الحدائق الناضرة - ج ١٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

المفهوم من التذكرة لأمكن القول بالاختلاف ، الى ان قال : إذ الدليل على الكلية غير واضح ، لانه ما وجد شي‌ء صحيح صريح في الكلية ، والاسم غير صادق ، والاختلاف ممكن حقيقة ، بل هو الظاهر لاختلاف الخواص ، مثل الخل والتمر ، والجبن والحليب ، ويؤيده ما في صحيحة عبد الرحمن (١) بن ابى عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن بيع الغزل بالثياب (المنسوجة) والغزل أكثر وزنا من الثياب ، قال : لا بأس». ، الى ان قال : وبالجملة الدليل غير قائم على الاتحاد بين الشي‌ء الربوي وأصله كلية ، بل قائم على عدمه ، والأصل وأدلة إباحة البيع دليل الجواز ، الا ان كلام الأصحاب ذلك ، فالخروج عنه مشكل ، والاحتياط يقتضيه ، والمسألة من المشكلات كلها محلها ، وقد ادعى الإجماع في أكثرها ، حتى بين الحليب واللبن والكشك والكامخ ، والحنطة والخبز ، بجميع أنواعه والهريسة فما ثبت الإجماع فيه لا يمكن الخروج عنه ، وظاهر التذكرة الإجماع في كل أصل مع فرعه ، وفرع كل أصل مع آخر فتأمل انتهى.

أقول : انه وان لم يوجد هنا نص على الكلية المذكورة كما ذكره ولكن لا يخفى ان ما أشرنا إليه من النصوص الواردة هنا وان كان موردها جزئيات مخصوصة ، الا ان الحكم فيها ليس مقصورا على تلك الجزئيات ، لعدم الخصوصية ، بل يتعدى الى ما ضاهاها ، وإذا ضم إليها ما نقلناه عن الثقة الجليل على بن إبراهيم من الكلام الذي نقله عن مشايخه ، وعليه اعتمد أيضا ثقة الإسلام ، إذ من المعلوم ان نقله له في كتابه ليس الا بقصد الإفتاء والعمل عليه ، كالاخبار التي نقلها في ذلك الكتاب ،

ومن الظاهر الواضح الظهور ان هؤلاء الأجلاء الذين هم من أرباب النصوص لا يذكرون هذا الكلام ويفتون به الا مع ظهوره لهم عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٩٠ التهذيب ج ٧ ص ١٢٠ وفي الكافي (المبسوطة) بدل المنسوجة.

٢٤١

وهذا مما لا يختلجه الشك والريب ، والكلام المذكور صريح في الكلية المذكورة ، فلا مجال للتوقف فيه ، واما إيراده صحيحة عبد الرحمن في بطلان الكلية المذكورة ، فقد ظهر جوابه من كلام على بن إبراهيم المتقدم الدال على ان الفرع الملحق بأصله في هذا الباب انما هو إذا كان مثله في كونه مكيلا أو موزونا مثل أصله والثياب ليست كذلك ، كما صرح به ، فلا ورود لما أورده (قدس‌سره) هذا كله فيما : يعمل من جنس واحد ، كما تقدم في صدر المسألة ، فلو كان من جنسين فإنه لا اشكال ولا خلاف فيما أعلم في جواز بيعه بهما ، وينصرف كل جنس من الثمن الى ما يخالفه من المبيع ، ومن أجل ذلك لا يشترط مساواة جملة الثمن للمبيع قدرا ، ولا يعتبر معرفة كل واحد من الجنسين ، بل يكفي معرفة المجموع ، ويجوز أيضا بيعه بأحدهما ، ويشترط هنا زيادته على مجانسة زيادة تموله ، بحيث يمكن فرض كونهما ثمنا في بيع ذلك الجنس الأخر لو بيع منفردا وان قلت وفي حكم المعمول من جنسين ما لو ضم أحدهما إلى الأخر ، وباعهما في عقد واحد وان تميزا لتساوى الفرضين في العلة المسوغة للبيع والله العالم.

المسألة الرابعة ـ اختلف الأصحاب في بيع الرطب بالتمر ، بل كل رطب بيابسه ، فقال الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع الرطب بالتمر ، مثلا بمثل ، لأنه إذا جف نقص ، ولا يجوز بيع العنب بالزبيب الا مثلا بمثل ، وتجنبه أفضل ، وقال في الخلاف : لا يجوز بيع الرطب بالتمر ، فأما بيع العنب بالزبيب أو ثمرة رطبة بيابسها مثل التين الرطب بالجاف ، والخوخ الرطب بالقديد ، وما أشبه ذلك فلا نص لأصحابنا فيه ، والأصل جوازه لان حملها على الرطب قياس ، ونحن لا نقول به.

وقال في المبسوط : لا يجوز بيع الرطب بالتمر ، لا متفاضلا ولا متماثلا على حال ، وكذا الخبز لا يجوز بيع لينه بيابسه ، لا متماثلا ولا متفاضلا ، ثم قال في موضع آخر منه : بيع الرطب بالتمر لا يجوز إذا كان حرضا مما يؤخذ منه ، فأما إذا كان تمرا موضوعا على الأرض فإنه يجوز ، وأما بيع العنب بالزبيب ، والكمثرى الرطب

٢٤٢

والتين الرطب بالمقدد منه وما أشبه ذلك ، فلا نص لأصحابنا فيه ، والأصل جوازه لقوله تعالى (١) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ثم قال : ولا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالجافة وزنا مثلا بمثل ، لانه يؤدى الى الربا لان مع أحدهما ماء فينقص إذا جف ، والتفاضل لا يجوز لفقد الطريق الى العلم بمقدار الماء ، وقال في الاستبصار : ان بيع الرطب بالتمر ، مكروه لا محرم.

