الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وروى عبد الرحمن بن الحجاج (١) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «تعوذوا بالله من غلبة الدين ، وغلبة الرجال وبوار الأيم». أقول الأيم التي لا زوج لها وبوارها كسادها ، وفي التهذيب «نعوذ بالله».

وفي كتاب معاني الأخبار روى عن الكاهلي «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام أكان على عليه‌السلام يتعوذ من بوار الأيم؟ فقال : نعم ، وليس حيث تذهب انما كان يتعوذ من العاهات ، والعامة يقولون بوار الأيم وليس كما يقولون».

قيل : لعل المراد أن التعوذ منه انما هو البوار الذي يكون من جهة العاهة بها لا مطلق البوار ، وان كانت صحيحة ليس بها بأس.

وعن مسعدة بن صدقة (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا وجع الا وجع العين ، ولا هم إلا هم الدين.

وبهذا الاسناد (٣) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الدين ربقة الله عزوجل في الأرض ، فإذا أراد الله جل اسمه أن يذل عبدا وضعه في عنقه.

وعن عبد الله بن ميمون القداح (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، عن آبائه عن على عليهم‌السلام قال : «إياكم والدين فإنه مذلة بالنهار مهمة بالليل ، وقضاء في الدنيا وقضاء في الآخرة».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب المشيخة لابن محبوب عن أبي أيوب عن سماعة (٥) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل منا يكون عنده الشي‌ء يتبلغ به وعليه دين ، أيطعمه عياله حتى يأتي الله بميسرة فيقضي دينه؟ أو يستقرض على ظهره في جدب الزمان وشدة المكاسب أو يقضي بما عنده دينه ويقبل

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٩٢ التهذيب ج ٨ ص ١٨٣.

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ١٠١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٩٥ التهذيب ج ٨ ص ١٨٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدين.

١٠١

الصدقة قال : يقضى بما عنده دينه ويقبل الصدقة ، وقال : لا يأكل أموال الناس الا وعنده ما يؤدى إليهم حقوقهم ، ان الله تعالى يقول (١) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» وقال ما أحب له أن يستقرض الا وعنده وفاء بذلك ، اما في عقده أو تجارة ، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين ، الا أن يكون له ولي يقضى دينه عنه من بعده ، ثم قال : انه ليس منا من يموت الا جعل الله له وليا يقوم في دينه فيقضى عنه».

وعن حنان بن سدير (٢) عن أبيه ، عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله الا الدين ، فإنه لا كفارة له الا أداؤه أو يقضي صاحبه ، أو يغفر الذي له الحق».

وعن معاوية بن وهب (٣) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انه ذكر لنا أن رجلا من الأنصار مات وعليه ديناران دينا فلم يصل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : صلوا على صاحبكم حتى ضمنها عنه بعض قرابته ، فقال : أبو عبد الله عليه‌السلام ذلك الحق ثم قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض ، ولئلا يستخفوا بالدين ، وقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه دين ، وقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعليه دين ، ومات الحسن عليه‌السلام وعليه دين ، وقتل الحسين عليه‌السلام وعليه دين» (٤).

__________________

(١) سورة النساء الآية ـ ٢٧.

(٢ ـ ٣) الكافي ج ٥ ص ٩٤.

(٤) وروى في كتاب قرب الاسناد عن الحسن بن طريف عن الحسين بن علوان «عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : لقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان درعه لمرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعا من شعير استلفها نفقة لعياله». وبالسند المذكور عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من طلب رزقا حلالا فأغفل فليستدن على الله وعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». منه رحمه‌الله.

١٠٢

وفي كتاب كشف المحجة لابن طاوس (١) قال : «رأيت في كتاب إبراهيم بن محمد الأشعري الثقة بإسناده عن أبى جعفر عليه‌السلام ، «قال : قبض على عليه‌السلام وعليه دين ثمان مأة ألف درهم ، فباع الحسن عليه‌السلام ضيعة له بخمسمأة ألف درهم ، وقضاها عنه وباع ضيعة له بثلاثمائة الف فقضاها عنه وذلك أنه لم يكن يرزأ من الخمس شيئا وكانت تنوبه نوائب».

قال : ورأيت في كتاب عبد الله بن بكير (٢) بإسناده عن أبى جعفر عليه‌السلام «أن الحسين عليه‌السلام قتل وعليه دين ، وأن على بن الحسين عليهما‌السلام ، باع ضيعة له بثلاثمائة ألف فقضى دين الحسين عليه‌السلام وعدات كانت عليه».

وعن موسى بن بكر (٣) قال : «قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله عزوجل ، وان غلب عليه فليستدن على الله عزوجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقوت به عياله ، فان مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه ، وان لم يقضه كان عليه وزره ، فان الله عزوجل «يقول (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) الى قوله (وَالْغارِمِينَ) فهو فقير مسكين مغرم».

وعن العباس بن عيسى (٤) قال : «ضاق على على بن الحسين عليهما‌السلام ضيقة فأتى مولى له فقال له : أقرضني عشرة آلاف درهم الى ميسرة ، فقال : لا لانه ليس عندي ، ولكني أريد وثيقة ، قال : فنتف له من ردائه هدبة ، فقال : هذه الوثيقة قال : فكان مولاه كره ذلك ، فغضب عليه‌السلام فقال : أنا أولى بالوفاء أم حاجب بن زرارة ، فقال : أنت أولى بذلك منه ، قال فكيف صار حاجب بن زرارة يرهن قوسا وهي خشبة على مأة حمالة ، وهو كافر فيفي وأنا لا أفي بهدية ردائي؟ قال : فأخذها الرجل منه وأعطاه الدراهم وجعل الهدبة في حق ، فسهل الله عزوجل له المال فحمله الى الرجل ، ثم قال : له أحضرت مالك فهات وثيقتي ،

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدين الرقم ١١ ـ ١٢ ـ ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٩٦.

