الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

إسراف (١).

وفي كتاب ورام ابن أبي فراس ـ وهو جد السيد رضى الدين بن طاوس لامه ، وكان يثنى عليه ثناء زائدا ، ويعتمد كتابه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل ، قال : اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنم يغلى ، فقلت : يا مالك ، لمن هذا؟ فقال : لثلاثة : المحتكرين ، والمدمنين الخمر ، والقوادين (٢).

أقول : هذا ما وقفت عليه من الاخبار في ذلك ، وكلها كما ترى ما بين صريح أو ظاهر في التحريم. وليس فيها ما يمكن التعلق به للقول الأخر. إلا لفظ الكراهة في صحيحة الحلبي أو حسنته. واستعماله في التحريم في الاخبار أكثر كثير ، كما تقدم في غير موضع من كتاب الطهارة والصلاة. فالواجب : حمله على ذلك ، بقرينة جملة أخبار المسألة. ومنه يظهر قوة القول بالتحريم.

ولا يخفى ان من ذهب الى هذا القول ، فإنه لم يمعن نظره في الاخبار ، ولم يتتبعها حق التتبع الرافع عن وجه الحكم المذكور غبار الاستتار ، كما هي عادتهم غالبا في سائر الأحكام ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار.

فروع : الأول : المفهوم من الاخبار ان الاحتكار انما هو في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والزيت والسمن ومنها : ما تقدم في حديث أبي البختري المنقول عن قرب الاسناد ، وقد اشتمل على ما عدا الزيت. وما رواه في الخصال بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحكرة في ستة أشياء : في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت. (٣).

وروى المشايخ الثلاثة عن غياث بن إبراهيم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال

__________________

(١) المصدر ص ٣١٥ حديث : ١٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٤ حديث : ١١.

(٣) المصدر حديث : ١٠.

٦١

ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب (١). وزاد في الفقيه ، والزيت.

ومما يدل على دخول الزيت ايضا : ما في صحيحة الحلبي أو حسنته عن ابى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، وفيها : قال : وسألته عن الزيت؟ فقال : ان كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه.

والمشهور بين الأصحاب : تخصيص الاحتكار بما عدا الزيت من الأشياء المذكورة في هذه الاخبار ، حتى قال الشيخ في النهاية ـ بعد عدها ـ : ولا يكون الاحتكار في سوى هذه الأجناس. وتبعه ابن إدريس وابن البراج والفاضلان وغيرهم.

وقال المفيد : الحكرة احتباس الأطعمة. وأبو الصلاح : الغلات ، والصدوق في المقنع : الأشياء الستة المذكورة في الخصال. وفي المبسوط : زاد على الخمسة المشهورة الملح. وتبعه ابن حمزة.

قال في المختلف : بعد نقل هذه الأقوال : وأجود ما وصل إلينا في هذا الباب ما رواه غياث بن إبراهيم في الموثق ، وساق الرواية المتقدمة. ثم قال : وحينئذ يبقى ما عداه على الأصل.

وأنت خبير بما فيه ، حيث انه ناش عن قصور التتبع في الاخبار كما عرفت.

واما الملح فنقله في النهاية والشرائع قولا في المسألة. وقد عرفت انه قول الشيخ في المبسوط. قال في المسالك : هذا القول قوي.

أقول : والظاهر ان وجه قوته عنده من حيث شدة الاحتياج اليه ، وتوقف أغلب المآكل عليه ، مع انه لم يذكر في الاخبار الواردة في المسألة. ولعل السر في عدم ذكره ، ان الله تعالى لعلمه بما فيه من مزيد الحاجة والاضطرار اليه جعله في كثرة الوجود والرخص قريبا من الماء الذي لا قوام للأبدان والأديان إلا به ، فمن ثم لم يتعرضوا له في الاخبار.

الثاني : حد الشيخ الحكرة في الرخص بأربعين يوما ، وفي الغلاء والشدة

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٢ حديث : ٧.

٦٢

بثلاثة أيام ، عملا برواية السكوني المتقدمة (١). ويؤيدها ظاهر رواية كتاب المجالس (٢).

والأشهر العدم ، لإطلاق الأخبار المتقدمة ، ومنها : صحيحة الحلبي (٣) أو حسنته. ورواية الحسين بن عبد الله بن ضمرة (٤). وتقييد هذه الاخبار بالخبر المذكور ، كما هو القاعدة ، وان أمكن ، الا ان الظاهر بعده من ظواهرها ، كما لا يخفى على المتأمل.

الثالث : هل يشترط في الاحتكار شراء الغلة؟ بمعنى ان يشتريها ويحسبها لذلك ، أو يشمل ما كان من غلته؟ نقل في ذلك عن العلامة الأول. قال : وفي حسنة الحلبي دلالة عليه.