وقال ابن ابى عقيل : لا يجوز بيع التمر اليابس بالرطب ، ولا الزبيب بالعنب ، لان الزبيب والتمر يابسان ، والرطب والعنب رطبان ، وإذا يبسا نقصا ، وكذا الفاكهة اليابسة بالفاكهة الرطبة ، مثل التمر بالرطب.

وقال ابن الجنيد : لا يشترى التمر اليابس بالرطب ، لنهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن ذلك ، وهذا في الفاكهة وغيرها من اللحم إذا كان من جنس واحد ، وسواء كان جفافه بالنار أو الهواء.

وقال ابن البراج : لا يجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل ، ولا غير ذلك ،

وقال ابن حمزة : لا يجوز بيع الرطب بالتمر ولا العنب بالزبيب ، لا متماثلا ولا متفاضلا.

وقال ابن إدريس : قول الشيخ : لا يجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل ، ـ لأنه إذا جف نقص ـ غير واضح ، بل يجوز ذلك ، ومذهبنا ترك التعليل والقياس ، لانه كان يلزم عليه أنه لا يجوز بيع رطل من العنب برطل من الزبيب ، وهذا لا يقول به أحد من أصحابنا بغير خلاف ، وأيضا لا خلاف أن بيع الجنس بالجنس مثلا بمثل جائز سائغ ، والمنع منه يحتاج الى دليل ، وقوله تعالى (٢) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» قال : وقد رجع شيخنا عما ذكره في نهايته في الثالث من استبصاره فقال :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٧٥.

٢٤٣

الوجه في هذه الاخبار ضرب من الكراهة دون الحظر.

وقال العلامة في المختلف : المعتمد تحريم كل رطب مع يابسه الا العرية.

وقال في الدروس : وماله حالتا جفاف ورطوبة يباع مع اتفاق الحال ، ولو اختلف الحال فالمشهور منع بيع الرطب بالتمر متساويا ومتفاضلا للرواية.

وقال في الاستبصار : ـ وتبعه ابن إدريس ـ بالجواز متساويا على الكراهة ، لعدم التصريح في الرواية ، وأما العنب بالزبيب ونحوه مما ينقص عند الجفاف فبعض من منع هناك فيه جوز هنا متماثلا في القدر ، ومنع منهما ابن الجنيد والحسن وابن حمزة والفاضل ، وهو أولى ، وظاهره التوقف في مسألة بيع الرطب بالتمر ، حيث اقتصر على نقل الخلاف خاصة ، وحكمه بالأولوية فيما عدا ذلك.

وقال المحقق في الشرائع : وفي بيع الرطب بالتمر تردد ، والأظهر اختصاصه بالمنع ، اعتمادا على أشهر الروايتين.

وقال في المسالك ـ بعد نقل بعض أخبار المسألة المشتملة على علة التحريم :

والأقوى التحريم والتعدية الى كل ما فيه العلة المذكورة ، هذا ما حضرني من أقوالهم.

وأما الاخبار الواردة في المقام فمورد أكثرها الرطب بالتمر ، ومنها ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا يصلح التمر اليابس بالرطب ، من أجل أن التمر يابس والرطب رطب ، فإذا يبس نقص» الحديث.

وصحيحة محمد بن قيس (٢) عن ابى جعفر (عليه‌السلام) في حديث «أن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كره أن يباع التمر بالرطب عاجلا ، بمثل كيله إلى أجل من أجل أن التمر ييبس فينقص من كيله».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٨٩ التهذيب ج ٧ ص ٩٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٩٦.

٢٤٤

ورواية داود بن سرحان (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا يصلح التمر بالرطب ، ان الرطب رطب والتمر يابس ، فإذا يبس الرطب ينقض». ورواية داود الأبزاري (٢) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سمعته يقول : لا يصلح التمر بالرطب التمر يابس والرطب رطب».

وموثقة سماعة (٣) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن العنب بالزبيب؟ قال : لا يصلح الا مثلا بمثل ، قلت : والرطب والتمر قال : مثلا بمثل». هكذا في رواية الشيخ الخبر المذكور في التهذيبين. وفي رواية الكليني له ، جعل عوض «والرطب والتمر» «والتمر والزبيب» ورواية الشيخ أصح ، لأنه مع اختلاف الجنسين لا بأس باختلاف الوزن ، ورواية أبي الربيع (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما ترى في التمر والبسر الأحمر مثلا بمثل؟ قال : لا بأس به ، قلت : فالبختج والعصير مثلا بمثل؟ قال : لا بأس به».

أقول لا يخفى أنهم في غير موضع من الأحكام متى ورد بلفظ «لا يصلح أو يكره» فإنما يحملونه على الكراهة بالمعنى الأصولي دون التحريم ، كما تقدم ذكره في غير موضع ، وقد تقدم التحقيق منا في غير موضع (٥) أن الحق أن هذه الألفاظ ونحوها

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٩٠ الاستبصار ج ٣ ص ٩٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٩٠ التهذيب ج ٧.

(٤) الكافي ج ٥ ص ١٩٠ التهذيب ج ٧ ص ٩٧.

(٥) أقول : وأما ما ذكره المحقق الأردبيلي ـ حيث أنه اختار التحريم في الجميع ، من أن الظاهر أن «الكراهة» بمعنى التحريم ، لما مر أن عليا (عليه‌السلام) لا يكره الحلال حقيقة ـ أنه من الظاهر الذي لا يمكن إنكاره ـ كما لا يخفى على المتتبع بالاخبار ، ورود الكراهة في الاخبار بالمعنيين المذكورين ، ومجرد ورود الكراهة بمعنى التحريم في بعض الاخبار لا يقتضي حملها هنا على التحريم ، بل غاية الأمر أن يكون محتملة للأمرين ، وهو قد صرح أيضا بأن «الكراهة ولا يصلح» انما يستعمل غالبا في المباح ، فكيف يكون الظاهر هنا هو التحريم ، ما هذه إلا مجازفة ظاهرة ، كما لا يخفى على المتأمل المنصف.