١٠٣

فقال له : جعلت فداك ضيعتها فقال : إذا لا تأخذ مالك منى ، ليس مثلي من يستخف بذمته ، فقال : فأخرج الرجل الحق فإذا فيه الهدبة ، فأعطاها على بن الحسين عليهما‌السلام الدراهم ، فأخذ الهدبة فرمى بها ثم انصرف».

وعن موسى بن بكر (١) قال : «ما أحصى ما سمعت أبا الحسن عليه‌السلام ينشد :». قيل : المراد موسى بن عمران وانما قلب محافظة على الوزن.

فان يك يا أميم على دين

فعمران بن موسى يستدين

وعن موسى بن بكر (٢) قال : «من طلب الرزق من حله فغلب فليستقرض على الله عزوجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وعن أيوب بن عطية الحذاء (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أنا أولى من كل مؤمن بنفسه ، ومن ترك مالا فللوارث ، ومن ترك دينا أو ضياعا فالى وعلى». والضياع بالفتح العيال.

وعن أبى موسى (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك يستقرض الرجل ويحج؟ قال : نعم ، قلت : يستقرض ويتزوج؟ قال : نعم انه ينتظر رزق الله غدوة وعشية».

أقول : الوجه في الجمع بين هذه الاخبار هو جواز الاستدانة على كراهة ، وروايتا سماعة المتقدمتان محمولتان على شدة الكراهة وتأكدها ، لما عرفت أولا من استدانة الأئمة عليهم‌السلام ، وثانيا بما دلت عليه رواية موسى بن بكر ورواية أبي موسى من أنه يستقرض على الله وأنه ينتظر رزق الله.

ويؤكده ما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى عن على بن إسماعيل عن رجل

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٩٥.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١١١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كتاب الفرائض والمواريث الى قم ١٤.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ١١١.

١٠٤

من أهل الشام (١) «انه سأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل عليه دين قد قدحه (٢) وهو يخالط الناس ، وهو يؤتمن يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب فهل يحل له أم لا وهل يحل له أن يتضلع من الطعام أم لا يحل له الا قدر ما يمسك به نفسه ويبلغه؟ قال لا بأس بما أكل».

والظاهر أنه تزول الكراهة مع الحاجة ، وعلى هذا يحمل استدانة الأئمة عليهم‌السلام كما يشير اليه خبر استدانة على بن الحسين عليهما‌السلام قال : في الدروس ولا كراهة مع الضرورة ، فقد مات رسول الله ـ عليه وعلى آله الصلوات والسلام ـ والحسنان وعليهم دين ، قال : ولو كان له مال بإزائه خفت الكراهة ، وكذا لو كان له ولى يقضيه وان لم يجب عليه قضاؤه ، فزالت مناقشة ابن إدريس (٣) لأن عدم وجوب القضاء لا ينافي وقوع القضاء ، ثم نقل عن الحلبي أنه حرم الاستدانة على غير القادر على القضاء ، وكان مراده عدم القدرة على الأداء حالا ومؤجلا لعدم شي‌ء عنده.

ويرده ما تقدم من قوله عليهم‌السلام في ما تقدم «يستقرض على الله وعلى رسوله ، وأنه ينتظر رزق الله» وكذا ظواهر أخبار الجواز لإطلاقها في ذلك.

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩٤.

(٢) يقال قدحه الدين : أي أثقله ، ويتضلع : اى امتلى شبعا ، ويبلغه من البلغة بالضم وهي ما يكتفى به من العيش. منه رحمه‌الله.

(٣) وصورة مناقشة ابن إدريس هو ان الشيخ ذكر في النهاية ان الاولى ان لا يستدين إلا إذا كان له ما يرجع اليه ، أو يكون له ولى يعلم انه ان مات قضى عنه ، فاعترضه ابن إدريس بأن هذا غير واضح لأن الولي لا يجب عليه قضاء دين من هو ولى له ، وخطأته العلامة في المختلف بان الشيخ لم يدع وجوب القضاء على الولي ، بل قال : إذا علم بأن له وليا يقضى عنه زالت الكراهة ، وهو الذي أشار إليه في الدروس. وأنت خبير بان الشيخ قد عول في ذلك على روايتي سماعة المذكورتين في الأصل. منه رحمه‌الله.

١٠٥

ثم انه حيث كان الدين عبارة عما يوجب شغل الذمة ، فالظاهر شمول الكراهة هنا للبيع سلفا ونسيئة ، بل ربما أمكن شموله للحال مع عدم إحضار النقد ، بل تأخيره إلى وقت آخر الا أن يخص الدين بالمؤجل ، كما قيل : ان الدين ما له أجل ، والقرض ما لا أجل له.

وحيث ان الدين الذي عنونا به الكتاب أعم من القرض ، فالكلام هنا يقع في مقصدين.