أقول : الظاهر انه أشار بها الى ما رواه المشايخ الثلاثة ، عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : الحكرة ان يشترى طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره ، فان كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس ان يلتمس بسلعته الفضل ،. قال : وسألته عن الزيت؟ فقال : إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه (٥).

ويؤيده أيضا رواية مجالس الشيخ المتقدمة (٦).

ثم انه قال في ذلك : والأقوى عموم التحريم مع استغنائه وحاجة الناس. أقول : أنت خبير بان القول بالعموم ، مع اعترافه بدلالة الحسنة المذكورة على التخصيص بالمشتري لأجل ذلك ، لا يخلو من الإشكال ، لأن القاعدة تقتضي تقييد

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٢ حديث : ١. باب ٢٧. أبواب آداب التجارة.

(٢) المصدر ص ٣١٤ حديث : ٦.

(٣) المصدر ص ٣١٣ حديث : ٢.

(٤) المصدر ص ٣١٧ حديث : ١. باب ٣٠. أبواب آداب التجارة.

(٥) المصدر ص ٣١٥ حديث : ٢. باب ٢٨. أبواب آداب التجارة.

(٦) المصدر ص ٣١٤ حديث : ٦.

٦٣

إطلاق ما عدا هذه الحسنة بها ، فيبقى القول بالعموم خاليا من الدليل ، والقول بالعموم لا مستند له ، الا إطلاق سائر الاخبار ، ومتى قيد بهذه الرواية ، عملا بالقاعدة المذكورة ، لم يبق للقول بالعموم مستند كما لا يخفى.

(الرابع) : لا خلاف بين الأصحاب في ان الامام يجبر المحتكرين على البيع. وعليه تدل جملة من الاخبار المتقدمة. واما انه هل يسعر عليهم أم لا؟ الظاهر : ان المشهور : هو الثاني.

ونقل في المنتهى عن المفيد وسلار. ان للإمام عليه‌السلام ان يسعر عليهم. قال المفيد ـ على ما نقله في المختلف ـ : وللسلطان ان يسعرها على ما يراه من المصلحة ، ولا يسعرها بما يخسر به أربابها فيها.

وقال الشيخ : لا يجوز للسلطان ان يجبر على سعر بعينه ، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى. وبه قال ابن البراج وابن إدريس. والظاهر انه هو المشهور بين المتأخرين.

وقال ابن حمزة : لا يسعر إلا إذا شدد. وان خالف وأخذ في السعر بزيادة أو نقصان لم يتعرض عليه. واختار هذا القول في المختلف. واليه يميل كلام المسالك. وهو جيد.

لنا على عدم التسعير عليه. ما تقدم في حديث الحسين بن عبد الله بن ضمرة. وما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو سعرت لنا سعرا. فإن الأسعار تزيد وتنقص! فقال : ما كنت لا لقي الله تعالى ببدعة لم يحدث الى فيها شيئا. فدعوا عباد الله تعالى يأكل بعضهم من بعض ، فإذا استنصحتم فانصحوا (١).

ويؤيده ما ورد في جملة من الاخبار : ان الله عزوجل وكل بالأسعار ملكا يدبرها (٢). وفي بعضها : فلن يغلو من قلة ولن يرخص من كثرة (٣). وفي آخر : علامة

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٨ حديث : ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٦٣ حديث : ٤.

(٣) المصدر ص ١٦٢.

٦٤

رضا الله تعالى في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم ، وعلامة غضب الله تعالى على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم (١).

ولنا على التسعير عليه إذا شدد حديث «لا ضرر ولا ضرار» (٢).

قال في المسالك ـ بعد اختيار القول المشهور ، وهو انه لا يسعر عليه ـ : وهو أظهر إلا مع الإجحاف ، فيؤمر بالنزول عنه الى حد ينتفي الإجحاف. والا لانتفت فائدة الإجبار ، إذ لا يجوز ان يطلب في ماله مالا يقدر على بذله ، أو يضر بحال الناس ، والغرض دفع الضرر انتهى. وهو جيد ، ومرجعه الى ما ذكرنا من الخبر ، وبه يخصص إطلاق الاخبار المتقدمة.

ويحتمل العمل بإطلاق تلك الأخبار ، مؤيدا ب خبر «الناس مسلطون على أموالهم» (٣). وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، انه قال في تجار قدموا أرضا اشتركوا في البيع ، على ان لا يبيعوا بيعهم الا بما أحبوا. قال : لا بأس بذلك (٤).

وأظهر من ذلك تأييدا : قوله عليه‌السلام في حديث حذيفة بن منصور المتقدم : وبعه كيف شئت (٥).

(الخامس) : لا يخفى ان جملة من الاخبار المتقدمة ، وان كانت مطلقة في النهي عن الاحتكار ، الا ان جملة منها قد قيدت ذلك بما إذا لم يكن في البلد طعام غيره ، فلو كان كذلك لم يدخل تحت النهى ، وان سمى احتكارا ، كما تقدم.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٦٢ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٦٤ حديث : ٤.

