الحدائق الناضرة - ج ١٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

نعم يشكل الحكم بان مقتضى ما ذكر أنه لو اشترى الطعام واكتاله ثم باعه ممن حضر كيله ـ ، فان الواجب بمقتضى ما ذكر ـ هو كيله مرة أخرى ، ليتحقق به قبض المشتري الثاني وهو الذي قواه ، ونقله عن العلامة والشهيد (رحمه‌الله) مع أن ظاهر الاخبار الواردة هنا هو العدم.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الملك بن عمرو (١) قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أشترى الطعام فأكتاله ومعي من قد شهد الكيل وانما اكتلته لنفسي ، فيقول : بعنيه فأبيعه إياه بذلك الكيل الذي كلته؟ قال : لا بأس». ونحوه ما رواه في الفقيه عن خالد بن الحجاج الكرخي (٢) قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أشترى الطعام من الرجل ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله ، فأقول : ابعث وكيلك حتى يشهد كيله إذا قبضته ، قال لا بأس».

ويمكن أن يقال في وجه الجمع بين ظواهر هذه الاخبار انه لما كان الغالب أن الكيل والوزن انما يقعان في حال القبض ، وانه بهما يحصل القبض والتحويل من البائع إلى المشتري ، صح إطلاق القبض عليهما بهذا الوجه في الاخبار المتقدمة وان كانا شرطا في صحة البيع ، واما جواز البيع تولية في تلك الاخبار بدونهما ، فلعله مستثنى من القاعدة المذكورة ، حيث أن التولية عبارة عن أن يعطيه ما اشتراه برأس ماله ، ويجعله محله في ذلك العقد ، الا انى لم أجد به قائلا ، والمسألة لما عرفت غير خالية من الاشكال ولهذا كثر فيها التردد والاحتمال.

الخامس ـ قال في المسالك : ألحق في الدروس المعدود بالمكيل والموزون فاعتبر في قبضه عده بعد البيع ، ولم يكتف بعد السابق. وفيه نظر ، لعدم النص

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٧٩ التهذيب ج ٧ ص ٣٨.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ١٣١.

١٦١

وتحقق القبض فيه عرفا مع نقل المشترى له كغيره من المنقولات ، والحاقه بهما نظرا الى اشتراط اعتباره في صحة بيعه لا يوجب ذلك عندنا ، واكتفى فيه ايضا عن اعتبار المكيل والموزون والمعدود بنقله ، والخبر الصحيح حجة عليه

وقريب منه مختار العلامة في المختلف ، فإنه اكتفى فيهما بأحد أمور ثلاثة ، النقل ، والقبض باليد ، والاعتبار بالكيل أو الوزن ، وفي النقل ما مر ، وفي القبض باليد ما دل عليه خبر عقبة بن خالد (١) من اعتبار النقل. ومال في الدروس أيضا الى أن التخلية كافية مطلقا في نقل الضمان ، لا في زوال التحريم أو الكراهة عن البيع قبل القبض ، وخبر عقبة حجة عليه ان اعتبره.

والتحقيق هنا أن الخبر الصحيح دل على النهى عن بيع المكيل والموزون قبل اعتباره بهما ، لا على أن القبض لا يتحقق بدونهما ، وكون السؤال فيه وقع عن البيع قبل القبض لا ينافي ذلك ، لان الاعتبار بهما قبض وزيادة ، وحينئذ فلو قيل : بالاكتفاء في نقل الضمان فيهما بالنقل عملا بمقتضى العرف والخبر الأخر ، وبتوقف البيع ثانيا على الكيل والوزن أمكن ان لم يكن احداث قول. انتهى كلامه.

أقول ما ذكره هنا من التحقيق جيد ، وبالقبول حقيق ، الا ان فيه أولا ـ ما يدل على رجوعه عما قدمه ، سيما في اعتراضه هنا على الدروس بأن الخبر الصحيح حجة عليه ، وقد تكرر في كلامه السابق على هذا الكلام المبالغة في دلالة الخبر على أن القبض في المكيل والموزون هو كيله ووزنه ، وأنه لا يتحقق القبض بدون ذلك.

وثانيا أن ما ذكره من التوقف في القول بالاكتفاء في نقل الضمان في المكيل والموزون بالنقل ، لاستلزامه احداث قول في المسألة. فيه أن ذلك مقتضى كلام الشهيد في الدروس والعلامة في المختلف الذي قدمه هنا ، حيث إنهما صرحا بان القبض

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٧١.

١٦٢

في المكيل والموزون كما يكون بالكيل والوزن ، يكون بالنقل أيضا ، وأن القبض بالنقل موجب لعدم الضمان ، وان اشتراط الكيل والوزن في بيعه ثانيا لازالة التحريم أو الكراهة ، فهو ليس بإحداث قول في المسألة ، كما ذكره.

السادس ـ قالوا وإذا تلف المبيع قبل تسليمه الى المشترى كان من مال البائع وكذا ان نقصت قيمته بحدث فيه كان للمشتري رده ، وفي الأرش تردد.

قال في المسالك : موضع التردد ما لو كان العيب من قبل الله تعالى ، ومنشؤه من تعيبه على ملك المشترى لا من قبل أحد ، ومن أنه مضمون على البائع بأجمعه ، فضمان أجزائه أولى ، فالأقوى ان له الأرش ان لم يفسخ ، ولو كان التعيب من أجنبي أو من البائع تخير المشترى بين الرجوع على المتلف بالأرش وبين فسخ العقد ، فان فسخ رجع البائع على الأجنبي بالأرش. انتهى.

