الحدائق الناضرة - ج ١٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

المتأخرين ثبوته ، واعترف جمع من المتأخرين بأنهم لم يقفوا في النصوص على نص عليه بالخصوص ، وانما ورد في تلقى الركبان تخيرهم إذا غبنوا.

واستدلوا عليه ايضا بحديث الضرار (١) ، وما ذكروه من حديث الغبن في تلقى الركبان لم أقف عليه في كتب الاخبار ، ولا في كتب الفروع ايضا ويمكن ان يستدل عليه بما رواه في الكافي (٢) عن إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «غبن المسترسل سحت».

وعن ميسر (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «غبن المؤمن حرام». وفي رواية «لا يغبن المسترسل فان غبنه لا يحل».

قال في كتاب مجمع البحرين : والاسترسال : الاستيناس ، والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدثه وأصله السكون والثبات ، ومنه الحديث أيما مسلم استرسل الى مسلم فغبنه فهو كذا ، ومنه غبن المسترسل سحت ، انتهى ، وظاهره وجود حديث رابع زائد على ما نقلناه.

وبالجملة فهذه الاخبار وان كانت مطلقة الا أنها دالة بإطلاقها على ما نحن فيه من تحريم الغبن في البيع والمنع منه ، وحينئذ فيثبت لصاحبه الخيار.

وكيف كان فثبوته عند الأصحاب مشروط بأمرين كما تقدمت الإشارة إليه. ـ أحدهما ـ جهالة المغبون بالقيمة وقت العقد ، فلو عرف القيمة ثم زاد أو نقص مع علمه ، أو تجددت الزيادة أو النقيصة بعد العقد فلا غبن ولا خيار إجماعا ، كما نقله المسالك. ثانيهما ان يكون الغبن الذي هو عبارة عن الزيادة والنقيصة فاحشا لا يتسامح بمثله عادة ، مثل ان يبيع ما يساوى مأة : بخمسين ونحوها فلو كان يسيرا

__________________

(١) أقول من اخبار الضرار موثقة زرارة عن أبى جعفر عليه‌السلام في حديث ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا ضرر ولا ضرار. ورواية عقبة ابن خالد عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا ضرر ولا ضرار على مؤمن. ونحوهما غيرهما ـ منه رحمه‌الله.

(٢ ـ ٣) الكافي ج ٥ ص ١٥٣ التهذيب ج ٧ ص ٧ الفقيه ج ٣ ـ ١٧٣.

٤١

يتسامح به كالدرهم بل الأربعة والخمسة في المأة فلا غبن.

وقد عرفت ان مرجع ذلك عندهم الى العرف حيث لا تقدير له في الشرع وطريق معرفة الثاني ظاهرة ، لانه يمكن إقامة البينة على القيمة فيناط بها.

وأما الأول فإن أمكن إقامة البينة عليه فكذلك والا فإن ادعاه مع معلومية عدم إمكان ذلك في حقه حيث يعلم ممارسته لذلك النوع في ذلك الزمان بحيث لا يخفى عليه قيمته لم يقبل قوله ، والا ففي القبول إشكال ينشأ من أصالة عدم العلم ، ولان العلم والجهل من الأمور التي تخفى غالبا ولا يطلع عليها الا من قبل من هي به ، ومن أصالة لزوم العقد ووجوب الوفاء به فيستصحب الى أن يثبت المزيل.

وقوى في الروضة الأول ، قال : والأقوى قبول قوله في الجهالة بيمينه مع إمكانها في حقه ، واستظهره في المسالك أيضا الا انه احتمل فيه الثاني ، ثم استشكل فيه بأنه ربما تعذر إقامة البينة ، ولم يمكن معرفة الخصم بالحال ، فلا يمكنه الحلف على عدمه فتسقط الدعوى بغير بينة ولا يمين. وما ذكره ـ قدس‌سره ـ جيد بناء على قواعدهم الا أن المسألة لخلوها من النص الواضح موضع توقف.

وحيث ثبت الغبن فإنه يتخير المغبون بين الرد والإمساك مجانا ، وليس له الأرش إجماعا كما ذكره في التذكرة ، والمشهور في كلام المتأخرين انه لا يسقط الخيار ببذل الغابن التفاوت ، وان انتفى موجبه استصحابا لما ثبت قبله.

نعم لو اتفقا على إسقاطه بالعوض صح كغيره من الخيار ، وفيه نظر لأنه ان كان مدرك هذا النوع من الخيار خبر الضرار كما اعترفوا به ، فقضية ذلك ان يكون الضرار ، هو المدار ، وظاهر أن بذل التفاوت يدفعه ، فينبغي القطع بعدم الخيار اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ومحل الضرورة ، وان كان الإجماع فقد عرفت عدم ثبوته ، لما ذكره في الدروس وغيره من عدم ذكر كثير من المتقدمين لهذا الخيار وما نقل عن المحقق آنفا.

٤٢

وتردد العلامة في التذكرة هنا فقال : ولو دفع الغابن التفاوت احتمل سقوط خيار المغبون لانتفاء موجبه وهو النقص ، وعدمه لانه ثبت له ، فلا يزول عنه الا بسبب شرعي انتهى. مع انه قد ادعى الإجماع (١) على عدم ثبوت الأرش به ، قالوا ولا يسقط الخيار هنا بالتصرف وظاهرهم انه سواء كان المتصرف الغابن في مال المغبون أو بالعكس خرج به عن الملك كالبيع أم منع من الرد كالاستيلاد أم لا.