(٣) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبقة الحديثة.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٢ حديث : ٢.

(٥) المصدر ص ٣١٧ حديث : ١. باب ٢٩ أبواب آداب التجارة.

٦٥

ومن الاخبار المقيدة ما تقدم في صحيحة الحلبي أو حسنة الاولى. وكذا ما في الثانية (١) المذكورة في الفرع الثالث.

ونحوهما ما رواه المشايخ الثلاثة عن ابى الفضل سالم الحناط في الصحيح ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما عملك؟ قلت : حناط ، وربما قدمت على نفاق ، وربما قدمت على كساد ، فحبست. قال : فما يقول من قبلك فيه؟ قلت : يقولون : محتكر! قال : يبيعه أحد غيرك؟ قلت ما أبيع انا من ألف ألف جزء جزء. قال : لا بأس ، انما كان ذلك رجل من قريش ، يقال له : حكيم بن حزام ، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله ، فمر عليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : يا حكيم بن حزام ، إياك ان تحتكر (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٣ حديث : ٢ وص ٣١٥ حديث : ١.

(٢) المصدر ص ٣١٦ حديث : ٣.

٦٦

المقدمة الثالثة

فيما يكتسب به

ويحسن هنا تقديم خبر في المقام ، قد اشتمل على قواعد كلية في هذه الأحكام ، قل من تعرض اليه من علمائنا الاعلام ، وان طال به زمام الكلام ، فإنه من أهم المهام.

روى الحسن بن على بن شعبة في تحف العقول عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، انه سئل من معايش العباد ، فقال : جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب ، اربع جهات.

ويكون منها حلال من جهة وحرام من جهة ، فأول هذه الجهات الأربع الولاية ، ثم التجارة ، ثم الصناعات ، تكون حلالا من جهة حراما من جهة ، ثم الإجارات.

والفرض من الله تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال ، والعمل بذلك الحلال منها ، واجتناب جهات الحرام منها.

فإحدى الجهتين من الولاية : ولاية ولاة العدل الذين أمر الله تعالى بولايتهم على الناس. والجهة الأخرى ولاية ولاة الجور.

فوجه الحلال من الولاية : ولاية الوالي العدل ، وولاية ولاته بجهة ما أمر به

٦٧

الوالي العادل ، بلا زيادة ولا نقصان ، فالولاية له ، والعمل معه ، ومعونته ، وتقويته حلال محلل.

واما وجه الحرام من الولاية ، فولاية الوالي الجائر ، وولاية ولاته ، والعمل لهم ، والكسب معهم ، لجهة الولاية لهم ، حرام محرم معذب فاعل ذلك ، على قليل من فعله أو كثير ، لان كل شي‌ء من جهة المعونة له ، معصية كبيرة من الكبائر ، وذلك انه في ولاية الوالي الجائر وهن الحق كله ، فلذلك حرم العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم ، إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم والميتة.

واما تفسير التجارات في جميع البيوع ، ووجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع ان يبيع مما لا يجوز له ، وكذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه مما لا يجوز له ، فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد وقوامهم به ، في أمورهم في وجوه الصلاح ، الذي لا يقيمهم غيره ، مما يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون في جميع المنافع ، التي لا يقيمهم غيرها ، وكل شي‌ء يكون فيه الصلاح ، من جهة من الجهات ، فهذا كله حلال بيعه وشراؤه ، وإمساكه واستعماله ، وهبته وعاريته.

واما وجوه الحرام من البيع والشراء ، فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة اكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته ، أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد ، نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير ، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير أو الخمر ، أو شي‌ء من وجوه النجس ، فهذا كله حرام ومحرم ، لان ذلك منهي عن اكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه ، فجميع تقلبه في ذلك حرام.

وكذلك كل بيع ملهو به ، وكل منهي عنه ، ما يتقرب به لغير الله تعالى ، أو يقوى به الكفر والشرك ، من جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به الحق ، فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه الا في حال

٦٨

تدعو الضرورة فيه الى ذلك.

واما تفسير الإجارات ، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره ، من قرابته أو دابته أو ثوبه لوجه الحلال من جهات الإجارات ، أو يوجر نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به ، من وجوه المنافع ، أو العمل بنفسه وولده ومملوكه أو أجيره ، من غير ان يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي ، فلا بأس ان يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته ، لأنهم وكلاء الأجير من عنده ، ليس هم بولاة الوالي ، نظير الحمال يحمل شيئا بشي‌ء معلوم ، فيجعل ذلك الشي‌ء الذي يجوز له حمله ، بنفسه أو بملكه أو دابته ، أو يوجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه ، حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة ، كافرا أو مؤمنا ، فحلال إجارته ، وحلال كسبه ، من هذه الوجوه.

