الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

في الدروس صورة ما في الخلاف أو نقل بالمعنى.

وكيف كان فان كلامه (قدس‌سره) ظاهر في أن هذه الشهرة التي ادعى في المسالك انها إجماع انما هي من الشيخ ومن تأخر عنه ، واما ما ذكره في المبسوط من ان عموم الاخبار في جواز القرض يقتضي الجواز ، فلا يخلو من اشكال ، إذ غاية ما تدل عليه ترتب تلك الأحكام المذكورة فيها على القرض ، فلا بد أولا من معرفة ما يجوز قرضه وما لا يجوز ، ليحمل عليه ذلك الإطلاق ، وترتب تلك الأحكام ويقضى عنه.

وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص الواضح غير خالية عندي من الاشكال سيما مع ما ورد عنهم عليهم‌السلام في تأكيد الاحتياط في الفروج.

ثم ان مقتضى ما ذكروه من جواز اقتراض الجواري انه يملكها بالقبض ، كما هو المشهور ، فإنه يحل له وطئوها كما يباح له غيره من المنافع ، وعلى القول الأخر من توقف الملك على التصرف لا يحل ، ولو كان ممن ينعتق عليه ايضا بالملك انعتقت عليه بناء على ذلك.

ثم انه لو طالب المقرض بحقه بنى الكلام في ذلك على ما تقدم من الواجب في عوض القيمي هل هو القيمة مطلقا ، أو ضمان مثله ، أو التفصيل.

قال في المسالك : وأولى بالجواز لو رد العين ، لان الانتقال إلى القيمة انما وضع بدلا عن العين ، فإذا أمكنت ببذل المقترض كانت أقرب الى الحق من القيمة انتهى.

ولو حملت من المقترض امتنع ردها ، وتعينت القيمة أو المثل على الخلاف المتقدم ، ولو ظهر النقص فيها تعينت القيمة أيضا الا ان يتراضيا بالأرش.

الثاني ـ قال في الدروس لو ظهر في العين المقترضة عيب فله ردها ولا أرش ، وان أمسكها فعليه مثلها أو قيمتها معيبة ، وهل يجب اعلام المقترض الجاهل بالعيب؟ عندي فيه نظر ، من اختلاف الأغراض وحسم مادة النزاع ، ومن قضية الأصل.

نعم لو اختلفا في العيب حلف المقرض مع عدم البينة ، ولو تجدد عنده عيب آخر منع من الرد ، الا ان يرضى المقرض به مجانا بالأرش ، انتهى.

١٤١

الموضع السابع : قال الشيخ في النهاية : من أقرض غيره الدراهم ثم سقطت تلك الدراهم وجازت غيرها لم يكن له عليه الا الدراهم التي أقرضها إياه أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه ، وكذا قال ابن البراج ، وابن إدريس.

وقال الصدوق في المقنع : وان استقرضت من رجل دراهم ثم سقطت تلك الدراهم وتغيرت فلا يباع بها شي‌ء فلصاحب الدراهم ، الدراهم التي تجوز بين الناس.

وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه : كان شيخنا محمد بن الحسن يروى حديثا «في أن له الدراهم التي تجوز بين الناس» ، عقيب رواية يونس عن الرضا (١) عليه‌السلام ، «أن له الدراهم الاولى» ثم قال الصدوق : والحديثان متفقان غير مختلفين فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له الا ذلك النقد ، ومتى كان له على رجل دراهم بوزن معلوم بنقد غير معروف فإنما له الدراهم التي تجوز بين الناس.

وقال ابن الجنيد : من أعطى رجلا له عليه دنانير عروضا من فلوس ، وغيرها أو دراهم في وقت ثم تغيرت الأسعار حسب المعطى على الآخر سعر يوم أخذه ، لأن ذلك من ماله ، فان كان ما أعطاه قرضا فارتفعت الفلوس كان على المستقرض رد ما أخذه على من أقرضه لا برأس ماله ، ولا قيمته يوم القرض ولا يختار المستقرض الا أن يعطى ما ينفق بين الناس كما أخذ ما ينفق بين الناس.

وقال ابن إدريس في موضع آخر : من كان له على انسان دراهم أو دنانير أو غيرهما من السلع جاز له أن يأخذ مكان ماله من غير الجنس الذي له عليه بسعر الوقت ، فان كانت دراهم وتعامل الناس بغيرها ، وأسقط الاولى السلطان فليس له الا مثل دراهمه الاولى ، ولا يلزمه غيرها مما يتعامل الآن به الا بقيمتها من غير الجنس ، لانه لا يجوز بيع الجنس بالجنس متفاضلا.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١١٨.

١٤٢

وقال العلامة في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والمعتمد أن نقول : لصاحب الدراهم من النقد الأول ، فإن تعذر فقيمته الآن من غير الجنس ، لنا انها من ذوات الأمثال وحكم المثل ما قلناه.

أقول : ومنشأ اختلاف هذه الأقوال اختلاف ظواهر الأخبار المتعلقة بهذه المسألة :

ومنها ما رواه الكليني والشيخ (نور الله مرقديهما) عن يونس (١) قال : «كتبت الى أبى الحسن الرضا عليه‌السلام ، ان لي على رجل ثلاثة آلاف درهم ، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام ، وليست تنفق اليوم ، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ فكتب عليه‌السلام لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس ، كما أعطيته ما ينفق بين الناس».