(منه رحمه‌الله).

٢٤٥

من الألفاظ المتشابهة ، لوقوعها في الاخبار بمعنى التحريم تارة ، وبمعنى الكراهة بالمعنى الأصولي أخرى ، فالأخبار المذكورة غير صريحة في التحريم ، فلا يمكن الخروج بها عن أدلة الجواز من الأصل ، وعموم ما دل على جواز البيع كتابا وسنة ، وخصوص موثقة سماعة ورواية أبي الربيع المذكورتين وكذا ما دل على صحة البيع مع تماثل الجنسين الربويين في الوزن مطلقا ، وبذلك يظهر أن ما ذكر ـ من أن هذه الروايات صحيحة لا تعارضها رواية سماعة ولا رواية أبي الربيع ـ ليس في محله ، لأنها وان كانت صحيحة ، الا أنها غير صريحة في المطلوب لما عرفت ، سيما مع اعترافهم في غير موضع بذلك ، كما ذكرناه ، فكيف يستندون الى هذه الألفاظ في التحريم هنا ، ومجرد كثرتها وتعددها وصحة أسانيدها لا تكون قرينة على التحريم.

والظاهر أنه لأجل ما ذكرنا اختار في الكفاية الكراهة ، وفاقا للشيخ في كتابي الاخبار ، وابن إدريس ، وهو ظاهر الشهيد في الدروس ، وأما تعدية الحكم الى غير الرطب والتمر بناء على ثبوت التحريم فيهما ، فهو مبنى على حجية العلة المنصوصة ، وفي ذلك كلام تقدم في مقدمات الكتاب في صدر مجلد كتاب الطهارة (١).

وكيف كان فالمسألة هنا لا تخلو من شوب الاشكال ، والاحتياط مطلوب فيها على كل حال والله العالم.

المسألة الخامسة ـ قد عرفت مما تقدم أنه من المقرر في كلامهم أن كل شي‌ء وما تفرع منه جنس واحد ، وكلما اشترك في الدخول تحت حقيقة من الحقائق فهو جنس واحد ، فالعنب والتمر وما يخرج منهما ويتفرع عليهما جنس واحد ، وهكذا الحنطة وما يتفرع عليها جنس واحد ، ومنه الشعير كما تقدم ولحم المعز والضأن جنس واحد ، لدخولهما تحت لفظ الغنم ، والبقر والجاموس عندهم جنس واحد ، لدخولهما تحت جنس البقر ، والعراب وهي الإبل العربية ، والبخاتي وهي الإبل الخراسانية جنس واحد والطيور عندهم أجناس فالحمام كله (٢) جنس على قول.

__________________

(١) ج ١ ص ٦٣.

(٢) قيل : وجه الخلاف هنا هو الشك في أن مقولية الحمام على ما تحته

٢٤٦

وقيل : ما يختص من أنواعه باسم فهو جنس مغاير ، واللحوم مختلفة باختلاف أسماء حيواناتها ، والألبان تتبع الحيوان في التجانس والاختلاف ، والادهان تتبع ما يستخرج منه ، والزبد والسمن والحليب والمخيض والأقط واحد ، تابع لما يستخرج منه ، والخلول تابعة لأصولها ، فخل التمر مخالف لخل العنب ، قالوا والوحشي من الحيوانات مخالف لانسيه ، وقد ادعى في التذكرة الإجماع على أكثر هذه الأحكام ، فان ثبت ، والا فللنظر في بعضها مجال.

ومن ذلك لحوم البقر والجاموس ، ودعوى أنهما جنس واحد ، لدخولهما تحت لفظ البقر ، كما يدل عليه كلام أهل اللغة ، فلو لا الاتفاق على ذلك لأمكن المناقشة بالنظر الى العرف ، فإنه يأبى ذلك ، مع أنه مقدم على اللغة عندهم ، ومما يؤيد كونهما نوعا واحدا ضم أحدهما إلى الأخر في الزكاة ، وجعلهما جنسا واحدا ، ومن ذلك الحكم بأن الوحشي من الحيوانات مخالف لانسيه ، مع اندراجهما تحت لفظ واحد وحقيقة واحدة ، وهي المدار في الاتحاد ، واختلاف الصور والخواص ونحو ذلك قد تقدم أنه غير منظور ولا معتبر ، كما في الشعير والحنطة وغيرهما.

__________________

مقولية النوع على أصنافه أو مقولية الجنس على أنواعه ، فعلى الأول يحرم بيع بعضها ببعض مطلقا ، وعلى الثاني يختص كل نوع بحكمه ، ولما كان الوقوف على ذاتيات الحقائق عسيرا جدا ولم يمكن من جهة الشرع قاطع لشي‌ء ، حصل الخلاف ، وبهذا يحصل الفرق بين أفراد الحمام ، وأفراد البقر بالنسبة إلى الجاموس ، فإنه قد ثبت شرعا أنهما نوع واحد ، تعدهما في باب الزكاة كذلك ، وكيف كان فينبغي أن يعلم أن الربا في الحمام ونحوه من الطير انما هو في لحمه إذا بيع وزنا ، والا فلو بيع عددا أو جزافا فلا ، الا على القول بحصول الربا في المعدودات أيضا.

(منه رحمه‌الله).

