الحدائق الناضرة - ج ٢٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

الصالح (عليه‌السلام) : يسأله أنى أعامل قوما أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم ، وهم يسألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم ، فهل من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه أقرضهم الدراهم قرضا وازدد عليهم في نصف القفيز ما كنت تربح عليهم».

وفي الصحيح عن عبد الملك بن عتبة (١) قال : «سألته عن الرجل يريد أن أعينه المال ويكون لي عليه مال قبل ذلك فيطلب منى مالا أزيده على مالي الذي عليه أيستقيم أن أزيده مالا وأبيعه لؤلؤة تسوى مأة درهم بألف درهم ، فأقول له : أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخّرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهرا؟ قال : لا بأس».

وعن محمد بن إسحاق بن عمار (٢) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مأة درهم بألف درهم ويؤخر عنه المال الى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي ففعلت ذلك وزعم أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام : عنها فقال له : مثل ذلك».

ثم أطال في الاستدلال الى أن بلغ خمسة وعشرين دليلا وأوضحها ما ذكرناه. ثم نقل حجة المانعين فقال : احتج المانعون بما رواه يعقوب بن شعيب (٣) في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : قال : «سألته عن رجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا قال : لا يصلح ، إذا كان قرضها يجر نفعا فلا يصلح».

وعن محمد بن قيس (٤) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «من أقرض رجلا ورقا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٦ التهذيب ج ٧ ص ٥٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥ التهذيب ج ٧ ص ٥٣.

(٣) الوسائل الباب ١٩ من أبواب الدين الرقم ـ ٩.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الدين الرقم ١١.

٨١

فلا يشترط الا مثلها ، فإن جوزي بأجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه».

وما رواه خالد بن الحجاج (١) قال : «جاء الربا من قبل الشروط».

وما رواه الوليد بن صبيح (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والفضل بينهما هو الربا المنكر». ولان البيع بالمحاباة نفع وهو مشترط في القرض ، فيجب ان يكون حراما.

ثم أجاب عن ذلك قال : والجواب عن الروايات بعد سلامة سندها أنها دالة على الكراهة لا التحريم ، على أنا نقول الرواية الاولى ـ وهي الصحيحة ـ معارضة برواية محمد بن مسلم ، ونقول بموجب الرواية الثانية ، فإن اشتراط النفع في القرض حرام بالإجماع ، وهو غير صورة النزاع ، وكذا عن الرواية الثلاثة ، فإن كل شرط لو تضمن الربا لكان باطلا بالإجماع ، مع انا نصحح أكثر الشروط بالإجماع ، فإذا لا محل لها الا مع اشتراط الزيادة في المتساوي جنسا مع عقد البيع ، وهذا هو الربا بعينه ، وهو غير محل النزاع.

وكذا الرابعة فإنها صريحة في تناول الربا إذ لا قائل بإباحة الفضة بالفضة مع الزيادة ، ولا الذهب بالذهب مع الزيادة.

وعن الثاني بوجهين الأول ـ المعارضة بما روى من قولهم عليهم‌السلام (٣) «خير القرض ما جر نفعا». ولان المتنازع اباحة البيع بالمحاباة مع اشتراط القرض ، لا العكس انتهى ملخصا.

أقول منشأ شبهة القائل المذكور هو أنه لما كان السبب في هذا القرض من

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ١١٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٩٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الدين الرقم ٥.

٨٢

البائع للمشتري هو كون المشتري أخذ سلعته بأضعاف قيمتها ، فيصير الحامل للبائع على القرض هو ذلك ، والقرض إذا جر المنفعة كان باطلا ، فالواجب الحكم ببطلان البيع المذكور ، وهو توهم فاسد ، لان المستفاد من الاخبار ـ كما سيأتي ذكرها إنشاء الله تعالى جميعا في كتاب الديون والجمع بينهما ـ هو أن المحرم انما هو القرض الذي يشترط فيه النفع ، لا ما يجر النفع بقول مطلق ، والمستفاد من بعضها أن تحريم ما يجر النفع مطلقا مذهب العامة ، كما تقدم ذكره في كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله.

وحينئذ فما دل على خلاف ما ذكرناه من الاخبار كصحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة فهو محمول على الاشتراط أو التقية ، والعلامة إنما أجاب عنها بالمعارضة لصحيحة محمد بن مسلم ، والظاهر أنها ما رواه المشايخ الثلاثة عنه (١) وعن غيره قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا ويعطيه الرهن اما خادما واما آنية واما ثيابا ، فيحتاج إلى شي‌ء من منفعته ، فيستأذنه فيه فيأذن له؟ قال : إذا طابت نفسه فلا بأس به ، فقلت : ان من عندنا يرون أن كل قرض يجر منفعة فهو فاسد ، فقال : أو ليس خير القرض ما جر منفعة».

وهذه الرواية هي التي أشرنا إليها في الدلالة على ان ذلك مذهب العامة ونحوها في الدلالة على ان خير القرض ما جر منفعة غيرها ايضا.

والعجب انه سكت عن الجواب عن رواية محمد بن قيس ، مع انها ظاهرة في الدلالة على ان التحريم انما هو من حيث الشرط لا مطلقا ، لقوله أو لا «فلا يشترط الا مثلها ، وان جوزي بأجود منها فيقبل ، وقوله ثانيا «يشترط من أجل قرض ورقه» يعنى لا يجعل عارية المتاع أو ركوب الدابة شرطا في القرض ، وهو ظاهر.

ومما ذكرنا يعلم أن ما أطال به (قدس‌سره) من الوجوه التي ذكرها غير محتاج إليه ، لأن بيع الشي‌ء بأضعاف ثمنه مما لا نزاع فيه ، وكذا وقوع الشروط

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الدين الرقم ٤.

