الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

أخذ نفع القرض ، الى أن قال : نعم يمكن حملها على ما إذا لم يشترط جمعا بين الأدلة.

ثم أورد جملة من الروايات الدالة على نفى البأس ما لم يشترط ، ثم ذكر صحيحة محمد بن قيس ، وقال : هذه صريحة في المنع والتحريم عن الزيادة الوصفية ، الى أن قال : فلو لا الحمل ، بل ولو لا هذه الرواية لكان قول الشيخ والجماعة قويا بما تقدم ، مع عدم نص صحيح في المنع في الوصف ، لأن الأخبار المتقدمة إنما دلت بالمفهوم على البأس مع الشرط ، وهو أعم من الكراهة والتحريم ، فكان الحمل على الكراهة أولى فتأمل.

وفيه أولا أن ما نقله عن الشيخ والجماعة من عموم الجواز في الزيادة الوصفية مطلقا لا أعرف له وجها ، وقد قدمنا لك عبائرهم ، وكيف لا والشيخ في النهاية مصرح في غير موضع بتحريم الزيادة وصفية أو عينية مع الشرط (١) وانما استثنى هذا الفرد الذي قدمنا نقله عنه ، وهو مدلول روايته التي نقل عنه الاستناد إليها.

وثانيا أنه قد تقدم في رواية خالد بن الحجاج «انما يفسده الشروط» وهو أعم من أن يكون الزيادة المشروطة عينية أو وصفية ، ولكن له الجواب هنا بأن الخبر غير صحيح ، كما يشير اليه قوله «مع عدم نص صحيح في المنع في الوصف».

وثالثا قوله «فكان الحمل على الكراهة أولى» فإن فيه أن الاولى انما هو العكس ، لان ثبوت البأس المدلول عليه بالمفهوم في تلك الاخبار وان كان أعم من الكراهة والتحريم كما ذكره ، الا أن صحيحة محمد بن قيس لما صرحت بالتحريم ـ كما اعترف به ـ فالمناسب حمل هذا الإطلاق في هذه الاخبار عليها ، وتقييده بها ، كما

__________________

(١) فمن ذلك قوله فإذا أقرض الإنسان مالا ، فرد عليه ما هو الأجود منه من غير شرط كان ذلك جائزا ، وان أقرض وزنا فرد عليه عددا أو أقرض عددا ورد عليه وزنا من غير شرط زاد أو نقص بطيبة نفسه منها لم يكن بذلك بأس ، ثم قال : «وان أعطاه الغلة» العبارة المتقدم نقلها عنه في الأصل ، وهو كما ترى ظاهر في تخصيص الجواز بهذه الصورة. منه رحمه‌الله.

١٢١

والقاعدة المشهورة والله العالم.

وخامسها : قال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بعد البحث في المسألة وتقديم جملة من الاخبار التي قدمناها : ثم ان ظاهر الاخبار المتقدمة وجوب أخذ الأجود ، ذكره في التذكرة ، وليس ببعيد ، وعدم الأخذ بعيد ، وتكليف المقترض بغير الأجود منفي بالأصل ، وبأنه فضل ماله وزيادة بلا مانع ، فيجب القبول ، ولدخوله تحت مثل المال. نعم يمكن المنع في الزيادة العينية ، وهنا أيضا لا ينبغي مع عدم المنة ، بل قد يكون المنة له لو قبل ، الى آخر كلامه (زيد في إكرامه).

وفيه نظر أما أولا فإن ما نقله عن التذكرة ونفى عنه البعد من ظهور الاخبار في وجوب أخذ الأجود ـ لا اعرف له وجها ، فإن غاية ما تدل عليه الاخبار المشار إليها هو نفى البأس عن أخذ الأجود ، كما تضمنته صحيحة الحلبي (١) ورواية خالد بن الحجاج ، (٢) وحسنة الحلبي ، (٣) ورواية أبي الربيع ، (٤) وهو ان لم يدل على البأس ـ كما قيل ان نفى البأس ، يشير إلى البأس ـ لم يدل على الوجوب ، على أن الوجوب حكم شرعي يحتاج الى دليل صريح واضح.

وأما ثانيا فلما عرفت فيما تقدم في المورد الأول من أنه يكره للمقرض قبول الزيادة عينية أو وصفية ، فكيف يتم الوجوب عليه ، وقد أوضحنا ذلك من جملة من الاخبار ، وبذلك أيضا صرح الشيخ في النهاية حيث أنه ـ بعد أن عد جملة من المواضع التي يجوز قبول الزيادة فيها عينية أو وصفية مع عدم الشرط ، قال : «والاولى تجنب ذلك أجمع ، وهو مؤيد لما ذكرناه حيث فهم من الاخبار ما فهمناه.

وأما ثالثا فان ما ذكره من الوجوه التخريجية زاعما دلاتها على الوجوب حيث قال بعدها : فيجب القبول عجيب من مثله (قدس‌سره) فان مثل هذه العلل التخريجية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، إذ الأدلة عندنا منحصرة في الكتاب والسنة ، وعلى تقدير زيادتهم الإجماع ودليل العقل فلا إجماع في المقام ، ولا دليل عقليا ، لانحصار ذلك عندهم في الاستصحاب والبراءة الأصلية.

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٠.

١٢٢

على أن قوله وتكليف المقترض بغير الأجود منفي بالأصل ، معارض بأن مقتضى القواعد أن التكليف انما يقع بما استقر في الذمة ، وجواز الزائد على ذلك انما خرج هنا مخرج الرخصة ، فالأصل ان أريد به بمعنى القاعدة ، فالدليل مقلوب عليه ، كما عرفت ، وغير هذا المعنى لا وجه لاحتماله هنا ، وبالجملة فإن الكلام المذكور لا يخلو عن مجازفة وقصور والله العالم.

الموضع الثالث

المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن القرض يملك بالقبض ، وكثير منهم لم يذكر خلافا في ذلك ، وقيل : بأنه يملك بالتصرف ، ونقل عن الشهيد (رحمة الله عليه) في بعض حواشيه أنه نسب هذا القول الى الشيخ ، وفي الدروس نسب القول المشهور الى الشيخ ، وحكى الأخر بلفظ قيل.