أقول : أما الحكم الأول فقد تقدم الكلام فيه في المقام الثاني في أحكام الخيار (١) وبينا ثمة ما فيه من الاشكال ، ومستنده ـ عند الأصحاب بعد الإجماع ـ رواية عقبة بن خالد المتقدمة في الموضع الأول. (٢)

وأما الثاني فلم أقف فيه على نص ، وظاهرهم الاتفاق على أنه يتخير بين رد المبيع وأخذ ثمنه ، وبين إمساكه ، وانما الخلاف في صورة اختيار الإمساك هل يمسكه بثمنه أو يرجع بالأرش على البائع فيما إذا كان العيب من جهة الله تعالى ، وقد رجح في المسالك الثاني نظرا الى أن ضمان الكل يستلزم ضمان البعض بالطريق الاولى.

ويمكن خدشه بما صرحوا به في صورة تلف الجميع من انه يبطل البيع ، وينتقل المبيع إلى البائع كما قدمنا نقله عنهم في الموضع المتقدم ذكره ، بخلاف

__________________

(١) ص ٧٧.

(٢) ص ١٥٤.

١٦٣

ما هنا ، فإنه باق على ملك المشترى ، ولعل مثل هذا لا يؤثر في الضمان.

وبالجملة فإن الحكم لما لم يكن منصوصا ـ والفرق بين الكل والبعض ظاهر مما ذكرنا ـ فالحكم بالأرش محل اشكال ، سيما مع ما حققناه في الموضع المتقدم ذكره ، من ان قضية العقد كون المبيع ملكا للمشتري ، وقضية كونه ملكا للمشتري أن تلفه منه وان كان في يد البائع ، والأصل عدم الضمان على البائع بعد انتقال المبيع عنه الا بالتفريط ولو بمنعه المالك.

السابع ـ قد صرحوا بأنه إذا حصل للمبيع نماء قبل القبض كالنتاج أو ثمرة النخل أو اللقطة كلقطة العبد التي يمكن تملكها ولو بعد التعريف كان ذلك للمشتري ، فإن تلف الأصل سقط الثمن عن المشترى ان لم يدفعه ، والا استرجعه وله النماء ، ولو تلف النماء من غير تفريط لم يلزم البائع دركه.

أقول : أما الحكم الأول فيجد لان المبيع بالعقد ينتقل الى ملك المشترى قبضه أو لم يقبضه ، فكذا نماؤه ، وهكذا الثمن أيضا ، فإنه بالعقد ينتقل إلى البائع ونماؤه تابع له أيضا.

وأما الثاني ـ فهو مبنى على القاعدة المتفق عليها عندهم ، وهو أن المبيع قبل القبض مضمون على البائع ، وعلى أن التلف انما يبطل البيع من حينه ، كما هو المشهور عندهم ، فيكون النماء السابق على وقت التلف وما في حكمه كلقطة العبد للمشتري وأما لو قلنا بأنه يبطله من أصله كما تقدم نقله احتمالا عن العلامة فهو ، للبائع.

وأما الثالث. فوجهه ان النماء في يد البائع أمانة لا يضمنها الا مع التفريط اقتصارا فيما خالف الأصل ـ وهو ضمان مال الغير مع عدم العدوان ـ على ما دل عليه الدليل.

الثامن ـ لو باع جملة فتلف بعضها فظاهر بعض الأصحاب هو التفصيل هنا بأنه ان كان للتالف قسط من الثمن كان المشترى مخيرا بين فسخ العقد ، وبين

١٦٤

الرضا بالباقي بحصته من الثمن ، وان لم يكن له قسط كان المشترى مخيرا بين الرد ، أو أخذه بجملة الثمن.

قال في المسالك : ضابط الأول ما يمكن افراده بالبيع ، كأحد العبدين والقفيزين ، والثاني مالا يمكن افراده كيد العبد ، والفرق بينهما الموجب لاختلاف الحكم ان الأول لا يبقى مع فواته أصل المبيع بل بعضه ، والثاني يبقى معه أصل المبيع ، والجزء التالف بمنزلة الوصف كيد العبد ونحوها من أعضائه التي فواتها لا يخل ببقاء العبد. انتهى.

ونحوه كلام المحقق الشيخ على (قدس‌سره) في شرح القواعد ، ومقتضى كلام أصحاب هذا القول أنه لا أرش في الصورة الثانية ، بل يكون مخيرا بين الرد والأخذ بمجموع القيمة ، لأن الفائت هنا لاقسط له من الثمن فلا أرش ، لأن الأرش هو مقدار حصته من الثمن.

وظاهر جملة من الأصحاب ـ وقيل : انه هو المشهور وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الشيخ على في تعليقاته على الشرائع ، وفي شرح القواعد ـ هو وجوب الأرش في الصورة المذكورة.

