الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

الدلالة ، متعاضد المقالة : على تخصيص الجواز بكلب الصيد خاصة ، وان ما عداه ثمنه سحت. ومنها رواية أبي بصير المتقدمة.

ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الله العامري ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد ، فقال : سحت. قال : واما الصيود فلا بأس (١).

ومنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم وعبد الرحمن بن ابى عبد الله عن ابى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت ، وقال : لا بأس بثمن الهر (٢).

وعن ابى بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ثمن كلب الصيد؟ فقال : لا بأس بثمنه ، والأخر لا يحل ثمنه (٣).

وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ متفقة على ما ذكرناه من ان ما عدا كلب الصيد ، فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه ، ولم أقف على خبر يتضمن استثناء غيره ، سوى ما في عبارة المبسوط من قوله «وروى ان كلب الماشية والحائط مثل ذلك». وفي الاعتماد على مثل هذه الرواية في تخصيص هذه الاخبار إشكال.

وأصحابنا القائلون باستثناء الثلاثة المذكورة ، انما استندوا إلى مشاركة هذه الثلاثة لكلب الصيد في المنفعة التي يترتب عليها استثناؤه ، وهو من حيث العقل قريب. الا ان ظواهر النصوص المذكورة ـ كما ترى ـ تدفعه.

قال في المسالك : والأصح جواز بيع الكلاب الثلاثة لمشاركتها كلب الصيد في المعنى المسوغ لبيعه ، ودليل المنع ضعيف السند وقاصر الدلالة.

وفيه : انه يجوز ان يكون المسوغ ـ شرعا ـ انما هو هذه المنفعة الخاصة بكلب الصيد ، فمن ثم اقتصروا ـ عليهم‌السلام ـ في هذه الاخبار عليها ، لا كل منفعة.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٨٣ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٨٣ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٨٣ حديث : ٥.

٨١

واما الطعن في الاخبار بضعف السند ، فقد عرفت ان فيها الصحيح باصطلاحهم ، وهي صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن المذكورة. واما الطعن بقصور الدلالة ، فهو ضعيف إذ لا أصرح في الدلالة على التحريم من هذه الألفاظ الواردة في هذه الاخبار ، من قولهم في جملة منها : «ان ثمنه سحت». وقوله في رواية أبي بصير : «والأخر لا يحل ثمنه».

واستدل العلامة في المنتهى على إباحة الثلاثة الباقية ـ زيادة على ما تقدم ـ بان لها دية وقيمة لو أتلفت ـ على ما يأتي إنشاء الله ـ والدية تستلزم التملك المستلزم لجواز التصرف.

وفيه : ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال : وربما فهم بعضهم من ثبوت دياتها جواز بيعها ، نظرا إلى أنها أموال محترمة كما في الحيوانات. وفيه : منع ظاهر ، فان ثبوت الديات لها ربما دل على عدم جواز بيعها ، التفاتا الى أن ذلك في مقابلة القيمة ، فإنك تجد كل ماله دية لا قيمة له ، كما في الحر. وماله قيمة لا دية له ، كما في الحيوان المملوك غير الأدمي انتهى ، وهو جيد.

وبالجملة فالظاهر هو الاقتصار على ما دلت عليه الاخبار المذكورة والله العالم.

(السادس) : ظاهر المشهور بين الأصحاب : انه لا بأس ببيع الهرة وحل ثمنها ، وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن المتقدمة (١).

قال في المسالك : واما الهرة فنسب جواز بيعها في التذكرة إلى علمائنا وهو يعطى الاتفاق عليها انتهى.

ونقل في المختلف عن ابن البراج : انه قال : من باع هرة فليتصدق بثمنها ، ولا يتصرف فيه في غير ذلك ، ثم قال : والوجه عدم وجوب ذلك. لنا انها مملوكة فكان الثمن ملكه كغيرها. انتهى وهو جيد ، للصحيح المذكور.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٨٣ حديث : ٣.

٨٢

المسألة الثانية

لا يحل بيع المائع النجس نجاسة عارضة ، لنجاسته المانعة من جواز الانتفاع به.

على المشهور بين الأصحاب ، عدا الدهن للاستصباح ، لورود الاخبار به.

وهو مبنى على عدم قبول تلك المائعات للتطهير ، كما هو الأشهر الأظهر ، واما على القول بقبولها للطهارة فإنه يجوز بيعها مع الاعلام.