احتجوا للقول المشهور بأن التصرف فرع الملك وتابع له ، فيمتنع كونه شرطا فيه ، والا لزم الدور. وتوجيهه أن التصرف فيه لا يجوز حتى يصير ملكا ، لقبح التصرف في مال الغير ، فلو كان لا يصير ملكا حتى يتصرف فيه للزم توقف التصرف على الملك ، والملك على التصرف وهو دور.

ورد بمنع تبعية التصرف للملك ، وعدم تسليم قولكم أن التصرف لا يجوز حتى يصير ملكا ، فإنه يكفي في جواز التصرف اذن المالك ، كما في غيره من المأذونات ، ولا شك في حصول الإذن بالإيجاب والقبول ، فيكون ذلك سببا تاما في جواز التصرف ، وناقصا بالنسبة إلى إفادة الملك ، فإذا تصرف حصل تمام الملك ، كذا ذكره في المسالك.

وأورد عليه المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) بأن الاذن انما حصل من المالك بأن يكون مالكا ويكون عليه العوض لا مطلقا ، كما في سائر المعاوضات فإنها على تقدير بطلانها لا يجوز التصرف بأن الإذن قد حصل ، ولانه يشكل جميع التصرفات ، لأن الوطي مثلا لا يمكن الا بالملك أو التحليل ، ومعلوم عدم الثاني ، فإذا لم يكن

١٢٣

الأول لم يجز ، وكذا البيع ونحوه ، فإنه لا يجوز لغير مالكه إلا بالوكالة ، أو فضولا ان جوز ، ومعلوم انتفاؤهما انتهى (١) وهو جيد.

ثم انه في المسالك ايضا قال ـ على أثر الكلام المتقدم : ثم انه ان كان التصرف غير ناقل للملك واكتفينا به ، فالأمر واضح ، وان كان ناقلا أفاد الملك الضمني قبل التصرف بلحظة يسيرة ، كما في العبد المأمور بعتقه عن الآمر غير المالك. ونقل في الدروس أن هذا القائل يجعل التصرف كاشفا عن الملك مطلقا ، وعلى هذا فلا اشكال من هذا الوجه بالنسبة إلى التصرف الناقل انتهى.

واعترضه أيضا المحقق المتقدم ذكره هنا فقال : على أثر الكلام المتقدم ـ ولا يجعل حصول الملك قبل التصرف بلحظة كما في العبد المأمور بعتقه للضرورة ، إذ لا ضرورة هنا ، مع أن فيه ما فيه ، لانه ليس بواضح ، ولا موجب له ، ولهذا ترك المحقق الثاني ذلك التأويل.

وفيه أيضا وقال : نقول : ان هذا العبد ملك للمأمور بالدليل الشرعي ، وبما نصرف فيه وموجبه ولا يضر ذلك انتهى.

ثم انه قال في المسالك ايضا : ويؤيد هذا القول أصالة بقاء الملك على أصله الى أن يثبت المزيل ، وان هذا العقد ليس تبرعا محضا ، إذ يجب فيه البدل ، وليس على طريق المعاوضات ، فيكون كالإباحة بشرط العوض ، ولا يتحقق الملك معه الا مع استقرار بدله ، وكالمعاطاة ، ومع ذلك كله فالعمل على المشهور ، بل لا يكاد يتحقق الخلاف انتهى.

__________________

(١) أقول : معنى كلامه (قدس‌سره) حيث أن عبارته لا يخلو من تعقيد أن الاذن انما حصل من المالك الذي هو المقرض بأن يكون القرض ملكا للمقترض ، وعليه عوضه ، فالإذن انما حصل بهذا النحو كما في سائر المعاوضات ، ولا ريب أن هذا القائل يدعى بطلان المعاوضة ما لم يتصرف المقترض في القرض ، وحينئذ فإذا كانت المعاوضة باطلة لا يمكن أن يقال بأنه يجوز التصرف بأصل الإذن بأنه قد حصل ، وإلا لزم مثله في غيره من المعاوضات الباطلة ، وهو معلوم البطلان منه رحمه‌الله.

١٢٤

وظاهر كلامه (قدس‌سره) هو ان الأقوى بحسب القواعد المقررة بينهم هو هذا القول ، لعدم تمامية الدليل الذي احتج به للقول المشهور بناء على ما قرره ، وتأيد هذا القول بما ذكره من هذه الأمور ، وأنه انما صار الى القول المشهور من حيث الشهرة ، بل عدم تحقق المخالف في ذلك.

أقول وعلى هذا النهج كلام غيره في هذا المقام من علمائنا الاعلام ، والعجب منهم (قدس الله أرواحهم ونور أشباحهم) في الركون الى هذه التعليلات. وما أكثروا فيها من التطويلات ، وأخبار أهل البيت عليهم‌السلام ظاهرة في القول المشهور أتم الظهور ، بل هي كالنور على الطور ومنها صحيحة زرارة (١) قال : «قلت لأبي جعفر (ع) : رجل دفع الى رجل مالا قرضا على من زكاته على المقرض أو على المقترض؟ قال : لا بل زكاتها ان كانت موضوعة عنده حولا على المقترض ، قال : قلت : فليس على المقرض زكاتها قال : لا يزكى المال من وجهين في عام واحد ، وليس على الدافع شي‌ء ، لأنه ليس في يده شي‌ء ، إنما المال في يد الآخذ ، فمن كان المال في يده زكاه ، قال : قلت : أفيزكى مال غيره من ماله؟ قال : انه ماله ما دام في يده ، وليس ذلك المال لأحد غيره ، ثم قال : يا زرارة أرأيت وضيعة ذلك المال أو ربحه لمن هو وعلى من هو؟ قلت : للمقترض ، قال : فله الفضل وعليه النقصان ، وله أن ينكح ويلبس منه ويأكل منه ، ولا ينبغي له أن يزكيه فإنه عليه جميعا».

