الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

أبي الربيع عنه عليه‌السلام انه قال لا تخالط الأكراد فإن الأكراد حي من الجن كشف الله عنهم الغطاء (١).

قال بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين : ربما يؤول بأنهم لسوء أخلاقهم وجبلتهم أشباه الجن ، فكأنهم منهم كشف الغطاء عنهم انتهى.

(ومنها) كراهة الاستحطاط من الثمن بعد العقد

. والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك ، ما رواه المشايخ الثلاثة رحمهم‌الله عن إبراهيم بن ابى زياد قال : اشتريت لأبي عبد الله عليه‌السلام جارية ، فلما ذهبت أنقدهم الدراهم ، قلت أستحطهم؟ قال : لا ، ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة (٢).

وفي التهذيب بأحد أسانيده (٣) «الضمنة» بالنون اى لزوم البيع وضمان كل منهما ما صار اليه.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زيد الشحام قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام بجارية أعرضها ، فجعل يساومني وأساومه ثم بعتها إياه فضم على يدي. قلت : جعلت فداك ، انما ساومتك لأنظر المساومة تنبغي أو لا تنبغي ، وقلت : قد حططت عنك عشرة دنانير. فقال : هيهات الا كان هذا قبل الضمة ، أما بلغك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الوضيعة

__________________

هذا حديث مشتبه يجب رد علمه إلى اهله ، ولا يصلح مستندا لحكم شرعي. أو لعل المراد : انهم كانوا قوما مغمورين لا عهد لهم بالحضارة فكانت فيهم شي‌ء من غلظة البداوة. ولا شك انهم بعد طول الزمان وقربهم الى معالم المدنية أصبحوا كسائر الناس المتمدنين ، ولا يشملهم الحكم المذكور. م ه. معرفة.

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٠٨ حديث : ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٦ ، حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٤ ، حديث : ٦.

٤١

بعد الضمة حرام. (١).

ورواه في الفقيه عن زيد الشحام ، قال : أتيت أبا جعفر عليه‌السلام مثله (٢). وفي الفقيه والتهذيب «ضمن على يدي» عوض «وقبض» وفيها «الضمنة» عوض «الصفقة» وقد تقدم معناه.

وروى في الفقيه عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يشترى من الرجل البيع ، فيستوهبه بعد الشراء من غير ان يحمله على الكره؟ قال : لا بأس به (٣). وروى في التهذيب عن معلى بن خنيس عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يشترى المتاع ثم يستوضع؟ قال : لا بأس. وأمرني فكلمت له رجلا في ذلك (٤). وعن يونس بن يعقوب عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يستوهب من الرجل الشي‌ء بعد ما يشترى ، فيهب له أيصلح له؟ قال : نعم (٥). وروى في الكافي والتهذيب عن ابى العطارد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترى الطعام ، فأضع في اوله ، وأربح في آخره ، فأسأل صاحبي أن يحط عنى في كل كر كذا وكذا؟ فقال : هذا لا خير فيه ، ولكن يحط عنك جملة. قلت : فان حط عني أكثر مما وضعت؟ قال : لا بأس (٦).

أقول : وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في جواز الاستحطاط وعدم حرمته والشيخ ـ رحمه‌الله ـ قد جمع بينها بحمل الخبرين الأولين على الكراهة ، وتبعه الجماعة كما هي عادتهم غالبا. وأنت خبير بان صريح الخبر الثاني التحريم ، وقد فسر فيه نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تضمنه الخبر الأول بالتحريم. وهو ظاهر الخبر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٦.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٤ ، حديث : ٦.

(٣) المصدر ص ٣٣٤ حديث : ٧.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٤.

(٥) المصدر حديث : ٤.

(٦) المصدر حديث : ٥.

٤٢

الأول ومن ثم جمع في الوافي بين الاخبار المذكورة ، بحمل اخبار الجواز على ما إذا كان الاستحطاط على جهة الهبة ، كما تضمنه بعضها ، حملا لمطلقها على مقيدها ، وإبقاء الخبرين الأولين على ظاهرهما ، من التحريم ، وهو جيد.

(ومنها) كراهة الزيادة في السلعة وقت النداء ، بل يصبر عليه حتى يسكت ، ثم يزيد إذا أراد.

والدخول في سوم المسلم.

والنجش ـ بالنون ثم الجيم ثم الشين المعجمة ـ وهو زيادة الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ، ليسمعه غيره فيزيد بزيادته.

والذي يدل على الأول ، ما رواه في الكافي عن أمية بن عمرو الشعيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : إذا نادى المنادي فليس لك ان تزيد ، وانما يحرم الزيادة النداء ، ويحلها السكوت (١). ورواه الشيخ بإسناده عن أمية بن عمرو مثله ورواه الصدوق ايضا عن أمية بن عمرو ، وزاد بعد قوله «تزيد» «وإذا سكت ان تزيد».

واما ما يدل على الثاني فهو ما رواه الصدوق في حديث المناهي المذكور في آخر الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم (٢).

أقول : والمراد بدخول الرجل في سوم أخيه : هو ان يزيد في الثمن الذي يريد ان يشتريه الأول ليقدمه البائع ، لأجل الزيادة. هذا بالنسبة إلى الدخول في السوم في صورة الشراء.

واما بالنسبة إلى الدخول في السوم في صورة البيع ، فهو ان يبذل الداخل للمشتري متاعا من عنده ، غير ما اتفق عليه البائع الأول مع المشترى ، وقد اختلف الأصحاب

__________________

(١) المصدر ص ٣٣٧ حديث : ١.

(٢) المصدر ص ٣٣٨ حديث : ٣.