وما رواه في التهذيب والفقيه عن يونس (٢) قال : «كتبت الى ابى الحسن الرضا عليه‌السلام ، أنه كان لي على رجل دراهم وأن السلطان أسقط تلك الدراهم ، وجائت دراهم على تلك الدراهم الاولى ولها اليوم وضيعة ، فأي شي‌ء لي عليه؟ الاولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان فكتب عليه‌السلام الدراهم الاولى».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن صفوان (٣) في الصحيح قال : «سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت ولا يباع بها شي‌ء ، ألصاحب الدراهم الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ قال : فقال : لصاحب الدراهم الدراهم الاولى».

والشيخ رحمه‌الله قد جمع بين هذه الاخبار بحمل ما ينفق بين الناس في الخبر الأول على معنى قيمة ما كان ينفق أولا وكذلك أول الدراهم الاولى في الخبرين الأخيرين بقيمة الدراهم الاولى دفعا للتنافي. قال : لانه يجوز ان تسقط الدراهم الأولة حتى لا يكاد يؤخذ ، فلا يلزم أخذها وهو لا ينتفع بها وانما له قيمة الدراهم الأولة وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال : انتهى.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٥٢ التهذيب ج ٧ ص ١١٦.

(٢ ـ ٣) التهذيب ج ٧ ص ١١٧ وأخرج الأول في الفقيه ج ٣ ص ١١٨.

١٤٣

ولا يخلو من بعد ، لعدم قرينة يونسه بهذا المضاف الذي قدره في الكلام ، بل السياق ظاهر في أن الجواب وقع على حسب السؤال المتعلق بعين كل من النقد الأول أو الثاني ، وان أجيب في الخبر الأول بالنقد الثاني ، وفي الأخيرين بالنقد الأول.

واما ما جمع به الصدوق فأبعد ، لعدم القرينة المونسة بهذا التفصيل في شي‌ء من اخبار المسألة ، مع انه يرد عليه لزوم الربا في صورة ما ان كان له عليه بوزن معلوم ونقد غير معروف ، فإنه حكم بأخذ الدراهم التي تجوز بين الناس. وربما أمكن التفاوت بالزيادة والنقصان بينها وبين ما في ذمته ، فإنه متى كان له في ذمته ألف درهم بوزن معلوم من تلك الدراهم الأولة وأخذ عوضها ألف درهم من هذه الأخيرة فربما حصل الزيادة والنقصان بين الاولى والثانية ، فيلزم الربا الا ان يحمل كلامه على أخذ الثانية وزنا ايضا ، لكنه خلاف ظاهر كلامه.

والموافق للقواعد ـ وهو ظاهر كلام من عدا الصدوق في المقنع والفقيه وابن الجنيد ـ هو انه ليس له الا الاولى ان وجدت ، والا فقيمتها ، لكن من غير ذلك الجنس أو منه مع التساوي حذرا من الربا ، لان ذلك حكم المثلي كما تقدم ، وتخرج الروايتان الأخيرتان شاهدا على ذلك ويبقى الكلام في الرواية الاولى وقد عرفت ما في جمع الشيخ والصدوق من البعد

والعلامة في المختلف بعد ان احتج بما قدمنا نقله احتج بالخبرين الأخيرين ثم نقل عن الصدوق الاحتجاج بالرواية الاولى وأجاب عنها بضعف السند وأطال في الطعن به ثم ذكر جواب الشيخ عنها بالحمل على أخذ ما ينفق بين الناس على جهة القيمة عن الدراهم الاولى.

وفيه ان قوله عليه‌السلام كما أعطيته ما ينفق بين الناس لا يخلو من المنافرة لذلك (١)

__________________

(١) فان ظاهره انما هو أنك أعطيته ما ينفق بين الناس ، فان لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس ، بمعنى أن الاعتبار ليس بذات النقد من حيث هو ، وانما اعتباريته

١٤٤

وبعض محدثي متأخري المتأخرين (١) حمل الروايتين الأخيرتين على القرض ، كما صرح به في رواية صفوان ، قال : لئلا يحصل الربا ، وحمل الاولى على مهر الزوجة أو ثمن المبيع ، قال : لان المطلق ينصرف إلى الرائج (٢).

وفيه أولا أن ظاهر الرواية الاولى أن ذلك كان قرضا ايضا ، حيث قال عليه‌السلام «كما أعطيته ما ينفق بين الناس» فحملها على ما ذكره من ثمن المبيع ومهر الزوجة خروج عن حاق لفظها وظاهر سياقها.

وثانيا بأن المبلغ الذي استقر في الذمة حال البيع انما هو رائج ذلك الوقت لأن الإطلاق ينصرف اليه كما تقدم بيانه ، فإذا سقط ولم يتعامل به وظهرت دراهم

__________________

من حيث رواجه ، والمعاملة بين الناس ، وبه يحصل الاشكال والمخالفة الظاهرة بين الروايتين الأخيرتين كما عرفت منه رحمه‌الله.

(١) هو المحدث المولى محمد تقي المجلسي في حواشيه على كتب الاخبار منه رحمه‌الله.

(٢) أقول : قال شيخنا الشهيد (قدس‌سره) في الدروس : لو سقطت المعاملة بالدراهم المقترضة فليس على المقترض الا مثلها فان تعذر قيمتها من غير الجنس ـ حذرا من الربا ـ وقت الدفع لا وقت التعذر ولا وقت القرض خلافا للنهاية.

وقال ابن الجنيد والصدوق : عليه ما ينفق بين الناس ، والقولان مرويان ، الا أن الأول أشهر ، ولو سقطت المعاملة بعد الشراء فليس على المشترى إلا الاولى ، ولو تبايعا بعد السقوط وقبل العلم فالأولى.

نعم يتخير المغبون في فسخ البيع وإمضائه ، وهو مؤيد لما قلناه في الأصل بالنسبة إلى القرض ، والى ثمن المبيع ، ولم نقف عليه الا بعد ما جرى القلم بما أثبتناه في الأصل.