فانظر إلى صراحة هذا الخبر المذكور في الدلالة على القول المشهر بأوضح دلالة ، لا يقترنها شائبة القصور ، ويؤيده غيره من الاخبار الدالة على وجوب الزكاة على المقترض ، وان لم تكن بهذه الصراحة.

وبذلك يظهر لك ان ما قدمنا نقله عنهم كله من قبيل التطويل بغير طائل ، والترديد الذي لا يرجع الى حاصل ، ولا سيما دعوى قوة هذا القول النادر ، وانما

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٥٢٠ وليس في الكافي كلمة جميعا.

١٢٥

أطلنا الكلام بنقله لتحيط علما بالحال ، وأنه لا ينبغي الاقتصار على مراجعة كلامهم بدون الرجوع الى كتب الاخبار ، فكم لهم من غفلة مثل ما عرفت في هذا المضمار ، ولما في ذلك أيضا من مزيد الفائدة في تشحيذ الذهن بممارسة هذه التحقيقات ، وما يترتب عليها من الفوائد في أمثال هذه المقامات.

ثم انه بناء على ما ذكروه من الخلاف فرعوا عليه بأن يظهر فائدة الخلاف في مواضع ، منها جواز الرجوع في العين ما دامت باقية ، ووجوب قبولها لو ردها المقترض ، وفي النماء قبل التصرف ، وفي نفقته لو كان حيوانا ، وفي وقت انعتاقه لو كان ممن ينعتق على المقترض.

أقول : ومن أظهر ذلك أيضا الزكاة الا أنهم لم يذكروها ، ثم انه على تقدير القول المذكور فالمراد بالتصرف الذي يوجب الملك هل هو التلف للعين أو الناقل للملك ، أو مطلق التصرف وان لم يزل الملك ، أو كل تصرف يستدعي الملك؟ فلا يكفى الرهن احتمالات ، وحيث قد عرفت ضعف القول المذكور بما ذكرنا من الصحيحة الصريحة الدالة على القول المشهور ، فلا فائدة في التطويل بما يتعلق به زيادة على ما ذكرنا للفرض المتقدم ذكره.

الموضع الرابع

قد عرفت فيما نقدم أن من جملة ما جعلوه مظهرا للخلاف المتقدم هو جواز الرجوع في العين ما دامت باقية على القول الغير المشهور ، لأنها لم يخرج عن ملك المقرض ، وعدم الجواز بناء على المشهور ، حيث أن المستقرض ملكها بالعقد والقبض ، ولم يبق للمقرض إلا عوضها من القيمة أو المثل ، فليس له الرجوع فيها ، الا أنه يظهر من جملة منهم تفرع ذلك أيضا على القول المشهور من الملك بمجرد القبض ، فإن القائلين بهذا القول اختلفوا في ذلك ، فقال الشيخ في المبسوط والخلاف : يجوز للمقرض أن يرجع في عين القرض.

١٢٦

وقال ابن إدريس : ليس له ذلك الا برضا المقرض ، وهو مذهب العلامة والمحقق ومن تأخر عنهما ، واستدلوا عليه بأنه ملكه بالقرض والقبض ، فلا يتسلط المالك على أخذه منه لانتقال حقه الى المثل أو القيمة.

احتج الشيخ (رحمة الله عليه) بأنه كالهبة في جواز الرجوع فيها ، وأجيب بالمنع من المساواة بين المسألتين ، وتوضيحه أنه قد ثبت ملك المستقرض للعين بالقرض والقبض ، وأن اللازم للمقرض في الذمة إنما هو المثل أو القيمة ، وثبوت التخيير في الرجوع في الهبة بدليل خارج لا يستلزم انسحابه الى ما لا دليل فيه.

وعندي فيه إشكال ، فإن المفهوم من كلامهم وقواعدهم أن الفسخ موجب لرجوع كل شي‌ء إلى أصله ، لأن معناه إبطال أثر العقد السابق الذي رتبه الشارع عليه قبل العقد ، وهو هنا كونه ملكا للمقترض ، فإذا لم تخرج العين الموجودة بالفسخ عن ملك المقترض وأن الذي للمقرض انما هو المثل أو القيمة فهذا مقتضى العقد أولا ، فأي أثر لهذا الفسخ يترتب عليه.

وبما ذكرناه يشكل ما ذكره المتأخرون من ابن إدريس ومن تبعه من أن القرض عقد جائز يجوز فسخه من الطرفين ، ثم يدعون بعد الفسخ أنه ليس له الرجوع الى العين ، وانما يرجع بالمثل أو القيمة ، وكذا عدم وجوب قبوله مع رد المقترض له على مالكه ، مع أن هذا هو مقتضى أصل العقد كما عرفت ، فأي أثر ظهر هنا للفسخ.

وبما ذكرنا يظهر لك أيضا ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ في الاستدلال للقول المشهور ـ حيث قال : ويمكن الاحتجاج للمشهور بناء على الملك بالقبض بأن الأصل في ملك الإنسان ان لا يتسلط عليه غيره الا برضاه ، والثابت بالعقد والقبض للمقرض انما هو البدل ، فيستصحب الحكم الى أن يثبت المزيل ، ولأسند له يعتد به الا كون العقد جائزا يوجب فسخه ذلك.

وفيه منع ثبوت جوازه بالمعنى الذي يدعيه ، إذ لا دليل عليه ، وما أطلقوه من كونه جائزا لا يعنون ذلك ، لانه قد عبر به من ينكر هذا المعنى وهو الأكثر ، وانما

١٢٧

يريدون بجوازه تسلط المقرض على أخذ البدل إذا طالب به متى شاء ، وإذا أرادوا بالجواز هذا المعنى فلا مشاحة في الاصطلاح ، وان كان مغايرا لغيره من العقود الجائزة من هذا الوجه ، وحينئذ فلا اتفاق على جوازه بمعنى يثبت به المدعى ، إذ لا دليل صالحا على ثبوت الجواز له بذلك المعنى المشهور ، فيبقى للملك وما ثبت في الذمة حكمها الى ان ثبت خلافه وهذا هو الوجه انتهى (١).

