الحدائق الناضرة - ج ١٩

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

أقول : ما ذكره شيخنا (قدس‌سره) من عدم الفرق هنا بين المدة القصيرة والطويلة ـ هو المشهور في كلام الأصحاب ، ونقل عن ابن الجنيد أنه منع من أقل من ثلاثة أيام في السلف ، ومن أكثر من ثلاث سنين مطلقا.

والذي وقفت عليه هنا من الاخبار ما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد (١) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : انى أريد الخروج الى بعض الجبال فقال : ما للناس بد من أن يضطربوا سنتهم هذه ، فقلت له : جعلت فداك انا إذا بعناهم بنسيئة كان أكثر للربح ، قال : فبعهم بتأخير سنة ، قلت : بتأخير سنتين؟ قال : نعم ، قلت بتأخير ثلاث؟ قال : لا».

وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن أحمد بن محمد ابن عيسى عن احمد بن محمد بن ابى نصر (٢) «أنه قال لأبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) ان هذا الجبل قد فتح على الناس منه باب رزق ، فقال : ان أردت الخروج فاخرج فإنها سنة مضطربة ، وليس للناس بد من معاشهم ، فلا تدع الطلب ، فقلت : انهم قوم ملاء ونحن نحتمل التأخير فنبايعهم بتأخير سنة؟ قال : بعهم ، قلت : سنتين؟ قال : بعهم قلت : ثلاث سنين؟ قال : لا يكون لك شي‌ء أكثر من ثلاث سنين».

ولعل ابن جنيد استند الى ذلك ، وان كانت أقواله في جل الأحكام بعيدة المداعن أخبارهم (عليهم‌السلام) والظاهر حمل الخبرين المذكورين على الكراهة لما يستلزمه من طول الأمل ، أو من حيث صعوبة تحصيله بعد هذه المدة الطويلة ، لما هو معلوم من أحوال الناس في ثقل أداء الدين ، ولا سيما إذا كان بعد أمثال هذه المدة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ١ ـ الكافي ج ـ ٥ ص ٢٠٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ ٣.

١٢١

ولو باع بثمن حالا ، وبأزيد منه مؤجلا ـ أو فاوت بين أجلين في الثمن كان يقول بعتك حالا بمائة ، والى شهر بمأتين ، أو مؤجلا إلى شهر بمائة ، والى شهرين بمائتين ـ فالمشهور البطلان ، لجهالة الثمن ، لتردده بين الأمرين. وقيل : ان للمشتري أن يأخذه مؤجلا بأقل الثمنين (١).

ويدل على هذا القول ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس (٢) عن أبى جعفر (ع) والصدوق في الفقيه عن محمد بن قيس عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : من باع سلعة فقال : ان ثمنها كذا وكذا يدا بيد ، وثمنها كذا وكذا نظرة ، فخذها بأي ثمن شئت ، وجعل صفقتهما واحدة فليس له الا أقلهما

__________________

(١) أقول : الذي وقفت عليه في كلام المتقدمين من الخلاف انما هو في الصورة الاولى : وهو البيع بثمن حالا وبأزيد مؤجلا ، ومذهب الشيخ في النهاية هو أن له أقل الثمنين وأبعد الأجلين ، والمفيد قال : لا يجوز البيع كذلك ، ثم قال : فان ابتاع انسان على هذا الشرط كان عليه أقل الثمنين في آخر الأجلين ، وعن السيد المرتضى انه مكروه ، وعن ابن الجنيد انه لا يحل ، وعن سلار انه باطل غير منعقد ، وهو قول ابى الصلاح ، وعن ابن البراج مثل مذهب الشيخ المفيد ، وظاهر كلاهما أن العقد صحيح غير لازم ، والتعبير بالبطلان كناية عن عدم لزومه ، والا فلا معنى لقولهما ان اجرى البيع على هذا الشرط ، كان الحكم ان للبائع أقل الثمنين إلى أبعد الأجلين ، وعن ابن حمزة انه لا يصح ، وعن ابن إدريس أنه لا يجوز ويبطل البيع ، وهو المشهور بين المتأخرين من العلامة والمحقق ومن تأخر عنهما. منه رحمه‌الله.

(٢) الكافي ج ٥ ـ ص ٢٠٦ الفقيه ج ٣ ص ١٧٩.

١٢٢

وان كانت نظرة» وزاد في الكافي «قال : ـ وقال على (عليه‌السلام) : من ساوم بثمنين أحدهما عاجل والأخر نظرة فليسم أحدهما قبل الصفقة».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (١) «أن عليا (عليه‌السلام) قضى في رجل باع بيعا واشترط شرطين ، بالنقد كذا وبالنسيئة كذا ، فأخذ المتاع على ذلك الشرط فقال : هو بأقل الثمنين وأبعد الأجلين ، يقول : ليس له الا أقل النقدين إلى الأجل الذي أجله بنسيئة».

