الحدائق الناضرة - ج ١٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

أقول : ويؤيد هذا القول ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح في بعض والموثق في أخرى عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل عليه كر من طعام فاشترى كرا من رجل آخر ، فقال : للرجل انطلق فاستوف كرك فقال : لا بأس به». وهو ظاهر في المراد عار عن وصمة الإيراد.

وبه يظهر قوة القول المذكور ، مضافا الى ما تقدم من ان الواقع هنا انما هو حوالة لا بيع.

وأجاب الشهيد في بعض تحقيقاته عن ذلك بأن مورد السلم لما كان ماهية كلبة ثابتة في الذمة منطبقة على افراد لا نهاية لها ، فأي فرد عينه المسلم اليه ، تشخص بذلك الفرد ، وانصب العقد عليه ، فكأنه لما قال للغريم : اكتل من غريمي فلان قد جعل عقد السلم معه ، واردا على ما في ذمة غريمه المستسلف منه ، ولما يقبضه بعد ، ولا ريب أنه مملوك له بالبيع ، فإذا جعل مورد السلم الذي هو بيع يكون بيعا للطعام قبل قبضه ، فيتحقق الشرطان ، ويلتحق بالباب ، قال : وهذا من لطائف الفقه.

قال في المسالك بعد نقل ذلك ـ : وهذا التحقيق غاية ما يقال هنا في توجيه كلام الشيخ ومن تبعه ، الا انه مع ذلك لا يخلو من نظر ، لان مورد السلم ونظائره من الحقوق الثابتة في الذمة لما كان أمرا كليا ، كان المبيع المتحقق به هو الأمر الكلى ، وما يتعين لذلك من الأعيان الشخصية بالحوالة وغيرها ليس هو نفس المبيع ، وان كان الأمر الكلي انما يتحقق في ضمن الأفراد الخاصة فإنها ليست عينه ، ومن ثم لو ظهر المدفوع مستحقا أو معيبا رجع الحق إلى الذمة ، والمبيع المعين ليس كذلك ، ونظير ذلك ما حققه الأصوليون من أن الأمر بالكلي ليس أمرا بشي‌ء من جزئياته الخاصة وان كان لا يتحقق الا بها.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٧٩ التهذيب ج ٧ ص ٣٧ الفقيه ج ٣ ص ١٢٩.

١٨١

وحينئذ فانصباب العقد على ما قبض ، وكونه حينئذ بيعا غير واضح ، فالقول بالتحريم عند القائل به في غيره غير متوجه ، نعم لا بأس حينئذ بالكراهة خروجا من خلاف الشيخ والجماعة وتحرزا عما هو مظنة التحريم انتهى وهو جيد.

الثاني عشر ـ لو كان له على غيره طعام من سلم ، فدفع اليه مالا وقال اشتر به طعاما ، فان قال : اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ، بمعنى أنه وكله في القبض والإقباض قالوا : صح الشراء خاصة ، دون القبض والإقباض ، لأنه لا يجوز أن يتولى طرفي العقد ، ذكره الشيخ وتبعه جملة ممن تأخر عنه وتردد في الشرائع.

قال الشيخ : لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره في قبض حق نفسه من نفسه ، وجملة من المتأخرين قد صرحوا بالجواز ، لأن الأصل ذلك ، ولانه وكله في الإقباض ، والمغايرة الاعتبارية في القابض والمقبوض منه كافية ، ومثله تولى طرفي العقد.

أقول : وقد تقدم الكلام في مسألة تولى الواحد طرفي العقد في الموضع الخامس من المسألة الخامسة من المقام الأول من الفصل الأول في البيع (١) قالوا : ولو قال : اشتر لك لم يصح الشراء ، ولا يتعين له بالقبض ، وعلل بأن مال الغير يمتنع شراء شي‌ء به لنفسه ما دام على ملك الغير ، وهذا هو الفارق بين هذه وسابقها ، حيث حكم بصحة الشراء ثمة ، ونقل عن الشيخ في الخلاف جواز ذلك هنا ، وجعله قبضا للطعام بجنس الدراهم أو قبضا للدراهم ، ورد بعدم وجود دليل يدل على ما ادعاه. نعم لو علم من الدافع إرادة أحد الأمرين وقبل القابض صح ذلك.

أقول : والذي وقفت عليه في هذا المقام روايات ، منها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤١٦.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٨٥ التهذيب ج ٧ ص ٢٩ الفقيه ج ٣ ص ١٦٤.

١٨٢

أسلفته دراهم في طعام فلما حل طعامي عليه بعث الي بدراهم فقال : اشتر لنفسك طعاما واستوف حقك؟ قال : أرى أن يولي ذلك غيرك ، وتقوم معه حتى تقبض الذي لك ، ولا تتولى أنت شراءه». وما رواه في الكافي والتهذيب في الموثق عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أسلف دراهم في طعام فحل الذي له فأرسل إليه بدراهم فقال : اشتر طعاما واستوف حقك هل ترى به بأسا؟ قال : يكون معه غيره يوفيه ذلك».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يكون له على الأخر أحمال رطب أو تمر ، فيبعث اليه بدنانير فيقول : اشتر بهذه واستوف منه الذي لك؟ قال : لا بأس إذا ائتمنه».

أقول : الظاهر من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو أن النهى عن الشراء في الخبرين الأولين انما هو لخوف التهمة ، كما أفصح به الخبر الثالث ، وحينئذ فيجوز له الشراء متى أمن التهمة ، وعلى ذلك تكون الاخبار ظاهرة في جواز الشراء والقبض والإقباض ، وبه يظهر عدم الالتفات الى ما ذكره من التوجيهات الركيكة ، والأمر في ذلك ـ في الاخبار سيما في باب البيوع والطهارات والنجاسات ونحوها ـ أوسع من ذلك ، كما لا يخفى على من مارسها وتأملها ،.