وفيه أنك قد عرفت بما ذكرنا أن الاستصحاب ـ الذي أعتمده في بقاء الحكم الأول وهو الذي أشار إليه في آخر كلامه فيبقى للملك الى آخره ـ قد ارتفع وزال بالفسخ ، سواء فسر به الجواز أم لا والا لم يكن لهذا الفسخ أثر بالكلية ، والمعلوم من القواعد الشرعية خلافه.

__________________

(١) أقول : والتحقيق أن يقال ان قلنا بأن القرض من العقود الجائزة ـ كما هو المشهور بينهم ـ فإنه برجوع المالك في العين مع وجوده له أخذها ، لأنها وان كانت قد صارت ملكا للمقترض ، الا أنه ملك متزلزل مراعى بعدم مطالبة المالك بالعين ما دامت موجودة ، وحينئذ فيكون مثل الهبة على بعض الوجوه ، وكالبيع في زمن الخيار ، لان الفرض ان العقد جائز غير لازم ، وقضية جوازه ذلك.

وأما حكم الأكثر بجوازه مع المنع من الرجوع في العين ، وانما يرجع بالعوض الذي في الذمة ، فإنه يرد عليهم أن هذا مما يوجب كون العقد لازما لا جائزا ، وان قلنا بلزومه كما هو ظاهر الأدلة التي ذكرناها في الأصل ، فإنه برجوعه ليس له الا العوض الذي في الذمة ، لأن العين قد انتقلت منه بالعقد الى المقترض وخرجت عن ملكه ، فصار حقه العوض ، فلو طالبت فإنما حقه بالعوض.

وفسخه العقد على هذه الكيفية إنما يوجب العوض ، أما لو حصل التفاسخ من الطرفين والإقالة من الجانبين فالواجب دفع العين مع وجودها ، والا فالعوض ، لانه لا فرق بينه وبين سائر العقود اللازمة من بيع وغيره ، فكما أنه متى تفاسخ المتبايعان وحصلت الإقالة من عقد البيع فإنه يرجع كل عوض الى مالكه مع وجوده والا فعوضه من مثل أو قيمة ، فكذلك هنا والله العالم منه رحمه‌الله.

١٢٨

فالتحقيق أن كلامه (قدس‌سره) في هذا المقام يرجع الى القول باللزوم ، وان تستر عنه بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وذلك فان مظهر الجواز واللزوم هنا انما هو بالنسبة الى مال المقرض ، فان قلنا بكون عقد القرض من العقود الجائزة ، ترتب عليه صحة الرجوع مع وجود العين ، وان قلنا أنه من العقود اللازمة فليس له الا العوض المستقر في الذمة وان كانت العين موجودة.

وما تستر به من تسميته جائزا باعتبار استحقاق العوض الذي في الذمة فيرجع اليه كلام قشري ، فإن ذلك ثابت بأصل العقد ، سواء سمى جائزا أو لازما ، ومجرد التسمية بذلك من غير ثمرة ترتب عليها لا معنى له ، وبالجملة فإن المستفاد من الصحيحة المتقدمة في سابق هذا الموضع هو حصول الملك بالقبض ، ومقتضاه أن الثابت في الذمة انما هو العوض من قيمة أو مثل ، وأما أنه بعد رجوع المالك فيما دفعه مع وجود عينه هل له العين أو العوض؟ فلم أقف فيه على نص.

والموافق لقواعدهم من أن القرض عقد جائز ـ وأنه ينفسخ بالفسخ من الطرفين ، أو أحدهما ، وأن الفسخ يوجب رد كل شي‌ء إلى أصله ، لأنه يرجع الى إبطال العقد السابق ـ هو ما ذكره الشيخ من الرجوع الى العين مع وجودها ، والا فالعوض (١) الا أن أكثرهم كما عرفت على خلافه ، من أنه انما يرجع الى العوض وان كانت العين موجودة ، ولا مخرج من ذلك الا بالقول بأن العقد لازم ، وانه بالفسخ يرجع الى العوض الذي في الذمة ، كما نبه عليه شيخنا المشار اليه آنفا ، مع أنهم لا يقولون

__________________

(١) حيث قال في الاحتجاج للشيخ (رحمة الله عليه) ويمكن تعليله أيضا بالاتفاق على أن عقد القرض جائز ، ومن شأن العقد الجائر أن من اختار فسخه رجع الى عين ماله ، لا الى عوضه ، كالهبة والبيع بالخيار ، فلو جاز فسخ القرض من دون أخذ العين لأدى إلى لزومه ، ومقتضى فسخ العقد الجائز ان يرجع كل منهما الى عوصه مع بقائه ، والى بدله مع تلفه ، وخروج هذا العقد عن هذا الحكم مع جوازه لا وجه له ، وأما رجوعه بالعوض الذي ثبت في ذمة المقترض بالقبض فالحق فيه أنه انما يناسب لزوم المعاوضة لا جوازها ايضا انتهى منه رحمه‌الله.

١٢٩

باللزوم.

وكيف كان فإن المسألة لعدم النص مع تدافع كلامهم في المقام محل اشكال والله العالم.

الموضع الخامس : قد عرفت ان المشهور ان القرض من العقود الجائزة التي يجوز الرجوع فيها من الطرفين بل ادعى عليه الإجماع ، وعلى هذا فلو شرط التأجيل فيه لم يلزم ، وبذلك صرحوا أيضا ، وكذا كل شرط سائغ ، وان كان يستحب الوفاء بذلك ، وعللوا الأول بأن القرض تبرع ، والمتبرع به ينبغي له الخيار في تبرعه متى أراد الرجوع إليه في المجلس أو غيره ، الا أن يشترط التأجيل في عقد آخر لازم ، أما في نفس عقد القرض فلا ، لأنه جائز فلا يلزم ما شرط فيه ، حيث أن الشرط جزء من العقد يتبعه في لزومه وجوازه.

ويظهر من المحدث الكاشاني في المفاتيح القول بلزوم العقد المذكور ، ولزوم التأجيل متى اشترط في العقد ، وهو الظاهر من الأدلة الشرعية كما ستقف عليه.