وأثبتناه في الحاشية لتأييده لما ذكرناه ، وما ذكره (قدس‌سره) في الرجوع الى القيمة ، وأنها قيمة وقت الدفع ، لا وقت العقد ، هو ظاهر عبارة العلامة المنقولة في الأصل أيضا ـ منه رحمه‌الله.

١٤٥

آخر في المعاملة رجع حكمه الى حكم القرض ، ولم أقف لهم على كلام هنا في ثمن المبيع ومهر الزوجة لو كسرت سكة المعاملة الأولى ـ التي انصرف العقد إليها ، وظهرت سكة أخرى ـ في أن له الأولى أو الأخيرة؟ الا أن مقتضى قواعدهم هو ما ذكرناه ، من رجوعه بالأخرة إلى حكم القرض.

وبالجملة فإن العمل بمقتضى الخبرين الأخيرين هو الأوفق بالقواعد الشرعية ، ويبقى الكلام في الرواية الاولى ولا يبعد خروجها مخرج التقية التي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، فإن جميع ما ذكر من المحامل المتقدمة لا يخلو من تعسف وبعد عن ظواهر الأخبار المذكورة كما عرفت ، والاحتياط في المسألة يقتضي الرجوع الى الصلح من الطرفين ، وأحوط منه الإبراء بعد ذلك من الجانبين والله العالم بحقائق أحكامه.

المقصد الثاني في الدين

والبحث فيه يقع في مقامين الأول ـ في الدين المطلق ، وفيه مسائل.

الأولى ـ قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لو غاب المدين وجب نية القضاء والعزل عند امارة الموت ، ولو آيس منه تصدق به عنه ، وان قطع بموته وانتفاء الوارث كان للإمام عليه‌السلام.

أقول : وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع : أحدها ـ ما ذكروه من وجوب نية القضاء هو ظاهر جملة من الاخبار من غير تقييد بالغيبة.

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : وجوب نيته القضاء ثابت على كل من عليه حق ، سواء كان ذو الحق غائبا أم حاضرا ، لان ذلك من أحكام الإيمان انتهى.

ومقتضى كونه من أحكام الايمان كما ذكره الخروج عنه لو لم ينو ، وهو مشكل لعدم الوقوف على دليله ، الا ان يراد الايمان الكامل ، وكان تخصيصهم وجوب النية بالغائب انه في المدين الحاضر يجب الدفع اليه عند الطلب ، وأما

١٤٦

الغائب فإن النية تقوم مقام ذلك ، الا ان فيه ان مع الحضور قد لا يتمكن من الدفع ، فتجب النية حينئذ متى امكنه ذلك.

واما الاخبار التي أشرنا إليها فمنها ما رواه في الكافي عن عبد الغفار المجازي (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل مات وعليه دين قال : ان كان أتى على يديه من غير فساد لم يؤاخذه الله عزوجل إذا علم بنيته الا من كان لا يريد ان يؤدى عن أمانته فهو بمنزلة السارق ، وكذلك الزكاة أيضا وكذلك من استحل ان يذهب بمهور النساء».

وما رواه في الفقيه عن أبى خديجة (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «أيما رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا وفي نيته أن لا يؤديه فذلك اللص العادي».

وما رواه في الكافي عن ابن فضال عن بعض أصحابه (٣) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق».

وما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٤) في كلام له عليه‌السلام في الدين قال : «فان لم ينو قضاءه فهو سارق ، فاتق الله وأد الى من له عليك ، وارفق بمن لك عليه» الخبر.

ويدل على خصوص الغائب رواية زرارة بن أعين (٥) في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه ، ولا على ولى له ، ولا يدرى بأي أرض هو ، قال : لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٩٩.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١١٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٩٩.

(٤) المستدرك ج ٢ ص ٤٨٩.

(٥) التهذيب ج ٦ ص ١٨٨.

١٤٧

ويؤكد هذه الاخبار ما رواه في الكافي عن حمدان بن إبراهيم الهمداني (١) رفعه الى بعض الصادقين عليهم‌السلام قال : «انى لأحب للرجل أن يكون عليه دين ينوي قضاءه».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن رباط (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، يقول : من كان عليه دين ينوي قضائه كان معه من الله عزوجل حافظان يعينانه على الأداء عن أمانته فإن قصرت نيته عن الأداء قصرا عنه من المعونة بقدر ما قصر من نيته».

وثانيها : ما ذكروه من وجوب العزل عند امارة الموت ، والذي صرح به الشيخ رحمه‌الله هو الوجوب مطلقا ، وابن إدريس قد منع ذلك.

قال في السرائر : وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ومن وجب عليه دين وغاب عنه صاحبه غيبة لم يقدر عليها معها وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل ماله عن ملكه ، وهذا غير واجب ، أعنى عزل المال بغير خلاف من المسلمين ، فضلا عن طائفتنا انتهى.

وقال في المسالك : وأما العزل عند الوفاة فظاهر كلامهم خصوصا على ما يظهر من المختلف أنه لا خلاف فيه ، والا لأمكن تطرق القول بعدم الوجوب ، لأصالة البراءة مع عدم النص انتهى.

أقول : الذي وقفت عليه في المختلف هو أنه بعد أن نقل عبارة النهاية المتقدمة وكلام ابن إدريس قال : ليس عندي بعيدا من الصواب حمل قول الشيخ على من حضرته الوفاة ، أو حمل العزل على استبقاء ما يساوى الدين بمعنى أنه يجوز له التصرف في جميع أمواله بالصدقة وغيرها الا ما يساوى الدين ، فإنه يجب عليه إبقاءه للايفاء انتهى.