قالوا : لأن القيمة ـ تزيد بوجوده ، وتنقص بعدمه ، وفواته من أظهر العيوب وأبينها ، للقطع بأن المبيع هو المجموع ، وقد فات بعضه فيتخير بين الرد لتبعيض الصفقة ، والأخذ بالأرش ، وظاهر كلامه في المسالك (١) ان الأمر كذلك في الصورة الأولى أيضا ـ وهو ماله قسط من الثمن ويمكن أفراده بالبيع ـ من أنه يتخير بين الرد لتبعيض الصفقة ، والأخذ بالأرش ، والظاهر أنه ليس الأمر كذلك ، بل الحكم هنا مع عدم الفسخ انما هو تقسيط الثمن على الجزء الفائت والباقي ، وأخذ الباقي بقسطه من الثمن ، وظاهر كلام المحقق المتقدم ذكره اختصاص الكلام بالصورة الثانية أيضا ، وان الحكم في الصورة الأولى انما هو ما ذكرناه ، وبه صرح في الدروس أيضا حيث قال : ولا إشكال في توزيع الثمن على العينين فصاعدا لو تلف بعضها ،

__________________

(١) حيث قال : بعد ذكر القول الأول الذي اختاره المصنف : والأقوى ثبوت الأرش فيه كالأول الى أن قال : ولان المبيع هو المجموع ، وقد فات بعضه فيتخير المشترى بين الرد لتبعيض الصفقة في الموضعين والأرش. انتهى منه رحمه‌الله.

١٦٥

وله الفسخ. انتهى ، وبالقول الأول أفتى المحقق في الشرائع ، وتنظر العلامة في القواعد في ثبوت الأرش في الصورة الثانية.

أقول : ومما يؤيد القول الثاني هنا هو أنهم قد صرحوا في باب العيب الموجب للخيار والأرش بأنه عبارة عن كل ما خرج عن أصل الخلقة الطبيعية بزيادة عضو أو نقصانه ، ومنهم المحقق في الشرائع الذي نفى الأرش هنا حيث قال : القول في أقسام العيوب ، والضابط أن كلما في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب ، والزيادة كالإصبع الزائدة ، والنقصان كفوات عضو الى آخره ، وهو ظاهر فيما قلناه ، والمسألة المفروضة هنا أحد جزئيات هذه القاعدة ، فيكون الحكم فيها هو الأرش ـ مع عدم الفسخ ، لا الأخذ بالقيمة ، كما ذكروه.

وبما حققناه في المقام يظهر لك ما في كلام المحقق الأردبيلي (طاب ثراه) هنا حيث قال ـ في أثناء البحث في المسألة المتقدمة في الموضع السادس ـ ما لفظه : والظاهر عدم الفرق بين حدوث عيب ونقص شي‌ء وجزء له قسط من الثمن ، مع عدم صحة إيقاع العقد عليه ، مثل يد العبد ورجله ، وأما فوات الجزء الذي له قسط منه ويصح العقد عليه كموت عبد من عبدين ، فالظاهر أنه يبطل في الميت ، فيسقط ويسترد قيمته ، مثل ما قيل في أمثاله ، وفي الأخر يثبت الخيار للمشتري بين الفسخ وأخذ الثمن ، والرضا به بقيمته من غير شي‌ء ، لتبعيض الصفقة.

ولعله يفهم عدم الخلاف عندنا من التذكرة ، فإن فيه أولا أن صحة إيقاع العقد عليه مستقلا وعدم الصحة انما جعل ضابطا لما له قسط من الثمن ، وما ليس له قسط ، فكلما له قسط من الثمن يصح إيقاع العقد عليه مستقلا ، كأحد العبدين ، وما لم يكن كذلك ـ كيد العبد ـ لا يصلح إيقاع العقد عليه مستقلا.

والضابط الأخر لذلك أيضا هو ما لا يبقى معه أصل المبيع ، كالعبد من العبدين ، وما يبقى كيد العبد مثلا ، فيد العبد لا قسط لها من الثمن على كل من الضابطتين ، لأنها لاتباع مستقلة ، وانه يبقى معها أصل المبيع ، وهو قد حكم بأن لها قسطا من الثمن مع عدم صحة إيقاع العقد عليها وهو خروج عن الضابط الأول.

وثانيا أن ما ذكره من عدم الخلاف مع ما عرفت من أن القول بالأرش قد صرح به جملة منهم ، بل هو المشهور كما ذكره بعضهم ، وان العلامة في القواعد قد توقف في ذلك.

١٦٦

قالوا هذا كله إذا كان الفائت جزا من المبيع ، وأما لو كان وصفا محضا ، كما لو كان العبد كاتبا فنسي الكتابة قبل القبض ، فللمشتري الرد خاصة ، أو الإمساك بجميع الثمن ، لأن الفائت ليس جزا للمبيع ، ومن ثم لو شرط كونه كاتبا فظهر بخلافه لم يستحق سوى الرد.

التاسع إذا باع شيئا فغصب من يد البائع ، فإن أمكن استعادته من الغاصب في زمن يسير ، بحيث لا يفوت فيه منفعة مقصودة يستلزم فواتها نقصا معتبرا ، أو فوات غرض مقصود للمشتري ، فليس للمشتري الفسخ ، ويجب على البائع استعادته مع الإمكان ، لأن التسليم واجب عليه ، ولا يتم الا بذلك ، وان تعذرت استعادته أو أمكنت ، لكن بعد مضى زمان يفوت فيه ما ذكرنا من المنافع المقصودة ، والأغراض المطلوبة ، فإن للمشتري الخيار حينئذ بين الفسخ والرجوع الى ثمنه ، وبين الرضا بالبيع وانتظار حصوله ، وله الانتفاع بما لا يتوقف على القبض ، كعتق العبد ونحوه.

ثم ان تلف في يد الغاصب فهو مما تلف قبل القبض ، فيبطل البيع ولو مع رضائه بالصبر ، ويحتمل أن يكون الرضاء به قبضا ، ونحوه ما لو رضى به في يد البائع ، ولو امتنع البائع من تسليمه فللمشتري الأجرة إذا سلمه بعد مدة تلزم فيها الأجرة لو كان له أجرة ، ويحتمل ان يكون له الفسخ كما في أخذ الغاصب له ظلما ، لانه غاصب في هذه الحال.