ولهم في هذه المسألة تفاصيل وشقوق عديدة أنهاها شيخنا في الروضة والمسالك الى ما يزيد على مأتي مسألة ، وأطال في تقريرها وليس في التعرض لذكرها مزيد فائدة مع خلوها من النصوص على العموم والخصوص. فمن أحب الوقوف عليها فليرجع الى أحد الكتابين المشار إليهما.

والمشهور أن الخيار هنا فوري وقيل : بأنه على التراخي ، وعلل الأول بعموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وأن الأصل بناء العقود على اللزوم ، فيقتصر فيما خالفه على موضوع اليقين ، وهو المقدار الذي يمكن حصوله فيه ، ولاقتضاء التراخي الإضرار بالمردود عليه حيث يختلف الزمان ، ويؤدى الي تغيير المبيع.

ولا يخفى ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه الوجوه من المجازفة وعلل الثاني بثبوت أصل الخيار فيستصحب الى ان يثبت المزيل لانتفاء الدليل على خصوص الفورية ، ولا يخفى ان هذا هو الأقرب والأنسب بقواعدهم والاربط بضوابطهم.

__________________

(١) وجه المدافعة هو ان مقتضى دعوى الإجماع من أنه لا يجب عليه به أرش ان يكون له الخيار وان بذل الغابن الغبن ، وذلك لان اللازم من الغبن والمترتب عليه انما هو اما هو الخيار بين الإمساك مجانا أو الرد ، لا التفاوت بين الثمن والقيمة الموجب للغبن سواء بذله الغابن أم لا وهذا هو الذي ادعى عليه الإجماع ، فكيف يتردد مع بذل الغابن الغبن ، مع انه ليس بما يترتب على الغبن وانما يترتب عليه مجرد الخيار ـ منه رحمه‌الله.

٤٣

وبالجملة فأصالة العدم أقوى مستند في المقام حتى يقوم دليل على خلاف ذلك ولو جهل الخيار أو الفورية فالظاهر أنه لا خلاف في العذر الى ان يعلم ذلك.

الخامس ـ خيار التأخير

اى تأخير إقباض الثمن أو المثمن عن ثلاثة أيام ، فلو باع ولم يقبض الثمن ولا سلم المبيع ولا اشتراط تأخير الثمن ، فالبيع لازم ثلاثة أيام ، فإن جاء المشترى بالثمن فيها ، والا كان البائع أولى بالمبيع ، والأصل فيه بعد الإجماع الأخبار الواردة عن أهل العصمة عليهم‌السلام.

ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح (١) عن على بن يقطين «انه سأل أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يبيع البيع ، ولا يقبضه صاحبه ولا يقبض الثمن قال : الأجل بينهما ثلاثة أيام ، فإن قبض بيعه ، والا فلا بيع بينهما».

وعن إسحاق بن عمار (٢) عن عبد صالح عليه‌السلام قال : «من اشترى بيعا فمضت ثلاثة أيام ، ولم يجي‌ء فلا بيع له». ورواه في الفقيه بطريقه إلى إسحاق ابن عمار مثله.

وما رواه في الكافي والتهذيب (٣) عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «اشتريت محملا ، وأعطيت بعض ثمنه ، وتركته عند صاحبه ثم احتبست أياما ثم جئت الى بائع المحمل لأخذه فقال : قد بعته فضحكت ثم قلت : لا والله لا أدعك أو أقاضيك فقال لي : أترضى بأبي بكر بن عياش؟ قلت : نعم فأتيناه فقصصنا عليه قصتنا ، فقال أبو بكر : بقول من تحب أن أقضي بينكما بقول صاحبك أو غيره؟ قال : قلت : بقول صاحبي قال : سمعته يقول : من اشترى شيئا فجاء بالثمن ما بينه وبين ثلاثة أيام والا فلا بيع له».

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٢ الرقم ٩.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٢ الرقم ٨.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢١ الرقم ٧ الكافي ج ٥ ـ ص ١٧٢.

٤٤

وما رواه ـ في الفقيه (١) في الصحيح عن جميل عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : «قلت له : الرجل يشترى من الرجل المتاع ثم يدعه عنده ، فيقول : حتى آتيك بثمنه؟ قال : ان جاء بثمنه فيما بينه وبين ثلاثة أيام ، والا فلا بيع له». ورواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة مثله :

ورواه في التهذيب بسند فيه على بن حديد عن زرارة عن ابى جعفر (عليه‌السلام) مثله ، وطعن في هذه الرواية المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) في شرح الإرشاد بوجود على بن حديد بناء على نقله لها عن التهذيب ، وغفل عن مراجعة الكتابين الآخرين ثم اعتذر عن ضعفها بما هو أضعف ، من اصطلاحه الذي بنا عليه.

وأما ما رواه الشيخ بسند معتبر عن على بن يقطين (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل اشترى جارية وقال : أجيئك بالثمن ، فقال : ان جاء فيما بينه وبين شهر ، والا فلا بيع له» (٣). فهو غير معمول عليه عند الأصحاب ، ولا قائل به ، وربما حمل على استحباب الصبر له ، وعدم الفسخ الى مضى المدة المذكورة.