الأول في القرض

وثوابه جسيم وأجره عظيم ، ومنعه من الطالب المحتاج اليه ذميم ، فروى الصدوق في كتاب ثواب الأعمال عن محمد بن حباب القماط (١) عن شيخ كان عندنا قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لأن أقرض قرضا أحب الى من أن أتصدق بمثله ، وكان يقول : من أقرض قرضا وضرب له أجلا ولم يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثواب في كل يوم يتأخر عن ذلك الأجل مثل صدقة دينار واحد في كل يوم».

وعن الفضيل (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما من مسلم أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه الله الا حسب له اجره كحساب الصدقة حتى يرجع اليه».

وعن جابر (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أقرض مؤمنا قرضا ينظر به ميسوره ، كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى يؤديه اليه».

وعن هيثم الصيرفي (٤) وغيره عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «القرض الواحد بثمانية عشر وان مات حسبه من الزكاة». وروى في كتاب الهداية (٥) قال : «قال

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الدين والقرض.

(٥) المستدرك ج ٢ ص ٣٩٨.

١٠٦

الصادق عليه‌السلام : مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية عشر». وانما صار القرض أفضل من الصدقة لأن المستقرض لا يستقرض الا من حاجة ، وقد يطلب الصدقة من غير الاحتياج إليها.

وروى في كتاب عقاب الأعمال في حديث (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من شكى إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم الله عليه الجنة يوم يجزى المحسنين».

وروى الراوندي في نوادره (٢) بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصدقة بعشرة ، والقرض بثمانية عشر ، وصلة الإخوان بعشرين ، وصلة الرحم بأربع وعشرين».

وروى في الأمالي في خبر المناهي (٣) قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من احتاج اليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه ولم يفعل حرم الله عليه ريح الجنة».

وروى الشيخ وجملة ممن تأخر عنه في الكتب الفقهية منهم العلامة في جملة من كتبه أن القرض أفضل من الصدقة بمثله من الثواب ، والظاهر كما استظهره بعض مشايخنا المتأخرين أن الضمير في مثله متعلق بأفضل ، بمعنى أن فضل القرض أكثر من الصدقة في الثواب بقدر المثل ، اى أن ثواب القرض ضعف ثواب الصدقة ، وربما أشكل الجمع بينه وبين ما تقدم من أن الصدقة الواحدة بعشرة ، والقرض بثمانية عشرة ، حيث ان ظاهر الخبر أن درهم الصدقة بعشرة ، ودرهم القرض بعشرين ، وعند التأمل في ذلك لا إشكال ، لأن المفاضلة والمضاعفة انما هي في الثواب ، ولا ريب انه إذا تصدق بدرهم ، فإنه إنما يصير عشرة باعتبار ضم الدرهم المتصدق به حيث أنه لا يرجع ، والحاصل من الثواب الذي اكتسبه بالصدقة في الحقيقة مع قطع النظر عن ذلك الدرهم انما هو تسعة ، وعلى هذا فثواب القرض وهو ثمانية عشر ضعف التسعة ، لان المفاضلة والمضاعفة انما هي في الثواب المكتسب.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الدين والقرض.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ من أبواب المعروف.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ٩.

١٠٧

ولك أن تقول ان درهم الصدقة لما لم يكن بعشرة الا من حيث عدم رجوع الدرهم فدرهم القرض ، لما كان يرجع بعينه ، ويرجع ما قابله من الثواب المخصوص بتلك العين ، يكون الباقي ثمانية عشر ، وعلى كل من التقديرين فالمضاعفة حاصلة.

ثم انه ينبغي أن يعلم أن تحقق أصل الثواب في القرض فضلا عن أفضليته على الصدقة انما يكون مع قصد القربة لله سبحانه ، كما في نظائره من الطاعات ، فلو قصد به الأغراض الدنيوية لم يترتب عليه ذلك.

ويدل عليه ما رواه الثقة الجليل على بن إبراهيم القمي في تفسيره بسنده فيه عن حفص (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الربا رباءان أحدهما حلال ، والأخر حرام ، فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا طمعا أن يزيده ، ويعوضه بأكثر مما يأخذه من غير شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله «فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ» وأما الحرام فالرجل يقرض قرضا يشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام».

وكيف كان فالكلام في هذا المقصد يقع في مواضع الأول ـ قد صرح الأصحاب رضوان الله عليهم ، بأن القرض عقد يتوقف على الإيجاب والقبول مثل سائر العقود ، الا أنه عقد جائز لا لازم ، مثل البيع ونحوه ، وهو ظاهر في تحقق الملك على المشهور من تملكه بالإيجاب والقبول والقبض (٢)

وأما على القول بأنه لا يملك الا بالتصرف فمقتضى ذلك أنه قبل التصرف انما هو بمنزلة الإباحة ، وعلى هذا فينبغي أن لا يتوقف على العقد ، الا أن يقال : بأن الآثار

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الربا وفيه عن المنقري عن جعفر بن غياث.

(٢) ومن أظهرها في وجوب الزكاة على المقترض بعد قبضه مال القرض ودخول الحول عليه عنده ، ولو كان اباحة لكان باقيا على ملك المقترض ، وكانت الزكاة عليه ، وبالجملة فإن ظاهر الاخبار يدل على حصول الملك بذلك لا على مجرد الإباحة ، ومن الظاهر ان حصول الملك يحتاج الى ناقل شرعي عما كان عليه سابقا فتأمل. منه رحمه‌الله.