٨٣

في العقود في الجملة ، وانما منشأ الشبهة هو ما ذكرناه.

والجواب عنها هو ما عرفت ، على أن النهى في الصورة المفروضة انما هو كون القرض شرطا في البيع ، والممنوع منه شرعا انما هو شرط النفع في القرض ، واليه أشار العلامة آنفا ، وبالجملة فالإشكال انما يقع فيما لو أقرضه بشرط أن يشترى ماله بأضعافه (١) بأنه موجب لاشتراط النفع في القرض المنهي عنه في الاخبار ، وان كانت الصورة المفروضة راجعة الى هذا في المعنى ، الا أنه انما يحلل ويحرم الكلام ، كما ورد في بعض الاخبار (٢) لا مجرد القصد بأي وجه اتفق والله العالم.

السادسة : قال الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) : إذا قوم التاجر على الواسطة المتاع بدراهم معلومة ـ ثم قال له : بعه فما تيسر لك فوق هذه القيمة فهو لك والقيمة لي جاز ولم يكن بين التاجر والواسطة بيع مقطوع ، فان باعه الواسطة بزيادة على القيمة كانت له ، وان باعه بها لم يكن على التاجر شي‌ء ، وان باعه بدونها كان عليه تمام القيمة لصاحبه ، وان لم يبعه كان له رده ، ولم يكن للتاجر الامتناع من قبوله ولو هلك المتاع في يد الواسطة من غير تفريط منه كان من مال التاجر ، ولم يكن على الواسطة ضمان ، وإذا قبض الواسطة المتاع من التاجر على ما وصفناه لم يجز أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضيلة على القيمة في الشراء ، وإذا قال الواسطة للتاجر خبرني بثمن هذا الثوب واربح على فيه شيئا لأبيعه ، ففعل التاجر ذلك وباعه الواسطة بزيادة على رأس المال والربح كان ذلك للتاجر ، دون الواسطة ، الا أن يضمنه

__________________

(١) ومن ثم ورد في موثقة إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة ، فينيله الرجل الشي‌ء بعد الشي‌ء كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة ، أيحل ذلك؟ قال : لا بأس إذا لم يكن بشرط». ونحوها رواية الحسين بن ابى العلاء منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٠١.

٨٤

الواسطة ، وأوجبه على نفسه ، فان فعل ذلك جاز له أخذ الفضل على الربح ، ولم يكن للتاجر الا ما تقرر بينه وبينه انتهى ، ونحوه قال الشيخ في النهاية وابن البراج.

وقال ابن إدريس بعد إيراد كلام الشيخ في النهاية : ما أورده الشيخ غير واضح ، وأشار به الى ما ذكره أولا من أنه إذا قوم التاجر متاعا على الواسطة بشي‌ء معلوم ، وقال له بعه فما زدت على رأس المال فهو لك والقيمة لي ، ثم زاد كانت الزيادة للواسطة ، ولا يجوز له أن يبيعه مرابحة قال : لان هذا جميعه لا بيع مرابحة ولا اجارة ، ولا جعالة محققة ، وإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه لم يكن للواسطة في الزيادة شي‌ء ، لأنها من جملة ثمن المتاع ، والمتاع للتاجر لم ينتقل عن ملكه بحال وللواسطة أجرة المثل ، لانه لم يسلم له العوض ، فيرجع الى المعوض ، وكذلك أن باعه برأس المال ، وان باعه بأقل كان البيع باطلا ، وان تلف المبيع كان الواسطة هنا ضامنا ، ثم أى شراء بين التاجر والواسطة حتى يخبر بالثمن ، وليس هذا موضع بيع المرابحة في الشريعة بغير خلاف ، وانما أورد أخبار الآحاد في هذا الكتاب إيرادا لا اعتقادا ، وقول الشيخ ثانيا وإذا قال الواسطة خبرني بثمن هذا المتاع واربح على فيه كذا ففعل كانت الزيادة للتاجر ، وله أجرة المثل يوضح ما نبهنا عليه انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل قال لرجل : بع ثوبي بعشرة دراهم فما فضل فهو لك ، قال ليس به بأس».

وما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن سماعة (٢) في الموثق عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة ، فيقولون بع فما ازددت فلك ، قال : لا بأس بذلك ، ولكن لا يبيعهم مرابحة».

__________________

(١ ـ ٢) الكافي ج ٥ ص ١٩٥ التهذيب ج ٧ ص ٥٤.

٨٥

وما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة (١) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعطى المتاع فيقال : ما ازددت على كذا وكذا فهو لك ، فقال : لا بأس». ورواه بسند آخر في الموثق عن زرارة عن أبى جعفر عليه‌السلام مثله.

وهذه الاخبار كما ترى متفقة الدلالة على ما قاله الشيخان ، وردها بأنها أخبار آحاد خارج عن جادة السداد.

بقي الكلام في ان الظاهر أن هذا من باب الجعالة ، ومال الجعالة يجب أن يكون معلوما ، وهنا ليس كذلك ، وهذا هو السبب في منع ابن إدريس هنا من صحة ما ذكره الشيخ ، وفيه ما ذكره جمع من الأصحاب من أن وجوب معلومية الجعالة انما هو في موضع يؤدى الجهل بها الى التنازع ، وهو منفي هنا ، إذ الزيادة للواسطة متى زاد على ما قومه عليه التاجر مهما كانت الزيادة قليلة أو كثيرة ، والا فلا شي‌ء له لحصول التراضي على ذلك ، بخلاف الجعالة المجهولة المؤدية إلى التنازع ، وبذلك يظهر الفرق بين ذلك ، وبين ما إذا قال الواسطة : خبرني بثمن المتاع واربح على فيه ففعل ، فإن الزيادة للتاجر وللواسطة أجرة المثل ، فإنه على هذه الصورة لا بيع ولا جعالة ، فمن أجل ذلك حكم بالزيادة للتاجر ، وللواسطة بأجرة المثل ، فاعتضاد ابن إدريس بهذه الصورة في الرد على الشيخ حيث قال : وقول الشيخ ثانيا الى آخره ليس في محله ، لظهور الفرق ، وقد تقدم تحقيق القول في هذا المقام في الفصل الخامس في المرابحة والمواضعة والتولية هذا.