وتحقيق البحث في المقام وبيان ما فيه من الأحكام يقع في مواضع :

الأول هذا الخيار مشروط عند الأصحاب بشروط ثلاثة ، أحدها ـ عدم قبض الثمن ، والثاني ـ عدم قبض المبيع ، والثالث عدم اشتراط التأجيل في الثمن والمثمن وبعض كل منهما ولو ساعة ، والثلاثة ظاهرة من الأخبار المذكورة وقبض بعض من كل منهما كلا قبض ، مجتمعا ومنفردا لصدق عدم قبض الثمن واقباض المثمن الذي دلت عليه الروايات.

ولو قبض الجميع أو اقبض فلا خيار لاختلال أحد الشروط المتقدمة ، وهو

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٢٧ الكافي ج ٥ ص ١٧١ التهذيب ج ٧ ص ٢١ الرقم ٥.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٨٠ الرقم ٥٦.

(٣) ظاهر الصدوق في المقنع القول بالخبر المذكور حيث قال : «إذا ـ

٤٥

الأول (١) على الأول ، والثاني على الثاني ، وشرط القبض المانع من الخيار كونه باذن المالك ، فلا أثر لما يقع بدونه ، وكذا لا أثر لما لو ظهر مستحقا لغير المالك أو بعضه.

الثاني ـ قد صرحوا بأنه لا يسقط هذا الخيار بمطالبة البائع بالثمن بعد الثلاثة ، وان كان قرينة الرضا بالعقد ، مستندين في ذلك الى الاستصحاب ، وهو جيد ، بناء على أصولهم من حجية مثل هذا الاستصحاب وقد تقدم الكلام فيه في مقدمات الكتاب.

ومن ظاهر اتفاقهم على توقف بطلان العقد وانفكاكه على الفسخ فيما لم يختر الفسخ بعد الثلاثة ، فإن البيع باق وله المطالبة بالثمن ، وان المطالبة لا يستلزم زوال خياره وان كانت مؤذنة بالرضا بالعقد.

وأنت خبير بان المفهوم من ظواهر الأخبار المذكورة هو انفساخ البيع من نفسه بعد مضي الثلاثة ، من غير توقف على فسخ لقوله (عليه‌السلام) في الاخبار المتقدمة ، والا فلا بيع له ومقتضاه بطلان البيع بعد الثلاثة إذا لم يحصل قبض الثمن أو المثمن في ضمن تلك الثلاثة ، لا أنه يبقى البيع ، وكذا الخيار.

بل ظاهر الاخبار أنه لا خيار هنا بالكلية ، فإن غاية ما تدل عليه الاخبار هو أن البيع مع عدم القبض والإقباض وعدم اشتراط التأجيل صحيح ، ولزومه مراعى بهذه الثلاثة ، فإن حصل القبض والإقباض أو أحدهما فيها لزم البيع ، والا بطل من أصله

__________________

اشترى رجل من رجل جارية وقال : أجيئك بالثمن فان جاء فيما بينه وبين شهر والا فلا بيع له» منه رحمه‌الله.

(١) وهو الأول أي الشرط الأول بناء على الفرض الأول هنا وهو قولنا قبض الجميع ، والثاني أي اختلال الشرط الثاني على الفرض الثاني هنا ، وهو قولنا أو أقبض ـ منه رحمه‌الله.

٤٦

وأما أن البيع بعد الثلاثة باق والبائع مخير في الفسخ أو الصبر الى أن يأتي المشتري بالثمن ، فلا دلالة في الاخبار عليه بوجه كما لا يخفى على المتأمل في سياقها.

وقد نقل القول بالبطلان هنا عن ظاهر ابن الجنيد والشيخ ، وبه اعترف العلامة في المختلف ، وان أجاب بما لا يجدى نفعا قال في الكتاب المذكور : قال ابن الجنيد (رحمة الله عليه) : إذا خرجت الثلاثة ولم يأت بالثمن فلا بيع.

وفي المبسوط روى أصحابنا إذا اشترى شيئا بعينه بثمن معلوم ، وقال للبائع أجيئك بالثمن ومضى فان جاء في مدة الثلاثة كان المبيع له ، وان لم يجي‌ء في هذه المدة بطل البيع.

وظاهر هذه العبارة يوهم بطلان البيع بعد مضى الثلاثة.

والذي نص عليه المفيد والشيخ في النهاية انه يكون للبائع الخيار ان شاء فسخ البيع ، وان شاء طالب بالثمن ، وهو الحق ، لنا الأصل بقاء صحة العقد. والاخبار تعطي الذي قاله الشيخ أولا وابن الجنيد ، ثم نقل صحيحة زرارة المتقدمة وصحيحة على بن يقطين ، ثم قال : والجواب الحمل على انه لا بيع لازم له.

أقول : فيه ان ما ذكره من التأويل مع تعسفه وبعده يتوقف على وجود المعارض ولا معارض هنا الا ما يدعيه من ان الأصل بقاء صحة العقد ، وهو أصل غير متأصل (١)

__________________

(١) أقول : فإن فرض عدم لزومه في الثلاثة باعتبار تطرق البطلان عليه من جهة عدم التقابض ، وانما يلزم وتصير بيعا مانعا من الرجوع بذلك ، وعدم اللزوم بعد الثلاثة باعتبار الخيار الذي للبائع كما يدعونه فإنه مسلط على الفسخ فالحالان مشتركان في عدم لزوم البيع وتمامه وان اختلف الوجه في كل منهما.

وأما قولهم ان البيع لازم ثلاثة أيام فإنما يريدون به من حيث عدم الخيار في ضمن ثلاثة أيام ، فلو لم يحصل بطل على أحد القولين ، وصار غير لازم من جهة الخيار على القول المشهور ، ـ منه رحمه‌الله.