٢٤٧

المسألة السادسة ـ قال الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع الغنم باللحم لا وزنا ولا جزافا ، وكذا قال المفيد وسلار وابن البراج ، وفي الخلاف والمبسوط : لا يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا كان من جنسه ، كلحم الشاة بالشاة ، ولحم البقر بالبقر ، وان اختلف لم يكن به بأس ، وكذا قال ابن حمزة ، وهو مذهب ابن الجنيد أيضا ، وقال ابن إدريس : يجوز ذلك إذا كان اللحم موزونا ، سواء اتفق الجنس أولا يدا بيد ، وسلفا أيضا ان كان اللحم معجلا ، دون العكس ، إذ لا يجوز السلف في اللحم ، ويجوز في الحيوان.

قال في المختلف بعد نقل ما ذكرناه ، والأقرب الأول ، لنا أنه أحوط وأسلم من الربا ، ولانه قول من ذكرنا من علمائنا ، ولم نقف لغيرهم منا على مخالف ، وابن إدريس قوله محدث لا يعول عليه ، ولا يثلم في الإجماع ، ولان الشيخ احتج عليه في الخلاف بإجماع الفرقة ـ ونقله حجة لثقته وعدالته ومعرفته ، ـ وبما رواه غياث ابن إبراهيم (١) في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) «أن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كره اللحم بالحيوان». لا يقال : ان غياث ابن إبراهيم بتري والمتن غير دال على المطلوب ، إذ الكراهة لا تدل على التحريم ، لأنا نقول : ان غياثا وان كان بتريا (٢) الا أن أصحابنا وثقوه ، فيغلب على الظن ما نقله ، والظن يجب العمل به ، والكراهة تستعمل كثيرا في التحريم.

احتج ابن إدريس بأن المقتضى ـ وهو قول الله تعالى (٣) «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ـ موجود ، والمانع ـ وهو الربا ـ منفي ، لأن الربا انما ثبت في الموزون ، والحيوان الحي ليس بموزون ، والجواب المنع من نفى المانع ، ومن كون المانع هو الربا خاصة ، ولو قيل : بالجواز في الحيوان الحي دون المذبوح جمعا بين الأدلة كان

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٩١.

(٢) وفي الجمع : البترية بضم الموحدة فالسكون فرق من الزيدية.

(٣) سورة البقرة الآية ـ ٢٧٥.

٢٤٨

قويا. انتهى كلامه زيد إكرامه.

أقول : هذا كلامه هنا ، وفي التحرير اختار الجواز ، استضعافا للرواية المذكورة ، وفي الإرشاد قال : ويجوز بيع لحم الغنم بالشاة على رأى ، ثم انه لا يخفى ما في كلامه هنا من المجازفة والضعف الظاهر لكل ناظر ، وما ذكره ابن إدريس هو الموافق للقواعد الشرعية ، والرواية ينبغي حملها على الكراهة بالمعنى المصطلح ، كما هو أحد معنييها في الاخبار ، لعدم ظهور الموجب للتحريم ، وأصالة الصحة أقوى مستمسك في المقام.

ومن ثم ان العلامة في آخر كلامه قد عدل عما ذكره أولا وسجل به ، وقوله : ولو قيل : ـ مع أن هذا قول ابن إدريس ـ لا معنى له ، الا أن يريد من المتقدمين ، والظاهر أن مراده ذلك ، حيث انهم لا يعتبرون بأقوال المعاصرين ، وانما يعولون على أقوال المتقدمين ، كما يشعر به كلامه ، وظاهر كلامه ـ قدس‌سره ـ في هذا المقام أن محل الخلاف هنا هو الحيوان الحي مع اللحم ، كما هو صريح كلام ابن إدريس ، ويشير اليه قوله ـ هنا ـ (ولو قيل) ، الى آخره.

وظاهر المحقق الأردبيلي في شرحه على الإرشاد أن محل الخلاف انما هو الشاة المذبوحة ، قال : ينبغي عدم الخلاف بالجواز بالشاة حال حياتها متفاضلا ، ونسيئة ، والخلاف بعد الذبح مع أحد الأمرين ، فمن حيث أن العادة بيعها بالوزن بعده فيتحقق شرط الربا وهو الجنسية والوزن هنا ، ومن حيث أن المذبوح ليس يتعين بيعه بالوزن ، لعدم تحقق ذلك عادة ، بل الظاهر جواز بيعه حينئذ جزافا ، فليس بموزون ، ـ الى أن قال ـ : وبالجملة لو ثبت أن بيع الحيوان المأكول بعد الذبح لا يجوز الا وزنا لا يجوز باللحم من جنسه متفاضلا ونسيئة ، والا فلا.

أقول : فيه زيادة على ما تقدم أن ظاهر كلام الأصحاب أن الحيوان بعد الذبح لا يباع الا بالوزن ، وأنه ليس محل خلاف كما ادعاه ، مع أن كلامه في المقام لا تخلو

٢٤٩

من تدافع ، لأنه في الحيثية الأولى ذكر أن العادة بيعه بالوزن بعد الذبح ، وبنى التحريم على ذلك ، وفي الحيثية الثانية نفى عدم تحقق ذلك عادة ، وبنى عليه الجواز ، وهل هو الا تناقض ظاهر كما لا يخفى على كل ناظر ، فضلا عن الخبير الماهر.

ثم ان ممن اختلف كلامه في هذه المسألة أيضا المحقق ، فقال : في الشرائع ، بالتحريم ، وفي النافع. بالكراهة كما ذهب اليه ابن إدريس ، وهذا القول الأخير هو الذي نقله عنه في نكت الإرشاد ، وقال في المسالك ـ بعد قول المصنف «ولا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه» الى آخره : ـ هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وخالف فيه ابن إدريس فحكم بالجواز ، لان الحيوان غير مقدر بأحد الأمرين وهو قوى مع كونه حيا ، والا فالمنع أقوى ، والظاهر أنه موضع النزاع انتهى.

وهو مؤيد لما قدمنا ذكره ، وتنظر صاحب الكفاية فيه لعله مبنى على ما ذكره الأردبيلي مما قدمنا نقله عنه ، وقد عرفت ما فيه.