١٠٨

المترتبة على التصرف في هذا الباب ـ المغايرة للتصرف على وجه الإباحة ـ تتوقف على ما يدل على جواز التصرف ، وليس الا العقد والقبض ، قالوا : وإيجابه أن يقول أقرضتك أو أسلفتك أو ملكتك وعليك عوضه ، أو خذه أو تصرف فيه أو انتفع به ونحو ذلك.

وبالجملة فإن صيغته لا تنحصر في لفظ كالعقود الجائزة ، بل كل لفظ دل عليه كفى ، الا ان أقرضتك صريح في معناه ، فلا يحتاج إلى ضميمة عليك رد عوضه ، ونحوه وغيره من الألفاظ يحتاج إليها ، فلو تركها وكان بلفظ التمليك أفاد الهبة ان لم يكن ثمة ما يدل على القرض من قرائن المقام ، ولم يعلم قصده ، لان اللفظ المذكور صريح في ذلك ، ولو كان بلفظ السلف كان فاسدا ، لأنه حقيقة في السلم ، ولم يوجد ما يصرف عنه كما هو المفروض ، ولم يجتمع شرائطه ، ولو كان بغيرهما من الألفاظ الدالة على الإباحة فهو على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، الا مع القصد إلى الهبة فيدخل فيها ، ولو اختلفا في القصد فالقول قول الموجب ، لأنه أبصر بما قاله.

ولو اختلفا في الهبة بأن ادعى القابض كونه هبة ، وادعى المعطى كونه قرضا فقد قطع في التذكرة بتقديم قول صاحب المال محتجا بأنه أعرف بلفظه ، وأن الأصل عصمة ماله وعدم التبرع ، ووجوب الرد على الأخذ لقوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». ثم احتمل تقديم دعوى الهبة.

واستشكل في القواعد وأورد على ما احتج به في التذكرة بأن لفظ التمليك حقيقة في الهبة ، لأنه تمام مفهومه الشرعي ، وأما كونه بمعنى القرض فيفتقر إلى ضميمة أخرى ، لأنه معنى مجازي يتوقف الحمل عليه على القرينة ، والفرض انتفاؤها ، ولا خلاف ولا شبهة في أن دعوى خلاف الظاهر والحقيقة ـ في سائر العقود ـ لا يلتفت إليها ، والقصد وان كان معتبرا الا أن الظاهر في الألفاظ الصريحة اقترانها بالقصد ، وأنه لو أريد غيره لذكرت القرينة معه ، ومن هنا أجمعوا على أنه لو ادعى عدم القصد الى البيع ونحوه مع تصريحه بلفظه لم يلتفت اليه.

ومن ذلك يعلم أن أصالة العصمة قد انقطعت باللفظ الصريح الدال على الانتقال ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٤.

١٠٩

ومثله القول في الخبر فإنه مع وجود اللفظ الصريح في الدلالة على النقل عن الملك الرافع للضمان يخرج موضع النزاع من ذلك ، والكلام في القبول كما تقدم في الإيجاب من أنه لا ينحصر في لفظ ، بل كلما دل على الرضا بالإيجاب.

وهل يكفى القبول الفعلي ويترتب عليه ما يترتب على القولي من تمام الملك أو إنما يكفي بالنسبة إلى إباحة التصرف خاصة؟ قطع جمع من الأصحاب بالأول ، وتنظر فيه بعضهم ، واستظهر الثاني إذا عرفت ذلك فالذي يظهر عندي من تتبع الاخبار ان الأمر هنا كما قدمنا شرحه في كتاب التجارة (١) من سعة الدائرة في العقود ، والاكتفاء فيها بما دل على الرضا ، وعدم اشتراط شي‌ء زائد على ذلك.

والاكتفاء هنا بمجرد الطلب والإعطاء وأخذ ذلك بالألفاظ الدالة على ارادة القرض ، كما عرفت من حديث استقراض على بن الحسين عليهما‌السلام المتقدم ، فإنه ليس فيه بعد طلبه القرض من مولاه بقوله أقرضني والمحاورة بينهما في الوثيقة ، الا انه أعطاه المال بعد قبض الوثيقة ، فأخذ عليه‌السلام المال وانصرف ، وليس هنا صيغة ولا عقد زائد على ما ذكر في الخبر.

الثاني في حكم النفع المترتب على القرض ، والكلام في ذلك يقتضي بسطه في موارد أحدها : لا خلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم ، في تحريم اشتراط النفع في القرض ، بل نقل بعض محققي متأخرين المتأخرين إجماع المسلمين على ذلك ، وربما ظهر من بعض الاخبار تحريم حصول النفع ، وان كان لا بشرط ، والواجب نقل ما وصل إلينا من الاخبار في ذلك ، ثم الجمع بين مختلفاتها وتأليف متشتتاتها.

فمنهما ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن محمد بن

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٥٥.

١١٠

مسلم (١) وغيره قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا ويعطيه الرهن اما خادما واما آنية واما ثيابا فيحتاج إلى شي‌ء من منفعته ، فيستأذنه فيه فيأذن له ، قال : إذا طابت نفسه فلا بأس ، فقلت : ان من عندنا يرون أن كل قرض يجر منفعة فهو فاسد؟ قال : أو ليس خير القرض ما جر منفعة».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن عبده (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القرض يجر المنفعة؟ قال : خير القرض الذي يجر المنفعة».