٤٧

وكيف يكون الأصل بقاؤه مع تصريح الأخبار بأنه لا بيع بعد مضي الثلاثة ، وكيف يختص النفي باللزوم كما ادعاه مع انه في ضمن الثلاثة كذلك ، لان لزومه مراعى بحصول التقابض في ضمن الثلاثة منهما أو قبض أحدهما ، وان اختلف وجه عدم اللزوم في الحالين.

وبالجملة فان الحق هو ما ذهب اليه ابن الجنيد والشيخ هنا كما هو ظاهر الاخبار المذكورة والله العالم.

الثالث ـ لو بذل المشترى الثمن بعد الثلاثة ، قيل ، يحتمل سقوط الخيار : وهو الذي قطع به العلامة في كتبه ، محتجا بزوال المقتضى لثبوته ، وهو الضرر بالتأخير.

وقيل : يحتمل بقاؤه ، عملا بالاستصحاب ، وزوال مقتضيه بعد ثبوته لم يؤثر في نظائره.

أقول والأظهر ـ بناء على ما قدمنا تحقيقه من بطلان البيع بعد الثلاثة ـ أن لا ثمرة لهذا الفرع بالكلية ، حتى يترتب عليه هذان الاحتمالان ، ومع الإغماض عما ذكرنا والجري على مقتضى كلامهم في هذا المقام ، فإن الأقوى ما ذهب إليه العلامة ، لأن التمسك بهذا الاستصحاب الذي يكررونه في هذه الأبواب غير مجد نفعا كما حققنا في مقدمات الكتاب (١).

الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو تلف المبيع بعد الثلاثة ، فإنه من مال البائع لما تقرر من القاعدة من أنه متى تلف قبل القبض فهو من مال البائع.

ويعضده ظواهر الأخبار المتقدمة الدالة على أنه بعد الثلاثة لا بيع له ، وسيما على ما اخترناه من بطلان البيع بعد الثلاثة فإنه من مال بائعه ، إنما الخلاف فيما لو هلك في الثلاثة ، فالمشهور أنه كذلك.

__________________

(١) ج ١ ص ٥١.

٤٨

وقال المفيد : يكون التلف من المشترى ، وهو مذهب المرتضى (رضى الله عنه) وسلار وجمع ممن تبعهم ، وعن ابن حمزة أنه ان عرض البائع تسليمه على المشترى ولم يتسلمه فهو من مال المشترى ، والا فمن البائع. وهو ظاهر أبى الصلاح حيث قال : فان كان تأخيره من قبل المبتاع فهلاكه ونقصه من ماله.

وأورد على القول المذكور بان العرض على البائع لا يقوم مقام القبض الا ان يمتنع المشترى من القبض ، ولا يرضى به البائع ببقائه في يده ، وحينئذ فلا فرق بين التلف في الثلاثة أو بعدها في كونه من المشترى ، بل يخرج على هذا الفرض عن محل المسألة ، وهذا المعنى أقرب في عبارة أبي الصلاح.

ويدل على القول المشهور رواية عقبة بن خالد المروية في الكافي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في رجل اشترى متاعا من رجل وأوجبه غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه قال : آتيك غدا ان شاء الله تعالى فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال : من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ، ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد اليه ماله».

ونقل بعض المحققين (٢) انه روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه». ، ولم أقف عليها فيما وصل إلينا من الاخبار.

ويؤيده أيضا دخوله تحت القاعدة المتقدمة ، لأنه يصدق عليه أنه تلف قبل القبض وهذه الرواية من أدلة هذه القاعدة ، وظاهرها أنه مضمون على البائع ما دام لم يقبضه المشترى ، ويخرجه من بيته في الثلاثة وبعد الثلاثة.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٧٢ الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الخيار الرقم ـ ١.

(٢) هو المحقق الأردبيلي قدس‌سره في شرح الإرشاد ونقله في موضع آخر عن العلامة في التذكرة ـ منه رحمه‌الله.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٧٣.

٤٩

وعن المفيد التعليل لما ذهب إليه بأن المبيع انتقل اليه ، فيكون ضمانه عليه ، والتأخير لمصلحته ، وأجاب في المختلف بالمنع من الملازمة ، ونفى البأس عن قول ابن حمزة ، وظاهر أبى الصلاح ، مع اختياره القول المشهور ، وقد عرفت ما فيه.

وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لما عرفت والله العالم.

الخامس ـ قد عرفت سابقا أنه لو قبض البائع الثمن أو المشتري المبيع فإنه لا خيار ، ونقل في الدروس عن الشيخ بأن له قولا بأنه لو قبض المبيع وتعذر الثمن فإن للبائع الفسخ ، ثم قال : وفيه قوة.

قال في المسالك : «وكان مستنده خبر الضرار ، إذ لا نص فيه بخصوصه ، وليس ببعيد ، الا أن التمسك بلزوم العقد ووجوب الوفاء به أقوى ، وأخذه مقاصة لدفع الضرر ان تمكن من أخذ العين ، والا فلا يدفع بالفسخ انتهى وهو جيد.

السادس ـ قال في المختلف : لو قبضه المشترى ثم تلف ، فان كان في مدة الثلاثة كان من مال المشترى دون البائع ، وان هلك بعدها فكلام الشيخ يشعر بأنه من مال البائع.