ومن الظاهر أن قوله : اشتر لنفسك طعاما كما في الخبر الأول ، مثل قولهم «اشتر لك» الذي حكموا فيه بعدم صحة الشراء ، «واستوف حقك» في جميع هذه الاخبار كناية عن الإقباض ، فهو وكيل من جهة صاحب الدراهم في الاشتراء ، والقبض والإقباض ، وقوله «اشتر لك ، أو اشتر لنفسك» انما هو عبارة عن توكيله في الشراء بتلك الدراهم ، فلا معنى لقولهم انه يمتنع شراء شي‌ء به لنفسه ما دام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٨٦ التهذيب ج ٧ ص ٣٠.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٢ في ذيل حديث مع اختلاف يسير.

١٨٣

على ملك الغير ، وبالجملة فإن الأمر في هذا الباب أوسع مما ذكروه.

والمحدث الكاشاني في الوافي قد حمل النهي في الخبرين الأولين على غير البصير بالمسألة الفقهية في هذا المجال ، فان دفع الدراهم في هذه الصورة أعني وقت حلول مال السلم وعدم وجوده عند المسلم اليه قد يكون لفسخ البيع ، لعدم وجوده ، فلا يستحق أزيد من رأس ماله ، وقد يكون لتوكيل صاحب الطلب في شرائه وقبضه وإقباضه ، فيصح مع الزيادة ، وما ذكره (قدس‌سره) جيد في غير هذين الخبرين من أخبار الباب الذي عقده لذلك.

والوجه في المنع في هذه الاخبار التي ذكرناها انما هو ما قدمناه من خوف التهمة ، كما صرح به في الخبر الثالث ، ويؤيده أن هذين الخبرين لم يتعرض فيهما لجواز الزيادة وعدمها ، وقد حققنا ذلك في حواشينا على الكتاب المذكور والله العالم.

الثالث عشر ـ قالوا إذا قبض المشترى المبيع ثم ادعى نقصانه ، فان لم يكن حضر كيله ولا وزنه ، فالقول قوله ، وان كان حضر فالقول قول البائع ، قيل : وانما كان القول قول البائع في الثانية مع أن الأصل عدم وصول حق المشترى إليه في الصورتين ، عملا بالظاهر ، من أن صاحب الحق إذا حضر لاستيفاء حقه يحتاط لنفسه ، ويعتبره مقدار حقه ، فيكون هذا الظاهر مرجحا لقول البائع ومقويا لجانبه ، ومعارضا للأصل ، فيقدم قوله يمينه ، وهذه مما رجح فيها الظاهر على الأصل وهو قليل. انتهى.

أقول : الظاهر من العبارة الأولى التي قدمنا نقلها عنهم أن حضور الكيل والوزن في هذا المقام أعم من أن يكون الكيل والوزن لذلك المشتري ، أو للبائع فإنه قد تقدم في جملة من الاخبار وبه صرحوا ايضا أنه يجوز الشراء بالكيل والوزن الذي أخذ به البائع إذا حضر المشتري الثاني ذلك ، والتعليل الذي ذكره هذا

١٨٤

القائل انما يتم على تقدير الصورة الأولى ، دون الثانية ، فإن المشتري الثاني حال الكيل والوزن للبائع الذي هو المشترى الأول لا يصدق عليه انه حضر لاستيفاء حقه ، وأنه يحتاط لنفسه ، بل الحق في تلك الحال انما هو حضر لغيره وان كان هو من جملة الحاضرين ، وأنه بعد ذلك الكيل والوزن قد أخذه به واعتمد عليه.

وبالجملة فإن التعليل المذكور لا يتم في إحدى الصورتين المذكورتين ، وتخصيص العبارة الأولى بهذه الصورة يحتاج الى ما يدل عليه ، وظاهرها انما هو العموم كما قدمناه ، وبه لا يتم الدليل المذكور كليا ، ثم انه على تقدير التخصيص بهذه الصورة فإن التعليل المذكور لا يخلو أيضا من شي‌ء ، فإنه بمقتضى ما ذكره أنه قد تعارض الأصل والظاهر و ، ان الأصل مرجح لجانب المشترى ، والظاهر مرجح لجانب البائع ، ومقتضى تعارضهما تساقطهما ، والتوقف في ذلك إلا مع وجود المرجح لأحدهما ، وهو لم يذكر هنا مرجحا للظاهر يوجب تقديمه على الأصل ، اللهم الا أن يراد أن الظاهر رافع لحكم الأصل ، كالخبر الدال على خلاف مقتضى الأصل ، فإنه يجب الخروج به عن مقتضى الأصل ، والمراد بالتعارض هنا انما هو ذلك ، والظاهر أنه هو المراد في أمثال هذا المقام.

وفيه مع ذلك جوار الغفلة والسهو من ذلك المشتري ، أو الاعتماد على كيل البائع ووزنه ، فلا يمكن الخروج به عن الأصل المذكور ، وبالجملة المسألة ـ لخلوها من النص ـ لا يخلو من التوقف والاشكال والله العالم.

الرابع عشر ـ لو كان في ذمته طعام ، وأراده منه أو قيمته في بلد أخرى غير البلد التي استقر الطعام فيها بذمته فهو لا يخلو عن ثلاثة شقوق ، الأول ـ أن يكون الطعام سلفا قالوا : إذا أسلفه في طعام بالعراق مثلا ، ثم طالبه بالشام لم يجب عليه دفعه ، لان مال السلم يتعين دفعه عند الإطلاق في بلده ، وفي موضع التعيين ان عين الموضع ، فدفعه في غير بلد يتعين دفعه فيه غير واجب ، سواء كانت قيمته وقت المطالبة مخالفة لقيمته في بلد التسليم أم مساوية ، قالوا : وهذا لا شبهة فيه.

