له عليه حينئذ بل ليس له الا دراهمه التي أعطاها ثانيا يأخذها متى شاء انتهى.

أقول : ما ذكره جيد بالنظر الى ما نقله من رواية الشيخ ، وأما على تقدير رواية الصدوق بالواو فالظاهر أن المعنى أن صاحب الطلب إذا أخذ دنانير عوض دنانيره ، والحال أنه لم يقبض دراهم عوض طلبه كما في الفرض الأول ، فهذه الدنانير عوض دنانيره التي في ذمة المديون يأخذها برؤسها متى شاء.

والحق أن الخبر لا يخلو من إجمال بالنسبة إلى قوله ثم «تغير السعر» الى آخره ، وأنه هل أراد سعر الدراهم أو سعر الدنانير؟ فيحتمل أن يكون المراد سعر الدنانير ، ويكون حاصل المعنى أنه إذا أقرض رجل رجلا دنانير ثم أخذ المقرض عوض دنانيره دراهم من غير مساعرة ، ثم تغير سعر الدنانير بالزيادة أو النقصان ، فما الذي يعمل عليه يوم المحاسبة؟ فأجاب عليه‌السلام بقوله «فهي له» أى الدنانير للمقرض ، بسعر اليوم اقترضها فيه للمستدين ، فعليه أداء قيمتها بسعر ذلك اليوم ، وحينئذ فيحسب له قيمة الدنانير من تلك الدراهم التي دفعها اليه بالسعر المذكور ، وان أخذ المقرض من المستدين دنانير بجنسها لا بالتبديل ، والحال أنه ليس له دراهم عنده بالتبديل ، فهذه الدنانير عوض دنانيره حسبما قدمناه في كلامنا على صاحب الوافي.

وأنت خبير بان هذا المعنى مبنى على نسخة (الواو) كما في الفقيه ، ويحتمل أن المراد سعر الدراهم وضمير هي راجع إليها ، بمعنى أنه إذا تغير سعر الدراهم من وقت دفعها الى سعر آخر يوم المحاسبة ، فتلك الدراهم للمقرض يأخذها بسعر يوم أخذها ، لا يوم المحاسبة ، ثم ذكر صورة أخرى بقوله «وان أخذ» يعنى المقرض دنانير والحال أنه لم يكن دراهم سابقة في ذمة معطي الدنانير ليكون أخذه عوضا عنها ، فليس له ذلك ، بل هي عليه يأخذها صاحبها برؤسها هذا على نسخة الواو ، وعلى نسخة الفاء يكون المعنى ما قدمنا نقله عن الوافي ـ والله العالم.

المسألة الثامنة ـ إذا قتل المديون عمدا ولا مال له قال الشيخ في النهاية : لم

١٧٨

يكن لأوليائه القود الا بعد تضمين الدين عن صاحبهم ، فان لم يفعلوا ذلك لم يكن لهم القود ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم ، وبه قال أبو الصلاح وابن البراج ونسب هذا القول في الدروس الى المشهور ، وقال أبو منصور الطبرسي (١) : إذا بذل القاتل الدية لم يكن للأولياء القود الا بعد ضمان الدين ، وان لم يبذل جاز لهم القود من غير ضمان ، وقال ابن إدريس والمحقق والعلامة : ان للورثة استيفاء القصاص ، وان بذل الجاني الدية من غير ضمان للدين ، واحتجوا على ذلك بأن موجب العمد القصاص ، وأخذ الدية اكتساب ، وهو غير واجب على الوارث في دين مورثه ، ولعموم قوله تعالى (٢) «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» وقوله تعالى (٣) «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ».

ونقل العلامة في المختلف عن الشيخ أنه احتج بما رواه عبد الحميد بن سعيد (٤) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدية من قاتله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : نعم ، قال : قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا عنه الدين».

ثم أجاب عن الرواية المذكورة بالمنع من الدلالة على محل النزاع ، قال : أما أولا فلاحتمال أن يكون القتل خطاء أو شبهة ، واما ثانيا فلان السؤال وقع عن أولياء أخذوا الدية ، ونحن نقول بموجبه ، فإن الورثة لو صالحوا القاتل على الدية وجب قضاء الدين منها انتهى.

__________________

(١) الظاهر أن المراد بالطبرسي هنا هو الشيخ أبو منصور احمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج ، فإنه صاحب هذه الكنية ، ولم أقف على نقل قوله في الفقه الا هذا المكان وسيأتي جملة من المواضع لفظ الطبرسي خاصة ، وهو يحتمل للمذكور هنا وللشيخ ابى على صاحب مجمع البيان ـ منه.

(٢) سورة الإسراء الآية ٣٣.

(٣) سورة المائدة الآية ٤٥.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ١٩٢.

١٧٩

أقول : ما أجاب به عن الرواية المذكورة جيد ، الا أن إيراده هذه الرواية دليلا للشيخ رحمة الله عليه ليس في محله ، بل هنا رواية أخرى صريحة فيما ذهب اليه الشيخ ، والظاهر أنها هي المستند له فيما ذهب إليه في نهايته.

والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام من الروايات منها ما رواه في التهذيب والصدوق في الفقيه عن أبى بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قتل وعليه دين وليس له مال ، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال : أن أصحاب الدين (هم الخصماء) للقاتل ، وان وهب أولياؤه دمه للقاتل ضمنوا الدية للغرماء ، والا فلا».

ورواه الشيخ أيضا بطريق آخر عن أبى بصير (٢) ايضا مثله ، الا انه قال : «فان وهبوا أولياؤه دية القاتل فهو جائز ، وان أرادوا القود ليس لهم ذلك ، حتى يضمنوا الدين للغرماء ، والا فلا». وهذه الرواية هي التي أشرنا إليه بأنها دليل لما ذهب اليه الشيخ ، قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : انما جاز لهم الهبة ولم يجز القود حتى يضمنوا ، لانه مع الهبة يتمكن الغرماء من الرجوع الى القاتل بحقهم ، بخلاف ما إذا قيد منه.

أقول : ان الخبر الأول قد دل على أنهم يضمنون الدين مع الهبة أيضا ، ويدل على ذلك أيضا الخبر الاتى ، ومقتضاهما أن الورثة بالهبة يضمنون دين الغرماء ، وأنه ليس لهم العفو بدون ذلك ، وهو أحد الأقوال في المسألة أيضا على ما نقله في المسالك ، فكيف يتم الحكم بجواز الهبة لهم ، ورجوع الغرماء على القائل بالدين ، كما يظهر من كلامه.

والعجب أنه نقل هذه الاخبار كلها في باب واحد ، ولم يتفطن لما ذكرناه ، ولا يحضرني وجه للجواب عن ذلك الا بأن تحمل الرواية على جواز الهبة فيما يخصهم من الدية ،

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١١٩ التهذيب ج ١٠ ص ١٨٠ وفيه (هم الغرماء).

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٣١٢.

١٨٠