وفي فهم عدم الخلاف من هذه العبارة نظر ، إذ لعل ذلك بالنسبة الى ما يرجحه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٩٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٩٥ التهذيب ج ٦ ص ١٨٥.

١٤٨

ويختاره في المسألة.

وكيف كان فأصالة العدم مع عدم ورود نص في المقام أقوى مستمسك ، قال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) : وأما وجوب العزل فذكروه ايضا ، ودليله غير ظاهر ، الا ما يتخيل أنه غاية ما يمكن وأنه أقرب الى الوفاء ، وبعيد عن تصرف الغير ، ولكن تمسك الأصحاب بمثل هذا مشكل ، الا أن يكون إجماع ونحوه ، ويشكل أيضا تعينه بذلك بحيث لو تلف يكون من مال الغريم من غير ضمان الا مع التفريط والتقصير ، والقول به بعيد انتهى وهو جيد.

نعم يمكن القول بوجوب الوصية به كما ذكره بعض الأصحاب أيضا لأنه مع ترك الوصية ربما أدى الى فواته ، وبقاء ذمته مشغولة بالدين ، لعدم علم الورثة ، بل ظاهر جملة من الأصحاب القول بوجوب الوصية مطلقا بما له وعليه ، ويدل عليه جملة من الاخبار الآتية في محلها إنشاء الله تعالى والله العالم.

وثالثها : الصدقة به عنه ، قال العلامة في المختلف : إذا غاب المالك غيبة منقطعة ومات ولم يعرف له وارث قال الشيخ في النهاية : يجتهد المديون في طلب الوارث ، وان لم يظفر به تصدق عنه ، وتبعه ابن البراج ، وقال ابن إدريس : يدفعه الى الحاكم إذا لم يعلم له وارثا ، فان قطع أنه لا وارث له كان لإمام المسلمين لأن الإمام يستحق ميراث من لا وارث له.

والمعتمد أن نقول : ان لم يعلم انتفاء الوارث وجب حفظه ، فان آيس من وجوده والظفر به أمكن أن يتصدى به ، وينوي القضاء عند الظفر بالوارث ، وان علم انتفاء الوارث كان للإمام.

أما الأول فلأنه مال معصوم يجب حفظه على مالكه ، كغيره من الأموال ومع اليأس من الظفر بالوارث ، وعدم العلم به يمكن التصدق به ، لئلا يعطل المال إذ لا يجوز له التصرف فيه ، ولا يمكن إيصاله إلى مستحقه فأشبه اللقطة فحكمه ، ان الحكم المنوط بها حكم اللقطة موجود هنا ، فيثبت الحكم عملا بوجود المقتضى.

وأما الثاني فلأن له ميراث من لا وارث له ، فيكون للإمام (عليه‌السلام)

١٤٩

انتهى.

وقال شيخنا الشهيد الثاني (نور الله تعالى مرقده) في المسالك بعد أن ذكر الاجتهاد في طلبه : فان آيس منه قال الشيخ «رحمة الله عليه» : يتصدق عنه ، وتبعه عليه جماعة من الأصحاب وتوقف المصنف هنا ، والعلامة في كثير من كتبه لعدم النص على الصدقة ومن ثم ذهب ابن إدريس الى عدم جوازها ، لأنها تصرف في مال الغير غير مأذون فيه شرعا ، ولا شبهة في جوازه ، انما الكلام في تعينه ، ووجه الصدقة أنها إحسان محض بالنسبة إلى المالك ، لأنه ان ظهر ضمن له عوضها أن لم يرض بها ، والا فالصدقة أنفع له من بقائها المعرض لتلفها بغير تفريط ، المؤدي إلى سقوط حقه ، وقد قال الله تعالى (١) «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ».

خصوصا ورود الأمر بالصدقة في نظائره كثيرة ، وحينئذ فالعمل بهذا القول أجود ، خصوصا مع تعذر قبض الحاكم لها ، أما معه فهو أحوط ، وحيث يمكن مراجعته فهو اولى من الصدقة بغير اذنه ، وان كان جائزا لأنه أبصر بمواقعها ومصرفها انتهى.

أقول : هذه جملة من كلماتهم في المقام أطلنا بنقلها لتحيط خبرا بالأقوال في المسألة والتعليلات التي اعتمدوها أدلة لما صار كل منهم اليه ، وظاهرهم بل صريح عبارة المسالك عدم وجود نص في المسألة ، مع أن النصوص موجودة ، وان كانت لا تخلو عن تناف بحسب الظاهر.

والذي وقفت عليه منها ما تقدم من صحيح زرارة (٢) «الدال على أنه لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء».

قال العلامة في التذكرة بعد نقله أنه يدل من حيث المفهوم على منع التصدق ووجوب الطلب دائما : ولا يخفى ما فيه لان الطلب مع اليأس وعدم إمكان الوجدان عبث لا يحسن أن يأمر به عليه‌السلام فيمكن حمله على عدم اليأس ، والأظهر عندي أن الغرض

__________________

(١) سورة التوبة الآية ـ ٩١.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٨٨.

١٥٠

من السؤال انما هو أنه هل يؤاخذ لشغل الذمة على هذه الحال أم لا؟ فأخبره بأنه لا جناح عليه إذا علم الله سبحانه من نيته الأداء.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح عن معاوية بن وهب (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل كان له على رجل حق ففقده ولا يدرى أين يطلبه ، ولا يدرى أحي هو أم ميت ، ولا يعرف له وارثا ولا نسبا ولا ولدا ، قال : أطلب قال : ان ذلك قد طال ، فأتصدق به؟ قال : أطلبه». قال : في الفقيه وقد روى في هذا خبر آخر «ان لم تجد له وارثا وعلم الله منك الجهد فتصدق به».