وما رواه في الكافي عن بشر بن مسلمة (٣) وغير واحد عمن أخبره عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «خير القرض ما جر المنفعة» ورواه الشيخ في التهذيب عن بشر بن مسلمة عن أبى عبد الله عليه‌السلام «قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام» ، الحديث.

وما رواه الصدوق والشيخ عن إسحاق بن عمار (٤) في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا فيطول مكثه عند الرجل ، لا يدخل على صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل الشي‌ء كراهة ان يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة أيحل ذلك له؟ قال : لا بأس إذا لم يكونا شرطاه».

وما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار (٥) عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يكون له مع الرجل مال قرضا فيعطيه الشي‌ء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه قال : لا بأس».

وما رواه في التهذيب عن محمد بن قيس (٦) في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط الا مثلها ، فإن جوزي بأجود منها فليقبل ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه».

وما رواه في التهذيب عن أبى بصير (٧) في الموثق عن أبى جعفر عليه‌السلام ،

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٥ التهذيب ج ٦ ص ٢٠١.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٥ الفقيه ج ٣ ص ١٨١.

(٥) الكافي ج ٥ ص ١٠٣.

(٦ ـ ٧) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٣.

١١١

قال : «قلت له : الرجل يأتيه النبط بأحمالهم فيبيعها لهم بالأجر فيقولون : له أقرضنا دنانير فانا نجد من يبيع لنا غيرك ، ولكنا نخصك بأحمالنا من أجل أنك تقرضنا قال : لا بأس به ، انما يأخذ دنانير مثل دنانيره ، وليس بثوب ان لبسه كسر ثمنه ، ولا دابة ان ركبها كسرها وانما هو معروف يصنعه إليهم».

وما رواه في الفقيه وفي التهذيب عن جميل بن دراج (١) عن رجل عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : أصلحك الله انا نخالط نفرا من أهل السواد فنقرضهم القرض ، ويصرفون إلينا غلاتهم فنبيعها لهم بأجر ، ولنا في ذلك منفعة؟ قال : فقال لا بأس ، ولا أعلمه ، الا وقال : لو لا ما يصرفون إلينا من غلاتهم لم نقرضهم ، فقال : لا بأس».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (٢) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أقرضت الدراهم ثم جائك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط».

وعن خالد بن الحجاج (٣) قال : «سألته عن رجل كانت لي عليه مأة درهم عددا فقضاها مأة ورقا قال لا بأس ما لم يشترط ، قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط انما يفسده الشروط».

وعن الحلبي (٤) في الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يستقرض الدراهم البيض عددا ثم يعطى وزنا وقد عرف أنها أثقل مما أخذ ويطيب نفسه ان يجعل له فضلها؟ فقال : لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط ، ولو وهبها له كملا كان أصلح».

وعن أبى الربيع (٥) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أقرض رجلا

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٨٠ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٤.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠١.

(٣ ـ ٤) التهذيب ج ٧ ص ١١٢.

(٥) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٠.

١١٢

دراهم فرد عليه أجود منها بطيب نفسه ، وقد علم المستقرض والقارض انه انما أقرضه ليعطيه أجود منها قال : لا بأس إذا طابت نفس المستقرض».

وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (١) في الموثق عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يرهن الثوب أو العبد أو الحلي أو المتاع من متاع البيت ، فيقول صاحب الرهن للمرتهن : أنت في حل من لبس هذا الثوب فالبس الثوب وانتفع بالمتاع ، واستخدم الخادم؟ قال : هو له حلال إذا أحله وما أحب له أن يفعل».

وعن على بن محمد (٢) قال : «كتبت اليه القرض يجر المنفعة هل يجوز أم لا؟ فكتب عليه‌السلام ، يجوز ذلك عن تراض منهما ان شاء الله».

وعن يعقوب بن شعيب (٣) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا؟ قال : لا يصلح إذا كان قرضا يجر شيئا ، فلا يصلح ، قال : وسألته عن الرجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرضه الدنانير فيقرضه ، ولولا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه؟ فقال : ان كان معروفا بينهما فلا بأس ، وان كان انما يقرضه من أجل أنه يصيب عليه فلا يصلح».

وما رواه في الكافي عن غياث بن إبراهيم (٤) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «ان رجلا أتى عليا عليه‌السلام فقال له : ان لي على رجل دينا فأهدى الى هدية قال : احسبه من دينك عليه».

وعن هذيل بن حيان أخي جعفر بن حيان الصيرفي (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انى دفعت الى أخي جعفر مالا فهو يعطيني ما أنفقه وأحج به وأتصدق ، وقد سألت من قبلنا فذكروا أن ذلك فاسد لا يحل ، وأنا أحب أن انتهى الى قولك ،

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٠ و ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٤ ـ ٥) الكافي ج ٥ ص ١٠٣.

١١٣

فقال لي : أكان يصلك قبل ان تدفع اليه مالك؟ قلت : نعم ، قال : خذ ما يعطيك فكل منه واشرب وحج وتصدق ، فإذا قدمت العراق فقل جعفر بن محمد أفتاني بهذا».

وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر (١) عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل اعطى رجلا مأة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم ، أو أقل أو أكثر قال : هذا الربا المحض».

هذا ما حضرني من اخبار المسألة وجلها كما ترى متفق الدلالة واضح المقالة على حل الانتفاع بما يحصل في القرض ، ويترتب عليه من المنافع الا مع الشرط.