والنهى عن البيع مرابحة في موثق سماعة اما من حيث أنه لم ينتقل المبيع اليه بهذا الكلام الذي وقع بينهما ، لعدم تحقق البيع بمجرد التقويم عليه هذا ان كان باع لنفسه ، وان كان للتاجر وكالة فرأس المال غير معلوم ، لان تقويمه على الدلال بقيمة أعم من أن يكون برأس المال أو بزيادة فيه ، بل الغالب هو الثاني ، والواجب في بيع المرابحة معلومية رأس المال والربح ، وأما ما حكم به الشيخان ـ من صحة البيع لو باعه

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٥٤.

٨٦

بأقل مما قومه عليه ، وأن على الدلال تمام القيمة ، وقول ابن إدريس ان البيع هنا باطل ـ فالظاهر أنه متفرع على الكلام في صحة البيع الفضولي وبطلانه وظاهر ابن إدريس الثاني ، وأما على تقدير القول بصحته فينبغي التفصيل في المقام بأنه ان رضى المالك ، وأجاز البيع المذكور فليس له المطالبة بما زاد على القيمة التي باع بها الواسطة ، وان لم يجز البيع فان له المطالبة بعين ماله ان كانت العين قائمة ، فيلزم الدلال بتخليصها وإرجاعها ، وان تعذر ذلك كان له الرجوع على الدلال بالقيمة ، وعلى هذا فينبغي أن يحمل كلام الشيخين هنا على ما إذا لم يجز البيع ، وتعذر الرجوع الى العين.

السابعة : قد صرح الأصحاب بأن أجرة الكيال والوزان على البائع ، وأجرة الناقد ووزان الثمن على المشترى ، وأجرة الدلال على الآمر ، ولو باع واشترى فأجرة البيع على الآمر به ، وأجرة الشراء على الآمر به.

أقول : والوجه في الأولين ظاهر ، لانه يجب على البائع توفية المشترى المبيع وتسليمه بعد معلوميته بالكيل والوزن ، وحينئذ فأجرة هذا العمل عليه لو لم يفعله بنفسه ، ونقد الثمن ووزنه ، واجب على المشترى ، لأنه يجب عليه توفية الثمن وتسليمه فيجب عليه أجرة هذا العمل لو لم يفعله بنفسه.

واما الثالث فكذلك ، لان الدلال بمنزلة الأجير ، فإن كان وكيلا في البيع فأجرته على البائع ، وان كان في الشراء فأجرته على المشترى.

بقي هنا شي‌ء وهو أن الشيخ رحمه‌الله ، قال في النهاية : لو نصب نفسه لبيع الأمتعة كان له أجر البيع على البائع ، ولو نصب نفسه للشراء كان له أجرة على المبتاع ، فان كان ممن يبيع ويشترى كان له أجرة على ما يبيع من جهة البائع ، وأجرة على ما يشترى من جهة المبتاع انتهى.

وقال ابن إدريس : في قوله فان كان ممن يبيع ويشترى الى آخره ولا يظن ظان أن المراد بذلك في سلعة واحدة يستحق أجرين ، وانما المراد بذلك ان من كان صنعته يبيع تارة للناس ، ويشترى لهم تارة ، فيكون له أجرة على من يبيع له

٨٧

في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها كان له أجرة على من اشترى له تلك السلعة ، لا أنه يشترى سلعة واحدة ويبيعها في عقد واحد ، لأن المشتري غير البائع ، والبائع غير المشترى ، وانما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه فليتأمل ذلك انتهى.

واعترضه العلامة في المختلف بأنه ليس بجيد ، لأنا يجوز كون الشخص الواحد وكيلا للمتعاقدين كالأب يبيع على ولده من ولده الأخر ، وحينئذ يستحق اجرة البيع على آمره ، وأجرة الشراء على آمره ، وقوله العقد لا يكون الا بين اثنين مسلم وهو هنا كذلك لتعدد المنتسب اليه كالأب العاقد عن ولديه. انتهى.

وهو جيد الا ان المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ـ حيث قال : المصنف وأجرة الدلال على الأمر ولو أمراه فالسابق (١) ولو أمراه بتولي الطرفين فعليهما ـ ان الذي عليهما متى أمراه بتولي الطرفين الإيجاب والقبول انما هو أجرة واحدة بالتنصيف ، حيث قال بعد قول المصنف في آخر العبارة المذكورة فعليهما : ما صورته أجرة واحدة بالتنصيف اقترنا أم تلاحقا ، ثم قال : ولو منعنا من تولى الطرفين من الواحد امتنع أخذ أجرتين ، لكن لا يتجه حمل كلام الأصحاب أنه لا يجتمع بينهما لواحد عليه ، لانه قد عبر به من يرى جوازه ، بل المراد أنه لا يجمع بينهما لعمل واحد ، وان أمره البائع بالبيع ، والمشترى بالشراء ، بل له أجرة واحد عليهما ، أو على أحدهما كما فصلناه انتهى. وهو ظاهر في أنه مع تولى الطرفين ليس الا أجرة واحدة بالتنصيف ، ومن الظاهر أنه لا فرق في تولى الطرفين بين الولي الشرعي كما تقدم في كلام العلامة ،

__________________

(١) أقول : قوله ولو امراه في السابق حاصل معنى هذه العبارة على ما يفهم من الشرح أنه لو أمراه يعني كل من البائع والمشترى فالأجرة على الآمر أو لا ان كان مراد كل منهما المماكسة فقط من غير تولى طرفي العقد ، وان كان مرادهما الأمر بتولي طرفي العقد فالأجرة عليهما معا بالمناصفة ، سواء أقترنا أو تلاحقا لكن بقيت هنا صورة ثالثة وهي ما لو أمراه بالمماكسة ولكن اقترنا من غير تقدم أحدهما الأخر ، وربما ظهر من فحوى كلام الشارح أنها ملحقة بالصورة الثانية وهو الأمر بالعقد منه رحمه‌الله.