أقول : ربما أشعر ظاهر هذا الخبر أيضا بوجوب الطلب دائما ، ولو مع اليأس ، وفيه ما عرفت آنفا ، والواجب حمله على إمكان الوجود وعدم اليأس ، أو الاستحباب والتخيير جمعا بينه وبين ما يأتي ، ومنه المرسلة المذكورة ، وهذا المرسلة ظاهرة فيما ذهب الى الشيخ ، ومن تبعه من وجوب الصدقة.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن (نصر بن) حبيب (٢) صاحب الخان قال : «كتبت الى عبد صالح عليه‌السلام قال : قد وقعت عندي مائتا درهم (وأربعة دراهم) ، وانا صاحب فندق فمات صاحبها ، ولم أعرف له ورثة فرأيك في إعلامي حالها ، وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب أعمل فيها وأخرجها صدقة قليلا قليلا حتى تخرج». قال في الاستبصار (٣) : «إنما له أن يتصدق بها إذا ضمن لصاحبها أو أنها للإمام ، فأمره أن يتصدق عنه».

أقول : الظاهر بعد الاحتمال الثاني ، لأن عدم معرفته الورثة لا يدل على العدم ، سيما أنه لم يطلب ولم يفحص ، وكون ذلك للإمام مشروط بالعلم بعدم الوارث كما لا يخفى ، وبه يظهر أن هذا الخبر دليل على قول الشيخ ومن تبعه ، وأن ما ذكره

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٢٤١ التهذيب ج ٦ ص ١٨٨.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٣٨٩ وفيه عن فيض بن حبيب.

(٣) الاستبصار ج ٤ ص ١٩٧.

١٥١

الأصحاب من عدم النص على ذلك غفلة عن الوقوف عليه وعلى أمثاله.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الهيثم ابن أبى روح صاحب الخان (١). قال : «كتبت الى عبد صالح عليه‌السلام أنى أتقبل الفنادق فينزل عندي الرجل فيموت فجأة ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ، ولا ورثته فيبقى المال عندي كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟ فقال : اتركه على حاله». وظاهر هذا الخبر بقاؤه أمانة عنده حتى يظهر له طالب.

وعن هشام بن سالم (٢) قال : «سأل «خطاب الأعور» أبا إبراهيم عليه‌السلام وأنا جالس ، فقال : انه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأجر ففقدناه ، وبقي من أجره شي‌ء ولا نعرف له وارثا قال : فاطلبوه قال : قد طلبناه ولم نجده ، فقال : مساكين وحرك يديه ، قال : فأعاد عليه قال : اطلب واجهد فإن قدرت عليه ، والا هو كسبيل مالك حتى يجي‌ء له طالب ، فان حدث بك حدث فأوص به ان جاء له أن يدفع اليه».

قال المحدث الكاشاني : في ذيل هذا الحديث «مساكين» يعنى أنتم مساكين حيث ابتليتم بهذا ، أو حيث لم تعرفوا أنه لمن هو فإنه للإمام عليه‌السلام ، فكأنه عليه‌السلام ، لم ير المصلحة في الإفصاح بذلك ، ويؤيد هذا المعنى ما يأتي في باب من مات وليس له وارث ، أو فقد وارثه من كتاب الجنائز من الاخبار ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله «مساكين» يدفع الى المساكين أو رأيك أن تدفع الى المساكين على سبيل الاخبار أو الاستفهام كما يدل عليه الخبران الإتيان انتهى.

أقول : الظاهر عندي بعد ما ذكره من الاحتمالين ، فان عجز الخبر ينادى بصريحه أنه بعد مراجعة السائل أمره أنه يكون عنده في ذمته حتى يجي‌ء طالبه ، وهو أحد الوجوه في المسألة كما سيأتي إيضاحه إنشاء الله تعالى ، وحينئذ فالمراد بقوله مساكين انما هو الترحم لهم لأجل ابتلائهم بذلك كما هو المعنى الأول الذي ذكره.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٥٤ التهذيب ج ٩ ص ٣٨٩.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٣٨٩ وفيه (حفص الأعور).

١٥٢

وما رواه في التهذيب عن هشام بن سالم (١) في الموثق قال : «سأل حفص الأعور أبا عبد الله عليه‌السلام ، وأنا عنده جالس ، فقال : أنه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه وله عندنا دراهم ، وليس له وارث ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : تدفع الى المساكين ، ثم قال : رأيك فيها ، ثم أعاد عليه المسألة فقال له : مثل ذلك فأعاد عليه المسألة ثالثة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : تطلب له وارثا ، فان وجدت له وارثا ، والا فهو كسبيل مالك ، ثم قال : ما عسى أن نصنع بها ، ثم قال : توصي بها فان جاء طالبها والا فهي كسبيل مالك».

أقول : قوله «وليس له وارث» يعنى باعتبار علمنا ، والا فلو كان عدم الوارث معلوما كان من الأنفال ، ولم يتجه الجواب هنا بما ذكره عليه‌السلام ، ثم أن الخبر قد تضمن أولا جوابه عليه‌السلام بالدفع الى المساكين ، يعنى الصدقة به كما دل عليه الخبران المتقدمان ، فيكون مؤيدا لقول الشيخ ومن تبعه ، ثم انه بعد مراجعة السائل ثانيا أجابه بذلك ايضا ، وبعد المراجعة ثالثا أجابه بأنه بعد طلب الوارث وعدم وجوده يكون كسبيل ماله.