واما ما دل عليه صحيح يعقوب بن شعيب مما ينافي ما ذكرناه فقد حمله الشيخ على الكراهة تارة ، وعلى الشرط اخرى ، والأقرب عندي حمله على التقية لما يفهم من الخبر الأول وخبر هذيل بن حيان ، فان ظاهرهما ان مذهب العامة تحريم القرض الذي يجر المنفعة مطلقا.

وقد رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «ان كل قرض يجر المنفعة فهو حرام» (٢). ولهذا تكاثرت الاخبار ردا عليهم ، بأن خير القرض ما جر المنفعة ، وانما منعت في صورة الشرط خاصة ، كما تقدم في الاخبار خصوصا رواية خالد بن الحجاج من قوله عليه‌السلام «جاء الربا من قبل الشروط ، انما يفسده الشروط».

واما ما دل عليه خبر غياث بن إبراهيم من حساب الهدية من الدين ، فحمله الشيخ على الهدية الغير المعتادة أو المشترطة جمعا بين الاخبار ، وحمله بعضهم على الاستحباب ، ولا بأس به ، ويشير الى ذلك قول عليه‌السلام في موثق إسحاق بن عمار «وما أحب له أن يفعل» بعد ان صرح بالجواز ، ولا منافاة في ذلك لباقي الأخبار ، فإن غاية ما يدل عليه الجواز ، وهو لا ينافي الكراهة.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٩ ـ من أبواب الدين الرقم ٨.

(٢) المستدرك ـ ج ٢ ص ٤٩٢ الجامع الصغير ـ ج ٢ ص ٩٤ ط احمد حنفي لكن فيهما «فهو ربا».

١١٤

وعلى هذا ينبغي ان يحمل مفهوم رواية هذيل بن حيان ، فان ظاهرها تخصيص جواز القول بما إذا كان يصله سابقا قبل دفع ماله اليه ، ومفهومه عدم الجواز لو كان بعد دفع المال ، وما ذاك الا من حيث ترتب النفع على دفع المال ، فيحمل حينئذ على الكراهة جمعا (١) ويشير الى ذلك ايضا قوله في آخر حسنة الحلبي المتقدمة «ولو وهبها له كان أصلح» فكأنما بالهبة تزول الكراهة ، وحينئذ فيمكن القول بالجواز على كراهة الا ان ظاهر قولهم عليهم‌السلام «خير القرض ما جر المنفعة». ربما نافى ذلك ، فإنه لا تثبت الخيرية مع الكراهة.

وبعدم الكراهة صرح ايضا شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فقال بعد قول المصنف «لو تبرع المقترض بزيادة في العين أو الصفة جاز» : لا فرق في الجواز بين كون ذلك من نيتهما أو عدمه ، ولا بين كونه معتادا أو عدمه بل لا يكره قبوله ، للأصل وإطلاق النصوص بذلك ، وقد روى ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «اقترض بكرا فرد باذلا (٣) رباعيا ، وقال : ان خير الناس أحسنهم قضاء». وروى مثله كثيرا عن الصادق عليه‌السلام انتهى.

__________________

(١) ويحتمل ايضا الحمل على التقية بل الظاهر انه الأقرب كما يشير اليه قوله في آخر الخبر إذا قدمت العراق فقل : جعفر بن محمد أفتاني بهذا ، فإنه حيث كانت هذا الفتوى موافقا لما عليه العامة من تحريم النفع أمر بإضاعتها وعدم كتمانها منه رحمه‌الله.

(٢) أقول : هذا الخبر من طريق العامة كما ذكره بعض المحققين ، وصورة الخبر هكذا ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اقترض قرضا من رجل بكرا فقدمت عليه بإبل الصدقة ، فأمر أبا رافع أن يقبض الرجل بكره فرجع أبو رافع فقال : لم أجد فيها الا جملا جبارا فقال أعطها إياه ، ان خير الناس أحسنهم قضاء». منه رحمه‌الله ـ سنن البيهقي ج ٥ ص ٣٥١ وج ٦ ص ٢١.

(٣) الباذل الذي تم له ثمان سنين ثم يقال له باذل عام وباذل عامين وهكذا كل سنة. منه رحمه‌الله.

١١٥

ويؤيده ما ذكره أيضا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل يستقرض من الرجل الدراهم فيرد عليه المثقال أو يستقرض المثقال فيرد عليه الدراهم؟ فقال : إذا لم يكن شرط فلا بأس ، وذلك هو الفضل كان أبى عليه‌السلام يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد ، فيقول : يا بنى ردها على الذي استقرضتها منه فأقول : يا أبت ان دراهمه فسولة وهذه خير منها فيقول : يا بنى ان هذا هو الفضل فأعطه إياها».

أقول : الظاهر أن قوله عليه‌السلام ، «ان هذا هو الفضل» إشارة إلى قوله عزوجل (٢) «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» ويمكن الجمع ـ بأن هذه الاخبار حيث أنك قد عرفت ظهور الكراهة من الاخبار التي أشرنا إليها ـ بأن يقال : لا منافاة بين استحباب إعطاء الفضل من المقترض وان كره على المقارض أخذه ، الا ان اجراء هذه الحمل في اخبار «خير القرض ما جر المنفعة» لا يخلو من تعسف وتكلف.

وثانيها الظاهر أن لا خلاف بين الأصحاب في بطلان القرض وعدم افادته الملك متى اشتمل على اشتراط النفع.