والى ذلك أيضا يميل كلام المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) وظاهر الفاضل الخراساني الميل الى ذلك ايضا.

والذي وقفت عليه من الأدلة الشرعية في المقام مما يدخل في سلك هذا النظام قوله عزوجل (١) «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» وهي شاملة للسلم والنسية والقرض ، ونحوها من الديون ورواية الحسين بن سعيد (٢) قال : «عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ثم مات المستقرض أيحل مال القارض بعد موت المستقرض منه؟ أم لورثته من الأجل ما للمستقرض في حياته فقال : إذا مات فقد حل مال القارض».

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٩.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الدين الرقم ـ ٢.

١٣٠

والتقريب فيها من وجهين أحدهما ـ تقريره عليه‌السلام للسائل في أن الأجل لازم في القرض مطلقا (١) بل ظاهره كون ذلك في عقد القرض ، وثانيهما ـ دلالته بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند المحققين ، وعليه دلت الاخبار ايضا على صحة التأجيل

ورواية ثواب الأعمال المتقدمة في صدر المقصد (٢) وقوله عليه‌السلام «من أقرض قرضا وضرب له أجلا» الحديث.

وما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) حيث قال «وروى من أقرض قرضا ولم يرد عليه عند انقضاء الأجل كان له من الثواب في كل يوم صدقة دينار».

وهذان الخبران ـ كما ترى كالاية والخبر المتقدم ـ صريحان في صحة التأجيل في عقد القرض ، وارتكاب التأويل فيها بأن الأجل قد وقع في عقد آخر لازم لما يتجشمه من له أدنى فهم وروية بمعرفة سياق الكلام ، ومتى ثبت صحة الشرط ولزومه ثبت لزوم أصل العقد لاتفاقهم على أن لزوم الشرط تابع للزوم العقد ، وهم انما منعوا من لزوم التأجيل في عقد القرض بناء على اتفاقهم على جوازه ، وحملوا رواية الحسين بن سعيد على الاستحباب تفاريا من طرحها.

وفيه أن الحمل على الاستحباب فرع وجود المعارض ، وليس الا مجرد اتفاقهم المدعى في المقام مع تأيد الرواية المذكورة بما ذكرنا من عموم الآية وخبري ثواب الأعمال وكتاب الفقه وغيرهما مما ستعرف إنشاء الله تعالى.

قال المحدث الكاشاني (قدس‌سره) بعد نقل نحو ما قدمنا عنهم : «وفيه نظر» مع أنه ينفيه عمومات الوفاء بالعقود ، والتزام الشروط ، وخصوص (٤) «من مات وقد أقرض إلى أجل يحل» ، وأيضا ينافيه قول الأكثر بعدم جواز الارتجاع

__________________

(١) قوله مطلقا اى سواء كان في عقد آخر لازم أو في نفس عقد القرض ـ منه رحمه‌الله.

(٢) ص ١٠٩.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٠.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ١٩٠.

١٣١

كما مر ، الا أن (١) يقال : المراد بالجواز تسلط المقرض على أخذ البدل متى شاء

وفيه أنه لا فرق بينه وبين اللازم حينئذ ، غير أنه لا يقع مؤجلا ، وفيه كما ترى ، مع أن قوله إلى أجل والحديث المذكور يناديان بخلافه ، مضافا الى العمومات فان كان إجماعا والا فالعمل على الظواهر انتهى.

وهو جيد وأيده المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) ايضا بما دل على وجوب الوفاء بالوعد ، قال في شرح الإرشاد ـ بعد أن نقل عنهم الاستدلال على بطلان اشتراط التأجيل في العقد بالأصل مع عدم موجبه ، إذ القول ليس بموجب عندهم والإجماع : ـ ما ملخصه ولكن نفهم وجوب الوفاء بالوعد من العقل والنقل ، الا أن عدم العلم بالقول به يمنع عن ذلك ، والا كان القول به جيدا كما نقل عن بعض العامة (٢) الى أن قال بعد نقل كلام لهم في البين : والظاهر أن دليله الإجماع ، والأصل مع عدم الموجب ، كما مر ، الا أن ما قلناه مما يدل على وجوب الوفاء بالوعد والعقد مثل «أَوْفُوا» «ولِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» «والمسلمون عند شروطهم» وغير ذلك يدل على اللزوم ، ولو وجد القائل به لكان القول به جيد جدا ، وان لم يكن بعدم الخروج عن قولهم ايضا دليل واضح ، إذ الإجماع غير واضح

__________________

(١) إشارة الى ما تقدم عن اعتذار شيخنا الشهيد الثاني عن الأكثر تحمل الجواز على هذا المعنى ، وفيه ما ذكره مع ما سيأتي في البحث أيضا إنشاء الله تعالى منه ـ رحمه‌الله.

(٢) نقل العلامة في التذكرة عن مالك أن القرض يثبت له الأجل ابتداء وانتهاء بأن يقرضه مؤجلا ويقرضه حالا ثم يؤجله ، ثم أجاب عن دليله بأن المؤمنين عند شروطهم لا يدل على الوجوب ، فتحمل على الاستحباب.

أقول : لا يخفى أنهم في غير موضع قد استدلوا على وجوب الوفاء بالشرط لهذا الخبر وأفتوا به ، وقد عرفت من الاخبار المذكورة في الأصل ، وظاهر الآية ما فيه الكفاية الدالة على المراد ، ولا سيما رواية الحسين بن سعيد ـ منه ـ رحمه‌الله.

١٣٢

ولا دليل غيره ، الا أنه يحتاج إلى جرأة انتهى ملخصا.

أقول : لا يخفى أن ما ذكره هنا وكرره من توقف القول ـ بعد وجود الدليل عليه على قائل بذلك من المتقدمين ـ ضعيف واه ، بل أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ، إذ لا يخفى على الخائض في الفن والمتدبر لما وقع للأصحاب سيما المتأخرين من الاختلاف ، وكثرة الأقوال في المسائل الشرعية أنهم لم يجروا على هذه القاعدة التي ذكرها.