٨٨

ولا بين الوكيل فيهما من جهة البائع والمشترى. وكيف كان فهو ظاهر المنافاة لما تقدم في كلام العلامة ، وقوله ولو منعناه الى آخره خرج مخرج الرد على المصنف في الدروس حيث قال : ولو منعنا من تولية الطرفين امتنع أخذ أجرتين ، وعليه يحمل كلام الأصحاب أنه لا يجمع بينهما لواحد ، وحاصله أنه فسر كلامهم بأن معناه انه لا يجمع بين الأجرتين لشخص واحد ، وان ذلك مبنى على المنع من تولية الطرفين لشخص واحد بأن يتولى الإيجاب والقبول ، فقولهم ذلك إشارة إلى المنع في هذه الصورة على تقدير القول به.

والشارح رده بأنه قد صرح بهذا الكلام من جوز تولى الطرفين لشخص واحد ، وحينئذ فلا يصح تفسير كلامهم بما ذكره ، بل مرادهم بذلك الكلام انما هو أنه لا يجمع بين الأجرتين لعمل واحد ، وان كان هنا أمران أحدهما البيع ، والآخر الشراء ، فإنه عمل واحد يستحق عليه أجرة واحدة منهما أو من أحدهما على التفصيل الذي قدمه ، ولا مدخل لبنائه على تولى الطرفين وعدمه.

وبالجملة فإن كلامه هنا ظاهر في أنه مع تولى الطرفين ليس له الا أجرة واحدة وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن العلامة.

والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، وأنا أستمع فقال له : ربما أمرنا الرجل فيشترى لنا الأرض والغلام والدار والخادم والجارية ونجعل له جعلا قال : لا بأس بذلك». ورواه الشيخ بسندين آخرين مثله.

وما رواه في الكتابين المذكورين عن ابن ابى عمير (٢) في الصحيح عن بعض أصحابنا من أصحاب الرقيق قال : «اشتريت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، جارية فناولني أربعة دنانير فأبيت قال : لتأخذنها فأخذتها فقال : لا تأخذ من البائع».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن أبى ولاد (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣) الكافي ج ٥ ص ٢٨٥ التهذيب ج ٧ ص ١٥٦.

٨٩

وغيره عن ابى جعفر عليه‌السلام «قالوا : قالا : لا بأس بأجر السمار انما هو يشترى للناس يوما بعد يوم بشي‌ء معلوم ، وانما هو مثل الأجير». والسمار بالكسر المتوسط بين البائع والمشترى ، ومرسل ابن أبى عمير ظاهر في النهي عن أخذ الأجرة من البائع بعد أخذها من المشترى ، والظاهر أن الوجه في ذلك أن الآمر له انما هو المشترى ، والبائع لم يأمره بالبيع له ، فلا يستحق عليه شيئا ، بل لو فرضنا أن المشترى لم يدفع اليه أجرة فإنه لا رجوع له ، على البائع متى كان لم يأمره ، وهو ظاهر.

الثامنة : قد تكاثرت الاخبار باستحباب الإقالة ، وقدمنا طرفا منها في المقدمة الثانية من مقدمات هذا الكتاب.

ومنها زيادة على ما تقدم ما رواه الصدوق (١) (قدس الله روحه) في المقنع مرسلا عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقاله الله عثرته يوم القيامة».

والكلام فيها يقع في مواضع الأول ـ الإقالة عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف فسخ لا بيع ، سواء كان في حق المتعاقدين أو غيرهما ، وسواء وقعت بلفظ الفسخ أو الإقالة ، وأشير بهذه القيود الى خلاف العامة في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى انها بيع مطلقا ، وبعض آخر إلى أنها بيع ان وقعت بلفظ الإقالة ، وفسخ ان وقعت بلفظ الفسخ ويلحقها أحكامه وذهب بعض إلى انها بيع بالنسبة إلى الشفيع خاصة ، فيستحق الشفعة بها وان كانت فسخا في حق المتعاقدين ، (٢) وبطلان الجميع ظاهر ، إذ لا يطلق

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب التجارة الرقم ٤.

(٢) القائل بأنها بيع في حق غير المتبايعين أبو حنيفة ، والقائل بالتفصيل بالفسخ وغيره بعض الشافعية ، والقائل بأنها بيع مطلقا جماعة منهم المالك والشافعي في القديم ، كذا نقله بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) منه رحمه‌الله.

٩٠

عليها اسم البيع في شي‌ء من هذه الصور ، وللبيع ألفاظ خاصة ليست هذه منها (١) وصيغتها أن يقول كل منهما تقايلنا أو تفاسخنا ، أو يقول أحدهما أقلتك العقد الواقع بيننا فيقبل الآخر ، أو يقول تفاسخنا ، ولا فرق في ذلك بين النادم وغيره ، ولا يكفى التماس أحدهما عن قبوله أو إيجابه ، بل لا بد فيها من الإيجاب والقبول بالألفاظ المذكورة ، ولا يعتبر فيها سبق الالتماس ، بل لو ابتدء أحدهما بالصيغة فقبل الآخر صح.