والظاهر أن المراد بذلك الكناية عن جواز التصرف فيه ، والتملك له بشرط الرد ان ظهر طالب ، والوصية بذلك عند الموت ، كما دل عليه هذا الخبر ، وخبر خطاب الأعور المتقدم ، وحينئذ فيجب حمل الخبر على التخيير بين الأمرين المذكورين كما يجمع به بين الاخبار المتقدمة ، فإن بعضا منها دل على الصدقة ، وبعضا على أنه كسبيل ماله ، وربما أشعر هذا الخبر بأن الأفضل هو الصدقة ، وان جاز التملك مع الضمان ، حيث أنه عليه‌السلام ، انما سوغ له الثاني بعد المراجعة ثلاثا ، ولعل قصد السائل في هذه المراجعات مع أمره له بالصدقة أولا وثانيا هو أنه قد سمع جواز التملك مع الضمان ، وكان رغبته في ذلك فجوزه عليه‌السلام له أخيرا.

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن ابن جنيد عن هشام

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١٧٧.

١٥٣

بن سالم (١) قال : «سأل حفص الأعور أبا عبد الله عليه‌السلام ، وأنا حاضر فقال : كان لأبي أجير وكان له عنده شي‌ء ، فهلك الأجير ولم يدع وارثا ولا قرابة ، وقد ضقت بذلك فكيف أصنع؟ فقال : رأيك المساكين ، فقلت : جعلت فداك انى ضقت بذلك ، فكيف أصنع؟ فقال : هو كسبيل مالك ، فان جاء طالب أعطيته».

وهذا الخبر موافق لعجز سابقه ، ولخبر خطاب الأعور وأنت خبير بما ذيلنا به هذه الاخبار ، أن بعضا منها دل على الصدقة ، وبعضا على الأمانة في يده ، وبعضا دل على التملك ، وأنه كسبيل ماله يتصرف فيه كما شاء مثل سائر أمواله مع الضمان والوصية به ، والجمع بينهما بالحمل على التخيير بين الأمور الثلاثة.

والأصحاب القائلون بالصدقة قيدوها بأنه يتصدق به عن المالك ، ومتى ظهر المالك ورضى بذلك فلا اشكال : ومع عدم رضاه فيغرم للمتصدق له ، ويكون ثواب الصدقة للمتصدق ، ولا بأس به ، وان كانت الأخبار مطلقة إذ التصدق بمال الغير بغير اذنه والتصرف فيه كذلك ممنوع عقلا ونقلا ، وأما التصدق به على الوجه المذكور فاحسان محض ، «وما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» لانه قد نوى التصدق به على المالك ، فان اتفق موته قبل الصدقة أو بعدها فقد وصل اليه ثواب الصدقة ، وان اتفق حياته ورجوعه الى ماله ، فهو مخير بين قبول ثواب الصدقة ، وغرامة ماله ، ورجوعه عليه ، فالاحسان ظاهر ، وفي بقائه أمانة ـ من خطر التلف بغير تفريط الموجب لعدم الضمان ـ ما هو ممكن ، وكذا في جواز التصرف فيه وتملكه مع الوصية من حيث احتمال عدم رجوعه وظهوره ، فالتصدق على كل حال أرجح (٢).

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٢٤١.

(٢) ومن جملة الفروع على ذلك قالوا لو دفعها الى الحاكم فلا ضمان وان تلف في يده بغير تفريط ولم يرض المالك ، أما مع بقاء عينها معزولا في يده أو يد وارثه فينبغي أن يكون حكمها حكم ما لو كانت في يد الحاكم ، لأن الإذن الشرعي في عزلها يصيرها أمانة في يده ، فلا يتبعه الضمان مع احتماله ، لأن الأمانة هنا شرعية لا مالكية والأمانة

١٥٤

ثم ان ما ذكره الأصحاب من الرجوع للحاكم الشرعي وأطالوا به ، وفرعوا عليه لا وجود له في أخبار المسألة كما سمعت ، الا أن العذر لهم ظاهر من جهة عدم ذكرهم لما نقلناه من هذه الاخبار ، بل عدم وقوفهم عليها ، وأن كانوا غير معذورين من جهة التتبع للأدلة من مظانها ، والاستعجال في التصنيف وجمود من اللاحق على ما ذكره السابق ، نسأل الله سبحانه لنا ولهم المسامحة في زلات الاقدام ، والعفو عن هفوات الأقلام ، وزيغ الأفهام في الأحكام.

قال في المسالك : ومصرف هذه الصدقة مصرف المندوبة ، وان وجبت على المديون أو وارثه بالعارض ، فإنه بمنزلة الوكيل والوصي الذي يجب عليه الصدقة وان كانت في أصلها مندوبة انتهى.

ورابعها : ما ذكروه من أنه مع القطع بموته وعدم وجود الوارث فهو للإمام عليه‌السلام وهو مما لا خلاف فيه بين علمائنا الاعلام ، وبه استفاضت الاخبار كما تقدمت الإشارة إليه في كتاب الخمس في بحث الأنفال ، وحيث أنا لم نعط المسألة حقها ثمة من التحقيق ونقل جملة الأخبار المتعلقة بها ، حيث أن هذا الخاطر انما خطر لنا في الكتب الأخيرة فتنقل هنا جملة أخبار المسألة وما يتعلق بها من البحث والتحقيق.

فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : من مات وليس له وارث من قرابته ، ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال».

وفي رواية حماد بن عيسى (٢) الطويلة المتقدمة في الكتاب المشار اليه آنفا قال : «فيه وهو وارث من لا وارث له».

__________________

الشرعية قد يتبعها الضمان انتهى. وظاهر الشهيد في الدروس التخيير بين الدفع للحاكم وبين إبقائه في يده أمانة وبين الصدقة مع الضمان ـ منه رحمه‌الله.