أقول لم أقف على دليل يدل على ما ادعوه هنا من أنه مع الإطلاق يتعين

١٨٥

التسليم في بلده ، فان وجد الدليل تم ما رتبوه على ذلك ، والا فلا ، فليتأمل.

قالوا ولو طالبه في ذلك البلد الأخر بالقيمة ورضى المسلم اليه بالدفع ، قيل لم يجز ، لانه بيع الطعام على من هو عليه قبل قبضه ، بناء على القول بالتحريم في تلك المسألة ، أو يكره بناء على القول بالكراهة ثمة.

وقيل : والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين بالجواز من غير تحريم ولا كراهة لأن ذلك ليس بيعا ، وانما هو استيفاء للحق ، غايته أنه بغير جنسه ، ومثل هذا لا يسمى بيعا ، فلا يحرم.

وربما قيل : بكراهته ، خروجا من خلاف الشيخ القائل بالتحريم وتخلصا من عرضة التحريم. هذا كله إذا رضي المسلم اليه بالدفع.

أما لو لم يرض فهل يجبر على ذلك؟ بناء على الجواز في الأول ، المشهور العدم ، لان الواجب في ذمته هو الطعام لا القيمة وما في ذمته لا يجب دفعه في البلد المذكور ، فأولى أن لا يجب عليه دفع ما لم تجر عليه المعاوضة ، ولم يقتضيه عقد السلم.

وذهب بعض الأصحاب ومنهم العلامة في التذكرة إلى وجوب دفع القيمة حينئذ ، مستندا الى أن الطعام الذي يلزمه دفعه معدوم ، فكان كما لو عدم الطعام في بلد يلزمه التسليم فيه ورد بأن فيه منعا ظاهرا ، إذ ليس ثمة طعام يلزم دفعه حتى ينتقل إلى القيمة.

أقول : ومما يدل على ما هو المشهور ـ من جواز أخذه الثمن متى وقع الرضا من الطرفين بذلك ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان (١) عن بعض أصحابنا عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يسلف الدراهم في الطعام إلى أجل ، فيحل

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٨٥ التهذيب ج ٧ ص ٣٠.

١٨٦

الطعام ، فيقول : ليس عندي طعام ، ولكن انظر ما قيمته فخذ منى ثمنه قال : لا بأس بذلك».

وعن ابن فضال (١) قال : كتبت الى أبى الحسن (عليه‌السلام) : الرجل يسلفني في الطعام ، فيجي‌ء الوقت وليس عندي طعام أعطيه بقيمته دراهم؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن العيص بن القاسم (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) ، قال : سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة ، حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ، ووجد عنده دوابا ورقيقا ومتاعا ، أيحل أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه؟ قال : «نعم ، يسمى كذا وكذا بكذا وكذا صاعا».

وبذلك يظهر لك ضعف ما ذهب اليه الشيخ وأتباعه من عدم جواز أخذ القيمة للعلة التي ذكرها ، والظاهر أن الوجه في الجواز هو ما ذكروه ، من أن ذلك استيفاء لحقه ، لا بيع ليلزم ما ذكر ، ولا ينافي ذلك قوله في الرواية الثالثة «يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعا» فان المراد منه أنه حيث كانت القيمة عروضا لا دراهم فلا بد من تشخيصها في مقابلة الطلب الذي له ، ليحصل بذلك استيفاء حقه.

وأما ما ذكروه ـ من عدم جبره لو طلب صاحب السلم القيمة ، لأن الواجب في ذمته هو الطعام لا القيمة ـ فهو جيد ان تم ما ذكروه من عدم وجوب التسليم مع الإطلاق إلا في بلد السلم ، إلا أنك قد عرفت أنا لم نقف له على دليل.

ومما يؤيد مذهب العلامة في التذكرة هنا ـ لزوم الضرر بصاحب الحق ، فإن توقف إيصال حقه على الوصول الى بلد السلم ـ مع أنه ربما لا يتيسر له الرجوع إليها أو يتعذر عليه ذلك ـ موجب لما ذكرناه ، فإذا لم يجب على من عليه السلم دفع مال السلم ـ لتوقفه على الوصول الى تلك البلد التي وقع السلم فيها ، ولم يجب عليه دفع قيمته ، والحال أن رجوع صاحب الطلب الى تلك البلد غير ممكن ـ فاللازم

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٨٧ التهذيب ج ٧ ص ٣٠.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٨٦ التهذيب ج ٧ ص ٣١ الفقيه ص ١٦٥.

١٨٧

فوات حقه ، وهو عين الضرر.

اللهم الا أن يقال بالجوار في هذه الصورة من حيث دفع الضرر ، وأن هذه خارجة عن محل البحث ، والخلاف انما هو فيما إذا لم يكن كذلك ، فيتم ما ذكروه على ما عرفت فيه.

الثاني ـ لو كان الطعام قرضا قالوا : جار أخذ العوض إذا تراضيا على ذلك لانتفاء المانع المذكور في الصورة الاولى ، وهو بيع الطعام المنتقل بالبيع قبل قبضه ، وانما الإشكال في وجوب دفع العوض في غير بلد القرض ، لأن إطلاق القرض منزل على قبضه في بلده ، فليس للمقرض المطالبة في غيره ، كما أنه لو بذل له المقترض لم يجب عليه قبضه أيضا ، لما في نقله الى ما عينه الشارع موضعا للقبض من المؤنة ، وإذا لم يجب دفع عين الحق فكذا قيمته ، لعدم وقوع المعاوضة عليها واختار العلامة في المختلف وجوب دفع المثل وقت المطالبة ، فإن تعذر فالقيمة ببلد القرض.