قال : في المسالك ـ بعد قول المصنف بتحريم كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها تحت السماء ـ ما لفظه : بناء على ان المائعات النجسة لا تقبل التطهير بالماء ، فإنه أصح القولين. ولو قلنا بقبولها الطهارة جاز بيعها مع الاعلام بحالها ، ولا فرق في عدم جواز بيعها ـ على القول بعدم قبولها للطهارة ـ بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه وعدمها ، ولا بين الاعلام وعدمه ، على ما نص عليه الأصحاب وغيرهم انتهى.

أقول : وقد تقدم البحث في قبولها الطهارة وعدمه في كتاب الطهارة ، وبينا : ان الظاهر هو العدم بالنسبة إلى الدهن ، واما غيره فإنه لا يقبل الطهارة إلا باضمحلاله

٨٣

في الماء ، على وجه يخرج عن حقيقته وماهيته ، وهذا لا يسمى في الحقيقة تطهيرا.

وظاهر الكفاية : المناقشة في الحكم المذكور ، حيث قال : والمعروف ان المائعات التي لا تقبل التطهير لا يجوز بيعها سوى الأدهان لفائدة الاستصباح. ونقل في المنتهى الإجماع عليه ، ولا حجة لذلك سواه ـ ان تم ـ وعموم الأدلة مع حصول الانتفاع بها يقتضي الجواز ، انتهى وهو جيد.

واما بيع الأدهان لفائدة الاستصباح فظاهر الأصحاب : الاتفاق عليه ، وعليه تدل الاخبار الاتية ، وظاهره ايضا الاتفاق على تخصيص ذلك بالدهن المتنجس ، دون ما كان نجسا من أصله كالاليات المقطوعة من الغنم.

قال في المسالك ـ بعد نقل الخلاف في تخصيص الاستصباح بكونه تحت السماء أو عمومه ـ ما لفظه : وموضع الخلاف ما إذا كان الدهن متنجسا بالعرض ، فلو كان نفسه نجسا كالاليات الميتة والمبانة من حي ، لا يصح الانتفاع به مطلقا ، لإطلاق النهي عن استعمال الميتة. ونقل عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء وهو ضعيف ، انتهى.

أقول : وقد تقدم من الاخبار ما يدل على كلام العلامة المذكور هنا ، واختيار شيخنا المجلسي. وهو ايضا ظاهر صاحب الكفاية ، حيث نقل الروايتين المتقدمتين الدالتين على ذلك ، بعد ان تنظر فيما ذكره في المسالك ، وأيدهما بحسنتي الحلبي (١) الواردتين في قطع اللحم المختلط ذكية بميتة ، وصحيحة حفص بن البختري (٢) في العجين بالماء النجس.

أقول ويؤيده أيضا روايتا الصيقل المتقدمتان (٣) في الموضع الأول.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٦٨ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٦٨ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٦٨ حديث : ٣.

٨٤

والمسألة لذلك قوية الإشكال ، لتعارض هذه الاخبار الواردة في هذا المجال.

بقي الكلام في انه هل يجب كون الاستصباح به تحت السماء ، فلا يجوز تحت الظلال أم لا؟ ظاهر كلامهم : الأول. فنقل في المختلف عن الشيخين وابن البراج : ان الدهن إذا وقعت فيه نجاسة ، جاز الاستصباح به ، فان دخانه يكون طاهرا ولا يكون نجسا ، لأن الأصل الطهارة وبراءة الذمة ، والحكم بالنجاسة وشغل الذمة يحتاج الى دليل.

وقال في المبسوط : الادهان إذا ماتت فيها فارة تنجس ، ويجوز عندنا وجماعة الاستصباح به في السراج ، ولا يؤكل ولا ينتفع به في غير الاستصباح ، وفيه خلاف. وروى أصحابنا : انه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، وهذا يدل على ان دخانه نجس ، غير ان عندي ان هذا مكروه ، فاما دخانه ودخان كل نجس من العذرة وجلود الميتة والسرجين والبعر وعظام الموتى عندنا ليس بنجس. واما ما يقطع بنجاسته قال قوم : دخانه نجس. وهو الذي قدمناه من رواية أصحابنا. وقال آخرون ـ وهو الأقوى ـ انه ليس بنجس.