الثاني ـ قالوا : لا تصح بزيادة في الثمن الذي وقع عليه العقد ولا نقيصة لأنها فسخ ، ومقتضاه رجوع كل عوض الى مالكه ، فلو شرط فيها ما يخالف مقتضاها فسد الشرط ، ويترتب عليه فسادها كما في كل شرط فاسد ، لأنهما لم يتراضيا على الفسخ الا على ذلك الوجه ، ولم يحصل لبطلانه ، فما تراضيا عليه لم يحصل ، وما حصل لم يتراضيا عليه.

أقول ويشير الى ما ذكروه من عدم الزيادة والنقيصة بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها ، وأما ما ذكروه من بطلان العقد هنا لاشتماله على شرط فاسد بناء على ما اشتهر بين المتأخرين من جعل ذلك قاعدة كلية ، فقد عرفت ما فيه آنفا في بعض نكت هذا الفصل.

الا أن ما يؤيد كلامهم هنا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) ، عن الحلبي (٢) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ، ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة قال : لا يصلح أن يأخذه بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباع بأكثر من ثمنه رد على الأول ما زاد».

__________________

(١) أقول : قال الشيخ في المبسوط : الإقالة فسخ سواء كان قبل القبض أو بعده في حق المتعاقدين وفي غيرهما ، بدلالة أنه لا يجوز الزيادة في الثمن ولا النقصان إجماعا. انتهى. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٩٥ التهذيب ج ٧ ص ٥٦ الفقيه ج ٣ ص ١٣٧.

٩١

وبه يظهر ما قدمنا ذكره من أن الاولى الوقوف في كل حكم حكم على ما يرد به الاخبار فيه من غير أن يكون ذلك قاعدة كلية كما ادعوه ، فإن الاخبار في بعض العقود توافق ما ذكروه ، كهذا الخبر ونحوه غيره أيضا ، وبعض كالاخبار التي قدمناها تخالف ما ذكروه ، فكيف يمكن جعل ذلك قاعدة كلية.

ثم انهم قالوا بناء على هذه القاعدة ايضا : أنه لا فرق في المنع من الزيادة والنقيصة بين العينية والحكمية ، فلو أقاله على أن ينظره بالثمن أو يأخذ الصحاح عوض المكسور ونحو ذلك لم يصح.

الثالث ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنها تصح في العقد وفي بعضه ، سلما كان أو غيره ، خلافا لبعض العامة حيث منع من الإقالة في بعض السلم ، محتجا بأنه يصير حينئذ سلما وبيعا ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، وفيه مع تسليم الخبر أنه مبنى على كون الإقالة بيعا كما تقدم نقله عن بعضهم ، وهو ممنوع على أنه قد تقدم في النكتة الثالثة ذكر معنى لهذا اللفظ ، فلا يتعين الحمل على ما ذكروه ، والاخبار الواردة باستحباب الإقالة شاملة بإطلاقها للكل والبعض ، بل هو صريح جملة من الاخبار المتقدمة في المسألة الثانية من المقام الثاني من الفصل العاشر في السلم كما أوضحناه ذيل تلك الاخبار ، وعلى هذا فمتى وقع التقابل في البعض خاصة اقتضى تقسيط الثمن على المثمن ، فيرتجع في نصف المبيع نصف الثمن ، وفي ربعه ربعه وهكذا.

الرابع ـ قالوا : ولا تسقط أجرة الدلال لسبق استحقاقه الأجرة ، فإنه كان على السعى المتقدم وقد حصل ومثله أجرة الكيال والوزان والناقد وهو جيد.

الخامس ـ قد عرفت أنه بالإقالة يرجع كل عوض الى مالكه وحينئذ فإن كان باقيا أخذه ونماءه المتصل به فإنه تابع للعين ، واما المنفصل فلا رجوع به وان كان حملا لم تضعه يومئذ ولم ينفصل ، أما اللبن في الضرع فهل يكون كالولد منفصلا أو يكون متصلا كالسمن؟ اشكال وان كان الأقرب الأول.

وأما الصوف والشعر قبل الجز فأشد إشكالا واستظهر في المسالك أنه من

٩٢

المتصل مع احتمال العدم ، وان كان تالفا رجع بمثله ان كان مثليا وبقيمته ان كان قيميا وكذا يرجع بالقيمة في المثلي لو تعذر المثل ، وفي تعيين وقت القيمة الخلاف المتقدم في الأبحاث السابقة من أنه يوم تلف العين ، أو يوم القبض ، أو يوم الإقالة ، أو الأعلى من هذه القيم ، ولو وجده معيبا فله أرش العيب ، لان الجزء الفائت بالعيب بمنزلة التالف فيضمنه كما يضمن الجميع.

التاسعة : قد تكاثرت الروايات بذكر العينة ولم أقف في الكتب الفقهية على من تعرض لذكرها بهذا العنوان الا ما سيأتي من نقل كلام لابن إدريس في السرائر قال ابن الأثير في النهاية وفي حديث ابن عباس أنه كره العينة ، وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به ، فان اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها فباعها من طالب العينة إلى أجل ، فقبضها ثم باعها المشترى من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة ، وهي أهون من الاولى ، وسميت عينة لحصول النقد الذي لصاحب العينة ، لأن العين هي المال الحاضر من النقد ، والمشترى إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة يصل إليه معجلة انتهى.