ولو حبسه لنقد الثمن فان ذلك له على ما يظهر من الأصحاب ، فلا أجرة له حينئذ ، وقد تقدم الكلام في ذلك في صدر هذا المقام ، وكل موضع يجوز الحبس والمنع فنفقة المبيع على المشترى ، لأنه ماله وله نماؤه ، وان لم يمكن من قبضه يكون في ضمان البائع.

١٦٧

العاشر ـ اختلف الأصحاب في بيع ما يكال أو يوزن قبل قبضه ، فعن الشيخ المفيد أنه يكره ذلك فيما يكال أو يوزن ، وليس بمفسد للبيع ، ولا مانع من مضيه ، ونحوه الشيخ في النهاية ، وقال في المبسوط : إذا ابتاع شيئا وأراد بيعه قبل قبضه ، فان كان طعاما لم يجز بيعه حتى يقبضه إجماعا ، فأما غير الطعام من سائر الأموال فإنه يجوز بيعه قبل القبض ، ونحوه قال في الخلاف في موضع ، يجوز بيع ما عدا الطعام قبل أن يقبض.

وقال ابن أبى عقيل : كل من اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فباعه قبل أن يقبضه فالبيع باطل ، وان كان مما لا يكال أو يوزن فباعه من قبل أن يقبضه فالبيع جائز ، والفرق بينهما أن السنة جائت عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بإبطال بيع الطعام وجميع ما يكال ويوزن قبل القبض ، واجازه فيما سوى ذلك ، واختار ابن البراج في المهذب قول الشيخ في المبسوط ، وفي الكامل قوله في النهاية.

وعن ابن حمزة أنه منع من بيع الطعام قبل القبض ، سواء كان بيعا أو قرضا ، وغير الطعام جوز بيعه قبل القبض على كل حال ، الا أن يكون سلفا.

قال الصدوق في المقنع : لا يجوز أن يشترى الطعام من بيعه قبل أن يكتاله ، وما لم يكن فيه كيل ولا وزن فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه ، وقال في موضع آخر منه : ولا بأس أن يشترى الرجل النخل والثمار ثم يبيعه قبل أن يقبضه ، وروي في حديث «أنه لا بأس أن يشترى الطعام من بيعه قبل أن يقبضه ويوكل المشترى بقبضه».

وقال أبو الصلاح : يصح بيع ما استحق تسليمه قبل أن يقبضه ، وينوب قبض الثاني عن الأول وأطلق.

والمشهور بين المتأخرين من المحقق والعلامة ومن بعدهما هو القول بالجواز

١٦٨

على كراهة ، والاخبار في المسألة على غاية من الاختلاف والاضطراب ، فلا بد من بسطها ونقلها ليظهر ما هو حقيقة الحق منها والصواب ، بتوفيق الملك الوهاب ، وبركة أهل الذكر الأطياب.

فمن الأخبار الدالة على القول بالتحريم ما رواه الصدوق في الصحيح عن منصور بن حازم (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه ، الا أن توليه ، فان لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه». قال في الفقيه بعد هذه الرواية : يعني أنه يؤكل المشترى بقبضه.

وظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في الوسائل أن هذه الزيادة من أصل الرواية ، حيث أدرجها فيها (٢) وهكذا نقلها في المختلف أيضا عن الفقيه ، والأقرب انها من كلام صاحب الفقيه ، كما يظهر من المحدث الكاشاني في الوافي ، حيث لم ينقلها في الرواية.

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن الحلبي (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «انه قال في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكتال ، قال : لا يصلح له ذلك».

وما رواه في التهذيب أيضا بسند آخر في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله وأبى صالح (٤) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، وزاد وقال : «لا تبعه حتى تكيله».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٢٩ التهذيب ج ٧ ص ٣٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٧٨ التهذيب ج ٧ ص ٣٦.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٦.

١٦٩

وما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح عن الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قوم اشتروا بزا فاشتركوا فيه جميعا ولم يقتسموه أيصلح لأحد منهم بيع بزه قبل أن يقبضه؟ قال : لا بأس به ، وقال : ان هذا ليس بمنزلة الطعام ، لان الطعام يكال».

وما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح في الكتاب الأول عن منصور (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل اشترى بيعا ليس فيه كيل ولا وزن ، إله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه؟ فقال : لا بأس بذلك ما لم يكن فيه كيل ولا وزن ، فان هو قبضه فهو أبرأ لنفسه».

وما رواه في التهذيب عن معاوية بن وهب (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ فقال : ما لم يكن كيل أو وزن فلا يبيعه حتى يكيله أو يزنه ، الا أن يوليه بالذي قام عليه».

وعن سماعة في الموثق (٤) قال : «سألته عن الرجل يبيع الطعام أو الثمرة ، وقد كان اشتراها ولم يقبضها قال : لا حتى يقبضها ، الا أن يكون معه قوم يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح ، أو يوليه بعضهم فلا بأس».

وروى في التهذيب (٥) قال : «وسأل على بن جعفر أخاه موسى بن جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يشترى الطعام أيصلح بيعه قبل أن يقبضه؟ قال : إذا ربح لم يصلح حتى يقبض ، وان كان يوليه فلا بأس ، وسأله عن الرجل يشترى الطعام أيحل له أن يولى منه قبل أن يقبضه؟ قال : إذا لم يربح عليه شي‌ء فلا بأس ، فإن ربح فلا يصلح حتى يقبضه».