أقول : لم أقف بعد التتبع والفحص على دليل لما ذكروه هنا ايضا ، من أن إطلاق القرص منزل على قبضه في بلده ، وأنه لأجل ذلك ليس للمقرض المطالبة في غيره ، ولا يجب عليه القبض ايضا لو بذله المقترض له في غيره ، بل ربما دل ظاهر بعض الاخبار على خلاف ذلك.

مثل ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (١) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سالته عن رجل لي عليه مال ، فغاب عنى زمانا ، فرأيته يطوف حول الكعبة فأتقاضاه قال : (عليه‌السلام) : لا تسلم عليه ولا تروعه حتى يخرج من الحرم». فان ترك الاستفصال يفيد عموم المقال كما ذكروه في غير مقام.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٦ من أبواب الدين الرقم ـ ١.

١٨٨

ويشير الى ما ذكرناه من المناقشة في الموضعين المذكورين كلام المحقق الأردبيلي قال بعد ذكر نحو ما ذكروه من الأحكام المترتبة على ذينك الحكمين : ما لفظه كل ذلك ظاهر مما تقدم إذا قيل بتعيين موضع السلف والقرض للطلب فيه وهو محل التأمل.

ثم قال : ويمكن الرجوع الى القرائن ، ومع عدمها الى العرف الغالب بين الناس كما سلف في تعيين زمان السلف ومكانه انتهى.

وبالجملة فالظاهر بناء على ما ذكرناه هنا هو قريب ما ذكره في المختلف ، الا ان الظاهر ان تخصيصه القيمة ببلد القرض مبنى على ما نقلناه عنهم وقد عرفت ما فيه.

الثالث أن يكون غصبا فقيل : انه لا يجب دفع المثل ، ويجوز دفع القيمة بسعر البلد التي استقر الطعام في الذمة فيها ، ونسب القول المذكور للشيخ مساويا بينه وبين القرض في الحكم.

وقيل : وهو الأشهر بجواز مطالبة الغاصب بالمثل حيث كان ، وبالقيمة الحاضرة عند الإعواز ، وعلل بأنه حق تثبت عليه بعدوانه ، فيعم كل مكان ، وهو مؤاخذا بأسوء الأحوال.

ووجه وجوب القيمة عند الإعواز انه وقت الانتقال إلى القيمة في المثلي واستقرب في المختلف قول الشيخ في القيمة ، وهي قيمة بلد القرض ، لانه غصبه هناك ، فإذا تعذر المثل وجب عليه قيمته فيه.

ونقل ما عليه الأكثر عن والده واحتمل بعضهم أعلى القيم من حين الغصب الى حين الدفع ، والظاهر هو القول المشهور في كل من الأمرين المذكورين والله العالم.

الخامس عشر ـ قالوا : لو اشترى عينا بعين ، وقبض احدى العينين وبقيت الأخرى عند بائعها ، ثم باع القابض ما قبضه ، ثم تلفت العين الأخرى عند بائعها بطل

١٨٩

البيع الأول ، ولا سبيل إلى إعادة ما بيع ثانيا ، لان تلك العين كانت ملكا خالصا للبائع ، وانما طرء البطلان على العقد بعد انتقال العين ، فلا يؤثر فيما سبق من التصرفات ، وعلى هذا فيلزم على البائع الثاني دفع المثل ان كانت العين مثلية ، والقيمة ان كانت قيمية ، كما لو تلفت العين.

بقي الكلام في القيمة هل هي قيمته يوم البيع ، أو يوم تلف العين الأخرى يحتمل الأول لأنه وقت تعذر المثل ، والثاني لأن القيمة لم تكن لازمة للبائع ، وانما لزمت بتلف العين الأخرى الموجب لبطلان البيع ، واستجوده في المسالك.

قيل : ويستفاد من ذلك أن تلف المبيع قبل قبضه انما يبطل المبيع من حينه ، لا من أصله ، والا لاسترد العين ، وتظهر الفائدة في ذلك وفي النماء.

أقول لم أقف في هذه المسألة على نص بالخصوص ، وبذلك يظهر ما في الفائدة المذكورة ، فإنه لو كان الحكم المذكور منصوصا لصحت هذه الفائدة وأما إذا كان ذلك! نما هو بمجرد فتواهم وكلامهم فإنه لا ثمرة لهذه الاستفادة والله العالم.

المطلب الرابع في اختلاف المتبايعين

وفيه مسائل الأولى ـ إذا عين المتبايعان نقدا مخصوصا تعين ، وان أطلقا فإن كان نقد البلد متحدا انصرف الإطلاق اليه ، وان كان متعددا انصرف الى ما هو الغالب ، لما عرفت في غير موضع مما تقدم من أن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الغالبة المتكررة ، ولو كثرت النقود فيها ولا غلبة في شي‌ء منها بطل ، لان تعدد النقود في البلد بمنزلة اللفظ المشترك ، ولا يحمل على أحد معانيه الا مع القرينة ، ومع الغلبة فالقرينة ظاهرة ، ومع التساوي فاللازم بطلان البيع ، لمجهولية الثمن أو المبيع.