بل نقل في المسالك الإجماع على ذلك ، قال : ومستنده «ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) «أنه قال : كل قرض يجر منفعة فهو حرام». والمراد مع الشرط ، إذ لا خلاف في جواز التبرع. انتهى. وحينئذ فمع شرط الزيادة تصير الزيادة والإقراض والاقتراض حراما ، وكذا التصرف في المال المقترض مع العلم ، ويكون مضمونا كالمغصوب ، لان المفروض بطلان العقد بذلك ، فيترتب الأحكام المذكورة ، فلو قبضه كان مضمونا عليه ، كالبيع الفاسد للقاعدة المشهورة «من أن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٥٤ التهذيب ج ٧ ص ١١٥ الفقيه ج ٣ ص ١٨١.

(٢) سورة البقرة ، الاية ٢٣٧.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٢ الجامع الصغير ج ٢ ص ٩٤ ط احمد حنفي لكن فيهما «فهو ربا».

١١٦

كل عقد يضمن بصحيحه ، يضمن بفاسده» ونقل عن ابن حمزة أنه ذهب الى كونه أمانة وهو ضعيف ، لما عرفت.

أقول : أما ما ذكروه من تحريم الشرط المذكور فهو مما لا اشكال فيه ، وما ذكروه من بطلان أصل العقد فان كان من حيث اشتماله على الشرط الفاسد ، وكل عقد كان كذلك فهو باطل ، فقد عرفت الخلاف في ذلك فيما تقدم ، الا ان الظاهر أنه ليس البطلان هنا عندهم مبنيا على ذلك ، ولهذا انما استند شيخنا المتقدم ذكره بعد دعوى الإجماع الى الخبر النبوي المذكور ، وهو صريح فيما ذكره ، الا أن الظاهر أن الخبر المذكور انما هو من طريق العامة ، فإني لم أقف عليه بعد التتبع في شي‌ء من كتب أخبارنا ، وأخبار المسألة المتقدمة على كثرتها وتعددها ليس فيها اشعار فضلا عن الدلالة الصريحة ببطلان أصل العقد ، بل الظاهر منها انما هو بطلان الشرط ، فان مفهوم نفى البأس مع عدم الشرط في كثير مما تقدم من الاخبار انما ـ توجه إلى الزيادة ، كما لا يخفى على المتأمل فيها.

فمنها موثقة إسحاق بن عمار (١) المشتملة على أنه ينيله الشي‌ء بعد الشي‌ء كراهة أن يأخذ ماله أيحل ذلك؟ «قال : لا بأس إذا لم يكونا شرطاه» وهو ظاهر في أن السؤال انما هو عن حل الزيادة ، فأجاب عليه‌السلام بالحل مع عدم الشرط ، ومفهومه أنه مع الشرط لا تحل ، وأما أصل العقد فلا تعرض في الخبر له بوجه.

وقس على ذلك غيره من الاخبار التي مثله في هذه العبارة مثل خبر إسحاق الثاني وحسنة الحلبي ونحو ذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن قيس : «ولا يأخذ أحدكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترطه من أجل قرض ورقه». فإنه نهى عليه‌السلام عن أخذ الزيادة بالشرط.

وبالجملة فإن الأخبار المتقدم لا دلالة فيها ولو بنوع اشارة على بطلان العقد من أصله ، ولا أعرف لهم دليلا إلا الإجماع المدعى كما عرفت ، والمسألة لذلك محل

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٣.

١١٧

أشكال (١).

وثالثها : لا يخفى أن الزيادة التي يحرم اشتراطها في القرض ـ ويجوز أخذها مع عدم الشرط ـ اما أن يكون عينية وهو ظاهر ، أو حكمية كدفع الجيد بدل الردى والصحيح بدل المكسور ، والكبير بدل الصغير ، ولا إشكال في صورة عدم الاشتراط في أن المقرض يملك الزيادة المذكورة ملكا مستقرا بقبضه ذلك ، لأنها تابعة للعين ، كان ذلك استيفاء لحقه.

وانما الإشكال في الزيادة العينية كما لو دفع اثنا عشر من عليه عشرة ، فهل يكون الحكم في هذه الزيادة كالزيادة الحكمية؟ بناء على أنها معاوضة عما في الذمة ، غايته كونه متفاضلا ، وهو مع عدم الشرط جائزا أو أنه يكون الزائد بمنزلة الهبة ـ فيترتب عليه أحكامها التي من جملتها الرجوع في العين ما دامت موجودة على بعض الوجوه ، نظرا الى أن الثابت في الذمة انما هو مقدار الحق ، فالزائد تبرع خالص ، وإحسان محض ، وعطية منفردة ـ اشكال.

قال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك وبعد أن اعترف بأنه لم يقف فيه على شي‌ء ما صورته : ولعل الثاني أوجه ، خصوصا مع حصول الشك في انتقال الملك عن مالكه على وجه اللزوم انتهى وهو جيد.

ويؤيده أن غاية ما يفهم من الاخبار المتقدمة هو حل ذلك له ، وان كان على كراهية كما قدمنا ذكره ، وهو لا ينافي جواز الرجوع مع وجود العين ، وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في هذا المقام ـ حيث قال ـ بعد نقل حسنة الحلبي المتقدمة الدالة على أن الرجل يستقرض الدراهم البيض عدد اثم يعطى وزنا الى آخره ـ : وفيها دلالة على أن الزيادة هبة مستأنفة يجرى فيها أحكامها ، ولا يحتاج إلى صيغة على حدة ، بل يكفي الإعطاء بطيب النفس عوضا ، فيجري فيه أحكام المعوضات ،

__________________

(١) وبموجب ما ذكرناه انه لو أقرضه بشرط شي‌ء من النفع عينيا أو حكميا فان القرض صحيح يملكه المقترض ، وأنما يحرم ما اشترطه من النفع خاصة ـ منه رحمه‌الله.