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ١٣٦ التهذيب ج ٧ ص ٥٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٥.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ٣٦.

١٧٠

وطريق الشيخ في التهذيب الى على بن جعفر صحيح ، فتكون الرواية صحيحة ، فما ذكره في المسالك من أن الشيخ. ذكرها في التهذيب بغير اسناد وجعلها بذلك ضعيفة ، غفلة مما ذكرناه.

ورواه على بن جعفر في كتابه ورواه الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن على بن جعفر (١) مثله.

وعن أبى بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل اشترى طعاما ثم باعه قبل أن يكيله؟ قال : لا يعجبني أن يبيعه كيلا أو وزنا قبل أن يكيله أو يزنه ، الا أن يوليه كما اشتراه ، فلا بأس أن يوليه كما اشتراه إذا لم يربح فيه أو يضع ، وما كان من شي‌ء عنده ليس بكيل ولا وزن فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه».

أقول : وهذه الاخبار كلها كما ترى ظاهرة الدلالة على القول المذكور ، ومقتضاها تصريحا في بعض وتلويحا في آخر عموم الحكم للمكيل والموزن ، لا بخصوص الطعام.

ويؤيدها أيضا ما رواه في الكافي عن على بن أبي حمزة (٣) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يشترى متاعا ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال : لا بأس».

وجملة من هذه الاخبار قد دلت على النهي الذي هو حقيقة في التحريم ،

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ٩.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٧ الوسائل الباب ـ ١٦ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ ١٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٠٠ الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام. العقود الرقم ـ ٨.

١٧١

كصحيحة منصور بن حازم (١) وصحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله وابى صالح (٢) وصحيحة معاوية بن وهب (٣) وموثقة سماعة (٤).

وما عدا هذه الاخبار فإنها وان لم تكن مثلها في الصراحة ، الا أنها بمعونة هذه الاخبار ظاهرة تمام الظهور؟ خصوصا لفظ لا يصلح ، فان ذكر هذه الألفاظ ـ في ضمن هذا السياق الذي سيقت عليه الاخبار الناهية الصريحة في التحريم ـ قرينة ظاهرة على أن المراد بها ما أريد بالنهي ـ في تلك الاخبار ـ التحريم ، وان كانت في حد ذاتها أعم من ذلك ، كما لا يخفى على المنصف المتدرب.

ثم انه لا يخفى أن جملة من هذه الاخبار قد دلت على استثناء التولية فيجوز البيع قبل القبض في هذه الصورة ، وفي بعضها تخصيص المنع بالربح ، فيفهم منه الجواز مع المواضعة ، الا أن عجز صحيحة على بن جعفر صريح في المنع مع المواضعة أيضا ، وحينئذ فيحمل ما دل على ذكر الربح على مجرد التمثيل دون التخصيص ، فيختص الجواز بالتولية خاصة ، كما هو مفاد أكثر الاخبار ، ويجب حمل الأخبار الدالة على النهى مطلقا على غير التولية جمعا.

استدل القائلون بالجواز ـ ومنهم المحقق الأردبيلي ، فإنه قد أطال في ذلك ، ونحن ننقل كلامه ملخصا ، فإنه قد بالغ في نصرة القول المشهور بين المتأخرين بجدة وجهده ، فاستدل ـ بعموم القرآن والاخبار الدالة على جواز البيع ، والأصل ، وبأن الناس مسلطون على أموالهم ، وحصول التراضي مع عدم المانع عقلا ، وعدم الخروج عن قانون وقاعدة.

وصحيحة منصور بن حازم (٥) عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) «في رجل أمر

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٦ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم – ١ – ١٤ – ١١ ـ ١٥.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٥٠.

١٧٢

رجلا يشترى له متاعا فيشتريه منه؟ قال : لا بأس بذلك ، انما البيع بعد ما يشتريه».

وصحيحة محمد بن مسلم (١) عن ابى جعفر (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل أتاه رجل فقال : ابتع لي متاعا لعلى أشتريته منك بنقد أو نسبة فابتاعه الرجل من أجله قال : ليس به بأس ، إنما يشتريه منه بعد ما يملكه». فان قوله بعد التملك ، وبعد الشراء كالصريح في الجواز قبل القبض مطلقا ، فافهم.

ويدل عليه أيضا صحيحة محمد الحلبي (٢) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام).

قال : «سألته عن الرجل يشتر الثمرة ثم يبيعها قبل ان يأخذها؟ قال : لا بأس به ان وجد ربحا فليبع».

وصحيحة محمد بن مسلم (٣) عن أحدهما (عليهما‌السلام) «انه قال في رجل اشترى الثمرة ثم يبيعها قبل أن يقبضها قال : لا بأس».

ولا يخفى أن الثمرة مكيل ، بل طعام على بعض الإطلاقات ، والأول صريح في الجواز مع إرادة المرابحة ، فيحمل ما يدل على عدم جوازها على شدة الكراهة للجمع ، فتأمل.

ويؤيد الجمع رواية أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) اشترى طعاما قبل أن يكيله؟ قال : ما يعجبني» الحديث. كما قدمنا نقله (٤).

ثم قال : وهذه صريحة في الكراهة مرابحة ، وكراهة المكيل والموزون قبل القبض ، وعدم البأس في غيرهما.

وكذا ما في رواية ابن الحجاج الكرخي (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام):

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٥١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٨٩.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٨٩.