فاما وجوه الحرام من وجوه الإجارة ، نظير ان يوجر نفسه في صنعة ذلك الشي‌ء أو حفظه ، أو لبسه ، أو يواجر نفسه في هدم المساجد ضرارا ، وقتل النفس بغير حل ، أو عمل التصاوير ، والأصنام ، والمزامير ، والبرابط ، والخمر ، والخنازير ، والميتة ، والدم ، أو شي‌ء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه ، من غير جهة الإجارة فيه ، وكل أمر نهى عنه من جهة من الجهات ، فمحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه ، أوله ، أو شي‌ء فيه ، أوله ، إلا لمنفعة من استأجره ، كالذي يستأجر له الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره ، وما أشبه ذلك ـ الى ان قال ـ : وكل من آجر نفسه أو آجر ما يملكه أو يلي أمره ، من كافر أو مؤمن ، ملك أو سوقة ، على ما قررناه ، مما تجوز الإجارة فيه ، فحلال محلل فعله وكسبه.

واما تفسير الصناعات ، فكلما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم ، من أصناف الصناعات ، مثل الكتابة والحساب والنجارة والصياغة والسراجة والبناء والحياكة والقصارة والخياطة وصنعة صنوف التصاوير ، مما لم يكن مثل الروحاني ، وأنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد ، منها منافعهم ، وبها قوامهم ، وفيها بلغة جميع حوائجهم ،

٦٩

فحلال تعلمه وتعليمه والعمل به لنفسه ولغيره ، وان كانت تلك الصناعة وتلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد ووجوه المعاصي ، وتكون معونة على الحق والباطل ، فلا بأس بصناعته وتعليمه ، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد ، وتقوية ومعونة لولاة الجور ، وكذلك السكين والسيف والرمح والجوشن وغير ذلك من وجوه الإله التي تصرف الى وجوه الصلاح والفساد ، وتكون آلة ومعونة عليهما ، فلا بأس بتعلمه وتعليمه وأخذ الأجرة عليه والعمل به وفيه ، لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق ، ومحرم عليهم فيه تصريفه الى جهات الفساد والمضار ، فليس على العالم والمتعلم اثم ولا وزر ، لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم وقوامهم وبقائهم ، وانما الإثم والوزر على المتصرف بها في وجوه الفساد والحرام.

وذلك انما حرم الله تعالى الصناعة التي هي حرام كلها التي يجي‌ء منها الفساد محضا ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج ، وكل ملهو به ، والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك ، من صناعات الأشربة الحرام ، وما يكون منه وفيه الفساد محضا ، ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه وتعلمه ، والعمل به وأخذ الأجرة عليه ، وجميع التقلب فيه ، من جميع وجوه الحركات ، الا ان تكون صناعة قد تصرف الى جهات المنافع ، وان كان قد يتصرف بها ويتناول بها وجه من وجوه المعاصي ، فلعلة ما فيه من الصلاح حل تعلمه والعمل به ، ويحرم على من صرفه الى غير وجه الحق والصلاح.

فهذا بيان وجه اكتساب معايش العباد وتعليمهم في وجوه اكتسابهم. الحديث (١).

ورواه المرتضى عليه الرحمة في رسالة «المحكم والمتشابه».

وانما نقلناه بطوله لجودة مدلوله ومحصوله ، ومنه يستنبط جملة من الأحكام التي وقع فيها الاشكال بين جملة من علمائنا الاعلام ، مثل الاستيجار على

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٥٤. تحف العقول ص ٣٣١.

٧٠

الصلاة ، كما توقف فيه بعض محدثي متأخري المتأخرين ، ومثل التتن والقهوة ونحو ذلك ، فإنه ظاهر في جواز الأول وحل الثاني ، وسيأتي الإشارة أيضا إنشاء الله تعالى إلى جملة من الفوائد التي اشتمل عليها في مواضعها اللائق بها.

ويؤيد الخبر المذكور ما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب «الفقه» حيث قال : اعلم يرحمك الله تعالى ان كل مأمور به على العباد ، وقوام لهم في أمورهم ، من وجوه الصلاح ، الذي لا يقيمهم غيره ، مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويملكون ويستعملون فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ، وكل أمر يكون فيه الفساد مما قد نهى عنه ، من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه لوجه الفساد ، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك ، فحرام ضار للجسم وفساد للنفس (١). انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان ما يكتسب به ينقسم الى محرم ، ومكروه ، ومباح. فهاهنا بحوث ثلاثة.