١٩٠

بقي الإشكال في ان الغلبة قد تكون في الاستعمال ، وقد تكون في الإطلاق ، بمعنى أن الاسم يغلب على أحدها ، وان كان غيره أكثر استعمالا كما يتفق ذلك في بعض النقود ، فان اتفقت الغلبة فيهما ، فلا إشكال في الحمل على الأغلب وان اختلفت بأن كان أحدهما أغلب استعمالا والأخر أغلب وصفا ، ففي ترجيح أحدهما ـ أو كونهما بمنزلة المتساوي نظرا الى تعارض المرجحين ـ اشكال ، وهكذا الكلام في الكيل والوزن.

الثانية ـ إذا اختلفا في قدر الثمن فادعى البائع أكثر ، وادعى المشتري أقل فالمشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ـ أن القول قول البائع بيمينه ان كانت السلعة قائمة ، وقول المشترى مع يمينه ان كانت تالفة.

ويدل على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة مسندا في روايتي الكليني والشيخ عن أحمد بن محمد بن أبى نصر (١) عن رجل عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) ومرسلا في الفقيه (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يبيع الشي‌ء فيقول المشترى : هو بكذا وكذا بأقل مما قاله البائع ، قال : القول قول البائع مع يمينه إذا كان الشي‌ء قائما بعينه» (٣). والتقريب فيها أنها تدل بمنطوقها على تقديم قول البائع مع قيام عين المبيع ، وبمفهومها على تقديم قول المشترى مع تلف العين ، ولا يضر إرسال الخبر المذكور ، لرواية المشايخ الثلاثة له ، ولما ذكروه من استثناء مراسيل أحمد بن محمد بن أبى نصر ، لانه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، ولعمل جل الأصحاب بها لا سيما المحدثين الثلاثة ، وغيرهم من المتقدمين وجل المتأخرين قال في الوافي ـ بعد ذكر الخبر المذكور : ـ والوجه فيه أن مع بقاء

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٧٤ التهذيب ج ٧ ص ٢٦.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٧١.

(٣) يعنى قيام السلعة وتلفها ـ منه رحمه‌الله.

١٩١

العين يرجع الدعوى الى رضا البائع ، وهو منكر لرضاه بالأقل ، ومع تلفه يرجع الى شغل ذمة المشترى بالثمن ، وهو منكر للزيادة (١).

أقول هذا الوجه الذي ذكره هنا قد احتج به بعض القائلين بالقول المشهور وقد تنظر فيه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال : لاتفاقهما على انتقال العين إلى المشترى وملكه لها ، وانما الخلاف بينهما فيما يستحق في ذمة المشترى ، فلا وجه لتقديم قول البائع ، بل المشترى هو المنكر في الموضعين ، ثم قال : فالمعتبر حينئذ هو النص. انتهى وهو جيد متين.

وما ذكره (قدس‌سره) هنا قد احتمله العلامة في القواعد قولا في المسألة ، ونقله في التذكرة قولا عن بعض العامة ، وقوله وظاهر المحقق الأردبيلي تقوية القول المذكور ، قال : وهو الظاهر الموافق للقوانين ، وكذا يظهر من المسالك أنه أقوى الأقوال ، وهو كذلك ، فإنه الا وفق بالقواعد الشرعية ، الا أنه لا معدل عن النص المذكور ، لما قدمنا ذكره ، ويمكن تأييد الخبر المذكور بما رواه في الكافي : والتهذيب. عن الحسين بن عمر بن يزيد عن أبيه (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذ التاجر ان صدقا بورك لهما وإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما وهما بالخيار ما لم يفترقا فان اختلفا فالقول قول رب السلعة أو يتتاركا».

__________________

(١) أقول مرجع هذا الوجه الذي ذكره الى أن المبيع متى كان باقيا فالأصل عدم انتقاله من ملك البائع إلا برضاه ، وهو لا يرضى الا بما يدعيه ، وفيه ما عرفت في الأصل من الاتفاق على انتقال المبيع إلى المشترى ، ورجوع الاختلاف الى الثمن لزيادة ونقيصة ، والأصل عدم الزيادة بعد الاعتراف بالبيع ، فدعوى المشترى مطابق لهذا الأصل ، فالقول قوله حينئذ بيمينه ، هذا هو مقتضى الأصول والقواعد كما ذكرناه في الأصل. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٧٤ التهذيب ج ٧ ص ٢٦.

١٩٢

والتقريب فيه ان الظاهر أن الاختلاف بينهما مع وجود السلعة كما يشير اليه قوله أو يتتاركا ، وقد جعل القول فيه قول البائع ، ومحل الاختلاف وان كان مطلقا الا أن ما نحن فيه داخل تحت الإطلاق ، وسيجي‌ء ـ إنشاء الله تعالى ـ أن القول قول البائع في سائر الاختلافات الاتية.

وفي المسألة أقوال أخر أيضا ، منها ـ أن القول قول من هي في يده ، الا أن يحدث المشترى فيها حدثا ، فيكون القول قوله مطلقا ، وهو مذهب ابن الجنيد ونفى عنه البأس في التذكرة ، ووجه هذا القول بالنسبة إلى الأقل أن من كان المبيع في يده يحكم له بالملك ، ويصير غير ذي اليد مدعيا ، وبتقريب آخر أن من ليس في يده يدعي انتزاعه بما يقربه من الثمن ، وذو اليد ينكر ذلك ، فيكون القول قوله ، ترجيحا لليد ، فان الخارج هو المدعى.

وأما بالنسبة إلى حدث المشتري فإنه دليل اليد ، فيكون القول قوله مطلقا ، وفيه ما عرفت آنفا من أن مرجع الاختلاف والنزاع انما هو في الثمن ، لا في أصل المبيع ، للاتفاق على انتقاله بالبيع.