واحتج بان له الخيار بعد انقضاء الثلاثة ، لأن عبارته هكذا إذا باع الإنسان شيئا ولم يقبض المتاع ولا قبض الثمن ومضى المبتاع ، فان العقد موقوف ثلاثة أيام ، فإن جاء المبتاع في مدة ثلاثة أيام كان المبيع له ، وان مضى ثلاثة أيام كان البائع أولى بالمتاع ، فان هلك المتاع في هذه الثلاثة أيام ولم يكن قبضه إياه كان من مال البائع دون مال المبتاع ، وان كان قبضه إياه ثم هلك في مدة الثلاثة كان من مال المبتاع دون مال البائع ، وان هلك بعد الثلاثة أيام كان من مال البائع على كل حال. وفيه نظر إذ مع القبض يلزم البيع. انتهى.

وهو جيد الا أن من المحتمل ـ وان بعد بالنسبة إلى سياق العبارة المذكورة الا انه غير بعيد بالنسبة الى طريقة الشيخ في التعبير ، وهو الموافق للقواعد ،

٥٠

إذ يبعد من الشيخ كل البعد ارادة ما دلت عليه العبارة بظاهرها ـ أن يكون قوله أخيرا «وان هلك بعد الثلاثة أيام» انما هو بالنسبة إلى صورة عدم القبض ، فيكون قسيما لقوله فان هلك المتاع في هذه الثلاثة ، ولم يكن قبضه إياه كان من مال البائع دون مال المبتاع ، وان هلك بعدها كان من مال البائع على كل حال. يعنى أنه أولى بأن يكون من مال البائع لمضي الثلاثة القاطعة لتعلق المشترى به بخلاف ما إذا كان في ضمن الثلاثة التي هو فيها مال المشترى ، ويكون جملة وان كان قبضه إياه ثم هلك الى آخره متوسطة بين الجملتين المتعاطفتين.

السابع قال في المختلف أيضا لم يفرق الشيخان وأتباعهما بين الحيوان وغيره في التربص ثلاثة أيام ، وقال في المقنع إذا اشترى رجل من رجل جارية فقال أجيئك بالثمن ، فان جاء فيما بينه وبين شهر والا فلا بيع له ، وإذا اشترى ما يفسد من يومه كالبقول فان جاء ما بينه وبين الليل والا فلا بيع له ، وإذا اشترى ما لا يفسد من يومه فان جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيام والا فلا بيع له. انتهى.

ليس في كلام المقنع رحمه‌الله هنا ما يدل على مخالفة الأصحاب في هذه المسألة بالنسبة إلى الحيوان ، لان قوله «وإذا اشترى ما لا يفسد» الى آخره شامل للحيوان وغيره وقوله «إذا اشترى رجل جارية» الى آخره لا يدل على أن هذا خيار الحيوان بجميع أفراده بأن يحمل ذكر الجارية على التمثيل.

وانما هذا فتوى برواية على بن يقطين (١) المتقدمة المشتملة على هذا الحكم المخصوص بالجارية إذ يبعد منه رحمه‌الله اطراح اخبار الثلاثة الواردة في خيار الحيوان (٢) مع تعددها وصحتها ، والاقتصار على هذا الخبر الشاذ النادر مع عدم ظهوره في العموم.

__________________

(١) التهذيب ج ـ ٧ ـ ص ٨٠ الرقم ٥٦.

(٢) التهذيب ج ـ ٧ ص ٢٤.

٥١

فالظاهر ان هذا الحكم الذي ذكره مخصوص بالجارية كما هو مورد الخبر المشار اليه ، وربما كان منشأ التوهم عدم ذكر خيار الحيوان في هذا المقام والكتاب لا يحضرني الآن.

وبالجملة فالأظهر حمل كلامه على ما ذكرنا تحاشيا عن خروجه عن مقتضى الأخبار الواردة في خيار الحيوان ، وانه ثلاثة أيام للمشتري ، أو مع البائع على الخلاف المتقدم.

ويعضد ما قلناه أنه في الفقيه روى موثقة الحسن بن على بن فضال (١) المتقدمة في روايات خيار الحيوان الدالة على أنه ثلاثة أيام ، ومع هذا قال في الكتاب المذكور : ومن اشترى جارية وقال للبائع أجيئك بالثمن فان جاء فيما بينه وبين شهر والا فلا بيع له ، والعهدة فيما يفسد من يومه مثل البقول والبطيخ والفواكه يوم الى الليل. انتهى.

وحينئذ فالظاهر حمل قوله «ما لا يفسد» على ما هو أعم من الحيوان وغيره ، ليوافق فتوى الأصحاب.

نعم ـ يخرج من ذلك حكم الجارية بناء على عمله بخبر على بن يقطين (٢) المشار اليه وقد تقدم.

السادس ـ خيار ما يفسد ليومه

والأصل في هذا النوع من الخيار ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي حمزة (٣) أو غيره عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام وأبى الحسن عليهما‌السلام «في الرجل يشتري الشي‌ء الذي يفسد من يومه ، ويتركه حتى يأتيه بالثمن؟ قال : فان جاء فيما بينه وبين الليل بالثمن والا فلا بيع له».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٢٧ الرقم ٧ الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب الخيار الرقم ـ ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٨٠ الرقم ٥٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٥ الرقم ٢٥ الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الخيار.

٥٢

ونقل في الوسائل عن الصدوق أنه روى بإسناده عن ابن فضال عن ابن رباط (١) عن زرارة عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث «قال العهدة فيما يفسد من يومه مثل البقول والبطيخ والفواكه يوم الى الليل».