وتوضيح ذلك هو أنه لا يخفى أن أول من فتح هذا الباب من التفريع في الأحكام وكثرة الأقوال هو الشيخ والمرتضى (رضى الله عنهما) ، وقد نقل بعض الأصحاب انحصار الفتوى في زمن الشيخ وبرهة من الزمان بعده فيه (قدس‌سره) ولم يبق الا حاك عنه وناقل حتى انتهت النوبة الى ابن إدريس ، ففتح باب الطعن على الشيخ ، ثم انتشر الخلاف في المسائل الشرعية ، وتعددت الأقوال فيها على ما هي عليه الآن ، حتى أنك لا تجد حكما من الأحكام الا وقد تعددت فيه أقوالهم بل من الواحد منهم في كتبه الا الشاذ النادر منها ولو أنهم اتفقوا على كلام الشيخ والمرتضى اللذين هما أول من فتح هذا الباب لما اتسعت الدائرة الى هذا التعدد في الأقوال الموجودة الان ، فكيف استجاز هذا المحقق المنع من الفتوى بما قام عليه الدليل ، لعدم قائل به من المتقدمين ، مع أن من تقدمه من المتأخرين لم يلتزموا به ، ولم يقفوا عليه ،

ولله در شيخنا الشهيد الثاني (طيب الله مرقده) حيث قال في المسالك في مسئلة «ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية» ، بعد الطعن في الإجماع ونعم ما قال : وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل. التي ادعوا فيه الإجماع ، إذا قام الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، ولكن زلة المتقدم متسامحة بين الناس دون المتأخر انتهى وهو جيد رشيق كما لا يخفى على من نظر بعين التحقيق.

١٣٣

وبالجملة فإن مقتضى ما ذكرنا من الآية والاخبار والمؤيدات المذكورة هو صحة التأجيل في القرض ولزوم عقده ، وليس لها مقابل يمنع من العمل بها ، ويوجب ارتكاب التأويل فيها سوى مجرد دعويهم الاتفاق على الجواز ، وعدم صحة التأجيل حيث أنه لا يصح تأجيل الحال.

قال في الشرائع : «ولو شرط التأجيل في القرض لم يلزم ، وكذا لو أجل الحال لم يتأجل ، وفيه رواية مهجورة يحمل على الاستحباب» ، وأشار بها الى رواية الحسين بن سعيد المتقدمة.

وفيه زيادة على ما عرفت أن ثبوت الحلول له مع إطلاق العقد لا ينافي التأجيل مع اشتراطه ، فإن إطلاق عقد البيع يقتضي حلول الثمن الا أن يشترط تأجيله ، وبعين ذلك يقال في القرض ، فإنه عقد أوجب انتقال العين المقترضة إلى المقترض وثبوت عوضها في ذمته حالا ، ولا مانع من اشتراط تأجيله إذا حصل التراضي عليه ، وبالجملة ان مجرد كونه حالا لا ينافي التأجيل إذا اشترط.

ثم ان الذي يظهر من شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هو لزوم العقد ، ولزوم شرط التأجيل ، حيث قال في شرح قول المصنف : «ولو شرط التأجيل في القرض» الى آخره : ويجي‌ء على ما قررناه من لزومه على ذلك الوجه احتمال لزوم هذا الشرط ، مضافا الى عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «المؤمنون عند شروطهم». وغير ذلك مما دل على لزوم ما شرط في العقد اللازم ، إذ ليس هذا العقد على حد العقود الجائزة ليقطع فيه بعدم لزوم الشرط ، ولا على حد اللازمة ليلحقه حكمها ، ويمكن على هذا أن يرجع الى عموم الأدلة الدالة على لزوم الالتزام بالشرط ، والوفاء بالعقود انتهى.

أقول : أشار بقوله ما قررناه الى ما قدمنا نقله عنه في سابق هذا الموضع من قوله «ويمكن الاحتجاج للمشهور» الى آخره وقد عرفت ما فيه ، وأنه يرجع

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٦٩.

١٣٤

في الحقيقة إلى القول بلزوم عقد القرض كما اخترناه ، وفاقا لمن ذكرناه ، وتسميته له جائزا باعتبار ما ذكره من الرجوع الى العوض الذي في الذمة كلام شعري لا ثمرة له لما عرفت آنفا.

ثم ان قوله «انه ليس على حد العقود الجائزة ولا اللازمة» لا أعرف له معنى بالنسبة إلى سلب اللزوم عنه ، أما سلب الجواز فقد عرفته مما قدمناه من الاخبار ، ومما ذكره أيضا ، وأما سلب اللزوم فلا أعرف له مستندا الا مجرد دعواهم ذلك ، والا فظواهر الأدلة التي قدمناها والمؤيدات التي ذكرناها كلها شاهدة باللزوم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشهور أنه متى وقع اشتراط تأجيل القرض في عقد لازم فإنه يصح الشرط المذكور ، وانما منعوا من ذلك في عقد القرض من حيث أن عقد القرض من العقود الجائزة ، فلا يلزم الشرط ، لانه يتبع في اللزوم وعدمه ، العقد في لزومه وجوازه ، وحيث كان العقد عندهم غير لازم فكذا ما اشتمل عليه ، بخلاف العقد المتفق على لزومه ، كالبيع بأن يبيعه شيئا ويشترط في متن العقد تأجيل ما يستحقه عنده من القرض أو الدين ، وقيل : بالعدم ، بل ان اشتراطه في العقد اللازم يقلب اللازم جائزا.

قال في الدروس : ولو شرط تأجيله لم يلزم ، ولو شرط تأجيله في عقد لازم قال الفاضل : يلزم تبعا للازم ، ويشكل بأن الشرط في اللازم يجعله جائزا ، فكيف ينعكس ، وفي رواية الحسين بن سعيد «في من اقترض إلى أجل فمات يحل» وفيها اشعار بجواز التأجيل ، فيمكن حملها على الندب انتهى.