ومنها أنهما يتحالفان مطلقا ، لان كلا منهما مدع ومنكر ، وذلك لان العقد الذي تضمن الأقل وتشخص به ينكره البائع ، والعقد الذي تضمن الثمن الأكثر وتشخص به ينكره المشترى ، فيكون هذا النزاع في قوة ادعاء كل منهما عقدا ينكره الأخر ، فيتحالفان ويبطل البيع ، وهذا القول احتمله العلامة في كثير من كتبه ، وصححه ولده في الإيضاح ، ونسبه في الدروس الى الندور مع أنه اختاره في قواعده ، ـ وأورد عليه بمنع المغايرة الموجبة لما ذكر لاتفاقهما على عقد واحد ، وعلى انتقال المبيع إلى المشترى به ، وثبوت الثمن الأقل في ذمة المشترى ، وانما يختلفان في الزائد فأحدهما يدعيه ، والأخر ينكره ، فلا وجه للتحالف.

ومنها ـ أن القول قول المشترى مع قيام السلعة أو تلفها في يده أو في

١٩٣

يد البائع بعد الإقباض ، والثمن معين ، والأقل لا يغاير أجزاء الأكثر ، ولو كان مغايرا تحالفا ، وفسخ العقد ، واحتج على الأول بأن المشتري منكر ، وعلى الثاني بأن التحالف في عين الثمن ، وكل منهما ينكر ما يدعيه الأخر ، فيتحالفان ، ذهب الى هذا القول العلامة في المختلف وهو يرجع الى تقديم قول المشترى مطلقا ، حيث يكون الاختلاف في كمية الثمن ، وقد عرفت قوته بحسب القواعد ، الا أن النص على خلافه (١).

تنبيهات

الأول ـ قال في المسالك بعد الكلام في المسألة : هذا البحث كله إذا وقع

__________________

(١) قال في المختلف : والمعتمد أن نقول : ان السلعة اما أن تكون باقية أو تالفة ، فإن كانت تالفة فاما أن تكون قد تلفت في يد البائع قبل الإقباض ، أو في يد المشتري أو في يد البائع بعد الإقباض فإن تلفت في يد البائع قبل الإقباض بطل البيع ، ولا معنى للتحالف وان تلفت في يد المشتري أو في يد البائع بعد الإقباض ، أو كانت قائمة فلا يخلو اما أن يكون الثمن معينا أو في الذمة ، فإن كان معينا فاما أن يكون الأقل مغايرا لأجزاء الأكثر أولا ، فإن كان مغايرا تحالفا وفسخ البيع ، وان لم يكن فالقول قول المشترى ، ويحتمل التخالف ، لنا انه على تقدير المخالفة يكون التخالف في عين الثمن كما تخالفا في قدره ، ولا ريب أنه مع التخالف في عين الثمن يتحالفان فكذا هنا ، وأما على باقي التقادير فلان البائع يدعي الزيادة في الثمن ، والمشترى ينكرها ، فالقول قوله مع اليمين ، كما لو تلفت السلعة أو كانت في يد المشترى ، واما احتمال التحالف على هذه التقادير غير تقدير المخالفة ، فلأنهما متداعيان كل منهما مدع ، فإن البائع يدعي العقد بعشرين ، والمشترى يدعي العقد ـ

١٩٤

النزاع بعد قبض المشتري ، أو قبله مع بقاء عين المبيع ، أما لو وقع بعد تلفه في يد البائع ، فإن العقد ينفسخ ، ولا يظهر للنزاع أثر ان لم يكن البائع قد قبض الثمن ، ولو كان قبضه كان كالدين في ذمته أو الأمانة عنده ، فيقدم قوله في قدره ، ومثله ما لو اختلفا في قدر الثمن بعد قبض البائع له والإقالة أو الفسخ بأحد وجوهه.

أقول : ينبغي تقييد انفساخ العقد بتلفه في يد البائع بما لو لم يحصل إقباض بالكلية ، والا فلو تلف في يده بعد حصول الإقباض والعود اليه ثانيا ، فان الحكم فيه كما في صورة الإقباض.

الثاني موضع الخلاف ـ كما أشار إليه العلامة في المختلف وصرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ ما لو كان الثمن في الذمة ، ليمكن جريان الأقوال فيه ، فلو كان معينا كما لو قال البائع : بعتك بهذا العبد أو بهذا الدينار فقال المشترى : بل بهذه الأمة أو الدراهم ، فإنه يتعين التحالف قطعا ، لان كلا منهما مدع ومنكر ، وهو ضابط التحالف ، وهذا لا يطلق عليه الاختلاف في القدر ، كما هو محل البحث.

نعم قد يتفق مع التعيين الاختلاف في القدر أيضا ، وبه يندرج تحت البحث حينئذ ، كما لو قال : بعتك بهذين الدينارين أو الدرهمين ، فقال : بل بأحدهما معينا ، فان الحكم فيه كالذمة ، والأقوال المتقدمة تجري فيه.

الثالث ـ أنه على تقدير القول المشهور من الفرق بين قيام العين وتلفها لو كانت العين باقية ، لكنها قد انتقلت عن المشترى انتقالا لازما بالبيع ، أو العتق أو الهبة

__________________

بعشرة ، والعقد بعشرين غير العقد بعشرة. انتهى وجوابه علم مما في الأصل ، أما بالنسبة إلى التحالف فلما عرفت في جواب القول بالتحالف ، وأما بالنسبة الى ان القول قول المشترى بيمينه فلما عرفت من ـ انه وان كان قويا في حد ذاته الا ـ أن النص دل على خلافه. والله العالم (منه رحمه‌الله).