أقول : روى في التهذيب عن الحسين بن سعيد عن ابن فضال (٢) وفي الفقيه عن ابن فضال عن ابن رباط عمن رواه عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ان حدث بالحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع».

وزاد في الفقيه «ومن اشترى جارية وقال للبائع أجيئك بالثمن فان جاء فيما بينه وبين شهر والا فلا بيع له ، والعهدة فيما يفسده من يومه». الى آخر ما تقدم.

والظاهر أن هذه الزيادة إنما من كلامه الذي يدخله بين الاخبار ، وهو إشارة الى ما تضمنه مرسلة ابن أبي حمزة (٣) المذكورة ورواية على بن يقطين (٤) المتقدمة كما أشرنا إليه آنفا ، لا أنه من متن الرواية المذكورة.

وكيف كان فإن الرواية المذكورة لا تخلو عن الإشكال بالنسبة الى ما يترتب على هذا الخيار ، وذلك لان الظاهر أن الخيار انما شرع لدفع الضرر ، وإذا توقف ثبوته على دخول الليل مع كون الفساد يحصل في يومه ، ولا يندفع به الضرر وانما يندفع بالفسخ قبل الفساد.

وفي الدروس عنونه بما يفسده المبيت ، وهو جيد ، الا أن فيه خروجا عن النص ولعله لتلافيه بخبر الضرار ، واستقرب تعديته الى كل ما يتسارع اليه الفساد عند خوفه.

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ ـ من أبواب الخيار.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٦٧ الفقيه ج ٣ ص ١٢٧ الرقم ـ ٧.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٥ الرقم ٢٥.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٨٠ الرقم ٥٦.

٥٣

ولا يتقيد بالليل (١) واكتفى في الفساد بنقص الوصف وفوات الرغبة كما في الخضروات. واللحم والعنب وكثير من الفواكه ، واستشكل فيما لو التلزم التأخير فوات السوق فعلى هذا لو كان مما يفسده في يومين تأخر الخيار عن الليل الى حين خوفه.

وهذا كله وان كان متجها في حد ذاته الا انه خارج عن مدلول النص الوارد في هذا الحكم ـ كما عرفت ـ الا ان خبر الضرار (٢) يفيده في الجميع.

تنبيهات

الأول ـ الظاهر ان هذا الخيار فرد من افراد خيار التأخير كما يشير اليه كلام العلامة في التذكرة حيث ذكره في مسألة من مسائل خيار التأخير ، فكأنه قال : خيار التأخير فيما لا يفسد إلى ثلاثة أيام ، وفيما يفسد في يومه الى الليل ، والى ذلك يشير أيضا عبارة المقنع المتقدمة.

__________________

(١) قال المحقق الشيخ على في شرح القواعد والذي ينبغي ان يعرف ـ ان لزوم البيع هيهنا الى حين خوف الفساد بحسب العادة المستمرة وقرائن الأحوال الموجودة بحيث ان يتربص به زيادة فسد ، لأنه ينبغي لزوم البيع ، مدة بقائه ، ثم حين الشروع في الفساد يثبت الخيار كما توهمه كثير من العبارات لان الخيار حينئذ مما لا فائدة فيه لتحقق الضرر ، وليس في النص ما ينافي شيئا من ذلك ـ مردود بأنه كيف لا ينافي ما ذكره ، وهو قد اشتمل على السؤال مما يفسد في يومه ، والخيار بناء على ما يدعونه انما يناط بدخول الليل وهو ظاهر ـ منه قدس‌سره.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار.

٥٤

ويعضده ظاهر كلامهم هنا من حيث عدم القبض والإقباض ، كما في خيار التأخير المتقدم ، وهو ظاهر النص الوارد في المسألة أيضا ، فحينئذ فعده قسما برأسه ليس مما ينبغي.

الثاني ـ ان مقتضى كلامهم أنه بعد مضى اليوم يتخير البائع بين الصبر وان فسد ، فأخذ الثمن من المشترى ، وبين الفسخ وبيعه ، أو يتصرف فيه بأي نحو أراد ، ولا يرجع الى المشترى ، بنحو ما قالوه في الخيار بعد الثلاثة والمفهوم من الرواية المتقدمة ـ هنا إنما هو ما ذكرناه ـ في روايات خيار التأخير ثلاثة أيام ـ من بطلان البيع حيث ان العبارة في الموضعين واحدة ، إذ مؤدى (لا بيع له) هو البطلان ، لا ثبوت الخيار ، وهو يرجع الى ما قدمنا تحقيقه من أنه ليس هنا خيار بالكلية.

وانما غاية ما يدل عليه الخبر المذكور هنا ـ كالاخبار في تلك المسألة ـ أنه يبقى البيع مراعى بمضي المدة المذكورة ، فإن قبضه المشترى فيها أو أقبض الثمن صح البيع والابطل من أصله.

هذا هو ظاهر الاخبار المشار إليها كما عرفت.

وحاصل الخبر هنا أنه يجب على البائع الصبر إلى أول دخول الليل ، فان أتى المشتري بالثمن فهو له ، فسد أو لم يفسد ، والا بطل البيع كذلك.

هذا ظاهر الخبر المذكور ، ووجه الاشكال فيه وجوب الصبر المدة المذكورة وان تضرر بفساد المبيع فيها ، ويمكن التفصي عنه بان رضاه بذلك مع علمه بالحكم الشرعي ، وقدومه على البيع والحال هذه بدفع الاشكال المذكور.