وقال ابن إدريس : يجوز الاستصباح به تحت السماء ، ولا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ، لا لان دخانه نجس ، بل تعبدا ، لان دخان الأعيان النجسة ورمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا. ثم نقل كلام المبسوط ، ثم قال : قوله : روى أصحابنا انه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، هذا يدل على ان دخانه نجس ، غير ان عندي ان هذا مكروه. ويريد به الاستصباح تحت السقف.

قال محمد بن إدريس : ما ذهب أحد من أصحابنا الى ان الاستصباح به تحت الظلال مكروه ، بل محظور بلا خلاف منهم ، وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه ، الا ما ذكره ها هنا ، والأخذ بقوله وقول أصحابنا أولى من الأخذ بقوله المنفرد عن قول أصحابنا انتهى.

٨٥

واعترضه العلامة في المختلف ، فقال ـ بعد نقل كلامه ـ : وهذا الرد على شيخنا جهل منه وسخف ، فان الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ اعرف بأقوال علمائنا ، والمسائل الإجماعية والخلافية ، والروايات الواردة هنا في التهذيب مطلقة غير مقيدة بالسماء ، ثم ساق صحيحة معاوية بن وهب وصحيحة زرارة الآتيتين إنشاء الله تعالى ، ثم قال : وكذا باقي الأحاديث ، ثم قال : إذا عرفت هذا فنقول : لا استبعاد فيما ذكره شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس ، لبعد استحالة كله ، بل لا بد ان يتصاعد من اجزائه قبل احالة النار لها ، فتثبت السخونة المكتسبة من النار الى ان يلقى الظلال فتتأثر بنجاسته ولهذا منعوا عن الاستصباح به تحت الظلال ، فان هذا القيد مع طهارته لا يجتمعان ، لكن الاولى : الجواز مطلقا ، للأحاديث ، ما لم يعلم أو يظن بقاء شي‌ء من اجزاء أعيان الدهن ، فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال انتهى.

أقول : والواجب أولا نقل الاخبار ، ثم الكلام فيها.

فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه ، فان كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك (١).

ومنها ما رواه أيضا الكليني والشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له. جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل ، فقال : اما السمن فيؤخذ الجرذ وما حوله ، والزيت يستصبح به ،. وزاد في رواية التهذيب ، وقال في بيع ذلك الزيت : بعه وبينه لمن يشتريه ليستصبح به (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٦٦ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٦٦ حديث : ١ و ٤.

٨٦

ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن سعيد الأعرج ـ وساق الخبر ـ الى ان قال : وعن الفارة تموت في الزيت ، فقال : لا تأكله ولكن أسرج به (١).

وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه ، فقال : ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنه ربما يكون بعض هذا ، فان كان الشتاء فانزع ما حوله وكله ، وان كان الصيف فارفعه حتى تسرج به. الحديث (٢).

وعن سماعة في الموثق قال سألته عن السمن تقع فيه الميتة ، فقال : إذا كان جامدا فألق ما حوله وكل الباقي. وقلت : الزيت؟ فقال : أسرج به (٣).

وعن ابى بصير في الموثق ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه ، فقال : ان كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي ، وان كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته (٤).

ومنها : ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي ، عن إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سأله سعيد الأعرج السمان وانا حاضر ، عن السمن والزيت والعسل ، تقع فيه الفارة فتموت ، كيف يصنع به؟ فقال : اما الزيت فلا تبعه ، الا لمن تبين له ، فيبتاع للسراج ، واما الأكل فلا. واما السمن فان كان ذائبا فهو كذلك ، وان كان جامدا والفأرة في أعلاه ، فيؤخذ ما تحتها وما حولها ، ثم لا بأس به ، والعسل كذلك ان كان جامدا (٥).

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ٤٦٢ حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج ١٦ ص ٤٦٢ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٦ ص ٤٦٢ حديث : ٥.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٦٦ حديث : ٣.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٦٧ حديث : ٥.

٨٧

ومنها : ما رواه الراوندي في كتاب النوادر ، بسنده فيه عن موسى بن جعفر عليه‌السلام ، في حديث قال : وسئل عن الزيت يقع فيه شي‌ء له دم فيموت ، فقال : يبيعه لمن يعمله صابونا (١).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ١ ص ١٦٣ حديث : ٨.