والأصحاب قد ردوا هذا القول بالضعف والندور ، وروايته بالضعف والشذوذ ، حتى المحدث الكاشاني في المفاتيح ، والظاهر أنهم لن يقفوا الا على رواية السكوني ، والا فرواية محمد بن قيس صحيحة برواية الفقيه ، وحسنة لا تقصر عن الصحيح ، بناء على الاصطلاح الغير الصحيح على رواية الكافي ، إلا أن الزيادة التي في صحيحة محمد بن قيس على رواية الكافي لا تخلو من منافرة لما دلت عليه الصحيحة المذكورة ، فإن الظاهر أن المراد منها كما ذكره بعض مشايخنا (نور الله مراقدهم) هو أنه لا يجوز هذا الترديد ، بل لا بد من أن يعين أحدهما قبل العقد ويوقعه عليه.

وقال بعض المحققين : لعل معناه أن يعين كل واحد منهما قبل وقوع البيع وعلى هذا فلا منافرة في العبارة المذكورة ، وظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية اختيار هذا القول ، للخبرين المذكورين مع صحة الأول منهما وهو جيد ، الا أن ذلك غير خال من الاشكال من حيث هذه الزيادة التي في الكافي ، فإنها ظاهرة في موافقة القول المشهور بالتقريب الذي ذكرناه أولا ، وان كانت على الاحتمال الأخر غير منافية.

وظاهر جملة من الأصحاب الاستناد في رد هذا القول الى ما روى من النهى «عن بيعين واحدة» والظاهر انه اشارة الى ما رواه في التهذيب عن سليمان

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٥٣.

١٢٣

بن صالح (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن.

وعن عمار الساباطي (٢) في الموثق عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رجلا من أصحابه واليا فقال له : انى بعثتك الى أهل الله يعني أهل مكة ـ فانهيهم عن بيع ما لم يقبض ، وعن شرطين في بيع وعن ربح ما لم يضمن».

قال في الوافي قيل أريد «بشرطين في بيع» ما أريد «ببيعين في بيع» في سابقه وهو ان يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة ، ونسية بخمسة عشر ، وانما نهى عنه ، لانه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد انتهى ثم قال : وربما يفسر «بيعين في بيع» بان يقول بعتك هذا بعشرين ، على ان تبيعني ذلك بعشرة أو بما يشمل المعنيين انتهى.

أقول : ان هذين الخبرين غير خليين من الإجمال المانع من الاعتماد عليهما في الاستدلال ، والخروج بهما عن صريح الخبرين المتقدمين لا يخفى ما فيه.

نعم يبقى الإشكال في ذينك الخبرين بما ذكره المحقق الأردبيلي طاب ثراه في هذا المقام ، حيث قال ـ بعد الكلام في بيان سند الصحيحة المذكورة ـ وبالجملة الظاهر اعتبار سندها ، ولكن في مضمونها تأمل وان عمل به ، لان المالك انما رضي بالبيع بالثمن الكثير نظرة ، فكيف يلزم بأقلهما نظرة ، ومعلوم أن رضا الطرفين شرط في العقد ، «ولا يحل مال امرء الا بطيب نفسه (٣). والحاصل أن الأدلة العقلية

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ٢ التهذيب ج ٧ ص ٢٣٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ٦ التهذيب ج ٧ ص ٢٣١.

(٣) الوسائل الباب ٣ ـ من أبواب مكان المصلى الرقم ١ ـ ٣.

١٢٤

والنقلية كثيرة على عدم العمل بمضمونها فلا يعمل به وان كانت صحيحة ، فكيف العمل بها مع كونها حسنة لوجود إبراهيم بن هاشم لو سلم ما تقدم ، وان كان الظاهر ان إبراهيم لا بأس به ، وما تقدم صحيح.

وتقديم مثل هذه على الأدلة العقلية والنقلية ـ وتخصيصهما به والحكم بصحة البيع ـ لا يخلو عن شي‌ء لأجل ذلك ، لا لأنها تستلزم الجهالة والغرر كما فهم من التذكرة ، لأن دخولها تحت الغرر المنفي والجهل الممنوع غير ظاهر ، لان الاختيار اليه ، وعلى كل من التقديرين الثمن معلوم ، على أنه قد تقرر أن الأجل بالأقل ، ولا لأن في سندها جهالة وضعفا كما في شرح الشرائع. لأن ذلك غير ظاهر ، بل الظاهر ما عرفت ، فينبغي أما العمل بمضمونها وفيه بعد ، واما تأويلها فتأمل انتهى وهو جيد.

والروايتان المذكورتان وان كان موردهما مخصوصا بما إذا كان البيع بثمن حال ومؤجل ، الا أن الأصحاب عدوهما أيضا الى ما إذا باع الى وقتين متأخرتين بتفاوت بين الثمنين من حيث قرب الأجل وبعده ، كما تقدم ، وأنت خبير بما فيه.

المسألة الثانية المشهور بين الأصحاب أنه لو اشتراه البائع في حال كون البيع الأول نسيئة صح البيع الثاني ، سواء كان قبل الأجل أو بعده ، بجنس الثمن وغيره ، بزيادة أو نقيصة ، وقيل : بالتحريم في ما إذا كان البيع بجنس الثمن بزيادة أو نقصان ، وقيل : بتخصيص ذلك بالطعام ، والقول بالصحة فيما اتفقوا عليه مشروط بأن لا يشترط في بيعه الأول بيعه من البائع ، والا لبطل البيع الأول سواء كان حالا أو مؤجلا وسواء شرط بيعه من البائع بعد الأجل أم قبله.

والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه الصدوق في الصحيح عن منصور بن حازم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل كان له على رجل دراهم من ثمن غنم اشتراها منه ، فاتى الطالب المطلوب يتقاضاه ، فقال له

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ـ ١ ـ الفقيه ج ٣ ص ١٦٥.

١٢٥

المطلوب : أبيعك هذا الغنم بدراهمك التي لك عندي فرضي قال : لا بأس بذلك».

ومورد هذه الرواية هو شراء ما باعه عليه نسيئة بعد حلول الأجل بما هو أعم من الزيادة أو النقيصة بالنسبة إلى الثمن الأول من غير شرط سابق ، ومنه يعلم عدم الفرق في الجواز بين حلول الأجل وقبله إذا لم يكن طعاما.

وبالسند المتقدم عن منصور بن حازم (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يكون له على الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك ، فاتى المطلوب الطالب ليبتاع منه شيئا ، قال : لا يبيعه نسيئا ، فأما نقدا فليبعه بما شاء».

قال في الوافي : «شيئا» أي من ذلك المتاع الذي عليه ، ولا يبعد أن يكون تصحيف نسيئا انتهى وهو جيد.

أقول : وهذا الخبر ظاهر في جواز شراء ما باعه نسيئة قبل حلول الأجل بزيادة أو نقيصة نقدا ، والظاهر أنه انما منع من بيعه نسيئة لاستلزامه بيع الدين بالدين ، لان هذه الأشياء دين على من اشتراها ، فمتى باعها بثمن مؤجل لزم بيع الدين بالدين ، وفيه كلام (٢) يأتي إنشاء الله تعالى في مسألة الدين بالدين وتحقيق ما هو المراد من ذلك.

وكيف كان فان هذا الخبر مناف لما قدمنا نقله عنهم من تجويزهم شراء النسيئة حالا أو مؤجلا ، لدلالة الخبر كما ترى على التخصيص بالنقد والمنع من النسيئة.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ٨ ـ التهذيب ج ٧ ص ٤٨.

(٢) وهو أن جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني صرحوا بأن الدين بالدين الممنوع ـ في الاخبار منه ـ انما هو ما إذا كان العوضان دينا قبل العقد ، كما لو باعه الدين الذي في ذمته ، بدين آخر له في ذمته ، أو في ـ

١٢٦

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن بشار بن يسار (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يبيع المتاع بنساء فيشتريه من صاحبه الذي يبيعه منه؟ قال : نعم لا بأس به ، فقلت له : اشترى متاعي؟ فقال : ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك». وهو ظاهر في جواز الشراء بالزيادة والنقصان قبل الأجل وبعده بجنس الثمن أو غير جنسه.

وروى في الكافي والتهذيب عن الحسين بن المنذر (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) يجيئني الرجل فيطلب العينة فاشترى له المتاع مرابحة ، ثم أبيعه إياه ، ثم أشتريه منه مكاني؟ قال : فقال : إذا كان بالخيار ان شاء باع ، وان شاء لم يبع (٣) وكنت ايضا بالخيار ان شئت اشتريت ، وان شئت لم تشتر فلا بأس ، قال : قلت : فإن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد ، ويقولون :

__________________

ذمة ثالث ، أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما ، بدين في ذمة غريم آخر للآخر ، ونحو ذلك ، لا ما إذا باع دينا بمؤجل في العقد ، لأنه إنما صار دينا بالعقد ، واشترط التأجيل فيه ، وهذا الخبر كما ترى ظاهر في خلاف ما ذكره ، إذ لا وجه للنهى هنا الا من حيث لزوم بيع الدين بالدين ، كما لا يخفى. منه رحمه‌الله.

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٨ التهذيب ج ٧ ص ٤٨ الوسائل الباب ـ ٥ من أبواب أحكام العقود.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٠٢ التهذيب ج ـ ٧ ص ٥١ الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام العقود.

(٣) فان قوله : إذا كان بالخيار ان شاء باع الى آخره كناية عن تحقق البيع الأول ، فإنه متى تحقق وجب انتقال كل من العوضين الى مالكه فصار لكل منهما الخيار فيما انتقل اليه بخلاف ما إذا حصل الشرط في العقد الأول ، فإنه يرفع الخيار والاختيار. منه رحمه‌الله.

١٢٧

ان جاء به بعد أشهر صلح. فقال : ان هذا تقديم وتأخير فلا بأس به». وفي هذا الخبر إيماء إلى انه مع الشرط لا يصح البيع ، وانه لا بد من تحقق العقد الأول واقعا وعدم توقفه على شرط.

وأظهر منه في ذلك ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن على بن جعفر (١) عن أخيه موسى (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم ، ثم اشتراه بخمسة دراهم أيحل؟ قال : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس».

ورواه على بن جعفر في كتابه ، الا أنه قال : «بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد».