(٤) ص ١٦٠.

(٥) التهذيب ج ٧ ص ٣٩ الفقيه ج ٣ ص ١٣١.

١٧٣

اشترى الطعام إلى أجل مسمى ، فبطلبه التجار بعد ما اشتريته قبل أن أقبضه؟ قال : لا بأس أن تبيع إلى أجل كما اشتريت» الى آخره.

وكذا رواية جميل بن دراج (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يشترى الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه؟ قال : لا بأس ، ويوكل الرجل المشترى منه بكيله وقبضه؟ قال : لا بأس».

ويؤيده أيضا أن أكثر أخبار المنع وردت بلفظ لا يصلح ، وهو ظاهر في الكراهة وليست بصريحة في التحريم ، والتي بغير لفظ لا يصلح ليست أيضا بصريحة في التحريم قبل القبض ، مثل رواية معاوية الاتية ، لان فيها النهي عن البيع قبل الكيل ، ومع الإجمال في قوله «الا أن توليه ، الذي قام عليه».

نعم رواية منصور ظاهرة فيه ، ويمكن تأويلها ، وبالجملة الأدلة التي أفادت العلم لا ينبغي الخروج عنها الا بدليل قوى. انتهى ملخصا.

أقول : لا يخفى ما فيه على المنصف النبيه من التكلف والخروج عن القواعد المقررة والضوابط المعتبرة ، أما ما استدل به أولا من الأصل وعمومات القرآن والاخبار وأن الناس مسلطون على أموالهم ، ففيه أن ما دلت عليه الاخبار المذكورة خاص ، ومقتضى القاعدة تخصيص تلك العمومات به ، والأصل يجب الخروج عنه بالدليل ، وهو موجود بالتقريب الذي قدمناه ذيل تلك الاخبار.

وبذلك يظهر لك ما في قوله ـ وعدم الخروج من قانون وقاعدة ـ وكيف لا يكون فيما ذهب اليه خروج عن قاعدة ، ومورد هذه الاخبار أخص مما استدل به من العمومات ، وقاعدة المسألة تقتضي الحكم بالخاص على العام ، والمقيد على المطلق.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٦ الكافي ج ص ١٧٩.

١٧٤

وأما صحيحة منصور بن حازم وصحيحة محمد بن مسلم فالقول فيهما كذلك أيضا ، فإن المبتاع فيهما مطلق ، شامل بإطلاقه للمكيل والموزون وغيرهما ، والواجب تخصيصهما بما عدا المكيل والموزون ، كما أفصحت به صحيحة منصور ابن حازم التي هي أول تلك الاخبار ، من قوله (عليه‌السلام) «إذا اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن» الى آخره ، فإنها قد فصلت بين المتاع المكيل والموزون وغيرهما ، وبه يجب الحكم على إطلاق الخبرين المذكورين.

ونحوها صحيحة الأخرى وغيرها ، وبه يتأكد ما أوردنا على قوله «وعدم الخروج عن قانون وقاعدة».

وأما صحيحة محمد الحلبي وصحيحة محمد بن مسلم الواردتان في بيع الثمار فهما ليسا من محل البحث في شي‌ء ، حيث أن الظاهر من الاخبار من المكيل والموزون هنا انما هو ما أمكن كيله ووزنه بالفعل ، لا بالقوة ، قريبة أو بعيدة ، والثمرة انما هي من قبيل الثاني ، ومع أنهما أخص من محل البحث ، ومعارضتان بموثقة سماعة المتقدمة.

وبذلك يظهر ما في قوله «ولا يخفى أن الثمرة مكيل» فإنه ان أراد بالفعل فهو ليس كذلك ، كما هو ظاهر لكل ناظر ، وان أراد بالقوة فهو ليس محل البحث الذي دلت عليه الاخبار.

وأما رواية أبي بصير وقوله (عليه‌السلام) فيها «ما يعجبني» فهو أعم من التحريم والكراهة ، وهذا اللفظ يساوق قولهم في مواضع «ما أحب» الذي قد وقع استعماله في التحريم في مواضع ، وسياق الخبر الى آخره ظاهر في ذلك.

وبذلك يظهر ما في قوله «وهذه صريحة في الكراهة» ، وما أدرى من أين حصلت له هذه الصراحة مع الإجمال في اللفظ المذكور ، ودلالة السياق على ما ذكرنا من التحريم ، وأن سياق هذه الرواية سياق الروايات الصريحة في التحريم بالنهي

١٧٥

عن ذلك ، فهذا اللفظ هنا مراد به ما دلت عليه تلك الألفاظ الصريحة في النهي.

وأما رواية ابن الحجاج الكرخي ـ فهي مع ضعفها وقصورها عن معارضة ما قدمناه من الاخبار ـ مخصوصة بما إذا اشترى الطعام بثمن مؤجل ، وأراد بيعه مرابحة بثمن مؤجل ، حيث أنه لا يصح نقدا لأن الأجل له قسط من الثمن ، فموردها أخص من محل البحث ، فلا تنهض حجة على تمام المدعى.

وأما رواية جميل فهي ظاهرة فيما ادعى ، لكنها لا تبلغ قوة المعارضة لما قدمناه من الاخبار.

وكيف كان فإنه قد ظهر بما قررناه أنه ليس في الاخبار ما يدل على هذا القول المشهور بينهم إلا رواية جميل المذكورة على ما هي عليه من الضعف ، والا فقد عرفت حال ما عداها ، وبذلك يظهر ما في قوله «وبالجملة الأدلة التي أفادت العلم لا ينبغي الخروج عنها الا بدليل قوي» فإنه مجرد دعوى خالية من الدليل ، بعد ما عرفت من أحوال أدلته التي هي من هذا القبيل.