وبالجملة فالتحقيق أن كلام المتقدمين ومن تبعهم من المتأخرين شامل للحيوان الحي والمذبوح ، كما هو ظاهر كلام العلامة في المختلف ، في رده على ابن إدريس ، حيث التجأ إلى جواز أن يكون المانع أمر آخر غير الربا ، ومثله الشهيد في نكت الإرشاد ، (١).

__________________

(١) أقول : قال الشهيد في نكت الإرشاد ـ بعد قول المصنف ويجوز بيع اللحم بالشاة على رأى ـ ما لفظه : هذا مذهب ابن إدريس ونجم الدين ، وزاد ابن إدريس جواز إسلاف اللحم في الحيوان لا العكس ، لعموم «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ولان الربا انما هو في الموزون والمكيل ، وظاهر أن الشاة ليست أحدهما ، وأجيب بأن العام يخصص بدليل ، وبمنع اختصاص الربا بما ذكره ، ونمنع أنه من باب الربا ، بل هو محرم لعلة ، لا من جهة الربا ، ثم نقل مذهب الشيخين ومن تبعهما ، وذكر احتجاج العلامة ، وظاهره التوقف ، حيث اقتصر على نقل الأقوال ، ولم يوضح شيئا

٢٥٠

وابن إدريس ومن تبعه ـ كالشهيد الثاني والمحقق الشيخ على ، واليه أشار العلامة في آخر كلامه في المختلف ، وهو مذهبه في التحرير والإرشاد ، والمحقق في النافع ـ فصلوا بين الحي والمذبوح ، فوافقوهم في المذبوح ، لكونه بعد الذبح لحما لا يباع الا بالوزن ، وخالفوهم في الحي ، لعدم بيعه وزنا ، وهو الحق في المقام ، وبه يظهر أن محل الخلاف انما هو في الحي خاصة ، ويزيدك بيانا ما ذكره في شرح اللمعة ، حيث قال المصنف : «ولا يباع اللحم بالحيوان مع التماثل» فقال الشارح : كلحم الغنم بالشاة ان كان مذبوحا لأنه في قوة اللحم ، فلا بد من تحقق المساواة ، فلو كان حيا فالجواز قوي لأنه حينئذ غير مقدر بالوزن. انتهى.

المسألة السابعة ـ الأشهر الأظهر أنه لا ربا إلا في المكيل والموزون ، فما ليس كذلك يجوز بيعه متساويا ومتفاضلا ، وقيل : بثبوته في المعدود أيضا ، ونقل عن الشيخ المفيد وابن الجنيد وسلار.

والذي يدل على الأول جملة من الاخبار ـ منها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) بأسانيد عديدة في الموثق عن عبيد بن زرارة (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : لا يكون الربا الا فيما يكال أو يوزن».

وما رواه في الكافي عن منصور بن حازم (٢) في الموثق قال : «سألته عن الشاة بالشاتين ، والبيضة بالبيضتين ، قال : لا بأس ما لم يكن كيلا ولا وزنا».

وما رواه في الفقيه عن داود بن الحصين (٣) «أنه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

وقال في الدروس : ولا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه على الأصح ، وتجويز ابن إدريس شاذ انتهى. منه رحمه‌الله.

(١) الكافي ج ٥ ص ١٤٦ التهذيب ج ٧ ص ٩٤ الفقيه ج ٣ ص ١٧٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٩١ التهذيب ج ٧ ص ١١٨.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٧٨.

٢٥١

عن الشاة بالشاتين والبيضة بالبيضتين قال. لا بأس ما لم يكن مكيلا ولا موزونا».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم يكن كيلا أو وزنا». ونحوها موثقة أخرى لمنصور بن حازم ، وقد تقدمت في المسألة الاولى.

وما رواه في الكافي (٢) عن على بن إبراهيم عن رجاله عمن ذكره في فصل طويل في المعاوضات قال : «وما عد عددا ولم يكل ولم يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد ، ويكره النسيئة».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٣) «واعلم أن الربا ربا آن ربا يؤكل وربا لا يؤكل ، فاما الربا الذي يؤكل فهو هديتك الى رجل تطلب الثواب أفضل منه ، فأما الربا الذي لا يؤكل ، فهو ما يكال أو يوزن».

واحتج الأصحاب على ذلك ـ زيادة على الاخبار ـ بان الأصل الجواز ، ولأن الإنسان مسلط على ماله ، وحاكم فيه ، فلا يمنع فيه الا بدليل ، ونقل عن الشيخ المفيد أنه احتج بعموم النهى عن الربا ، وهو في اللغة الزيادة ، وهي متحققة في المعدود.

وبما رواه محمد بن مسلم (٤) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوبين الرديين». الخبر وقد تقدم في المسألة الاولى.

وموثقة سماعة (٥) قال : «سألته عن بيع الحيوان اثنين بواحد ، فقال : إذا سميت الثمن فلا بأس».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٨٩ التهذيب ج ٧ ص ٩٤ الفقيه ج ٣ ص ١٧٨.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٩٢.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٧٩.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ١٢٠.

٢٥٢

وأجاب في المختلف عن الدليل الأول بأن الزيادة المطلقة غير معتبرة ، بل لا بد من شرائط معها ، فخرجت الحقيقة اللغوية عن الإرادة ، وعن الأحاديث بأن الكراهة قد تكون للتنزيه بل هو المعنى المتعارف منها.

أقول : أما الخبر الأول فقد تقدم احتمال خروجه مخرج التقية أيضا.

وأما خبر الثاني فمن المحتمل قريبا أن يكون لفظ الثمن هنا وقع تحريف لفظ السن ، كما ورد في موثقة سعيد بن يسار قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البعير بالبعيرين يدا بيد ونسيئة؟ فقال : نعم لا بأس إذا سميت بالأسنان جذعين أو ثنتين ، ثم أمرني فخططت على النسيئة» (١). وقد تقدم أن الأمر بالخط على النسيئة انما وقع تقية كما ذكره بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم).