الأول ، في المحرم. وهو أنواع. فمنه : الأعيان النجسة. ومنه : ما لا ينتفع به ، كالمسوخ برية أو بحرية. والسباع. ومنه : ما هو محرم في نفسه ، كعمل الصور المجسمة ، والغناء ، ومعونة الظالمين ونحوه. مما سيأتي إنشاء الله تعالى. ومنه : ما يحرم لتحريم ما يقصد به ، كآلات اللهو. ونحوها مما سيأتي ، إنشاء الله. ومنه الأجرة على ما يجب فعله على الإنسان مما سيأتي إنشاء الله فهاهنا مقامات :

الأول في الأعيان النجسة ، وفيه مسئلتان.

الأولى : يحرم بيع الأعيان ، كالعذرة من غير مأكول اللحم والبول منه ايضا ، والدم ، والميتة ، والخنزير ، والكلب ، على تفصيل فيه يأتي إنشاء الله تعالى ، والخمر بجميع أنواعه حتى الفقاع ، ونحو ذلك.

ومن الاخبار الواردة في المقام ما رواه في التهذيب عن سماعة قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وانا حاضر ، فقال : انى رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال : حرام بيعها

__________________

(١) مستدرك الوسائل. باب ٢ من أبواب ما يكتسب به حديث : ١ فقه الرضا ص ٣٣.

٧١

وثمنها. وقال : لا بأس ببيع العذرة (١).

وعن يعقوب بن شعيب عن ابى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : ثمن العذرة من السحت (٢).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مضارب عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : لا بأس ببيع العذرة (٣).

وما رواه في الفقيه عن ابى بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ثمن كلب الصيد ، فقال : لا بأس بثمنه ، والأخر لا يحل ثمنه. وقال أجر الزانية سحت ، وثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت ، وأجر الكاهن سحت ، وثمن الخمر سحت ، وثمن الميتة سحت ، فاما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم (٤).

وما رواه في الكافي عن السكوني عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : السحت ثمن الميتة وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغي ، والرشوة في الحكم ، وأجر الكاهن (٥).

وعن عمار بن مروان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الغلول ، فقال : كل شي‌ء غل من الامام فهو سحت ، الى ان قال : والسحت أنواع كثيرة ، منها : أجر الفواجر ، وثمن الخمر ، والنبيذ المسكر ، والربا بعد البينة ، واما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله (٦). الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٦ باب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به. حديث : ٢.

(٢) المصدر. حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٧ حديث : ٣.

(٤) المصدر ص ٦٣ حديث : ٨.

(٥) المصدر ص ٦٢ حديث : ٥.

(٦) المصدر ص ٦١ حديث : ١.

٧٢

والكلام يقع فيها في مواضع.

(الأول) : انه لا يخفى ان ما ذكرناه من الاخبار ، وان كان انما اشتمل على بعض جزئيات ما ذكرناه من الأمر الكلي ، الا ان الخبر الذي قدمناه في صدر المقدمة ، قد دل على ذلك حسبما عنونا به الكلام في هذا المقام.

ونقل في المنتهى إجماع المسلمين كافة على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير. قال : قال الله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد : تحريم الأعيان ووجوه الاستمتاع.

وأنت خبير بأنه قد روى في التهذيب عن ابى القاسم الصيقل ، وولده ، قال : كتبوا الى الرجل عليه‌السلام : جعلنا الله تعالى فداك ، انا قوم نعمل السيوف ، وليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها ، ونحن مضطرون إليها ، وانما علاجنا من جلود الميتة من البغال والحمير الأهلية ، لا يجوز في أعمالنا غيرها ، فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ، ونحن نصلي في ثيابنا ، ونحن محتاجون الى جوابك في المسألة يا سيدنا ، لضرورتنا. فكتب عليه‌السلام : اجعلوا ثوبا للصلاة (١). ونحوه حديث آخر ـ ايضا ـ بهذا المعنى ، قد تقدم في كتاب الطهارة (٢).

والخبر ان المذكوران ظاهران في خلاف ما دلت عليه الاخبار المتقدمة ، من عدم جواز بيع الميتة ، وان ثمنها من السحت ، وانه لا يجوز العمل بها.

ويؤيد هذين الخبرين ـ ايضا ـ ما ورد في حسنتي الحلبي أو صحيحته ، من جواز بيع اللحم المختلط ذكية بميتة ممن يستحل الميتة (٣). وسيأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى ، والمسألة محل الإشكال.

(الثاني) : ظاهر الروايات المتقدمة في العذرة ، الاختلاف في حكم بيعها ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٥ حديث : ٤.

(٢) المجلد الخامس ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٦٧ وص ٦٨ حديث : ١ و ٢.

٧٣

حلا وحرمة.

والشيخ رضى الله عنه قد جمع بينها ، بحمل ما دل على التحريم ، على عذرة الإنسان ، وما دل على الجواز ، على عذرة البهائم.

واحتمل في الذخيرة حمل الأول على الكراهة ، والثاني على الجواز ، قال : لكني لا اعلم به قائلا.