١١٨

كما هو مقتضى الأصل والقواعد ، وقد تردد فيه في شرح الشرائع ، ثم رجح ما رجحناه ، وقال : ولم أقف ثم نقل باقي العبارة كما قدمناه.

ففيه أولا أنه لا يخفى أن كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم انما هو في الزيادة العينية ، والذي تضمنه الخبر انما هو الزيادة الحكمية ، فإن الثقل الحاصل في الدرهم انما هو من قبيل الحكمية ، كما تقدم في دفع الكبير بدل الصغير ، وقد عرفت أنه لا إشكال في انتقالها وملك المقرض لها.

وثانيا أن عبارة الخبر «ولو وهبها له كان أصلح» ظاهرة في أن ما تضمنه السؤال والجواب أولا انما يعطى مجرد الإباحة التي قد بنينا سابقا على دخول الكراهة فيها ، وقد ذكرنا أن قوله «ولو وهبها» الى آخره إنما أريد به الإشارة إلى دفع الكراهة ، بأن يهبه الزيادة بصيغة شرعية ، ليخرج بذلك من الكراهة ، فظاهر الخبر انما هو ان الدفع انما كان على جهة الإباحة والعطية المطلقة ، وأن الامام عليه‌السلام ، استدرك ذلك بقوله «ولو دفع ذلك على وجه الهبة لكان أصلح».

وفيه إشارة الى أن الذي ذكر في الخبر أولا على غير الوجه الأصلح لا أن الرواية دلت على كون الزيادة هبة كما فهمه ، وفرع عليه ما ذكره ، فان توسط (لو) في المقام ظاهر في تغاير ما قبلها ، وما بعدها وأن ما بعدها ، فرض آخر ، بمعنى أن الأصلح أن يكون كذلك ، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه ظاهر للناظر.

ورابعها : قد عرفت تحريم اشتراط النفع في القرض مطلقا عينيا كان أو حكميا ، وقال الشيخ في النهاية : وان أعطاه الغلة وأخذ منه الصحاح شرط ذلك أو لم يشترط لم يكن به بأس ، وقال أبو الصلاح يجوز القرض بشرط أن يعطيه عوض الغلة صحاحا ، وعوض المصوغ من الذهب عينا ، ومن الفضة ورقا ، وعوض نقد مخصوص من خالص الذهب والفضة العتيق من نقد غيره ، ويلزم ذلك مع الشرط ، ومع عدمه ليس له الا مثل ما أقرض الا أن يتبرع أحدهما.

وقال ابن حمزة يصح اشتراط الصحيح عن الغلة ، وكذا قال ابن البراج ، وظاهر كلام أكثر هؤلاء هو استثناء اشتراط أخذ الصحاح عن الغلة من القاعدة

١١٩

المتقدمة ، وزاد أبو الصلاح على ذلك ما هو مذكور في عبارته.

وقال ابن إدريس لا يجوز أن يشترط رد الصحاح عوضا عن المكسرة ، وبه أفتى جملة من تأخر عنه ، وهو كذلك.

ونقل عن الشيخ ومن معه الاستناد فيما ذكروه الى ما رواه عن يعقوب بن شعيب (١) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلة ويأخذ منه الدراهم الطازجية (٢) طيبة بها نفسه قال : لا بأس». وذكر ذلك عن علي عليه‌السلام.

ورده الأصحاب بأنه لا دلالة فيه على ما ادعاه ، إذ لم يذكر فيه الشرط ، وغايته أنه مطلق ، فيجب تقييده بعدم الشرط ، جمعا بينه وبين ما دل من الاخبار المتقدمة على تحريم الاشتراط ، ولا سيما صحيح محمد بن قيس (٣) فإنه نص في المطلوب حيث قال فيه : «من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط الا مثلها».

وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا الميل الى ما ذكره الشيخ ومن تبعه ، وتعميم الحكم في المنفعة الحكمية لا بخصوص ما في عبارة النهاية ، بل نقل عن الشيخ والجماعة المذكورين العموم أيضا ، قال «قدس‌سره» : وأما اشتراط الزيادة وصفا مثل أن يشترط الصحيح عوضا عن المكسور فنقل عن الشيخ وجماعة جوازه ، ولأنه مثل اشتراط الجيد عوض الردى ، وللأصل ، وعدم ظهور دخوله تحت الربا ، وعدم دليل آخر من إجماع ونحوه ، وخبر العامة ليس بصحيح ، ومعارض بخبر محمد بن مسلم ثم ذكر جملة من الاخبار المتقدمة المطلقة في جواز

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠١.

(٢) قال في المختلف ويريد بالطازجية الدراهم البيض الجيدة ، وهي بالطاء غير المعجمة والزاي والجيم انتهى وقال في المسالك : والمراد بالطازج الخالص وبالغلة غيره وقال في السرائر الطازجية : بالطاء غير المعجمة والزاء المعجمة والجيم : الدراهم البيض الجيد ، والغلة مكسرة الدراهم منه رحمه‌الله.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٣.

١٢٠