٨٨

فوائد

(الاولى) : هذه الروايات ـ على كثرتها ـ لا إشعار في شي‌ء منها ، فضلا عن التصريح ، بما ذكروه من تقييد الجواز بالاستصباح تحت السماء ، والمنع من كونه تحت الظلال ، حتى ذهب من ذهب الى نجاسة دخانه لذلك كما عرفته من كلام الشيخ في المبسوط ، أو ان ذلك محض تعبد كما ذكره في المختلف عن ابن إدريس. فإن الكل نفخ في غير ضرام ، ونزاع لا أصل له في أخبارهم عليهم‌السلام. وقد صرح بمثل ما ذكرنا في المسالك (١).

(الثانية) : المفهوم من كلام الأصحاب تخصيص الانتفاع بالدهن بصورة الاستصباح خاصة فلا يتعدى الى غيرها ، بناء على تحريم الانتفاع بالنجس مطلقا ،

خرج منه ما وردت به اخبار الاستصباح المذكورة ، فيبقى ما عداه.

قال في المسالك : واما الادهان النجسة نجاسة عارضية ، كالزيت تموت فيه

__________________

(١) حيث قال : والمشهور بين الأصحاب تقييد جواز الاستصباح بها بكونه تحت السماء ، بل ادعى عليه ابن إدريس في السرائر الإجماع. وفي الحكم بالتخصيص نظر ، وفي دعوى الإجماع منع ، والصحيحة مطلقة ، والمقيد لها بحيث يجب الجمع بينها غير معلوم ، فالقول بالجواز متجه ، واليه ذهب الشيخ في المبسوط ، والعلامة في المنتهى. انتهى منه قده.

٨٩

الفارة ، فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها. وانما خرج هذا الفرد بالنص ، والا لكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات النجسة ، التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه ، وقد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح بيعها ليعمل صابونا ، أو ليدهن بها الأجرب ونحو ذلك ، ويشكل بأنه خروج عن موضع النص المخالف للأصل ، فان جاز ، لتحقق المنفعة ، فينبغي مثله في المائعات النجسة التي ينتفع بها ، كالدبس يطعم النحل ونحوه انتهى.

أقول : يمكن ان يقال : ان ذكر الاستصباح في هذه الاخبار انما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، حيث انه أظهر وجوه الاستعمالات وأعم فوائدها ، كما ان تخصيص المنع بالأكل فيها غير دال على الحصر فيه. ويؤيد ذلك خبر الراوندي الدال على عمله صابونا ، كما ذهب اليه البعض الذي نقل عنه ذلك. ولعله استند الى الخبر المذكور ، على انه لم يقم هنا ـ أعني بالنسبة الى ما نجاسته عارضية في المائعات ـ ما يدل على عموم المنع من الانتفاع به ، والأصل وعموم الأدلة يؤيد ما ذكرناه. واليه مال ـ ايضا ـ شيخنا المجلسي في البحار ، وقبله الفاضل في الذخيرة والله العالم.

(الثالثة) : لا يخفى انه على تقدير القول بوجوب الاستصباح بالدهن النجس تحت السماء ، فان الظاهر كون ذلك تعبدا شرعيا ، كما ذكره ابن إدريس ، لا لنجاسة دخانه ، كما دل عليه كلام الشيخ المتقدم ، والعلامة في المختلف ، لما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة ، من طهارة الدخان والرماد ، وان كانا من النجاسات العينية.

وما ذكره العلامة هنا من التعليل ، ضعيف عليل ومحض تخرص لا يروى الغليل. وأصالة العدم أظهر ظاهر في رده.

(الرابعة) قد دل صحيح معاوية بن وهب ، وموثق ابى بصير ، وخبر قرب الاسناد (١) على الأمر بالإعلام إذا أراد بيعه ، وحينئذ فلو باعه من غير اعلام فالظاهر

__________________

(١) تقدمت الروايات في ص ٨٧.

٩٠

ـ على قواعد الأصحاب ـ هو صحة البيع ، وان أثم بمخالفة الأمر بالإعلام ويتخير المشترى بعد العلم.

واستشكل الجواز في المسالك ، بناء على تعليله بالاستصباح. قال : فان مقتضاه الاعلام بالحال ، والبيع لتلك الغاية.

أقول : وتوضيحه : ان الشارع إذا كان انما جوز البيع لفائدة الاستصباح خاصة فإذا لم يعلمه يكون قد اشتراه لغير تلك الفائدة ، وهي محرمة ، والبيع للفائدة المحرمة حرام ، فيكون باطلا.