والشيخ (رضوان الله عليه) في الاستبصار قد حمل هذا الخبر على الاستظهار والاحتياط ، قال : لأن الأفضل والأحوط أن يقوم كل واحد منها على جهة ويكون البيع على القيمة ، وان لم يكن ذلك محظورا.

وأيده بما رواه في الصحيح عن ابن مسكان (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) أنه سئل عن الرجل يقول : عاوضني بفرسي فرسك ، وأزيدك قال : لا يصلح ، ولكن يقول : أعطني فرسك بكذا وكذا وأعطيك فرسي بكذا وكذا». وكيف كان فالعمل على القول المشهور والله العالم.

المسألة الثامنة ـ قالوا المعتبر في الكيل والوزن ما كان في عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فمتى علم ذلك ، اتبع وجرى فيه الربا وان تغير حاله بعد ، ولا فرق بين أن يكون ذلك في بلده (عليه‌السلام) أو غير بلده إذا أقر أهله عليه ، وما لم يعلم حاله يتبع عادة البلدان ، فان اختلفت كانت لكل بلد حكم نفسه ، مصيرا الى العرف الخاص

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٩١ التهذيب ج ٧ ص ١١٨.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٢٠.

٢٥٣

عند تعذر العلم ، فكل بلد يكون فيها مكيلا أو موزونا يثبت فيه الربا ، وكل بلد لا يكون كذلك يجوز البيع متفاضلا ونسيئة من غير مانع.

قال : بعض المحققين والظاهر أن الحكم للبلد ، لا لأهله وان كان في بلده غيره ، ولا يخفى ما فيه من الغموض ، وان كان مراده أن الحكم لأهل البلد الساكنين فيها دون من خرج منها الى بلد ليست كذلك ، وقيل : وهو منقول عن الشيخين وسلار.

وابن إدريس يغلب جانب التقدير بالكيل أو الوزن على جانب العدد والجزاف أخذا بالأحوط (١).

ووجه الأول بأن المعتبر العرف عند عدم الشرع ، وكما أن عرف تلك البلد التقدير ، فيلزمه حكمه ، وعرف الأخرى الجزاف مثلا فيلزمه حكمه ، صرفا للخطاب الى المتعارف من الجانبين. (٢)

__________________

(١) أقول : التحقيق ان هذين القولين ينحلان إلى ثلاثة أقوال : أحدها ـ اعتبار التقدير في جميع الأشياء حذرا من الغرر المقتضى الى التنازع ، ولأنه الأحوط ، وهو قول الشيخ في النهاية ، وتبعه سلار.

ثانيها ـ اعتبار حكم الأغلب والأعم ، لأن المعروف من عادة الشرع اعتبار الأغلب دون النادر ، وهذا مدلول عبارة الشيخ المفيد ، وتبعه ابن إدريس : وثالثها ـ اعتبار كل بلد حكم نفسه ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط والمحقق والعلامة وغيرهم منه رحمه‌الله.

(٢) كما إذا كان ذلك الجنس مكيلا أو موزونا في بلد فإنه ربوي محرم على أهل تلك البلد ببيعه متفاضلا ، ولو أن أحد أهل هذه البلد خرج الى بلد يباع فيها ذلك الجنس جزافا فإنه يجوز له شراؤه جزافا ولا يحرم عليه الزيادة باعتبار أنه في بلده ربويا ، والظاهر أن هذا مراد المحق المذكور ، وان كانت عبارته عن تأديته ظاهرة القصور.

منه رحمه‌الله.

٢٥٤

ووجه الثاني بصدق المكيل والموزون على ذلك في الجملة ، قالوا : انه قد ثبت أن أربعة كانت مكيلة في عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهي الحنطة والشعير والتمر والملح ، نقل عليه في التذكرة إجماع الأمة ، فلا يباع بعضها ببعض الا كيلا وان اختلف في الوزن ، واستثنى ـ في التذكرة ـ ما يتجافى منه في المكيال ، كالقطع الكبار من الملح ، فيباع وزنا لذلك ، وما عداها ان ثبت له في عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أحد الأمرين ، والا رجع الى عادة البلد.

ولو عرف أنه كان مقدرا في عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجهل اعتباره بأحدهما قالوا : احتمل التخيير ، وتعين الوزن ، لأنه أضبط واختاره في التذكرة ، واستحسنه في المسالك.

أقول : وفي حكم الأربعة المذكورة في الاتفاق على كونهما من المكيل في عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الدنانير والدراهم وكونهما موزونة ، لاتفاق الأمة كما ذكره في التذكرة أيضا على ثبوت الربا في هذه الستة أعني الأربعة المتقدمة مع هذين ، ومن الظاهر أن هذين ليست من المكيل ، فليس إلا أنهما موزونة ، ويعضده استفاضة الأخبار بأنهما من الموزون في عصرهم (عليهم‌السلام).

ثم أقول : لا يخفى أن جميع الحبوب من حنطة وشعير وأرز وعدس وماش والتمر والرطب ونحوها وما يتفرع من كل منها وكذا الألبان والادهان ونحوها في هذه الأزمنة المتأخرة انما تباع بالوزن ، والكيل الذي كان أولا غير معمول عليه بين الناس بالكلية ، فيشكل الحكم في هذه الأجناس الأربعة التي اتفقوا على كونها مكيلة في عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باعتبار بيعها وزنا ، حيث انهم صرحوا بأن ما كان مكيلا لا يجوز بيعه بغير الكيل ، وكذا الموزن مع قطع النظر عن حصول الربا وعدمه وهكذا يجري في باب الربا ايضا ، وقد صرح في التذكرة بأنه لا يجوز بيع شي‌ء من المكيل بشي‌ء من جنسها وزنا بوزن وان تساويا.