وقد عرفت ما في هذا الحمل ، في غير موضع مما تقدم ، لا سيما في كتابي الطهارة والصلاة ، فإن الخبرين الدالين على التحريم ، صريحان في ذلك ، وإخراجهما عن صريحهما يحتاج إلى قرينة واضحة ، ووجود ما ظاهره المعارضة ليس من قرائن المجاز ، مع ان الكراهة حكم شرعي ، يتوقف على الدليل الواضح ، واختلاف الاخبار لا يصلح ان يكون دليلا على ذلك ، لا سيما مع وجود محمل صحيح آخر تجتمع عليه الاخبار.

وقال شيخنا المجلسي ـ رحمه‌الله عليه ـ في حواشيه على كتب الاخبار : يمكن حمل عدم الجواز على بلاد ينتفع بها والجواز على غيرها ، أو الكراهة الشديدة والجواز ، أو التقية في الحرمة ، فإن أكثرهم على الحرمة ، بأن يكون قد أجاب المسائل علانية ، ثم رأى غفلة منهم ، فأفتى بعدم البأس ، لكنه خلاف المشهور بل المجمع عليه انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، والعمل على ما ذكره الشيخ والأصحاب ، فإنه الحمل السديد.

نعم يبقى الكلام في عذرة غير الإنسان مما لا يؤكل لحمه. والظاهر : أنه لا مستند لهم في تحريم بيعها ، إلا الإجماع المدعى في المقام ، ويشكل بأن الشيخ في الاستبصار احتمل حمل العذرة في خبر الجواز على ما عدا عذرة الإنسان مطلقا ، وهو يؤذن بجواز بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه.

قال في الذخيرة : وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ في الاستبصار ، يقتضي جواز

٧٤

بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه من غير الإنسان ، وادعاء الاتفاق على خلافه كما اتفق لصاحب المسالك ، محل اشكال. وبالجملة ان ثبت إجماع في تحريم بيع شي‌ء من العذرات ، فذلك ، والا كان الجواز متجها فيما ينتفع به انتهى.

أقول : لا يخفى ان ما ذكره الشيخ في كتابي الاخبار في مقام الجمع من الاحتمالات ، لا يوجب ان يكون ذلك مذهبا له ، لينا في دعوى الإجماع في المقام ، ولو جعلت تلك الاحتمالات مذاهب له لم تنحصر مذاهبه في عد ، ولم تنته الى حد ، فالتحقيق : ان المستند في تحريم بيع عذرة ما عدا الإنسان من غير مأكول اللحم ، انما هو ما قدمناه من خبر تحف العقول صريحا ، وخبر الفقه الرضوي ظاهرا ، لعده في الأول ما كان من افراد النجس في المحرمات ، ودلالة الثاني عليه بقوله «وما أشبه ذلك» كما لا يخفى على المتأمل في سياق الخبر. وبذلك يظهر ما في قوله : وبالجملة ان ثبت إجماع. إلخ.

(الثالث) : قد اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أرواث وأبوال ما يؤكل لحمه ، فذهب جماعة إلى جوازه مطلقا ، نظرا إلى أنها عين طاهرة ينتفع بها ، وهو المنقول عن المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ ومن تبعه. وادعى عليه الإجماع. وبه قال ابن إدريس والعلامة في المنتهى وغيره. والظاهر انه المشهور.

وآخرون الى المنع من بيع العذرات والأبوال كلها ، لاستخباثها إلا أبوال الإبل ، للاستشفاء بها ، وللنص عليها (١).

ونقله في المختلف عن المفيد ، حيث قال : قال المفيد : وبيع العذرة والأبوال كلها حرام ، الا بول الإبل خاصة. ثم قال : وكذا قال سلار.

وقال في المسالك ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : والأول أقوى ، خصوصا في العذرات ، للانتفاع بها في الزرع وغيره نفعا بينا مع طهارتها ، واما الأبوال فكذلك ، ان فرض لها نفع مقصود ، والا فلا. انتهى.

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ص ١٠١٢ حديث : ١٥.

٧٥

ونقل جملة من المتأخرين عن الشيخ في النهاية تحريم جميع الأبوال وان كانت مما يؤكل لحمه ، الا بول الإبل للاستشفاء. وعبارته هنا لا تخلو من الإشكال ، فإنه قال : جميع النجاسات يحرم التصرف فيها ، والتكسب بها ، على اختلاف أجناسها ، من سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما ، الا بول الإبل للاستشفاء به عند الضرورة. انتهى.

وهذا الكلام بالنظر الى صدره يقتضي صرف الأبوال التي عدها ، الى أبوال ما لا يؤكل لحمه كالعذرة ، فان غيرها ليس بنجس ، وبالنظر الى استثناء بول الإبل ، صرف الأبوال الى الأبوال مطلقا وان كانت مما لا يؤكل لحمه ، وبالجملة فكلامه هنا مشتبه كما ترى.