وفيه : ما لا يخفى ، فإن الشي‌ء إذا كان له في حد ذاته منافع عديدة ، منها ما هو محرم ، ومنها ما هو محلل ، لا يجب في البيع قصد منفعة من المنافع المحللة ، والا لبطل البيع في أكثر المبيعات وهي لا تخلو من المنافع المحرمة ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فهو على تقدير تسليمه لا يجرى فيما اخترناه مما قدمنا ذكره ، من جواز البيع ، لأي منفعة تترتب على ذلك.

وظاهر هذه الاخبار وجوب الإخبار بالنجاسة متى أريد بيعه ، مع انه قد تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة من الاخبار ، ما ظاهره كراهة الاخبار ، لا سيما موثقة ابن بكير ، الدالة على جواز اعارة الثوب الذي لا يصلى فيه ، لمن يصلى فيه (١) وصحيحة محمد ابن مسلم ، الدالة على ان من رأى في ثوب أخيه دما وهو يصلى لا يعلمه ، حتى ينصرف من صلاته (٢).

ويؤيده ما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة ، من ان الطهارة والنجاسة والحل والحرمة ليست من الأحكام النفس الأمرية ، وانما هي بالنظر الى علم المكلف بنجاسته ، لا ما كان كذلك في الواقع.

وحينئذ فهذا الدهن ، وان كان نجسا ، باعتبار علم البائع ، الا انه بالنظر

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ص ١٠٦٩ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ٢ ص ١٠٦٩ حديث : ١.

٩١

إلى المشتري غير العالم طاهر ، والجمع بين الاخبار في هذا المقام لا يخلو عن اشكال.

نعم لو قلنا بأن النجاسة من الأحكام النفس الأمرية ، كما هو ظاهر الأصحاب ، اتجه القول بهذه الاخبار على ظاهرها.

لكن قد تقدم التحقيق في كتاب الطهارة ، بان الأمر ليس كذلك ، بل هي انما بالنظر الى علم المكلف ، كما يدل عليه جملة من الاخبار المذكورة ثمة ، ومنها الموثقة والصحيحة المذكورتان والله العالم.

٩٢

المقام الثاني

فيما لا ينتفع به كالسباع والمسوخ

والمشهور في كلام المتقدمين تحريم التجارة في السباع والمسوخ.

قال المفيد ـ عليه الرحمة ـ : التجارة في القردة والسباع والفيلة والذئبة وسائر المسوخ حرام ، وأكل أثمانها حرام ، والتجارة في الفهود والبزاة وسباع الطير ، التي بها يصاد حلال. وكذا حرم الشيخ في النهاية : بيع سائر المسوخ وشراءها والتجارة فيها والتكسب بها ، مثل القردة والفيلة والذئبة وغيرها من أنواع المسوخ ، وبيع جميع السباع ، والتصرف فيها ، والتكسب بها محظور ، الا الفهود خاصة منها تصلح للصيد.

وقال سلار : يحرم بيع القردة والسباع والفيلة والذئاب.

وقال في المبسوط : الحيوان الذي هو نجس العين كالكلب والخنزير وما تولد منهما وجميع المسوخ ، وما تولد من ذلك أو من أحدهما ، فلا يجوز بيعه ولا إجارته ولا الانتفاع به ، ولا اقتناؤه بحال ، إجماعا ، إلا الكلب. ثم قال : والظاهر ان غير مأكول اللحم مثل الفهد والنصر والفيل وجوارح الطير مثل الصقور والبزاة والشواهين

٩٣

والعقبان والأرانب والثعالب وما أشبه ذلك ، فهذا كله يجوز بيعه ، وان كان مما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف ، مثل الأسد والذئب.

وقال ابن ابى عقيل : جميع ما يحرم بيعه وشراؤه ولبسه عند آل الرسول ـ عليهم‌السلام ـ بجميع ما ذكرنا من الأصناف التي يحرم أكلها ، من السباع والطير والسمك والثمار والنبات والبيض.

وقال ابن الجنيد : لا خير فيما عدا الصيود والحارس من الكلاب ، وفي سائر المسوخ ، واختار في أثمان ما لا يؤكل لحمه من السباع والمسوخ ان لا يصرف بائعه ثمنه في مطعم أو مشرب له ولغيره من المسلمين.

وقال ابن البراج : لا يجوز بيع ما كان مسخا من الوحوش. ويجوز بيع جوارح الطير والسباع من الوحوش.