نعم نقل في المسالك ـ عن بعضهم ـ انه نقل الإجماع على جواز بيع الحنطة

٢٥٥

والشعير وزنا ، مع الإجماع ـ كما عرفت ـ على كونهما مكيلين في عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال في التذكرة أيضا : وما أصله الكيل يجوز بيعه وزنا سلفا وتعجيلا ، ولا يجوز بيعه بمثله وزنا ، لان الغرض في السلف والمعجل تعيين جنس معرفة المقدار ، وهو يحصل بهما ، والغرض هنا المساواة ، فاختص المنع في بعضه ببعض به ، وقال أيضا : كما لا يجوز بيع الموزون بجنسه جزافا ، كذا لا يجوز بيعه مكيلا ، إلا إذا علم عدم التفاوت فيه ، وكذا المكيل لا يجوز بيعه جزافا ولا موزونا الا مع عدم التفاوت ، وقال أيضا : لو كان حكم الجنس الواحد مختلفا في التقدير ـ كالحنطة المقدرة بالكيل ، والدقيق المقدر بالوزن ـ احتمل تحريم البيع بالكيل والوزن للاختلاف قدرا ، وتسويغه بالوزن.

أقول لقائل أن يقول : ان المستفاد من الاخبار ثبوت الكيل والوزن في الجملة ، وأن البيع في جملة من الاخبار انما يقع بهما ، وأن الربا انما يقع فيهما ، ولم يقم لنا دليل واضح أن ما كان مكيلا لا يجوز بيعه وزنا ، وكذا العكس سواء كان في باب الربا أو غيره ، سيما مع ما صرح به جملة منهم من أن الوزن أضبط ، وانه الأصل ، وعموم أدلة جواز البيع كتابا وسنة يقتضي الجواز كيف اتفق من أحد هذين الأمرين ، ويعضده ما تقدم من نقل الإجماع على جواز بيع الحنطة الشعير وزنا مع الإجماع على أنها من المكيل في عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

وبالجملة فأقصى ما يستفاد من الأدلة في باب البيع هو وجوب معرفة المبيع والثمن بالوزن أو الكيل ، دفعا للغرر والنزاع ، وكذا في باب الربا أنه لا يقع إلا في المكيل أو الموزون ، واما ان ما علم كونه في الزمن السابق مكيلا أو موزونا لا يجوز الخروج من أحدهما إلى الأخر فلم نقف فيه على دليل ، وأصالة العدم قائمة ، وأصالة الصحة في العقود ثابتة ، حتى يقوم دليل على الخروج عن ذلك.

وكيف كان فالأولى مراعاة الاحتياط في أمثال هذه المقامات والله العالم بحقائق أحكامه.

٢٥٦

المسألة التاسعة ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا ربا بين الوالد وولده ، ولا بين المولى ومملوكه ، ولا بين الرجل وزوجته ، وعن المرتضى (رضى الله عنه) في بعض أجوبته : انه حكم بثبوت الربا بينهم ، وحمل الخبر الوارد بالنفي على النهي ، وجعله من قبيل قوله (سبحانه) (١) :

«فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ» الا انه صرح بالرجوع من ذلك ، وانتصر للقول المشهور وادعى عليه الإجماع قال ـ (قدس‌سره) : قد كنت فيما تأولت ـ في جواب مسائل وردت من الموصل ـ الأخبار التي يرويها أصحابنا المتضمنة لنفي الربا بين من ذكرناه ـ ـ على ان المراد بذلك وان كان بلفظ الخبر ـ معنى الأمر ، كأنه قال : يجب ان لا يقع بين ما ذكرناه ربا ، كما قال الله (تعالى) (٢) «وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» وقوله (تعالى) (٣) «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ» وقوله عليه‌السلام (٤) «العارية مردودة (٥) والزعيم غارم». ومعنى ذلك كله معنى الأمر والنهى ، وان كان بلفظ الخبر واعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن وان الله حرم الربا على كل متعاقدين بقوله (٦) «لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا» وهو شامل للوالد وولده ، والرجل وزوجته ، ثم لما تأملت ذلك رجعت عن هذا المذهب لأني وجدت أصحابنا مجمعين على نفى الربا بين من ذكرناه ، وغير مختلفين فيه في وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت انه حجة ، ويخص بمثله ظواهر القرآن ، والصحيح نفى الربا بين من ذكرناه الى آخر كلامه زيد في مقامه.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٧.

(٢) سورة آل عمران الآية ـ ٩٧.

(٣) سورة البقرة الآية ـ ١٩٧.

(٤) المستدرك ج ٢ ص ٥٠٧.

(٥) المستدرك ج ٢ ٤٩٧.

(٦) سورة آل عمران الآية ـ ١٣.

٢٥٧

وابن الجنيد فصل هنا بين الوالد وولده فقال : لا ربا بين الوالد وولده ، إذا أخذ الوالد الفضل الا ان يكون له وارث أو عليه دين.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه في الكافي عن عمرو بن جميع (١) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس بين السيد وعبده ربا». ورواه في الفقيه مرسلا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مثله ، قال : في الكافي وبهذا الاسناد (٢) «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم الف درهم بدرهم ، نأخذ منهم ولا نعطيهم».

ورواه في الفقيه (٣) مرسلا بنقصان قوله «نأخذ منهم الف درهم بدرهم». وإثبات ما قبله وما بعده. وما رواه في الكافي عن زرارة وعن محمد بن مسلم (٤) عن ابى جعفر (عليه‌السلام) قال : «ليس بين الرجل وولده ولا بينه وبين عبده ، ولا بينه وبين اهله ربا ، انما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك ، قلت : فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال : نعم ، قلت : فإنهم مماليك ، فقال : انك لست تملكهم ، انما تملكهم مع غيرك أنت وغيرك فيهم سواء ، والذي بينك وبينهم ليس من ذلك ، لان عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك».