وهو أظهر في عنوان المسألة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام الأصحاب أنه لا دليل في الاخبار على ما ذكروه من البطلان بالشرط في العقد الأول وانما استدل عليه العلامة في التذكرة باستلزامه الدور ، وناقشه جملة من المتأخرين ، منهم شيخنا الشهيد الثاني قال (قدس‌سره) في المسالك : واختلف كلامهم في تعليل البطلان مع الشرط المذكور ، فعلله في التذكرة باستلزامه الدور ، لان بيعه له يتوقف على ملكه له ، المتوقف على بيعه ، ورد بأن الموقوف على حصول الشرط هو اللزوم لا الانتقال ، وتمنع توقف تملك المشترى على تملك البائع ، بل تملكه موقوف على العقد المتأخر عن ملك المشترى ، ولانه وارد في باقي الشروط كشرط العتق ، والبيع للغير مع صحته إجماعا ، وعلل أيضا بعدم حصول القصد الى نقله عن البائع ، ويضعف بأن الفرض حصوله ، وارادة شرائه بعد ذلك لا ينافي حصول قصد النقل ، وألا لم يصح إذا قصدا وان لم يشترطا ، وقد صرحوا بصحته. انتهى.

أقول : وقد عرفت الدليل على ذلك من الخبرين المذكورين ، فلا حاجة

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ ٦.

١٢٨

الى هذه التعليلات ، ولكنهم لم يقفوا عليهما ، والسبب في ذلك هو قصور النظر عن تتبع الاخبار.

وأما القول بالبطلان فيما إذا كان البيع الثاني بجنس الثمن الأول مع الزيادة أو النقصان فهو للشيخ ـ قدس‌سره ـ في النهاية قال في الكتاب المذكور : إذا اشترى نسيئة فحل الأجل ولم يكن معه ما يدفعه إلى البائع جاز للبائع أن يأخذ منه ما كان باعه إياه من غير نقصان من ثمنه ، فإن أخذه بنقصان مما باع ، لم يكن ذلك صحيحا ، ولزمه ثمنه الذي كان أعطاه به ، فإن أخذ من المبتاع متاعا آخر بقيمته في الحال لم يكن بذلك بأس» انتهى.

واستند ـ قدس‌سره فيما ذكره ـ الى ما رواه في التهذيب عن خالد بن الحجاج (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بعته طعاما بتأخير إلى أجل مسمى ، فلما جاء الأجل أخذته بدراهمي ، فقال : ليس عندي دراهم ولكن عندي طعام فاشتره منى ، فقال : لا تشتره منه فإنه لا خير فيه».

وأنت خبير بأن هذا الخبر مع صحة العمل به غير منطبق على مدعاه من وجوه ، أحدها ـ من حيث أن موردها الطعام ، ومدعاه أعم كما تقدم في عبارته ، ولهذا خص البعض الحكم بالطعام كما قدمنا الإشارة اليه ، وثانيها ـ تخصيصه ذلك بالعين التي باعها فإنه حكم بالجواز في عبارته المذكورة في غيرها ، ومورد الرواية أعم من ذلك ، وثالثها ـ تخصيصه المنع بالزيادة والنقيصة ، أما المثل فجائز عنده والرواية ظاهرة المنع في الجميع.

وما رواه في الفقيه عن عبد الصمد بن بشير (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٥ مع اختلاف يسير الفقيه ج ٣ ص ١٣٠ الاستبصار ج ٣ ص ٧٧.

١٢٩

قال : «سأله محمد بن القاسم الحناط فقال : أصلحك الله أبيع الطعام من الرجل إلى أجل ، فأجي‌ء وقد تغير الطعام من سعره ، فيقول : ليس عندي دراهم ، قال : خذ منه بسعر يومه ، فقال : أفهم ـ أصلحك الله ـ انه طعامي الذي اشتراه منى قال : لا تأخذ منه حتى يبيع ويعطيك ، قال : أرغم الله أنفي رخص لي فرددت عليه فشدد علي».

وهذا الخبر أورده الشيخ في الاستبصار بيانا لما اختاره من عدم جواز البيع بأكثر مما باعه : واعترضه بعض مشايخنا (١) ـ عطر الله مراقدهم في حواشيه على الكتاب ـ «بأن هذا الخبر ليس فيه دلالة على دعواه بوجه من الوجوه ، لان المعنى أن السائل لما طمع أن يرخص له أخذ طعامه الذي دفعه اليه ، مع أن القيمة قد زادت والحال أنه لا يستحق إلا دراهم ، فلم يرخص له أن يأخذه إلا بسعر يومه. انتهى.

وأما ما يدل على المشهور فما تقدم من صحيحة بشار بن يسار ، وصحيحة منصور بن حازم ، (٢) وما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق في بعض ، والصحيح في بعض عن يعقوب بن شعيب (٣) وعبيد بن زرارة قال : «سألنا أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل باع طعاما بدراهم إلى أجل ، فلما بلغ ذلك الأجل تقاضاه فقال : ليس عندي دراهم خذ منى طعاما قال : لا بأس به انما له دراهم يأخذ بها ما شاء». والشيخ حمل هذا الخبر على عدم الزيادة ، وسياق الخبر ظاهر في خلافه (٤)

__________________

(١) هو شيخنا الشيخ على بن سليمان القدسي البحراني في حواشيه على الكتاب منه رحمة الله عليه.