وقال سلار : يحرم بيع الأبوال إلا بيع أبوال الإبل خاصة ، وهو قول المفيد ، كذا نقله في المختلف. وهو مؤذن بالمنع من بيع ما يؤكله لحمه الا ما استثنى. والظاهر عندي هو ما ذكره في المسالك من الجواز متى كان لها منافع تترتب عليها ، لعموم خبري تحف العقول والفقه الرضوي (١).

أقول : والأصحاب في هذا المقام لم يذكروا من الأبوال التي دلت النصوص على جواز شربها ، من مأكول اللحم إلا أبوال الإبل خاصة ، مع انه قد وردت الرخصة أيضا في بول البقر والغنم ، كما رواه الشيخ في الموثق ، عن عمار الساباطي عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، انه سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال : ان كان محتاجا اليه يتداوى به يشربه ، وكذلك بول الإبل والغنم (٢).

وما رواه سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر

__________________

(١) تحف العقول ص ٣٣١. والوسائل ج ١٢ ص ٥٤. ومستدرك الوسائل باب ٢ من أبواب ما يكتسب به ، رقم : ١. فقه الرضا ص ٣٣.

(٢) الوسائل ج ٢ ص ١٠١٢ حديث : ١٥.

٧٦

والغنم ، ينعت له من الوجع ، هل يجوز له ان يشرب؟ قال : نعم لا بأس به (١).

ومما يدل على بول الإبل زيادة على الخبرين المذكورين ، ما رواه في الكافي بسنده عن موسى بن عبد الله بن الحسن ، قال : سمعت أشياخنا يقولون : البان اللقاح شفاء من كل داء وعاهة ولصاحب الربو أبوالها (٢).

ونقل في الوسائل في هذا الباب ما رواه عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري ، عن جعفر عن أبيه ، ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا بأس ببول ما أكل لحمه (٣).

وأنت خبير بما فيه من الإجمال ، لاحتمال كون نفى البأس باعتبار الطهارة ، لا باعتبار حل الشرب.

(الرابع) : ما اشتملت عليه الاخبار المتقدمة من تحريم الميتة ، وان ثمنها سحت ، المراد به ما ينجس بالموت مما له نفس سائلة ، فيشمل ما قطع من جسده ، حيا كان أو ميتا. واما تخصيص صاحب المسالك ومثله صاحب المعالم ذلك بجسد الميت دون الاجزاء ، فهو ضعيف ، وقد تقدم البحث معهما في ذلك في كتاب الطهارة ، في بحث النجاسات وقد أوردنا جملة من الاخبار الصحيحة الصريحة فيما ذكرناه.

وظاهر الاخبار وكلام الأصحاب ، ان الطهارة والنجاسة دائرتان مدار حلول الحياة وعدمه ، فكل ما تحله الحياة يكون نجسا ، ويكون الانتفاع به محرما وثمنه سحتا ، بمقتضى الأخبار المتقدمة ، الا انه قد وقع الإشكال في ذلك في جلد الميتة ، باعتبار دلالة ما تقدم من الاخبار ، في الموضع الأول على جواز الانتفاع به ، وظاهر الصدوق في الفقيه طهارته ، لما رآه فيه من جواز جعل اللبن والسمن فيه ، وكذا

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ٨٨ حديث : ٧.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٣٣٨. وفي المصدر المطبوع : «ولصاحب البطن أبوالها» ، غير ان نسخة الوسائل ج ١٧ ص ٨٨ حديث : ٤ موافقة للمتن.

(٣) الوسائل ج ٢ ص ١٠١٢ حديث : ١٧.

٧٧

الماء. واليه يميل كلام صاحبي المدارك والمعالم ، وهو أشد إشكالا. وقد تقدم لبحث معهم في ذلك في كتاب الطهارة وبينا حمل ما دل على ذلك على التقية.

والمشهور في كلام الأصحاب تحريم الاستصباح بما قطع من أليات الغنم ، بناء على ما ذكرناه من انها ميتة ، والميتة لا ينتفع بشي‌ء منها مما تحله الحياة.

ونقل الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء ، ثم قال : وهو ضعيف ، الا انه روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي ، عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن رجل يكون له الغنم ، يقطع من ألياتها وهي أحياء ، أيصلح له ان ينتفع بما قطع؟ قال : نعم ، يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها (١).

وروى هذه الرواية أيضا الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام مثله (٢). والرواية المذكورة كما ترى ظاهرة الدلالة في القول المذكور.

وظاهر شيخنا المجلسي ـ رحمه‌الله عليه ـ في البحار : الميل الى العمل بهذه الرواية ، حيث قال ـ بعد نقل الخلاف في هذه المسألة ـ : والجواز عندي أقوى ، لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز ، وضعف حجة المانع ، إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها ، كما حقق في موضعه ، والإجماع ممنوع انتهى.