ورواه في التهذيب عن زرارة ومحمد عنه (عليه‌السلام) : مثله. وما رواه في الفقيه مرسلا (٥) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) : ليس بين المسلم وبين الذمي ربا ، ولا بين المرأة وزوجها ربا».

وما رواه في الفقيه (٦) «قال سأل على بن جعفر أخاه موسى بن جعفر (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ١٤٧ الفقيه ج ٣ ص ١٧٦.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٧٦.

(٤) الكافي ج ٥ ص ١٤٧ التهذيب ج ٧ ص ١٧.

(٥ و ٦) الفقيه ج ٣ ص ١٧٨ الوسائل الباب ٧ من أبواب الربا الرقم ـ ٥ ـ ٦ ـ ٧.

٢٥٨

«عن رجل أعطى عبده عشره دراهم ، على ان يؤدى العبد كل شهر عشرة دراهم أيحل ذلك؟ قال : لا بأس». ورواه في التهذيب مسندا عن على بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) مثله» ورواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه‌السلام) مثله ، وزاد ، وسألته عن رجل اعطى رجلا ثمانمائة درهم يعمل بها على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر هل يحل ذلك؟ قال : لا هذا الربا محضا. وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (١) «وليس بين الوالد وولده ربا ، ولا بين الزوج والمرأة ، ولا بين المولى والعبد ، ولا بين المسلم والذمي». انتهى.

قال في الكفاية : ومستند المشهور رواية زرارة ومحمد بن مسلم مؤيدة برواية عمرو بن جميع ، وشي‌ء منها لم يبلغ حد الصحة ، مع ان عموم الكتاب والاخبار الكثيرة يخالفه ، فان ثبت إجماع كان هو المتبع ، والا فالصواب العمل بالكتاب انتهى.

وضعفه أظهر من أن يخفى ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب ـ ممن ذهب الى هذا الاصطلاح المحدث ومن لم يذهب إليه ـ في العمل بهذه الاخبار ولم يقل أحد منهم غير المرتضى ومن يحذو حذوه وهو أقل قليل على غير هذه الاخبار لصحتها وصراحتها.

فأما صحتها عند المتقدمين فظاهرة ، وأما عند المتأخرين فلجبر ضعف أسانيدها باتفاق الأصحاب على العمل بها ، وبها خصصوا عموم الكتاب والاخبار المذكورة ، على أن الدليل غير منحصر في الروايتين المشار إليهما في كلامه ، بل هو مضمون أخبار عديدة ، وفيها الصحيح كرواية على بن جعفر برواية الفقيه ، فان طريقه في المشيخة الى على بن جعفر صحيح ، وهي من مرويات كتابه ، وهو من الأصول المشهورة الثابتة الصحة.

وبالجملة فإن ما ذكره هنا ، من المناقشات الواهية التي لا يلتفت إليها ، والظاهر

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٨٠.

٢٥٩

انه تبع في هذا المقام المحقق الأردبيلي حيث أشار الى ذلك فقال ـ بعد نقل روايتي عمرو بن جميع وزرارة ومحمد بن مسلم ونقل دعوى المرتضى الإجماع ـ ما ملخصه : والإجماع غير ظاهر ، ولهذا ذهب السيد الى الثبوت ، وقال : معنى نفى الربا نهي مثل «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ» وابن الجنيد ذهب الى عدم الثبوت من جانب الوالد فقط ، والحديث غير صحيح ، وعموم أدلة التحريم قوى ، ويمكن أن يقال : لا ربا بين الرجل وولده بمعنى جواز أخذ الوالد من مال ولده لا العكس ، ويؤيد بأخبار أخر مثل أن الولد وماله لوالده. انتهى.

وفيه أولا ما عرفت آنفا ، وثانيا ان الاستناد في عدم ظهور الإجماع إلى كلام المرتضى المذكور عجب منه (قدس‌سره) فان المرتضى قد عدل عن هذا الكلام بعد ظهور الإجماع له ، كما صرح به في كلامه المتقدم ، وهو مؤذن بأن قوله بهذا القول وقع غفلة وذهولا عن ملاحظة الإجماع ، فلما انكشف له ثبوت الإجماع عدل عنه الى قول المشهور فصار هذا الكلام في حكم العدم ، فكيف يصلح لان يطعن به على دعوى الإجماع.

وثالثا أن ما ادعاه من حمل نفى الربا بين الوالد والولد ـ على الصورة المذكورة مستندا الى الاخبار المشار إليها ـ مردود بما حققناه في تلك المسألة ، من أن هذه الاخبار على ظاهرها مخالفة للعقل والنقل ، كتابا وسنة ، مع معارضتها بغيرها ، وبينا أنها انما خرجت مخرج التقية ، فلا اعتماد عليها في حد ذاتها فضلا عما ذكره هنا.

وبالجملة فإن مناقشته في المقام ـ بعد ما عرفت من اخبارهم (عليهم‌السلام) واتفاق الأصحاب على العمل بها قديما وحديثا ـ مما لا ينبغي أن يصغى إليها ، ولا يعرج في مقام التحقيق عليها ، ولم يبق الا خلاف ابن الجنيد ، وضعفه ـ كسائر أقواله التي ينفرد بها ـ أظهر من أن يذكر ، وأقواله غالبا لا يخرج عن مذهب العامة ، ولهذا صرح جملة من علماء الرجال بإطراح أقواله لعمله بالقياس المتفق على النهى عنه في الشريعة نصا وفتوى ، مع ظهور الأخبار المذكورة في رده ، فنقل المحقق المذكور

٢٦٠