(٢) ص ١٢٧ و ١٢٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٨٦ التهذيب ج ٧ ص ٣٣ الفقيه ج ٣ ص ١٦٦.

(٤) فان ظاهر سياقه أن الذي يستحقه انما هو الدراهم فهو يشترى بالدراهم ما شاء من طعام وغير طعام ولو قيل باشتراط المثل كما يدعيه للزم ذلك في غير الطعام أيضا وهو لا يقول به. منه رحمه‌الله.

١٣٠

وبالجملة فإن الاخبار هنا انما تعارضت في الطعام خاصة ، والمشهور ـ في كلام الأصحاب ـ ـ الجمع بينها بحمل رواية خالد بن الحجاج ـ فإنها هي الظاهرة في المنع ـ على الكراهة.

المسألة الثالثة إذا ابتاع شيئا مؤجلا فإنه لا يجب عليه دفع الثمن قبل حلول الأجل ، بل لا يجوز طلبه ، لوجوب الانظار بالشرط الواقع في العقد ، والأظهر أيضا عدم وجوب قبضه على البائع لو دفعه إليه المشتري قبل الأجل. قال : بعض المحققين : «وقد يتخيل الوجوب ، لأن إلا لرجل لرعاية حال المشترى والترفه له ، كالرخصة له ، لا لأجل البائع ، ولهذا يزاد الثمن ، فإذا حصل الثمن الزائد للبائع نقدا فهو غاية مطلوب التجار ، فلا ينبغي الامتناع عنه وأيضا قد يتضرر المشترى بعدم الأخذ ولان الظاهر أن أخذ الحق مع دفع صاحبه واجب عندهم عقلا ونقلا وقد أفاد الأجل عدم وجوب الدفع ، لا عدم وجوب الأخذ فتأمل. ولان الظاهر من قولنا بعتك هذا بكذا إلى مدة كذا أن زمان الأداء الى تلك المدة موسعا ، فذلك الزمان نهاية الأجل للتوسعة بمنى عدم التضييق إلا في ذلك الزمان كالواجب الموسع ولا شك ان الأخذ أحوط إلا مع ظهور ضرر عليه» انتهى.

أقول : جميع ما ذكره ـ (قدس‌سره) من الوجوه ـ جيد لكن غايته إفادة الأولوية فإن الوجوب حكم شرعي يترتب على تركه العقوبة والمؤاخذة منه سبحانه ، فلا بد له من دليل واضح من آية أو رواية ، لانحصار الأدلة الشرعية عندنا في ذلك ، ومجرد هذه التقريبات العقلية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية كما قدمنا ذكره في غير مقام.

ويجب الدفع بعد حلول الأجل ومطالبة البائع ، فان لم يطالب وأراد المشتري الدفع وجب على البائع أخذه ، ولو امتنع رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فاما أن يجبره على قبضه ، أو يقبضه الحاكم الشرعي حسبة ، ومع تعذر الحاكم.

١٣١

فالظاهر قيام عدول المؤمنين بذلك ، كما يفهم من جملة من الاخبار ، وبذلك تبرأ ذمة المشترى ، فان تلف بغير تفريط فلا ضمان على المشترى ولا على الأمين من الحاكم والقائم مقامه ، وهكذا الحكم في سائر الحقوق المالية.

ولو تعذر الحاكم ومن يقوم مقامه فلو عزله وأبقاه أمانة عنده وتسلط عليه صاحبه بحيث متى اراده قبضه ، فالظاهر انه يبرء بذلك من ضمانه ، وانه يخرج بذلك عن عهدته ، وانه يجب على صاحبه أخذه ، والا كان مضيعا لما له ، بل يمكن ذلك مع وجود الحاكم أيضا ، لأن الحاكم انما هو وكيل مع عدم وجود الموكل وإمكان مثله ، والى ذلك أشار في التذكرة في أحكام السلف ، الا ان المشهور هو الرجوع الى الحاكم أو لا.

قيل : ويجوز للمشتري التصرف فيه بعد تعيينه ، فيرجع الى ذمته ، ولو تجدد له نماء فهو له. قال في المسالك : ومقتضى ذلك انه لا يخرج عن ملكه وانما يكون تلفه من البائع عقوبة له وفيه نظر» (١) انتهى.

ولو امتنع المشترى من دفعه بعد حلول الأجل ومطالبة البائع ، فظاهر كلام الأصحاب هنا وجوب رفع الأمر إلى الحاكم أولا ، ومع تعذره فالمقاصة ان لم يتمكن من الأخذ قهرا ، وظاهر الاخبار المقاصة وان كان موردها أعم مما نحن فيه.

ثم انه مع إمكان الرجوع الى الحاكم الشرعي فلا اشكال. وأما مع تعذره وعدم إمكان تحصيله قهرا أو مقاصة فهل يرفع الأمر إلى حاكم الجور؟ إشكال ينشأ

__________________

(١) أقول وجه النظر هو أنه متى كان عزله وتعينه على حدة موجبا لبراءة الذمة وخلو عهدة المشتري ، فهو ينتقل بذلك إلى البائع ، ويكون النماء له والتلف منه ، ولا معنى لكون النماء للمشتري ، والتلف على البائع عقوبة ، إذا الجميع انما يترتب على الانتقال كما عرفت. منه رحمه‌الله.