وفيه : انه ـ وان كان المتبادر من الآية ، وهي قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» انما هو تحريم الأكل كما ذكره ـ الا ان الدليل ليس منحصرا فيها بل الدليل على ذلك : انما هو الاخبار الصريحة في ان الميتة لا ينتفع بشي‌ء منها.

ومن تلك الاخبار ما هو في خصوص موضع البحث ، وها أنا أورد لك ما حضرني الان منها ، فمنها : ما رواه في الكافي عن الحسن بن على الوشاء ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك ، ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم ، فيقطعونها. فقال : حرام هي. فقلت : جعلت فداك ، فنصطبح بها؟ فقال : أما عملت انه يصيب اليد والثوب ،

__________________

(١) السرائر ص ٤٦٩.

(٢) قرب الاسناد ص ١١٥.

٧٨

وهو حرام (١). وقوله : وهو حرام اى نجس.

وعن الكاهلي قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام ، وانا عنده عن قطع أليات الغنم ، فقال : لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال : ان في كتاب على عليه‌السلام : ان ما قطع منها ميت لا ينتفع به (٢).

ومنها : ما في صحيح على بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ فقال لا. الحديث (٣). ومن المحتمل قريبا في الحديث المذكور خروجه مخرج التقية ، كما انهم ذهبوا الى طهارة جلد الميتة بالدباغ ، حسبما قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة.

وابن إدريس ـ في السرائر ـ لما أورد خبر البزنطي المذكور ، قال : لا يلتفت الى هذا الحديث ، فإنه من نوادر الاخبار ، والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر. انتهى.

واما ما لا تحله الحياة منها فهو طاهر يجوز الانتفاع به ويحل بيعه وشراؤه اتفاقا ، نصا وفتوى ، الا اللبن في ضرع الشاة الميتة ، فقد اختلف الأصحاب فيه طهارة ونجاسة ، فالمشهور : انه كغيره مما لا تحله الحياة ، وقد تقدم تحقيق القول في ذلك في كتاب الطهارة.

(الخامس) : لا خلاف بين الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ في جواز بيع كلب الصيد وعدم جواز بيع ما عداه ، وعدا كلب الماشية والزرع والحائط ، وانما الخلاف في هذه الثلاثة ، فقال الشيخ في النهاية : ثمن الكلب سحت إلا إذا كان سلوقيا للصيد ، فإنه يجوز بيعه وشراؤه وأكل ثمنه والتكسب به ، وكذا قال المفيد.

وقال في المبسوط : الكلاب ضربان ، أحدهما لا يجوز بيعه بحال ، والأخر

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٢٥٥ حديث : ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٢٥٥ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ٢ ص ١٠٨٠ حديث : ٢.

٧٩

يجوز ذلك فيه. فما يجوز بيعه : ما كان معلما للصيد ، وروى ان كلب الماشية والحائط مثل ذلك ، وما عدا ذلك كله لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به.

وقال في الخلاف : يجوز بيع كلاب الصيد ، ويجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلمة ، ولا يجوز بيع غير الكلب المعلم على حال.

قال في المنتهى ـ بعد نقل عبارة الشيخ في النهاية وكذا الشيخ المفيد ـ عطر الله مرقديهما ـ : وعنى بالسلوقي كلب الصيد ، لان سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلمة فنسب الكلب إليها انتهى. ومنه يظهر مراد الشيخ بهذه العبارة ، وانها خرجت مخرج التجوز والكناية عن كلب الصيد ، لا تخصيص الحكم بما كان من كلاب تلك القرية ، وبنحو ما عبر به الشيخ وقع التعبير في الاخبار ايضا ، كما في جملة منها «دية الكلب السلوقي أربعون درهما». والمراد كلب الصيد ، سواء كان من هذه القرية أو من غيرها.

وقال ابن الجنيد : ولا بأس بشراء الكلب الصائد والحارس للماشية والزرع.

وقال ابن البراج : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب.

وقال ابن إدريس : يجوز بيع كلب الصيد ، سواء كان سلوقيا وهو المنسوب الى «سلوق» قرية باليمن ، أو غير سلوقى. وكلب الزرع والماشية. وكلب الحائط وبه قال ابن حمزة.

قال في المختلف : وهو الأقرب عندي. ونحو ذلك في المنتهى ايضا. واختاره في المسالك ايضا.

وألحق بكلب الحائط كلب الدار ايضا. وتردد المحقق في الشرائع ، ثم قال : والأشبه المنع.

ونقل في المنتهى عن الشيخ في باب الإجارة من المبسوط : انه سوغ بيعها ، وحينئذ فيكون كلامه في الكتاب المذكور مختلفا.

أقول : والذي وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بالكلب في هذا الباب ، متفق

٨٠