أقول : الحمل على الندب فرع وجود المعارض ، مع أنك عرفت تأيد الرواية المذكورة بالآية والروايتين المتقدمتين ، وغيرهما من المؤيدات المتقدمة الظاهر جميعه في جواز التأجيل ، فلا التفات الى ما ذكره ، والمراد من قولهم أن الشرط الجائز في العقد اللازم يقلب اللازم جائزا ، وجعلوا ذلك قاعدة كلية يعنى أن المشروط عليه لو أخل بالشرط تسلط الأخر على فسخ العقد المشروط فيه ، وفيه أن ذلك هو أحد القولين

١٣٥

في المسألة كما تقدم ذكره في المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام الخيار (١) من الفصل الثاني الخيار ، والذي اخترناه ثمة وبه صرح جملة من الأصحاب هو أنه يجب الوفاء بالشرط ، ويأثم بتركه ، ويجبر على الوفاء به لو امتنع ، ولو برفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فإن تعذر تحصيل الشرط من جميع الوجوه تسلط على الفسخ ان شاء ، وهذا الأمر العارض للعقد لا ينافي لزومه في أصله ، وبذلك يحصل الجمع بين الحقين ، والأدلة التي في البين من الجانبين.

الموضع السادس : قد قرروا لما يصح إقراضه ضابطة ، وهي كلما يضبط وصفه وقدره ، فإنه يجوز إقراضه ، فيجوز إقراض الذهب والفضة وزنا ، والحنطة والشعير كيلا ووزنا فلو اقترض شيئا من ذلك من غير الاعتبار بما يعتبر به لم يفد الملك ، ولم يجز له التصرف فيه وان اعتبره بعد ذلك ، ولو تصرف فيه قبل الاعتبار ضمنه ، ولا طريق الى التخلص منه الا بالصلح ، لكونه مجهولا ، ويجوز اقتراض الخبز وزنا بلا اشكال ، وكذا يجوز عددا ولا يضر التفاوت اليسير المتسامح به عادة بين أفراده.

ويظهر من التذكرة أنه إجماعي عندنا ، ونحوه البيض والجوز ، وشرط في الدروس في قرض الخبز عددا عدم التفاوت ، والا اعتبر وزنا ، ولعله محمول على التفاوت الذي لا يتسامح به عادة وعرفا ، مع أنه قد روى الصدوق (عطر الله مرقده) في الفقيه عن الصباح بن سيابة (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان عبد الله بن أبى يعفور أمرني أن أسألك قال : انا نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه ، أو أكبر فقال عليه‌السلام : نحن نستقرض الجوز الستين والسبعين عددا فيه الصغيرة والكبيرة فلا بأس».

وروى الشيخ عن إسحاق بن عمار (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : استقرض

__________________

(١) ج ١٩ ص ٦٦.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١١٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٦٢.

١٣٦

الرغيف من الجيران ونأخذ كبيرا ونعطي صغيرا أو نأخذ صغيرا ونعطي كبيرا؟ قال : لا بأس».

وعن غياث (١) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : «لا بأس باستقراض الخبز».

والروايتان الأولتان مصرحتان بالجواز مع التفاوت ، فيجب حمل كلامه (قدس‌سره) على التفاوت الزائد على المعتاد ، ثم ان الثابت في الذمة في المثلي هو المثل ، وفي القيمي هو القيمة.

وضابط الأول هو ما يتساوى أجزاؤه في القيمة والمنفعة وان تفاوتت بعض صفاته ، بمعنى أن قيمة نصفه تساوى قيمة النصف الأخر ، ويقوم مقامها في المنفعة ، وهكذا كل جزء بالنسبة إلى نظيره كالحبوب والادهان ، والظاهر أن ذلك بناء على الغالب ، والا فإن الحنطة مثلا قد يتفاوت أفرادها وأوصافها ، فإنا نرى بعض أفراد الحنطة ليس قيمته كقيمة غيره وهكذا الادهان.

وضابط الثاني هو ما يختلف أجزاؤه في القيمة والمنفعة كالحيوان ، فالمثلي يجب قبول مثله ، والظاهر أنه يجب قبول عين ماله بالطريق الأولى ، لأنه مخير في جهات القضاء بين العين والمثل ، وان كان الثابت في الذمة انما هو المثل ، ولو تعذر وجود المثل رجع الى القيمة ، وهل هي عبارة عن قيمته يوم القرض ، أو التعذر ، أو المطالبة؟ أوجه : اختار في المسالك منها الأخير ، قال : لانه وقت الانتقال إلى القيمة ، لأن الثابت في الذمة أنما هو المثل الى أن يطالب به.

أقول : الظاهر أنه ينبغي تقييد هذا القول باقتران المطالبة بالتسليم بمعنى أنه لما طالبه بالمثل وتعذر وسلم إليه القيمة في ذلك الوقت ، لانحصار الحق فيها ، والا فلو فرضنا أنه طالب ولم يسلم اليه ثم اتفق وجود المثل فالظاهر انحصار الحق فيه ، لا في القيمة ، والظاهر أن مراد هذا القائل ما ذكرناه.

ونقل في المختلف عن ابن إدريس أنه مع التعذر فالواجب القيمة يوم المطالبة

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٣٨.

١٣٧

ثم قال : والأجود يوم الدفع ، ثم احتج على ذلك بأن الثابت في الذمة المثل ، ولا يبرئ الا بالمعاوضة عليه انتهى. وفيه تأييد لما ذكرناه من أن مجرد المطالبة لا يوجب الانتقال إلى القيمة استصحابا لبقاء ما كان ثابتا قبلها الى وقت التسليم ، فإنه هو الذي يوجب الانتقال إلى القيمة كما عرفت.

وعلل الوجه الأول بسبق علم الله تعالى بتعذر المثل وقت الأداء ، فيكون الواجب حينئذ انما هو القيمة يومئذ. ورد بأنه لا منافاة بين وجوب المثل وقت القرض طردا للقاعدة الإجماعية ، والانتقال إلى القيمة عند المطالبة لتعذره.

أقول ويؤيده ان الأحكام الشرعية لا يناط بعلم الله سبحانه ، ولا بالواقع ونفس الأمر ، وانما تبتنى على الظاهر من حال المكلف ويسره وعسرة ، وقدرته وعدم قدرته وعلمه وجهله ، ونحو ذلك.