١٣٢

من النهى عن الترافع الى الجبت والطاغوت ، الا أن الظاهر ـ كما ذهب إليه جملة من أصحابنا ـ هو اختصاص تحريم الترافع إليهم بوجود الحاكم الشرعي ، كما هو ظاهر جملة من اخبار المسألة ، وبعضها وان كان مطلقا فإنه يجب حمله على المقيد ، عملا بالقاعدة ، وأيضا فظاهر الاخبار المشار إليها هو المنع من الترافع في إثبات الحق بالبينة أو اليمين ، دون مجرد الاستعانة بهم على أخذه مع ثبوته ، وعدم إنكار الخصم ذلك ، كما هو محل البحث.

ومتى انتقل الأمر إلى المقاصة أو الأخذ منه قهرا فيجب مراعاة الأسهل فالأسهل ، فإن وجد الجنس المساوي لا يتعدى الى غيره ، وينبغي ـ سيما إذا كان مؤمنا ـ المسامحة والسهولة في الاقتضاء لما ورد في ذلك وعدم المقاصة التامة ، وقد تقدم حديث الصادق (عليه‌السلام) (١). في إنكاره على من استقضى حقه ، وأنه إسائة منهي عنها ، وهكذا الحكم في طرف البائع إذا باع سلما ، وكذا سائر الحقوق.

المسألة الرابعة : يجوز بيع المتاع حالا ومؤجلا بزيادة عن قيمته ، وقيد ذلك بعضهم بكون المشترى والبائع عالمين بالقيمة ، وأورد على ذلك أن مقتضاه أنهما لو لم يكونا عالمين بالقيمة لا يصح البيع مع أنه ليس كذلك ، فإنه يصح البيع ، وان ثبت للجاهل منهما خيار الغبن متى كان مما لا يتسامح به ، كما تقدم في خيار الغبن (٢) ويمكن حمل كلام من ذكر هذا القيد على أنه أراد بالجواز اللزوم مجازا ، إذ مع الجهل وثبوت الغبن لا يلزم.

ثم انه ينبغي أن يعلم أنه لا بد من تقييد الصحة مع الزيادة بعدم استلزام السفه بأن يتعلق بالزيادة غرض صحيح عند العقلاء ، اما لقلتها أو لترتب غرض آخر يقابل الزيادة ، كالصبر عليه بدين حال ونحو ذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدين الرقم ـ ١.

(٢) ص ٤١.

١٣٣

المسألة الخامسة : لا يجوز تأخير ثمن المبيع ولا شي‌ء من الحقوق المالية بزيادة فيها ، ويجوز تعجيلها بنقصان منها. أما الأول ـ فلاستلزام الزيادة في هذه الصورة الربا. نعم يجوز التأجيل في عقد لازم كالبيع ونحوه بزيادة في ثمن ما يبيعه إياه وان زادت على ثمنه الواقعي أضعافا مضاعفة ، وهذا من الحيل الشرعية في التخلص من الربا. وعليه ظاهر اتفاق الأصحاب ـ (رضوان الله عليهم) ـ وبه استفاضت الاخبار كان يكون له في ذمته مائة درهم حالا ، ويريد تأجيلها إلى سنة بزيادة عشرين درهما مثلا ، فان الطريق في ذلك أن يبيعه خاتما قيمته درهم مثلا بعشرين درهما ، ويشترط تأجيل الثمن مع المأة الدرهم التي في ذمته إلى سنة ، فإنه لا شك في صحته.

ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه في الكافي عن محمد بن إسحاق بن عمار (١) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : ان سلسبيل طلبت منى مائة ألف درهم على أن يربحنى عشرة آلاف درهم فاقرضتها تسعين ألفا وأبيعها ثوبا أو شيئا تقوم على بألف درهم بعشرة آلاف درهم؟ قال : لا بأس». قال في الكافي : وفي رواية أخرى «لا بأس به أعطها مأة ألف ، وبعها الثوب بعشرة آلاف واكتب عليها كتابين».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن محمد بن إسحاق بن عمار قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم ويؤخر عنه المال الى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي ففعلت ذلك ، وزعم أنه سأل أبا الحسن (عليه‌السلام) عنها فقال له : مثل ذلك».

وما رواه الشيخان المذكوران في الصحيح عن محمد بن إسحاق بن عمار (٣)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥ التهذيب ج ٧ ص ٥٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥ التهذيب ج ٧ ص ٥٣.

١٣٤

قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : يكون لي على الرجل دراهم فيقول : أخرني بها وأنا أربحك فأبيعه جبة تقوم على بألف درهم بعشرة آلاف درهم ، أو قال : بعشرين ألفا وأؤخره بالمال؟ قال : لا بأس».

وما رواه عن عبد الملك بن عتبة (١) قال : «سألته عن الرجل أريد أن أعينه المال ، ويكون لي عليه مال قبل ذلك فيطلب منى ما لا أزيده على مالي الذي لي عليه ، أيستقيم أن أزيده مالا وأبيعه لؤلؤة تساوى مأة درهم بألف درهم فأقول له : أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهرا ، قال : لا بأس».

وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (٢) في الموثق عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سئل عن رجل له مال على رجل من قبل عينة عينها إياه فلما حل عليه المال لم يكن عنده ما يعطيه فأراد أن يقلب عليه ويربح أيبيعه لؤلؤا وغير ذلك ما يسوى مائة درهم بألف درهم ويؤخره؟ قال : لا بأس بذلك ، قد فعل ذلك أبى (عليه‌السلام) وأمرني أن أفعل ذلك في شي‌ء كان عليه».

ومما يؤيد ذلك زيادة على ما ذكرنا ما رواه في التهذيب عن محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه عن رجل كتب الى العبد الصالح (٣) (عليه‌السلام) «يسأله انى أعامل قوما أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم ، وانهم يسألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم ، فهل لي من حيلة أن لا أدخل في الحرام؟ فكتب (عليه‌السلام) إليه : أقرضهم الدراهم قرضا وازدد عليهم في نصف القفيز بقدر ما كنت تربح عليهم».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٦ ـ التهذيب ج ٧ ص ٥٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣١٦.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٥.

١٣٥

وما رواه المشايخ الثلاثة ـ (نور الله تعالى مراقدهم) ـ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «سألته ـ (عليه‌السلام) الى أن قال : ـ فقلت له : أشترى ألف درهم ودينارا بألفي درهم؟ فقال : لا بأس بذلك ان أبى (عليه‌السلام) ، كان اجرى على أهل المدينة مني ، وكان يقول : هذا فيقولون : انما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشي‌ء الفرار من الحرام الى الحلال».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح (٢) عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «كان محمد بن المنكدر يقول لأبي : يا أبا جعفر ـ رحمك الله ـ والله انا لنعلم أنك لو أخذت دينارا والصرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ، ما وجدته ، وما هذا الا فرارا ، وكان أبى يقول : صدقت والله ، ولكنه فرار من باطل الى حق».

والعجب أنه ـ مع هذه الاخبار التي رأيت ، واتفاق الأصحاب على ذلك ـ كان بعض من يدعى الفضل من المعاصرين بل الأفضلية ينكر ذلك ويقول ببطلانه ، مستندا الى أن البيع المذكور غير مقصود. وما هو إلا محض اجتهاد في مقابلة النصوص ، ورد على أهل الخصوص.

وأما ما رواه الشيخ عن يونس الشيباني (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يبيع البيع والبائع يعلم أنه لا يسوى ، والمشترى يعلم أنه لا يسوى الا أنه يعلم أنه سيرجع فيه فيشتريه به منه قال : فقال : يا يونس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لجابر بن عبد الله : كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثتم الذل؟ قال :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٤٦ التهذيب ج ٧ ص ١٠٤ الفقيه ج ٣ ص ١٨٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٤٧ التهذيب ج ٧ ص ١٠٤.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ١٩.

١٣٦

فقال له جابر : لا أبقيت الى ذلك الزمان ، ومتى يكون ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال : إذا ظهر الربا يا يونس ، وهذا الربا ، وان لم تشتره منه رده عليك؟ قال : قلت : نعم قال : فقال : لا تقربنه فلا تقربنه».

حيث أنه بإطلاقه دل على المنع مما دلت تلك الاخبار على جوازه ، فأجاب عنه بعض مشايخنا في حواشيه على كتب الاخبار بالحمل على الكراهة وقال في الوافي بعد نقله على أثر الأخبار المتقدمة : ـ لا منافاة بين هذا الخبر والاخبار المتقدمة ، لأن المتبايعين هيهنا لم يقصدا البيع ولم يوجباه في الحقيقة ، وهناك اشترط ذلك في جوازه ـ انتهى

والجميع لا يخلو من البعد (١) والأظهر عندي حمل الخبر على التقية لما دلت عليه الاخبار المتقدمة (٢) من تشديد العامة في المنع من هذه الصورة وأما الثاني : وهو جواز التعجيل بالنقصان ، فقد صرح به الأصحاب من غير خلاف يعرف في الباب ، وهو يكون بالإبراء أو الصلح ، والوجه في الإبراء ظاهر ، إذ لو أبرأه من الكل لصح ، فكذا من البعض ، وكذا الصلح ، ويسمى صلح الحطيطة ، وهو الذي وردت به الاخبار.

منها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن ابان (٣) عمن حدثه عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يكون له على الرجل دين ، فيقول له

__________________

(١) أما الأول فلما اشتمل عليه الخبر من مزيد التأكيد في النهي المستفاد من الحديث النبوي المستشهد به على ذلك ، وأما الثاني فلان المتبادر من قوله الرجل يبيع البيع انما هو إيجاب البيع وقصده كما لا يخفى. منه رحمه‌الله.

(٢) ص ١٣٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٥٨ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٦.

١٣٧

قبل أن يحل الأجل : عجل لي النصف من حقي على أن أضع عنك النصف ، أيحل ذلك لواحد منها؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابى عمير (١) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سئل عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيته أو يقول : أنقد في بعضه وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك ، قال : لا أرى به بأسا ، انه لم يزدد على رأس ماله ، قال الله جل ثناؤه (٢) «فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.».