(١) التهذيب ج ٩ ص ٣٨٧ الفقيه ج ٤ ص ٢٤٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٦٩.

١٥٥

وما رواه الصدوق في الفقيه عن أبان بن تغلب (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل يموت لا وارث له ولا مولى له؟ قال : هو من أهل هذه الآية «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ».

وما رواه في الكافي عن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «من مات وترك دينا فعلينا دينه وإلينا عياله ، ومن مات وترك مالا فلورثته ، ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن والشيخ في الموثق عن محمد الحلبي (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في قول الله عزوجل (٤) «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» قال : من مات وليس له مولى فماله من الأنفال».

وأما ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود عمن ذكره (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لم يكن له وارث فدفع أمير المؤمنين عليه‌السلام ميراثه الى همشهريجه».

وما رواه في الكافي عن خلاد السندي (٦) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : كان على عليه‌السلام يقول في الرجل يموت ويترك مالا وليس أحد : أعط الميراث همشاريجه».

وما رواه في التهذيب عن خلاد عن السري (٧) رفعه الى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، «في الرجل يموت ويترك مالا ليس له وارث قال : فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أعط همشاريجه». فقد أجاب الشيخ عن هذه الروايات بعد الطعن

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٣ التهذيب ج ٩ ص ٣٨٧.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٦٨.

(٣) الكافي ج ٧ ص ١٦٩ التهذيب ج ٩ ص ٣٨٦.

(٤) سورة الأنفال الآية ـ ١.

(٥ ـ ٦) الكافي ج ٧ ص ١٦٩ التهذيب ج ٩ ص ٣٨٧.

(٧) التهذيب ج ٩ ص ٣٨٧.

١٥٦

في الأسانيد ـ بالحمل على تبرعه بحقه ، لا أن هذا حكم كل مال لا وارث له ، وهو جيد.

وقال الصدوق في الفقيه : متى كان الامام ظاهرا فماله للإمام عليه‌السلام ومتى كان الإمام غائبا فماله لأهل بلده متى لم يكن له وارث ، ولا قرابة أقرب إليه بالبلدية.

أقول : أنت خبير بما فيه فان قصد بذلك الجمع بين هذه الاخبار بما ذكره ففيه أن اخبار الدفع الى أهل البلد صريحة في وجود الامام عليه‌السلام ، فان الدافع هو أمير المؤمنين عليه‌السلام فكيف يصح حملها على زمن الغيبة ، والاخبار الاولى وان كانت مطلقة الا أن هذه الاخبار ظاهرة في زمن الحضور ، وان كان ذلك حكما كليا لا بالنظر الى هذه الاخبار فلا دليل عليه والله العالم.

المسألة الثانية : لو كان لأحد في ذمة آخر دين فباعه بأقل منه عينا أو قيمة على وجه لا يحصل فيه الربا ، ولا الإخلال بشروط الصرف لو كان العوضان من الأثمان ، فالمشهور بين الأصحاب أنه يجب على الذي عليه الدين دفع ذلك الدين كملا إلى المشتري ، لأنه قد انتقل اليه بالعقد الصحيح كما انتقل الثمن بأجمعه إلى البائع.

وقال الشيخ وجماعة : انه لا يلزم المدين أكثر مما دفعه المشترى من الثمن ، ولا ريب في مخالفة هذا القول للقواعد الشرعية ، والضوابط المرعية ، الا أنه قد وردت به الاخبار وعليها اعتمد الشيخ (رحمة الله عليه) فيما أفتى به هنا.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كان لرجل عليه دين ، فجاء رجل فاشترى منه بعرض ، ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال له : أعطني مال فلان عليك ، فانى قد اشتريته منه ، كيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر (عليه‌السلام) يرد عليه الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٠ التهذيب ج ٦ ص ١٨٩.

١٥٧

وعن محمد بن الفضيل (١) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : رجل اشترى دينا على رجل ، ثم ذهب الى صاحب الدين ، فقال له : ادفع الى ما لفلان عليك فقد اشتريته منه؟ قال : يدفع اليه ما دفع الى صاحب الدين ، وبري‌ء الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه».

والمشهور بين المتأخرين رد الخبرين بضعف الاسناد ، ومخالفة القواعد الشرعية كما ذكرناه آنفا ، خصوصا الرواية الثانية المتضمنة لبراءة المدين عليه المال من جميع ما بقي عليه ، فإنه لا يعقل هيهنا وجه للبراءة لأنه قبل البيع ملك البائع وبعد البيع فاما أن ينتقل بالبيع إلى المشتري أم لا؟ فان انتقل فالواجب دفع الجميع إلى المشترى ، والا فلا موجب لخروجه عن ملك الأول.

وأما الرواية الأولى فيمكن حملها على مساواة ما اشترى به الدين الذي اشتراه فإنها وان كانت مطلقة ، لكن تنزيلها على ما ذكرناه ممكن لئلا يخرج عن مقتضى القواعد الصحيحة والضوابط الصريحة.

وبالجملة فالمسألة بمحل من الإشكال ، إذ الخروج عن مقتضى القواعد المذكورة مشكل ، وطرح الخبرين من غير معارض في المقام أشكل ، ولو وقع بطريق الصلح صح ولا اشكال ، ولا يراعى فيه شروط الصرف ، لاختصاصه بالبيع ، أما الربا فينبغي مراعاته للقول بعدم اختصاصه بالبيع ، كما تقدم في بابه (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٠ ، التهذيب ج ٦ ص ١٩١.