١٩٥

اللازمة مثلا. فهل يكون ذلك من قبيل التلف ، أم لا؟ إشكال ينشأ من صدق التلف بذلك ، وعدمه ، إذ المتبادر من التلف هو زوال العين عن الوجود وهنا ليس كذلك ، وان كان في حكم التلف من خروجها عن الانتقاع بالنسبة إلى المشترى.

ويمكن أن يقال : ان النص دل على أن القول قول البائع إذا كانت العين قائمة ، والمتبادر منه وجودها بين المتبايعين في يد أحدهما ، كما يشير اليه الخبر الثاني من قوله «أو يتتاركا» ومفهومه حينئذ ما لم يكن موجودة في يد أحدهما ، والتعبير بالتلف انما وقع في عبارة بعض الأصحاب ، وجعلوه مفهوما مخالفة لقوله «قائمة» بناء على حمله على مجرد الوجود ، والظاهر منه انما هو ما ذكرناه ، فان وجودها بعد انتقالها بناقل شرعي لازم لا يدخل تحت منطوق الخبر المذكور.

وكيف كان فالحكم غير خال من شوب الاشكال. وكذا يجري الإشكال في الانتقال الغير اللازم كالبيع في زمن الخيار للبائع ، والهبة قبل القبض أو بعده حيث يجوز الفسخ ، وأنه هل يجرى مجرى التلف أم لا؟.

الثالثة ـ لو اختلفا في تأخير الثمن وتأجيله أو في قدر الأجل في اشتراط رهن أو ضمين فالقول قول البائع مع يمينه ، لأنه في هذه المواضع كلها منكر ، وربما قيل : بالتحالف هنا أيضا ، كما في سابق هذه المسألة ، لأن أحدهما يسند الملك الى سبب مخصوص ، والأخر ينفيه ويسنده الى سبب آخر ، ففي الحقيقة الملك بقول أحدهما غير الملك بقول الأخر ، وكل منهما مدع ، ومدعى عليه ، فيتحالفان ، ووجه ضعفه يعلم مما سلف ، وذلك لأنهما اتفقا على صدور العقد ، وحصول الملك للمشتري ، والثمن للبائع ، وانما حصل النزاع في أحد هذه الأمور الزائدة على ذلك والبائع ينكره ، فيقدم قوله في نفيه.

الرابعة ـ لو اختلفا في المبيع ، فقال البائع : بعتك ثوبا ، فقال المشترى : بل ثوبين ، فان القول قول البائع بيمينه ، لانه منكر لبيع الزائد ، مع اتفاقهما على أمر مشترك ، وهو بيع الثوب الواحد.

١٩٦

هذا حيث لا يكون المتنازع معينا ، والا فالحكم التحالف ، كما لو قال البائع : بعتك هذا الثوب ، وقال المشترى : بل هذين الثوبين ، مشيرا الى غير ذلك الثوب المعين ، فإنه يتعين القول بالتحالف ، لعدم الاتفاق على شي‌ء.

وكذا أيضا يجب تقييد أصل المسألة بما إذا لم يختلفا في الثمن على كل من التقديرين ، لأنه حينئذ يمكن الأخذ بالمشترك بين كلاميهما ، بخلاف ما لو قال : بعتك هذا بألف ، فقال : بل هذا وهذا بألفين ، فلانه لا مشترك بين كلاميهما يمكن الأخذ به ، فلا بد من التحالف كما ذكره في التذكرة.

واعلم أن ضابط التحالف ـ المقطوع به في كلامهم ـ ادعاء كل منهما على صاحبه ما ينفيه الأخر ، بحيث لا يتفقان على أمر كما هنا ، ومثله ما لو اختلفا في الثمن المعين ، أو فيهما معا ، ومثله ما لو ادعى أحدهما البيع ، والأخر الصلح.

ولو اتفقا على أمر واحد واختلفا في وصف زائد أو قدر بحيث كانت الدعوى من طرف واحد ، كما في المواضع التي قدمناها حلف المنكر ، وأما من أجرى التحالف في مثل تلك المواضع فقد عرفت بطلانه ، لخروجه عن الضابطة المذكورة ، وكما يجرى ذلك في البيع فكذا في الصلح والإجارة ونحوهما.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنه إذا ادعى البائع : أنى بعتك هذا الثوب ، فقال المشترى : بل هذا إشارة إلى ثوب آخر ، فان الحكم كما عرفت التحالف ، وبطلان البيع ، فإذا حلف البائع على نفى ما يدعيه المشتري بقي الثوب على ملكه ، فان كان في يده ، والا انتزعه من يد المشترى ، وإذا حلف المشترى على نفى ما يدعيه البائع ، وكان الثوب في يده لم يكن للبائع مطالبته به ، لانه لا يدعيه ، وان كان في يد البائع لم يكن له التصرف فيه ، لانه معترف بأنه للمشتري ، وله ثمنه في ذمته ، فان كان البائع قد قبض الثمن رده على المشترى ، ويأخذ الثوب قصاصا ، وان لم يكن قبضه أخذ الثوب قصاصا أيضا بذلك الثمن ، ولو زاد فهو مال لا يدعيه أحد ، كذا فصله العلامة في التذكرة.

١٩٧

ولو ماتا المتبايعان فاختلف ورثتهما ، فذهب جمع من الأصحاب الى أن القول قول ورثة البائع في قدر المبيع ، وورثة المشترى في قدر الثمن.

أما كون القول قول ورثة البائع في قدر المبيع فهو جار على قول مورثهم ، لان القول قوله لو كان حيا كما تقدم.

وأما أن القول قول ورثة المشترى في قدر الثمن مع أنه ليس كذلك في مورثهم ، لأنهم منكرون.