ورواه الشيخ في التهذيب والصدوق وفي الفقيه عن محمد بن مسلم (٣) في الصحيح الا أن فيه «في الرجل يكون عليه الدين إلى أجل مسمى». وهو الظاهر ولعل اللام في رواية الكافي هنا بمعنى على.

وما رواه في الكافي (٤) عن أبان عن زرارة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل اشترى جارية بثمن مسمى ثم باعها فربح فيها قبل أن ينقد صاحبها الذي هي له. فأتاه صاحبها يتقاضاه ، ولم ينقد ماله ، فقال صاحب الجارية للذين باعهم : اكفوني غريمي هذا والذي ربحت عليكم فهو لكم قال : لا بأس».

ورواه في الفقيه عن الحلبي في الصحيح (٥) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) «أنه سئل عن رجل» الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٥٩ عن ابن ابى عمر عن حماد عن الحلبي عنه (عليه‌السلام).

(٢) سورة البقرة ـ الاية ٢٧٩.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٢٠٧ الفقيه ج ٣ ص ٢١ وفيه (عليه دين).

(٤) الكافي ج ٥ ص ٢١١ التهذيب ج ٧ ص ٦٨ الفقيه ج ٣ ص ١٣٨.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ١٣٨.

١٣٨

قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) في حواشيه على الكافي : والظاهر أنه باعهم للمشتري بأجل فلما طلب البائع الأول منه الثمن حط من الثمن بقدر ما ربح ليعطوه قبل الأجل ، وهذا جائز كما صرح به الأصحاب ، وورد به غيره من الاخبار انتهى. وهو جيد. والا فلو كان الثمن نقدا فإنه لا معنى لهذه المصالحة بإسقاط بعض حقه ليكفوه غريمه.

ثم انه لا يخفى عليك ما في دلالة هذه الاخبار من سعة الدائرة في العقود الشرعية ، فإن ما اشتملت عليه هذه الاخبار من التراضي بالألفاظ الدالة على إسقاط بعض الثمن بتعجيله قبل حلول الأجل هي ألفاظ عقد الصلح.

المسألة السادسة ـ قال الشيخ في النهاية : لا بأس بابتياع جميع الأشياء حالا وان لم يكن حاضرا في الحال ، إذا كان الشي‌ء موجودا في الوقت أو يمكن وجوده ، ولا يجوز أن يشترى حالا ما لا يمكن تحصيله ، فأما ما يمكن تحصيله فلا بأس به وان لم يكن عند بائعه في الحال» انتهى.

ومنع ابن إدريس من ذلك ، ونسب هذا القول الى خبر واحد شاذ رواه الشيخ عن ابن سنان لا يجوز العمل به ، ولا التعويل عليه ، قال : لأنا قد بينا أن البيع على ضربين بيع سلم ، ولا بد فيه من التأجيل ، وبيع عين أما مرئية مشاهدة ، أو غير حاضرة ، وهو ما يسمى بخيار الرؤية وما أورده الشيخ خارج عن هذه البيوع لا مشاهدة ولا موصوف بوصف يقوم مقام المشاهدة ، فدخل في بيع الغرر ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «نهى عن بيع الغرر» (١). و «بيع ما ليس عند الإنسان» (٢). ولا في ملكه الا ما أخرجه الدليل من السلم ، ولان البيع حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا يرجع عن الأمور

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب آداب التجارة الرقم ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ٧ ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ ٢.

١٣٩

المعلومة بالدلالة القاهرة ، بالأمور المظنونة ، وأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا. انتهى.

وقال ابن ابى عقيل : البيع عند آل الرسول (عليهم‌السلام) بيعان ، أحدهما بيع شي‌ء حاضر قائم العين ، والأخر بيع شي‌ء غائب موصوف بصفة مضمونة الى أجل.

انتهى وهو ظاهر قول ابن إدريس.

والمستفاد من الاخبار الواردة في هذا المقام هو ما قدمنا نقله عن الشيخ (قدس‌سره).

ومنها ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبد الرحمن (١) بن الحجاج قال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يشترى الطعام من الرجل ليس عنده فيشترى منه حالا؟ قال : ليس به بأس ، قلت : انهم يفسدونه عندنا ، قال : وأي شي‌ء يقولون في السلم؟ قلت : لا يرون به بأسا ، يقولون : هذا إلى أجل ، فإذا كان الى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح ، فقال : إذا لم يكن أجل كان أجود ثم قال : لا بأس أن يشترى الرجل الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل وحالا لا يسمى له أجلا الا ان يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه فلا ينبغي شراء ذلك حالا (٢).

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٧٩ التهذيب ج ٧ ص ٤٩.

(٢) أقول وهذه الرواية رواه الشيخ في التهذيب وفيها «وليس هو عند صاحبه إلى أجل ، فقال : لا يسمى له أجلا الا أن يكون» الى آخره ، وهو من تحريفات الشيخ ، والصحيح ما نقلناه في الأصل عن الفقيه ، لانه هو الذي يستقيم به المعنى كما يخفى. (منه رحمه‌الله) ويمكن أن يكون التحريف من النساخ. على آخوندى.

١٤٠