وقال ابن إدريس في سرائره ـ بعد نقل عبارة النهاية ـ : قال محمد بن إدريس : قوله ـ عليه الرحمة ـ : والفيلة والذئبة. فيه كلام. وذلك ان ما جعل الشارع وسوغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه وابتياعه لتلك المنفعة ، والا يكون قد حلل وأباح وسوغ شيئا غير مقدور عليه ، وعظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن وأمشاطا وغير ذلك ، والذئب ليس بنجس السؤر بل هو من جملة السباع ، فعلى هذا جلده بعد ذكاته ودباغه طاهر انتهى.

والظاهر : انه على هذه المقالة نسج المتأخرون كالفاضلين ومن تأخر عنهما ، فإنهم جعلوا مناط الجواز طهارة العين وحصول المنفعة بجلد أو شعر أو ريش أو عظم أو نحو ذلك.

قال في المختلف ـ بعد نقل الأقوال التي قدمنا ذكرها ـ : والأقرب الجواز لنا : أنه عين طاهرة ينتفع بها ، فجاز بيعها. اما انها عين طاهرة فلانا قد بينا فيما سلف طهارة المسوخ ، واما الانتفاع بها فلأنها ينتفع بجلودها وعظامها ، واما جواز بيعها حينئذ فللمقتضى ، وهو عموم قوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وزوال المانع ، وهو

٩٤

النجاسة ، إلى آخر كلامه زيد مقامه.

وهو المختار الذي تعضده الاخبار الجارية في هذا المضار ، وهي التي عليها الاعتماد في الإيراد والإصدار.

ومنها : ما رواه في الكافي في الصحيح عن العيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفهود وسباع الطير ، هل يلتمس التجار فيها؟ قال : نعم (١). ورواه الشيخ في الصحيح مثله.

وما رواه الشيخان المذكوران عن عبد الحميد بن سعيد ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن عظام الفيل ، يحل بيعه أو شراؤه ، الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال : لا بأس ، قد كان لي منها مشط أو أمشاط (٢).

وما رواه في الكافي عن موسى بن يزيد قال : رأيت أبا الحسن عليه‌السلام يمتشط بمشط عاج ، واشتريته له (٣).

وما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه ، قال : سألته عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك؟ قال : لا بأس ، ما لم يسجد عليها (٤).

وما رواه الشيخ عن ابى مخلد ، قال : كنت عند ابى عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه معتب ، فقال له : بالباب رجلان ، فقال : أدخلهما فدخلا ، فقال أحدهما : انى رجل سراج ، أبيع جلود النمر ، فقال : مدبوغة هي؟ قال : نعم. قال : ليس به بأس (٥).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٣ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٣ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٣ حديث : ٣.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٤ حديث : ٥.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٤ حديث : ١ قال بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين : هذا الخبر يدل على مذهب من قال بعدم جواز استعمال جلود مالا يؤكل لحمه بدون الدباغة ، ويمكن الحمل على الكراهة. منه قدس‌سره.

٩٥

وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال ، سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : اما لحوم السباع ، والسباع من الطير فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه (١).

وعن سماعة ـ أيضا ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : أما لحوم السباع فمن الطير والدواب فانا نكرهه ، واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئا تصلون فيه (٢).

وما رواه على بن أسباط عن على بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن ركوب جلود السباع؟ قال : لا بأس ما لم يسجد عليها (٣).

وما رواه البرقي (في المحاسن) عن سماعة قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن جلود السباع؟ فقال : اركبوا ولا تلبسوا شيئا تصلون فيه (٤).

وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة في كون السباع قابلة للتذكية ، لإفادتها جواز الانتفاع بجلودها ، لطهارتها ، فيجوز بيعها وشراؤها.

نعم ورد النهى عن القرد ، كما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن مسمع عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القرد ان يباع أو يشترى (٥). فيمكن استثناء القرد بهذه الرواية من عموم الجواز المدلول عليه بالأصل والآية والرواية ، مع احتمال حملها على الكراهة.

ولم نقف للقائلين بالتحريم ، على دليل يعتد به ، الا ان يكون ما ذهب اليه الشيخ ، من نجاسة المسوخ ، وهو الذي نقله العلامة في المختلف.

__________________

(١) الوسائل ج ٣ ص ٢٥٦ حديث : ٣ و ٤.