وقال ابن إدريس في كتاب السرائر على ما نقله عنه بعض الأصحاب وذكر شيخنا في الاستبصار في كتاب المكاسب باب العينة وهي بالعين غير المعجمة المكسورة ـ والياء الساكنة والنون المفتوحة مخففة والهاء المنقلبة عن تاء ، ومعناها في الشريعة هو أن يشترى السلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها بدون ذلك (١) نقدا ليقضى دينا عليه ممن قد حل له عليه ويكون الدين الثاني وهو العينة من صاحب الدين الأول روى ذلك أبو بكر الحضرمي ، مأخوذ ذلك من العين : وهو النقد الحاضر انتهى وهو يرجع الى المعنى الأول ، الذي ذكره في النهاية ، والواجب نقل ما وقفت عليه

__________________

(١) قوله بدون ذلك : يعني بأدون وأنقص ، لا أن الدون بمعنى الغير.

٩٣

من الاخبار الواردة بذلك في المقام. والكلام ذيل كل منها بما يكشف عن معناه نقاب الإبهام.

الأول : ما رواه في الكافي عن إسماعيل ابن عبد الخالق (١) في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، عن العينة وذلك أن عامة تجارنا اليوم يعطون العينة فأقص عليك كيف نعمل قال : هات قلت : يأتينا الرجل المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع فيقول : أربحك ده يازده وأقول أنا : ده دوازده ، فلانزال نتراوض حتى نتراوض على أمر ، فإذا فرغنا قلت له : أى متاع أحب إليك ان اشترى لك؟ فيقول : الحرير لانه لا يجد شيئا أقل وضيعة منه ، فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة فقال : أليس إن شئت لم تعطه وان شاء لم يأخذ منك؟ قلت : بلى ، قلت فأذهب فأشترى له ذلك الحرير وأماكس بقدر جهدي ثم أجي‌ء به الى بيتي فأبايعه فربما ازددت عليه القليل على المقاولة ، وربما أعطيته على ما قاولته ، وربما تعاسرنا ولم يكن شي‌ء ، فإذا اشترى منى لم يجد أحدا أغلى به من الذي اشتريته منه ، فيبيعه منه ، فيجيئني ذلك فيأخذ الدراهم ، فيدفعها اليه وربما جاء فيحيله على ، فقال : لا تدفعها الا الى صاحب الحرير ، قلت : وربما لم يتفق بيني وبينه البيع به ، فأطلب اليه ليقيله منى فقال : أو ليس لو شاء لم يفعل وان شئت أنت لم ترد ، فقلت : بلى لو أنه هلك فمن مالي قال : لا بأس بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس».

أقول : ما اشتمل عليه هذا الخبر هو المعنى الثاني من المعنيين اللذين ذكرهما في النهاية ، وإطلاق كلام ابن إدريس شامل لهذه الصورة أيضا ، لأن قوله ثم يبيعها بدون ذلك أعم من أن يكون البيع على من اشترى منه أو على غيره.

وفي الخبر أيضا دلالة على أنه لا يختص العينة بما إذا كان الغرض منها قضاء دين عليه كما يشعر به كلام ابن إدريس ، وان كان قد ورد ذلك في جملة من أخبار المسألة لأن ظاهر الخبر المذكور انما هو أخذ المال لينتفع به.

وظاهر هذا الخبر وغيره من أخبار العينة أن الغرض من ذلك هو الحيلة في

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٣.

٩٤

الخروج من الربا ، بأن يجي‌ء الرجل محتاجا الى مبلغ من النقد يريده إلى مدة بنفع يكون لصاحب النقد في ذلك المال ضمن المدة المذكورة ، فيشتري منه متاعا بقيمة زائدة على القيمة الواقعية مؤجلة عليه إلى مدة معلومة بينهما ، فإذا اشتراه واستقر الثمن في ذمة المشترى وهو طالب العينة باعه من صاحبه الأول أو غيره بثمن أنقص مما اشتراه وقبض ثمنه ، وبقي ذلك المبلغ الأول عليه الى حلول الأجل ، فربما تعذر عليه بعد حلول الأجل فيتعين أيضا من ذلك الشخص أو غيره ليوفي دينه ، السابق.

فقوله في الخبر يأتينا الرجل المساوم يريد المال ، أى المال النقد ، وانما يريد اقتراضه إلى مدة بنفع يكون فيه ، وهذه المساومة بده دوازده ونحوها الى آخر ما ذكر انما هو حيلة في التخلص من الوقوع في الربا ، قوله لم يجد أحدا أغلى به ، أى لم يجد أحدا يشترى منه بثمن غال كثير ، وأما منعه عليه‌السلام لقبول الحوالة ومنعه من الدفع الا الى صاحب الحرير فلا أعرف له وجها ، ولهذا حمله بعض مشايخنا على الكراهة.

قوله وربما لم يتفق بيني وبينه البيع الى آخر الخبر معناه أنه ربما لم يتفق بيني وبين طالب العينة البيع ، فالتمس من الذي باعني المتاع أن يفسخ البيع الذي بيني وبينه ، ويقبل متاعه ، فقال عليه‌السلام أو ليس البيع الأول الذي وقع بينك وبينه لازما بحيث أنه لو شاء لم يفسخ البيع ، ولو شئت أنت عدم الرد لم يجب عليك الرد ، فقال : بلى الأمر كذلك ، ولو هلك المتاع قبل الفسخ كان من مالي فقال عليه‌السلام إذا لم تعد هذا الشرط أي إنشاء لم يقبل ، وان شئت لم ترد فلا بأس ، فهو من عدا يعدو أى تجاوز.

الثاني : ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن المنذر. (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة فاشترى له المتاع من أجله ثم أبيعه إياه ثم أشتريه منه مكاني قال : فقال : إذا كان بالخيار إنشاء باع ، وان شاء لم يبع ، وكنت أيضا بالخيار ان شئت اشتريت وان شئت لم تشتر فلا بأس ، قال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٢ التهذيب ج ٧ ص ٥١.