وذهب الأكثر الى أن الورثة في ذلك كالمورثين فيقدم قول ورثة البائع مع بقاء السلعة ، وقول ورثة المشترى مع تلفها ، ولو اختلف الورثة في عين الثمن أو عين المبيع فالحكم التحالف ، كما تقدم ذكره في المتبايعين.

الفصل الخامس

في أقسام البيع بالنسبة الى الاخبار بالثمن وعدمه ، وهو لا يخلو عن أقسام أربعة لأنه اما أن يخبر بالثمن ، أولا ، الثاني ـ المساومة ، والأول ـ اما أن يبيع معه برأس ماله ، أو بزيادة عليه ، أو نقيصة عنه ، والأول ـ التولية ، والثاني ـ المرابحة ، والثالث ـ المواضعة ، وزاد بعضهم قسما خامسا ، وهو إعطاء بعض المبيع برأس ماله ، ذكره الشهيد في الدروس واللمعة ، ولم يذكره كثير منهم قال : والتشريك جائز ، وهو أن يجعل له نصيبا بما يخصه من الثمن ، قال شيخنا الشهيد الثاني : وفي بعض الاخبار دلالة عليه ، وقد يجتمع الأقسام الخمسة في عقد واحد ، بأن اشترى خمسة ثوبا بالسوية ، لكن ثمن نصيب أحدهم عشرون ، والأخر خمسة عشر ، والثالث عشرة ، والرابع خمسة ، والخامس لم يبين ، ثم باع من عدا الرابع نصيبهم بستين بعد اخبارهم بالحال ، والرابع شرك في حصته ، فهو بالنسبة إلى الأول مواضعة ، والى الثاني تولية ، والثالث مرابحة ، والرابع تشريك ، والخامس مساومة.

١٩٨

وعلى هذا القياس اجتماع قسمين منها ، وثلاثة وأربعة بالتقريب المذكور.

أقول : والمفهوم من الاخبار أن أفضل ـ هذه الأقسام ـ المساومة ، وان المرابحة مكروهة ، فروى ثقة الإسلام في الكافي في الضعيف والشيخ في التهذيب في الصحيح ، عن محمد بن مسلم (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : انى أكره بيع عشرة بإحدى عشرة ، وعشرة باثني عشرة ، ونحو ذلك من البيع ولكن أبيعك كذا وكذا مساومة ، قال : وأتاني متاع من مصر ، فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم على فبعته مساومة». وعن جراح المدائني (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام): انى اكره بيع ده يازده وده دوازده ، ولكن أبيعك بكذا وكذا» ،. وروى في الكافي عن الحلبي (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قدم لأبي متاع من مصر فصنع طعاما ودعى له التجار ، فقالوا له نأخذ منك بده دوازده فقال لهم أبى : وكم يكون ذلك؟ قالوا في عشرة آلاف ألفين ، فقال لهم : أبي اني أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألفا فباعهم مساومة».

وروى في الفقيه عن عبيد الله الحلبي ومحمد الحلبي (٤) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال «قدم لأبي متاع» الحديث. الا أنه لم يذكره «فباعهم مساومة» وعلل استحباب المساومة زيادة على ما ورد في النصوص المذكورة بأن فيه سلامة عن الاخبار بالكذب ، إذ قد يقع المخبر في الكذب ، وصعوبة أداء الامانة ، والبعد عن مشابهة الربا.

أقول : ويعضده ما يأتي في شروط المرابحة من كثرة المفاسد فيها ، ويدل

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٩٧ التهذيب ج ٧ ص ٥٥.

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ١٩٧ التهذيب ج ٧ ص ٥٥ و ٥٤.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ١٣٥.

١٩٩

على جواز المرابحة صريحا ما رواه الشيخ في الصحيح عن العلاء (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يبيع الرجل البيع فيقول أبيعك بده دوازده أو ده يازده فقال : لا بأس إنما هذه المراوضة ، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة.».

ورواه الحميري في قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي (٢) عن العلاء مثله ، الا انه قال : «لا بأس انما هو البيع يجعله جملة واحدة».

أقول : يعنى يجعل الانتفاع ورأس المال جملة واحدة في حال البيع ، والمراوضة انما هي قبل البيع ، وفيه إشارة إلى الكراهة في حال البيع ، كما تقدم بأن يقول : أبيعك بكذا أو ربح كذا.

وأظهر منهما في الجواز أيضا ما رواه الشيخ عن على بن سعيد (٣) «قال سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل يبتاع ثوبا فيطلب منه مرابحة ، ترى ببيع المرابحة بأسا إذا صدق في المرابحة ، وسمى ربحا دانقين أو نصف درهم فقال : لا بأس» الحديث.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام هنا يقع في موضعين ، الأول في العبارة إما بالنسبة إلى المساومة فهي البيع بما يتفقان عليه ، من غير تعرض لذكر الثمن ، سواء علمه المشتري أو لم يعلمه ، وهو أفضل الأقسام كما عرفت ، وأما المرابحة فيجب فيها علم المتعاقدين برأس المال ، والربح والغرم والمؤن إن ضمها ، ويجب على البائع الصدق في الثمن ، والمؤن وما طرء من موجب النقص والأجل وغيره ، فان لم يحدث فيه زيادة ، قال : اشتريته بكذا ، أو تقوم على بكذا ، وان زاد بفعله من غير غرامة مالية أخبر بذلك ، بأن يقول : اشتريته بكذا ، وعملت فيه عملا يساوي كذا ،

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٥٤.

(٢) الوسائل الباب ١٤ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٥٥.

٢٠٠