الثالث ـ قد عرفت سابقا ان ظاهر كلام الأصحاب ـ وهو ظاهر الخبر الوارد في هذه المسألة ـ أن الشرط هنا عدم التقابض ، لا من الطرفين ، ولا من أحدهما ، وحينئذ فلو قبض المشتري السلعة ، ولم يقض البائع الثمن ، فان البيع يكون لازما ، ولا يقدر بالمدة المذكورة وكذا بالعكس ، ولو قبض بعض الثمن أو سلم بعض المبيع فكالعدم ، لصدق عدم

٥٥

قبض الثمن ، وعدم قبض المبيع المترتب عليهما الحكم المتقدم في الخبر ، وفي كلام الأصحاب والله العالم.

السابع خيار الرؤية

وهو ثابت لمن لم ير ، إذا باع أو اشترى بالوصف ، ثم ظهر مخالفا ، فان كانت المخالفة بظهور الزيادة على الوصف تخير البائع ، وان كانت بالنقص عنه تخير المشترى ، والأصل فيه ـ أيضا مضافا الى الاتفاق ـ هو اشتراط الرؤية أولا في صحة البيع ولزومه ، كما يدل عليه ما رواه في الكافي (١) عن عبد الأعلى بن أعين قال : «نبئت عن ابى جعفر (عليه‌السلام) انه كره بيعين اطرح وخذ على غير تقليب ، وشراء ما لم ير» (٢).

وروى في التهذيب (٣) قال : نبئت عن ابى جعفر ـ عليه‌السلام ـ انه يكره شراء ما لم ير. والكراهة هنا بمعنى التحريم كما وقع مثله كثيرا في الاخبار ، بل هو الأغلب الأكثر فيها.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٥٤ الوسائل الباب ١٨ من أبواب الخيار الرقم ـ ١.

(٢) قال بعض مشايخنا المحققين من متأخر المتأخرين قوله عليه‌السلام (اطرح وخذ) أى يقول البائع للمشتري اطرح الثمن ، وخذ المتاع من غير أن يكون المشترى قلب المتاع واختبره.

والفرق بينه وبين الثاني أنه في الثاني لم ير أصلا ، وفي الأول رأى من بعيد ولم يختبره ، أو يقول المشترى اطرح المتاع ، وخذ الثمن الذي أعطيك ، فيكون الفساد لجهالة الثمن ، وفي الثاني لجهالة المبيع ، وعلى التقديرين لا بد من تقيده بعدم الوصف الرافع للجهالة. والله العالم. منه قدس‌سره.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٩ الرقم ـ ٣٠.

٥٦

وثانيا ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب (١) في الصحيح عن جميل بن دراج قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل اشترى ضيعة وقد كان يدخلها ويخرج منها فلما ان نقد المال صار الى الضيعة «ففتشها» (٢) ثم رجع فاستقال صاحبه فلم يقله فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : لو قلبها ونظر منها الى تسع وتسعين قطعة ثم بقي منها قطعة لم يرها لكان له في ذلك خيار الرؤية».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زيد الشحام (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى سهام القصابين من قبل أن يخرج السهم فقال : لا يشترى شيئا حتى يعلم أين يخرج السهم ، فان اشترى شيئا فهو بالخيار إذا خرج».

وتوضيح معنى هذا الخبر ما رواه الشيخان المذكوران في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن منهال القصاب (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام): اشترى الغنم ، أو يشترى الغنم جماعة ثم ندخل دارا ثم يقوم رجل على الباب فيعد واحدا واثنين وثلاثة وأربعة وخمسا ثم يخرج السهم قال : لا يصلح هذا ، انما يصلح السهام إذا عدلت القسمة.

والمراد منه أنه إذا اشترى عشرة مثلا ، مائة من الغنم ، فيدخل بيتا فيخرج من الغنم كيف ما اتفق ، فإذا بلغ المخرج خمسة مثلا اخرج اسم رجل ، فمن خرج اسمه يعطيه هذه الخمسة ، فلم يجوزه ـ (عليه‌السلام) ـ للغرر وعدم تحقق شرائط القسمة ، إذ من شروطها تعديل السهام أولا ، فربما وقع في سهم بعضهم كلها سمانا وفي سهم الأخر هزالا.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٧١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٠ الرقم ٢٩ وفيها (فقلبها) بدل (ففتشها).

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٢٣ الرقم ـ ٣ التهذيب ج ٧ ص ٧٩ الرقم ٥٤.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٧٩ الرقم ٥٣ الكافي ج ٥ ص ٢٢٣.

٥٧

ومن أجل هذا انه لو اشترى والحال هذه فان له الخيار كما صرح به في صحيح الشحام (١) «إذا خرج الردى في ذلك السهم».

وأما إذا أمكن القسمة بعد تعديل السهام ، فإنه لا مانع لأنه يشتري متاعا فان اقتسموا بالتعديل فلا خيار ، والا فإن خرج في سهمه الردى كان له الخيار في القسمة ، فالمتاع في صحيح الشحام مبنى على ما هو دأبهم من شرائهم مجهولا غير معدل ، كما يشير اليه قوله في رواية منهال انما يصلح السهام إذا عدلت القسمة.