وعلل الوجه الثاني بأنه وقت الانتقال الى البدل الذي هو القيمة. ورد بأن التعذر بمجرده لا يوجب الانتقال إلى القيمة لعدم وجوب الدفع ، وحينئذ فيستصحب الواجب الى أن يجب دفعه بالمطالبة ، فحيث لم يوجد وقت المطالبة ينتقل إلى القيمة ، وأنت خبير بما في هذه التعليلات من عدم الصلاحية لتأسيس الأحكام الشرعية مع فرض سلامتها من المناقشات ، وان كان القول بالقيمة وقت المطالبة والتسليم أقرب الى الاعتبار ، وقد تقدم الكلام في نظير هذه المسئلة ، هذا بالنسبة إلى المثلي.

وأما القيمي فالكلام فيه في موضعين : أحدهما في بيان ما هو الواجب في عوضه وفيه أقوال : أحدها ـ وهو المشهور قيمته مطلقا ، لعدم تساوى أجزائه واختلاف صفاته ، فالقيمة فيه أعدل.

وثانيها ـ ما أشار إليه في الشرائع بعد ذكر القول الأول بقوله : «ولو قيل يثبت مثله أيضا كان حسنا» وظاهره عدم وجود القائل به ، وان كان ظاهر كلامه اختياره ، واعترف في المسالك بأنه لا قائل به من أصحابنا.

والمراد من هذا القول ضمانه بالمثل مطلقا ، لان المثل أقرب الى الحقيقة ،

١٣٨

وربما احتج عليه بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة أخرى» (٢). وحكم بضمان عائشة إناء حفصة وطعامها لما كسرته ، وذهب الطعام بمثلهما» قال في المسالك : والخبران عاميان ، ومع ذلك فهما حكاية حال لا تعم ، فلعل الغريم رضى بذلك ، وموردهما مطلق الضمان ، وعورضا بحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقيمة في المعتق الشقص انتهى.

وثالثها المثل الصوري فيما يضبطه الوصف ، وهو ما يصح السلم فيه كالحيوان والثياب ، وضمان ما ليس كذلك بالقيمة كالجواهر والقسي ، اختاره العلامة في التذكرة محتجا على الأول بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) «اقترض بكرا ورد بازلا». وأنه استقرض بكرا وأمر برد مثله.

وأجيب بأن فيه على تقدير صحة السند ان مطلق الدفع أعم من الوجوب ، ولا شبهة في جواز ذلك مع التراضي كيف وقد زاده خيرا فيما دفع.

أقول ما ذكره من الخبرين المذكورين لا وجود له في أخبارنا ، بل الظاهر أن ذلك من طريق العامة ، وهم كثيرا ما يحتجون الى مثل هذه الاخبار في موضع الضرورة ، مع ردهم الأخبار المروية في الأصول المعتمدة ، بزعم أنها ضعيفة باصطلاحهم المحدث ، وصورة الرواية العامية على ما نقله بعض المحققين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) «اقترض قرضا من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقتضي الرجل بكره ، فرجع أبو رافع وقال : لم أجد فيها الا جملا جبارا رباعيا ، فقال : أعطه إياه ان خير الناس أحسنهم قضاء». ومما ذكرنا يظهر أن أظهر الأقوال هو الأول.

الموضع الثاني : أنه على اعتبار القيمة مطلقا كما هو الأول من الأقوال المتقدمة أو على بعض الوجوه كما تضمنه القول الثالث ، فهل المعتبر قيمته وقت القبض أو وقت القرض؟ قولان : اختار أولهما المحقق في الشرائع ، وثانيهما العلامة في القواعد.

__________________

(١ ـ ٢) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٦.

(٣ ـ ٤) سنن البيهقي ج ٦ ص ٢١.

١٣٩

وعلل الأول بأنه وقت الثبوت في الذمة ، بناء على ما هو المشهور من أن القرض يملك بالقبض ، وعلل الثاني في شرح القواعد بذلك ايضا.

ورد بأنه غير واضح ، إذ لا انتقال إليها قبل القبض ، ويمكن الجمع بين القولين بناء على ما هو الغالب من القبض بعد صيغة القرض من غير فاصل ، أو جعل القبض قبولا بناء على الاكتفاء بالقبول الفعلي كما هو الغالب ايضا ، فيحمل القرض في القول الثاني على القبض لعدم تخلفه عنه ، بناء على ما هو الغالب من كون القرض مستلزما للقبض.

والا فلو أريد به مجرد الصيغة وان تأخر القبض فبطلانه أظهر من أن يذكر ، لان الملك لا يترتب على مجرد الصيغة من دون قبض اتفاقا نصا وفتوى ، ومتى لم يحصل الملك لم يستقر القيمة في الذمة ، ويأتي على القول بأنه انما يملك بالتصرف الانتقال إلى القيمة وقت التصرف ، حيث ان الملك لا ينتقل الا به ، ولا اعتبار بالقيمة يوم المطالبة هنا قولا واحدا ، الا على القول بضمان المثل وتعذره ، فيعتبر يوم المطالبة على الوجه الذي قدمنا بيانه والله العالم.

تذنيبان

الأول : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بجواز إقراض الجواري ، قال في المسالك لا خلاف فيه ، للأصل والضبط ، وجواز السلف فيهن فجاز قرضهن كالعبيد ، وخالف في ذلك بعض العامة مع اطباقهم على جواز اقتراض العبيد ، والجارية التي لا يحل وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة : انتهى. مع أن الشهيد في الدروس نقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط انه قال : لا نص لنا ولا فتيا في إقراض الجواري وقضية الأصل الجواز. انتهى.

والذي وقفت عليه في نسخة كتاب المبسوط وهي نسخة صحيحة ما هذه عبارته لا اعرف نصا لأصحابنا في جواز إقراض الجواري ولا في المنع ، والأصل جوازه ، وعموم الاخبار في جواز القرض يقتضي جوازه ، فلعل العبارة المنقولة

١٤٠