٩٥

فإن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد ويقولون : ان جاء به بعد أشهر صلح فقال انما هذا تقديم وتأخير فلا بأس به».

أقول ما ذكره في هذا الخبر هو المعنى الأول من المعنيين المذكورين في النهاية ، ومن هذا الخبر يظهر أن مذهب العامة تحريم العينة ، لأن المراد بأهل المسجد علماء العامة الذين كانوا يجلسون في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأجل نشر العلوم ، وتعليم الناس والى ذلك يشير كلام صاحب النهاية المتقدم ، وقوله عليه‌السلام «إذا كان بالخيار» الى آخره كناية عن تحقق البيع ولزومه واقعا ، بمعنى أنه إذا تحقق البيع الأول وجميع شروط الصحة فلا بأس بشراءك منه ، وكان العامة كانوا يشترطون الفصل بين البيعين بمدة مديدة ، فقال عليه‌السلام : انما هذا تقديم وتأخير ، فلا مدخل له في الجواز ثم لا يخفى أن الخبر المذكور وان كان مطلقا بالنسبة إلى التأجيل وعدمه ، وحصول النفع وعدمه ، الا أنه يجب حمله على غيره من أخبار المسألة كالخبر المتقدم وغيره ، وكان ذلك لمعلومية الحكم من لفظ العينة كما عرفت من معناها آنفا.

الثالث : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم (١) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلب من رجل ثوبا بعينة ، فقال : ليس عندي وهذه دراهم فخذها واشتر بها فأخذها ، واشترى ثوبا كما يريد ، ثم جاء به ليشتريه منه؟ فقال : أليس ان ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ فقلت : بلى ، فقال : ان شاء اشترى وان شاء لم يشتر قال : فقال : لا بأس به».

أقول : الاشتراء هنا قد وقع وكالة عن صاحب الدراهم ، والغرض هنا انما تعلق بالسؤال عن الشراء على هذه الكيفية ، وقوله عليه‌السلام ، «أليس ان ذهب الثوب» الى آخره بمعنى أن ضمان الثوب على الذي اعطى الدراهم : وأن الذي اشتراه بالخيار بين أن يشتريه من صاحب الدراهم ، وأن لا يشتريه ، مما يوضح أن الشراء الأول انما كان وكالة عن صاحب الدراهم ، لا أنه أقرضه الدراهم فشرى بها لنفسه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٣ التهذيب ج ٧ ص ٥٢.

٩٦

لانه لو كان كذلك لكان الزيادة التي يوقعها صاحب العينة ربا ، ولا معنى لقوله في الخبر ثم جاء به ليشتريه منه ، والظاهر كما استظهره بعض مشايخنا عطر الله مراقدهم أنه قد سقط لفظ «قلت : بلى» بعد قوله «وان شاء لم يشتر» من قلم النساخ ، فان المعنى لا يستقيم الا بذلك ، وحاصله أنه عليه‌السلام قال للسائل أولا : أليس ان ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم ، فأجاب بلى ، فقال له ثانيا : «أليس ان شاء اشترى وان شاء لم يشتر» فأجاب بلى ، قال : «فقال : لا بأس» والخبر لم يذكر فيه بقية أحكام العينة ، لأن الغرض انما تعلق بالسؤال عن هذا الأمر الخاص.

الرابع : ما رواه في التهذيب عن منصور بن حازم (١) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة ، فيقول له الرجل أنا أبصر بحاجتي منك ، فأعطني حتى اشترى فيأخذ الدراهم فيشترى حاجته ثم يجي‌ء بها الى الرجل الذي له المال فيدفعها اليه ، فقال : أليس إنشاء اشترى وان شاء ترك ، وان شاء البائع باعه وان شاء لم يبع؟ قلت : نعم ، قال : لا بأس». والتقريب في هذا الخبر كما في سابقه وهو أوضح دلالة لما عرفت في الأول (٢).

الخامس : ما رواه المشايخ الثلاثة برد الله مضاجعهم ، عن بشار بن يسار (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبيع المتاع بنسإ ويشتريه من صاحبه الذي

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٥٢.

(٢) قال ابن إدريس في كتاب السرائر : وإذا أخذ الإنسان من تاجر مالا واشترى به متاعا يصلح له ثم جاء به الى التاجر ثم اشتراه منه لم يكن بذلك بأس ، لأنه وكيل التاجر نائب عنه في الشراء ، ويكون التاجر مخيرا بين أن يبيعه ، وان لا يبيعه ، فان كان الإنسان الذي هو الوكيل اشتراه لنفسه في ذمته لا بعين مال موكله ثم نقد الثمن على أنه ضامن له لم يكن للتاجر عليه سبيل ، وان اختلفا في ذلك فالقول قول الوكيل دون الموكل ، وان كان الوكيل شراه بعين مال موكله فان الملك يقع للتاجر الذي هو الموكل دون الوكيل انتهى منه رحمه‌الله.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٠٨ التهذيب ج ٧ ص ٤٧ الفقيه ج ٣ ص ١٣٤.

٩٧

يبيعه منه؟ قال : نعم لا بأس ، فقلت : أشترى متاعي؟ قال : ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك». أقول هذه هي العينة على ما عرفت ، وأنه يدفع له قيمة ما اشتراه منه ويجعل الأول دينا عليه إلى الأجل المعلوم بينهما ، والسائل توهم المنع ، لأنه يشترى متاع نفسه ، وأجابه عليه‌السلام بأنه قد انتقل عنك بالبيع الأول الذي جعلت ثمنه نسيئة ، فليس هو متاعك ، وانما هو متاع المشترى وأنت تريد شراءه منه».