وكيف كان فمورد الخبرين المذكورين انما هو المشترى ، والمدعى ـ كما هو المتفق عليه بينهم ـ ثبوت ذلك ـ أيضا ـ للبائع الا ان يجبر ذلك بخبر الضرار (٢)

وربما احتمل بعض الأصحاب في صحيحة جميل أن يكون التفتيض من البائع بأن يكون البائع باعه بوصف المشترى ، وحينئذ فيكون الجواب عاما بالنسبة إليهما على تقدير هذا الاحتمال ، الا أن الظاهر بعده غاية البعد عن سياق الخبر المذكور ، ومع تسليمه فثبوت كون الجواب عاما ـ أيضا ـ محل خفاء واشكال.

وبالجملة فالظاهر ان مستند العموم انما هو خبر الضرار المجبور باتفاق الأصحاب على الحكم المذكور ، قالوا : ولا بد في هذا النوع من الخيار من ذكر الجنس والوصف الرافعين للجهالة ، وضابط ذلك أن كل وصف يتفاوت الرغبات بثبوته والتفائه ، ويتفاوت به القيمة تفاوتا ظاهرا لا يتسامح بمثاله ، فإنه يجب ذكره ، فلا بد من استقصاء صفات السلم كلها كما صرح به العلامة في التذكرة.

فروع

الأول : لو وصف بها فوقع البيع والشراء بوصف الغير ثم ظهر الزيادة والنقصان من جهتين تخيرا معا ، ويقدم قول الفاسخ كما تقدم بيانه.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٧٩ الرقم ـ ٥٤.

(٢) الوسائل الباب ١٧ ـ من أبواب الخيار الرقم ٣ ـ ٤.

٥٨

الثاني : قال في الدروس : ولو شرطا دفعة فالظاهر بطلان العقد ، للغرر ، أقول : والوجه فيه ان الوصف قائم مقام الرؤية ، فإذا شرط عدم الاعتداد به كان المبيع غير مرئي ولا موصوف ، ويلزم من ذلك الغرر المنهي عنه المبطل للبيع ، والظاهر انه لا خلاف بينهم في صحة إسقاط خيار المجلس والحيوان والعيب ، وأما خيار الغبن والتأخير ففيهما احتمال والصحة أظهر ، وأما خيار الرؤية فالحكم فيه ما عرفت.

الثالث : ظاهر كلام أكثر الأصحاب اشتراط الفورية في هذا الخيار.

الرابع : قال في الدروس : لو شرط البائع إبداله ان لم يظهر على الوصف فالأقرب الفساد ، أقول : ظاهر كلامه أن الحكم بالفساد أعم من ان يظهر على الوصف أم لا ، وفيه انه لا موجب للفساد (١) مع ظهوره على الوصف المشروط ، ومجرد شرط البائع الإبدال مع عدم الظهور على الوصف لا يصلح سببا في الفساد لعموم الأخبار المتقدمة.

نعم لو ظهر مخالفا فإنه يكون فاسدا من حيث المخالفة ، ولا يجبره هذا الشرط لإطلاق الاخبار في الخيار ، والأظهر رجوع الحكم بالفساد في العبارة إلى الشرط المذكور ، حيث لا تأثير له مع الظهور وعدمه.

وبالجملة فإني لا اعرف للحكم بفساد العقد في الصورة المذكورة على الإطلاق وجها يحمل عليه ، والله العالم.

الخامس : لو اشترى برؤية قديمة تخير أيضا لو ظهر بخلاف ما رآه ، وكذا من طرف البائع ، الا ان هذا ليس من افراد هذا الخيار الذي هو محل البحث ، لانه مقصور على ما لم ير ، حيث اشترط فيه الوصف عوضا عن الرؤية ، ولا يشترط وصف ما سبقت رؤيته ، وانما يباع ويشترى بالرؤية السابقة ، غاية الأمر انه إذا ظهر بخلاف ذلك ، لطول المدة أو عروض عارض أو نحو ذلك تخير ، بايعا كان أو مشتريا.

__________________

(١) أقول موجب الفساد على ما هو الظاهر ان الشرط المذكور لما كان مخالفا للسنة ـ فاسدة ـ واقتضى فساد العقد قضاء للشرطية ـ منه رحمه‌الله.

٥٩

«الثامن خيار العيب»

وضابطه في الحيوان كلما زاد عن أصل الخلقة أو نقص وزاد بعضهم عينا كان كالإصبع الزائدة أو الناقصة ، أو صفة كالحمي ولو يوما بأن يشتريه فيجده محموما أو يحم قبل القبض.

أقول : ويدل على الأول ما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد السياري (١) قال : «روى عن ابن أبى ليلى أنه قدم اليه رجل خصما له فقال : ان هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعرا وزعمت أنه لم يكن لها قط قال : فقال له ابن أبى ليلى : ان الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به فما الذي كرهت؟ فقال : أيها القاضي ان كان عيبا فاقض لي به. فقال : اصبر حتى أخرج إليك فإني أجد أذى في بطني ثم دخل وخرج من باب آخر حتى أتى محمد بن مسلم الثقفي فقال له أي شي‌ء تروون عن أبى جعفر (عليه‌السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعرا يكون ذلك عيبا».

فقال له محمد بن مسلم : أما هذا نصا فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «أنه قال : كلما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب ، فقال له ابن أبى ليلى : حسبك ثم رجع الى القوم فقضى لهم بالعيب».

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٦٥ الرقم ـ ٢٦ الكافي ج ٥ ص ٢١٥ الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب العيوب الرقم ـ ١.

٦٠