ثم أنه قال (قدس‌سره) : ثم انه يمكن حمل أخبار المنع مع ما عرفت فيها من عدم التصريح بالنهي والتحريم ، وإمكان التأويل للجمع المذكور على عدم وقوع الكيل والوزن في الشراء الأول ، وهي ليست بصريحة في وجودها الى آخر كلامه.

أقول : انظر الى هذا الكلام المنحل الزمام ، والمختل النظام ، الذي هو من أضعف الأوهام ، أما أولا فمن حيث إنكاره النهي عن ذلك ، وقد عرفت الأخبار الصحيحة الصريحة في النهي الذي هو حقيقة في التحريم.

وأما ثانيا فمن حيث حمله للاخبار النهى على عدم وقوع الكيل والوزن في الشراء الأول ، مع أن هذا هو موضوع المسألة ، ومحل الخلاف الذي اختلف

١٧٦

فيه الأقوال والاخبار ، لان موضوع المسألة انه هل يجوز بيع المكيل والموزون ثانيا قبل قبضه من البائع الأول أم لا؟ والقبض في المكيل والموزون هو كيله ووزنه لأجل القبض ، كما عرفت. والروايات بعضها بلفظ عدم القبض ، وبعضها بلفظ الكيل والوزن ، والمرجع إلى أمر واحد.

ورواية جميل التي اعتمدها دليلا على الجواز ، صريحة في جواز بيعه قبل قبضه ، وأن يوكل المشتري الثاني في القبض عنه ، ليقبض وكالة عنه ، ويقبض لنفسه ، فهو وكيل في القبض والإقباض ، وهو صريح في جواز البيع قبل الكيل والوزن.

وبالجملة فإن كلام هذا المحقق هنا لا يخلو عن غفلة واستعجال ، وعدم تأمل فيما سطره من المقال ، لظهور ما فيه من الاختلال ، هذا والعجب أن من قواعد أصحاب هذا الاصطلاح الدوران مدار الأخبار الصحيحة الأسانيد ، والعمل بها ، وطرح ما عارضها ، وأنهم لا يجمعون بين الاخبار الا بعد التساوي في الصحة ، وإلا فتراهم يطرحون الضعيف من البين ، ولم أقف على من وقف على هذه القاعدة هنا الا قليل منهم.

قال في المسالك بعد ـ أن نقل الاستدلال على الجواز بخبري جميل وابن الحجاج الكرخي ، وعلى العدم بصحاح الحلبي ومنصور بن حازم ومعاوية بن وهب ، ونقل عنهم الجمع بين الاخبار ، بحمل اخبار المنع على الكراهة ـ ما لفظه : وهذا الجمع انما يتم لو كانت الاخبار متكافئة في وجوب العمل بها ، لكن الأمر هنا ليس كذلك ، لان اخبار المنع صحيحة متظافرة ، وخبر التسويغ في طريق أولهما على بن حديد وهو ضعيف ، والأخر مجهول ، فالقول بالمنع أوضح ، وهو خيرة العلامة في التذكرة والإرشاد ، والشيخ في المبسوط ، بل ادعى عليه الإجماع جماعة من الأصحاب. انتهى.

وهو جيد هذا مع ما عرفت في غير موضع مما تقدم ما في الجمع بين الاخبار بالكراهة والاستحباب ـ كما هو القاعدة المطردة عندهم في جميع الأبواب ـ من عدم الدليل على ذلك ، من سنة ولا كتاب ، بل عدم الاستقامة في حد ذاته ، كما لا يخفى

١٧٧

على المنصف من أولى الألباب ، لأن الاستحباب والكراهة حكمان شرعيان يتوقفان على الدليل الواضح ، ومجرد اختلاف الاخبار ليس بدليل على ذلك. وأيضا فإن الأصل في الأمر الوجوب ، وفي النهي التحريم ، كما حققه المحققون في الأصول ، وعليه دلت الآيات والروايات كما سلف تحقيقه في المقدمات (١) من أول كتاب الطهارة وحملهما على غير ذلك مجازا يتوقف على القرينة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز.

وأنت إذا تدبرت في أخبار المسألة نفيا وإثباتا ظهر لك ان الحكم بالتحريم كان شائعا في الصدر الأول بين أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) كما يشير إليه رواية على بن أبي حمزة ، وصحيحة الحلبي المشتملة على شراء البر ، وصحيحة منصور الثانية ، فإنها تشعر بتوهم سريان التحريم الى غير المكيل والموزون ، فحصل السؤال عنه وهو يشعر بشهرة الحكم بالتحريم في الموزون والمكيل حتى توهم إلحاق غيرهما بهما ، كما لا يخفى (٢).

وبالجملة فالظاهر عندي هو القول بالتحريم إلا في صورة التولية ، كما نصت عليه الاخبار المتقدمة ، وارتكاب التأويل في خبري ابن الحجاج وجميل المذكورين ان أمكن ، والا فالرد إلى قائلهما.

فوائد ـ الاولى لو باع على تقدير القول بالتحريم مطلقا أو في غير التولية ، هل يقع البيع باطلا ، أو يصح وان أثم وصرح بالأول ابن ابى عقيل في عبارته المتقدمة في صدر المسألة ، وبالثاني قطع العلامة في المختلف. فقال : ولو قلنا بالتحريم لم يلزم بطلان البيع ، ولم يتعرض الى دليل في المقام ، وكأنه مبني على ما اشتهر عندهم من أن النهى في المعاملات لا يقتضي الفساد ، انما ذلك في العبادات ، والحق

__________________

(١) ص ج ١ ص ١١٢.