السادس : ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى بكر الحضرمي (١) في الحسن قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل تعين ثم حل دينه فلم يجد ما يقضى أيتعين من صاحبه الذي عينه ويعطيه؟ قال : نعم».

السابع : ما روياه أيضا عن الحضرمي (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يكون لي على الرجل الدراهم فيقول لي : بعني شيئا أقضيك فأبيعه المتاع ثم أشتريه منه فاقبض مالي؟ قال لا بأس به».

الثامن : ما رواه في الكافي عن هارون بن خارجة (٣) «قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عينت رجلا عينة فقلت له : اقضني فقال : ليس عندي تعينى حتى أقضيك قال : عينه حتى يقضيك».

ورواه في الفقيه عن صفوان الجمال (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، عينت رجلا عينة فحلت عليه فقلت : اقضني» الحديث. دلت هذه الاخبار على التعين ثانيا من صاحب العينة الأولى كما ذكره ابن إدريس ، وكأنه لم يطلع إلا على خبر الحضرمي ولا اختصاص لها بهذه الصورة ، لما عرف في ما تقدم وهو أن يشترى طالب العينة من صاحب الطلب متاعا بما يزيد على قيمته السوقية مؤجلا عليه ، ثم يشتريه البائع بأنقص ويدفع الثمن الى صاحب العينة ، ثم ان طالب العينة يدفعه لصاحب الطلب عن طلبه

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٢٠٤ التهذيب ج ٧ ص ٤٨.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٨٣.

٩٨

السابق ، ويبقى قيمة ما باعه عليه أولا في ذمته دينا عليه.

العاشرة قال ابن الجنيد : العربون من جملة الثمن ، ولو شرط المشترى للبائع أنه ان جاء بالثمن ، والا فالعربون له كان عوضا عما منعه من البيع ، وهو التصرف في سلعته ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عن ابن الجنيد : والمعتمد أن يكون من جملة الثمن ، فان امتنع المشترى من دفع الثمن وفسخ البائع العقد وجب عليه رد العربون.

لنا الأصل بقاء الملك على المشترى ، فلا ينتقل عنه الا بوجه شرعي ، وما رواه وهب (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يقول : لا يجوز بيع العربون الا ان يكون هذا من الثمن». ثم نقل عن ابن الجنيد انه احتج بقوله عليه‌السلام (٢) «المؤمنون عند شروطهم». ثم أجاب عنه بان المراد الشروط السائغة.

أقول : ما نقله من الرواية بلفظ هذا من الثمن هو الموجود في التهذيب ، وفي غيره ، «الا أن يكون نقدا من الثمن» والظاهر على هذا أن يكون من الثمن بدلا من نقد.

وكيف كان فالظاهر ضعف ما ذكره ابن الجنيد ان لم يكن ذلك الشرط في عقد صحيح لازم ، لوجوب الوفاء بالشرط ـ ومنع كونه سائغا كما ذكره العلامة ـ لا أعرف له وجها ، نعم لو وقع ذلك من غير أن يكون في عقد لم يلزم ، الا ان يقال : بوجوب الوفاء بالوعد كما دل عليه ظاهر القرآن ، ويدل عليه أيضا بعض الاخبار ، واليه جنح بعض مشايخنا المتأخرين وهو قوي.

الحادية عشر : روى الشيخ في التهذيب عن حكم بن حكيم الصيرفي (٣) قال : «سمعت أبا الحسن عليه‌السلام ، وسأله حفص الأعور فقال : ان السلطان يشرون منا القرب والادواة فيوكلون الوكيل حتى يستوفيه منا ، فنرشوه حتى لا يظلمنا ، فقال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٣٣ التهذيب ج ٧ ص ٢٣٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٦٩.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٣٥.

٩٩

لا بأس ما تصلح به مالك ، ثم سكت ساعة ثم قال : إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟ قلت : نعم قال : فسدت رشوتك».

أقول : فيه دلالة على جواز الرشوة لدفع الظلم المتعدي ، والظاهر أن الجواز انما هو بالنسبة الى المعطى لا الى القابض ، فإنها محرمة عليه البتة ، لأنه إنما أعطى لأجل دفع ظلمه ، وهذا انما يوجب زيادة في التحريم.

واما إعطاء الوكيل هنا لأجل أن يقبل أقل من الحق الواجب أداؤه ، فإنه محرم البتة ، ولهذا قال عليه‌السلام لما سأله أنه بعد أخذ الرشوة يأخذ أقل من الشرط يعني الحق الذي شرط عليه فقال نعم : «فسدت رشوتك» فان ذلك خيانة وظلم ، وهو ظاهر. والله العالم بحقائق أحكامه وأولياؤه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

كتاب الدين

ولنقدم هنا جملة من الاخبار الواردة في الاستدانة فإن كتابنا هذا كتاب أحكام وأخبار كما لا يخفى على من تأمله بعين الفكر والاعتبار ، فروى سماعة (١) في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل منا يكون عنده الشي‌ء يتبلغ به وعليه دين أيطعمه عياله حتى يأتي الله عزوجل بميسرة ، فيقضي دينه؟ أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب ، أو يقبل الصدقة؟ قال : يقضى بما عنده دينه ، ولا يأكل من أموال الناس الا وعنده ما يؤدى إليهم حقوقهم ، ان الله عزوجل يقول (٢) «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» ولا يستقرض على ظهره الا وعنده وفاء ، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين والتمرة والتمرتين ، الا ان يكون له ولي يقضى دينه من بعده ، ليس منا من يموت الا جعل الله له وليا يقوم في عدته ودينه فيقضى عدته ودينه».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٩٥ التهذيب ج ٨ ص ١٨٥ الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب الديون.

(٢) سورة النساء الآية ٢٩.

١٠٠