(٢) الوسائل ج ٣ ص ٢٥٦ حديث : ٣ و ٤.

(٣) الوسائل ج ٣ ص ٢٥٦ حديث : ٥.

(٤) الوسائل ج ٣ ص ٢٥٦ حديث : ٣ و ٤.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٤ حديث : ٤.

٩٦

قال : احتج المانعون بأنها نجسة فيحرم بيعها ، وبما رواه مسمع ، ثم ساق الخبر المذكور ، ثم قال : والجواب : المنع من النجاسة. وقد تقدم. وعن الحديث بالمنع من صحة السند ، والحمل على الكراهة جمعا بين الأدلة.

ومن هذا الباب في المنع : الحشرات ، والجري ، والطافي من السمك ، وهو ما مات في الماء ثم طفي على وجهه ، والضفادع ، والسلاحف. كذا صرح به جملة من الأصحاب.

٩٧

المقام الثالث

فيما هو محرم في نفسه

كعمل الصور ، والغناء ، ومعونة الظالمين بما يحرم ، ونوح النائحة بالباطل ، وحفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقض ، وهجاء المؤمنين ، وتعلم السحر والكهانة ، والقيافة ، والشعبدة ، والقمار ، والغش بما يخفى ، وتدليس الماشطة ، وتزين الرجل بما يحرم عليه. فها هنا مسائل :

الاولى : في عمل الصور.

لا خلاف بين الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ في تحريم التماثيل في الجملة ، فظاهر جملة منهم : التصريح بتحريم التماثيل المجسمة وغيرها ، من المنقوش على جدار أو بساط أو نحو ذلك. وظاهر بعض : التخصيص بالمجسمة من ذوات الأرواح. وآخرين بالمجسمة من ذوات الأرواح وغيرها. وظاهر بعض : التخصيص بذوات الأرواح مطلقا ، مجسمة أو غير مجسمة.

والأول ، نقله في المختلف عن ابن البراج ، وظاهر ابى الصلاح. ونقل الثالث ، عن الشيخين وسلار ، والرابع عن ابن إدريس. والثاني ، نقله في المسالك ،

٩٨

ولم يذكر قائله.

والذي وقفت عليه من الاخبار ، في هذا المقام ، ما رواه في الكافي في الصحيح عن ابى العباس عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، في قوله تعالى «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ» فقال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنها الشجر وشبهه (١).

وعن ابى العباس قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ ،) قال : ما هي تماثيل الرجال والنساء ، لكنها تماثيل الشجر وشبهه (٢).

وعن جعفر بن بشير عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : كانت لعلى بن الحسين وسائد وأنماط فيها تماثيل يجلس عليها (٣).

وعن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : لا بأس بتماثيل الشجر (٤).

وعن محمد بن مسلم في الصحيح قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان (٥).

وما رواه الشيخ عن ابى بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : انا نبسط عندنا الوسائد ، فيها التماثيل ونفترشها؟ فقال : لا بأس بما يبسط منها ويفترش ويوطأ ، وانما يكره منها ما نصب على الحائط وعلى السرير (٦).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٢٠ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ٣ ص ٥٦١ حديث : ٦.

(٣) الوسائل ج ٣ ص ٥٦٤ حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٠ حديث : ٢.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٠ حديث : ٣.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٠ حديث : ٤.

٩٩

وما رواه الصدوق في حديث المناهي عن الحسين بن زيد ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التصاوير ، وقال : من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة ان ينفخ فيها وليس بنافخ ، ونهى ان يحرق شي‌ء من الحيوان ، ونهى عن التختم بخاتم صفر أو حديد ، ونهى ان ينقش شي‌ء من الحيوان على الخاتم (١).

وما رواه في الخصال عن محمد بن مروان عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : ثلاثة يعذبون يوم القيمة : من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها ـ الحديث (٢).

وعن ابن عباس ، قال قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صور صورة عذب وكلف ان ينفخ فيها وليس بنافخ (٣).

أقول : ظاهر هذه الاخبار ـ بعد حمل مطلقها على مقيدها ـ : هو تخصيص التحريم بتصوير صورة ذوي الروح ، أعم من ان يكون مجسمة أو منقوشة على جدار وشبهه. وهذا هو القول الرابع من الأقوال المتقدمة ، وهو قول ابن إدريس.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٠ حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢١ حديث : ٧.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢١ حديث : ٩.

١٠٠