(٢) ومما يؤيد الخبرين المذكورين ، رواه في الكافي والتهذيب عن عمر بن يزيد (الكافي ج ٥ ص ٢٥٩) «قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه» فإنه ظاهر في براءة ذمة المضمون عنه فيما زاد عن مال الصلح ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا في هذه المسألة والفرق بين المسألتين لا يخلو من خفاء واشكال ، وان أمكن تكلفه الا أن الخبر المذكور لا يخلو من تأييد لما نحن فيه. منه رحمه‌الله.

١٥٨

وللعلامة في المختلف هنا مع ابن إدريس كلام قد بسط فيه لسان الطعن على ابن إدريس والتشنيع لنسبته الى التجهيل مع التأويل للخبرين المذكورين لا بأس بنقله في المقام ، وان طال به زمام الكلام ، لما فيه من الفوائد الظاهرة لذوي الأفهام.

قال (قدس‌سره) في الكتاب المذكور : لو باع الدين بأقل مما له على المديون ، قال الشيخ : لم يلزم المدين أكثر مما وزن المشترى من المال ، وتبعه ابن البراج على ذلك ، وقال ابن إدريس : قول الشيخ طريف عجيب يضحك الثكلى ، وهو أنه إذا كان الدين ، ذهبا كيف يجوز أن يبيعه بذهب أقل منه ، وان كان فضة كيف يجوز بيعه بفضة أقل منه ، أو ان كان ذهبا فباعه بفضة ، أو فضة فباعه بذهب ، كيف يجوز انفصالهما من مجلس البيع الا بعد أن يتقابضا الثمن والمثمن ، يقبض البائع الثمن ، والمشترى المثمن ، فان هذا لا خلاف فيه بين طائفتنا ، بل لا خلاف فيه بين المسلمين ، وقوله لم يلزم المدين أكثر مما وزن المشترى من المال ان كان البيع صحيحا لزم المدين تسليم ما عليه جميعه إلى المشتري ، لأنه صار مالا من أمواله بالشراء ، وقد يشتري الإنسان ما يساوى خمسين قنطارا بدينار واحد ، إذا كان البائع من أهل الخبرة ، وانما هذه أخبار آحاد أوردها على ما وجدها إيرادا لا اعتقادا.

ثم قال العلامة : واعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على حكمين ، الأول ـ جواز بيع الدين بأقل منه. ولا ريب في جوازه ، ونسبة ابن إدريس كلام الشيخ فيه الى أنه طريف عجيب يضحك به الثكلى جهل منه ، وقلة تأمل وسوء فهم ، وعدم بصيرة وانتفاء التحصيل لكلام العلماء ، وعدم معرفة بمدلول أقوالهم ، فإن الشيخ لم يحصر هو ولا غيره من المحصلين الدين في النقود ، بل يجوز أن يكون ذهبا أو فضة أو غيرهما من الأقمشة والأمتعة ، ثم لم يحصروا بيع الدين بالنقود ، ولا أوجبوا أن يكون الثمن من الذهب ، أو الفضة حتى يتعجب من ذلك ، ويظهر للعامة قلة إدراكه وعدم تحصيل وسوء أد به ومواجهة مثل هذا الشيخ المعظم الذي هو رأس المذهب والمعلم له ، والمستخرج للمعاني من كلام الأئمة (عليهم‌السلام) ، بمثل هذه السفه

١٥٩

والقول الردى ، وهل منع أحد من المسلمين بيع قفيز حنطة في الذمة يساوي دينارا بربع دينار ، أو بيع الدينار الدين بربع القفيز ، فإن أداه سوء فهمه وقلة تحصيله الى اشتراط المساواة في الجنس باعتبار لفظة أقل كان ذلك غلطا ظاهرا ، وجعل المال ما لا يدخل فيه الربا فيه ، لظهور مثل هذه القواعد الممهدة والقوانين الموطدة من تحريم الربا ، على انه في باقي كلامه صرح بجواز ذلك حيث تعجب من عدم التزام المديون بجميع الدين ، وسوغ بيع ما يساوى خمسين قنطارا بدينار ، لكن هذا الرجل لقلة تحصيله لا يفهم وقوع التناقض في كلامه ، وتعجبه بنفسه لا يبالي أين يذهب.

الحكم الثاني ـ عدم إلزام المديون بأكثر مما وزنه المشترى والشيخ عول في ذلك على رواية محمد بن الفضيل ، ثم ذكر الرواية كما قدمناه ، ثم ذكر رواية أبي حمزة ، ثم قال : ولا ريب في صحة البيع ولزومه ووجوب إيفاء المشتري ما على المديون.

ولا بد حينئذ من محمل للروايتين وليس بعيدا من الصواب أن يحملا على أحد الأمرين ، الأول ـ الضمان ويكون إطلاق البيع عليه والشراء بنوع من المجاز ، إذ الضامن إذا أدى عن المضمون باذنه عرضا عوضا عن الدين كان له المطالبة بالقيمة ، وهو نوع من المعاوضة يشبه البيع ، بل هي هو في الحقيقة ، وانما ينفصل عنه بمجرد اللفظ لا غير.

المحمل الثاني أن يكون البيع وقع فاسدا فإنه يجب على المديون دفع ما ساوى مال المشتري إليه بالإذن الصادر من صاحب الدين ، ويبرئ من جميع ما بقي عليه من المشترى ، لا من البائع ، ويجب عليه دفع الباقي الى البائع لبرائته من المشترى ، وهذان المحملان قريبان ، يمكن صرف الروايتين إليهما ، وكلام الشيخ أيضا يحمل عليهما من غير أن ينسب الشيخ الى ما نسبه ابن إدريس انتهى كلامه زيد مقامه.

ولا يخفى ما في كل من محمليه للخبرين من التكلف والتعسف ، الذي يقطع

١٦٠