(٢) أقول ملخص الأقوال هنا ثلاثة ، الجواز مطلقا ، والمنع مطلقا ، والتفصيل بين التولية وغيرها فيجوز فيها ويحرم في غيرها. منه رحمه‌الله.

١٧٨

في ذلك هو التفصيل الذي قدمنا ذكره في كتاب الصلاة (١) وتقدمت الإشارة إليه أيضا قريبا من أنه ان كان النهي في المعاملات من حيث عدم صلاحية المعقود عليه للدخول تحت العقد ، فالأظهر بطلان العقد ، وان كان بسبب أمر خارج فالأظهر الصحة ، والظاهر أن ما هنا من قبيل الأول ، وهو اختياره في المسالك ـ أيضا ـ قال : ويؤيده أن النهى هنا راجع الى نفس البيع ، فيبطل كبيع المجهول ونحوه ، ولتعلق النهى فيه بمصلحة لا تتم إلا بإبطاله.

الثانية ـ أكثر الأصحاب جعلوا محل الخلاف هو الطعام ، والظاهر من الاخبار المقدمة بالنظر الى حمل مطلقها على مقيدها وعامها على خاصها هو المكيل والموزون مطلقا ، وسياق جملة من الاخبار المتقدمة ظاهر في ذلك أوضح الظهور ، وذكر الطعام في بعض انما خرج مخرج التمثيل ، لأنه أشهر أفراد المكيل والموزون ، وأكثرها دورانا في المعاملات.

ثم انه على تقدير الاختصاص بالطعام فهل المراد به كلما أعد للأكل ـ كما هو موضوعه لغة ـ أو يختص بالحنطة والشعير لانه معناه شرعا؟ كما نبهوا عليه في موارد ، منها حل طعام أهل الكتاب ـ قولان : وبالثاني صرح فخر المحققين في بعض فوائده على ما نقلوه عنه ، وفي دعوى اختصاص طعام أهل الكتاب بالحنطة والشعير نظر ، إذ الظاهر من الاخبار الشمول لجميع الأفراد الموزونة من الحبوب مثل العدس والذرة ونحو ذلك.

الثالثة : لو ملك ما يريد بيعه بغير بيع جاز وان لم يقبضه ، كالميراث والصداق للمرأة والخلع ونحوها.

قال في المسالك : المنع على القول به مشروط بأمرين ـ انتقاله بالبيع ، ونقله به ، فلو انتقل بغيره أو نقله بغيره لم يحرم ، أما الأول فلا نعلم فيه خلافا ، واما

__________________

(١) ج ٧ ص ١٠٥.

١٧٩

الثاني فهو المشهور ، غير أن الشيخ ألحق به الإجارة ، محتجا بأنه ضرب من البيوع ، وهو ممنوع ، وكذلك منع من الكتابة ، بناء على أنها بيع العبد من نفسه ، وهو مع تسليمه لا يستلزم المنع ، لان العبد ليس مما يكال أو يوزن ، وغاية المنع عندنا ان يكون المبيع مقدرا بهما. انتهى.

ثم انه على تقدير الجواز في الميراث ونحوه مما تقدم ، قد استثنى بعضهم من ذلك صورا منها ـ ما إذا اشترى الميت قبل الموت مكيلا أو موزونا ولم يقبضه ، فإنه لا يجوز للوارث بيعه قبل قبضه ، ورد بأن انتقاله الى الوارث بالإرث واسطة بين البيعين.

ومنها في الصداق إذا اشترى المصدق الصداق مثلا ولم يقبضه ، وأصدقه المرأة قبل القبض ، وأرادت المرأة بيعه والحال كذلك ، وأجيب عنه بما أجيب عن سابقه ، فان إصداقه للمرأة واسطة بين البيعين ، وهكذا القول في عوض الخلع إذا اشترته المرأة ولم تقبضه ، ثم جعلته عوضا للخلع ، وأراد الزوج بيعه والحال كذلك ، فان جعله عوضا للخلع واسطة بين البيعين أيضا ، فالاستثناء غير واضح لثبوت الواسطة في الجميع.

الحادي عشر ـ المشهور أنه لو كان له على غيره طعام من سلم ، وعليه مثل ذلك ، فأمر غريمه ان يكتال لنفسه من الأخر ، فإن قلنا بتحريم بيع ما لم يقبض حرم هنا أيضا ، وان قلنا : بالكراهة اكره هنا أيضا ، ذكر ذلك الشيخ في الخلاف والمبسوط ، وتبعه الجماعة لأن المحتال قبض المحال عوضا عن ماله قبل أن يقبضه صاحبه ، فيكون من قبيل بيع ما لم يقبض ، وقيل : بأن هذا ليس من تلك المسألة في شي‌ء ، لما عرفت من أن المنع من بيع ما لم يقبض تحريما أو كراهة مشروط بشرطين ، انتقاله بالبيع ، ونقله به ، وما ذكر في هذا الفرض وان كان تبعا من حيث أن السلم فرد من أفراده ، الا ان الواقع من أسلم إما حوالة لغريمه في القبض ، أو وكالة له فيه ، وكل منهما ليس ببيع ، ودعوى أن الحوالة ملحقة بالبيع في حيز المنع.

١٨٠