٤٣

في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ وجماعة إلى التحريم والمشهور بين المتأخرين : الكراهة. قال في المسالك ـ بعد ان نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انه قال : لا يسوم الرجل على سوم أخيه ـ : وهو خبر معناه النهى ، والأصل في النهي التحريم. فمن ثم ذهب الشيخ وجماعة إلى تحريمه ، واستظهر المصنف الكراهة ، للأصل ، والجهل بسند الحديث. ولو صح تعين القول بالتحريم انتهى.

أقول : والظاهر ان الخبر المنقول في كلامه ـ عليه الرحمة ـ انما هو من الاخبار المتناقلة في كتب الفروع ، غير مسند إلى أصل من الأصول ، ولا الى أحد من الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ بخلاف الخبر الذي نقلناه عن الفقيه ، فإنه مسند في الكتاب المذكور بجميع ما اشتمل عليه من المناهي. وان ضعف سنده باصطلاحهم ، الا انه من مرويات الفقيه ، التي لها مزية وزيادة على غيرها ، بما ضمنه في صدر كتابه. وكيف كان فإنهم قد صرحوا ـ رضى الله عنهم ـ بأن النهي تحريما أو كراهة ، انما يثبت بعد تراضى الأولين ، صريحا أو ظاهرا ، فلو ظهر ما يدل على عدم الرضا ، وطلب الزيادة ، أو جهل حاله ، لم يتعلق به الحكم المذكور. وهو كذلك ، لأصالة الصحة ، وقوفا في النهى على القدر المتيقن.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان ابن إدريس قال في سرائره ـ ما صورته ـ : قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا نادى المنادي على المتاع فلا يزيد في المتاع ، فإذا سكت المنادي زاد حينئذ ان شاء ، وقال في مبسوطه : واما السوم على سوم أخيه فهو حرام ، لقوله عليه‌السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه. هذا إذا لم يكن المبيع في المزايدة ، فإن كان كذلك فلا تحرم المزايدة. وهذا هو الصحيح ، دون ما ذكره في نهايته. لان ذلك على ظاهره غير مستقيم ، لأن الزيادة في حال النداء غير محرمة ، ولا مكروهة. فاما الزيادة المنهي عنها فهي عند الانتهاء وسكون نفس كل واحد من البيعين على البيع ، بعد استقرار الثمن ، والأخذ والشروع في الإيجاب والقبول ، وقطع المزايدة فعند هذه الحال لا يجوز السوم على سوم أخيه انتهى.

٤٤

والعلامة في المنتهى ـ بعد ان نقل كلام ابن إدريس المذكور ـ ذكر ان الشيخ عول هنا على رواية الشعيري ثم قال ـ بعد نقلها ـ : وهذه الرواية ان صح سندها حملت على ما إذا وقع السكوت عن الزيادة لا للشراء.

ثم قال : والتحقيق هنا ان نقول : لا تخلو الحال عن أربعة أقسام.

أحدها : ان يوجد من البائع التصريح بالرضا بالبيع. فهنا يحرم السوم.

الثاني : ان يظهر منه ما يدل على عدم الرضا. فهذا لا تحرم فيه الزيادة.

الثالث : ان لا يوجد ما يدل على الرضا ولا على عدمه. فهنا ايضا يجوز السوم.

الرابع : ان يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح ، والوجه هنا التحريم ايضا. انتهى ملخصا.

أقول : والذي يقرب في فكري الكليل ، وذهني العليل : ان ما ذكره هذان العمدتان في المقام لا يخلو من النظر الظاهر لذوي الأفهام. فإنه لا يخفى ان كلا من الحكمين المذكورين ، لا تعلق له بالاخر ولا ارتباط بينهما ، ليتوهم حصول المنافاة بينهما ، ويحتاج الى الجمع كما ذكره في المنتهى ، أو إطراح أحدهما ، كما توهمه ابن إدريس ، فإنه لا يخفى ان النداء على السلعة التي تضمنه خبر الشعيري انما هو ان يعطى بعض المشترين ثمنا ، فينادي به الدلال قبل ان يقع بينهما تراض عليه ، فان حصل من اعطى أزيد من الأول فربما باعه وتراضي مع ذلك المعطى عليه ، وربما نادى به ايضا طلبا للزيادة. والامام عليه‌السلام قد نهى من الزيادة في حال النداء ، وجوزها في حال السكوت ، والوجه فيما قاله عليه‌السلام هنا غير ظاهر لدينا ، ولا معلوم عندنا ، وينبغي ان يحمل ذلك على مجرد التعبد الشرعي ، تحريما أو كراهة.

واما السوم على السوم فهو شي‌ء آخر ، وهو ان يقع بين البائع والمشترى المساومة ، التي هي عبارة عن المجاذبة بينهما في فصل الثمن ، وتعيينه ، وليس هنا نداء بالكلية» لأنه مع حصول التراضي المانع من الدخول في السوم ، لا معنى للنداء على السلعة وطلب الزيادة ، كما لا يخفى. ومع عدم حصول التراضي فلا معنى للنداء

٤٥

بالكلية. فالداخل في السوم يفصل فيه بما ذكره في المنتهى من الصور الأربع المذكورة كما قدمنا إليه الإشارة أيضا.

ورد ابن إدريس على الشيخ في النهاية انما نشأ من عدم وقوفه على الخبر المذكور ، وتوهم منافاة ذلك لما ذكره في المبسوط ، وهو في غير محله. لان ما ذكره في كل من الكتابين حكم على حده غير الأخر كما لا يخفى

واما ما يدل على الثالث فهو ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله : النواشمة والمتوشمة ، والناجش والمنجوش ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). وروى في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده عن القاسم بن سلام ، بإسناد متصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا تناجشوا ولا تدابروا (٢). قال : ومعناه : ان يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. والناجش خائن. والتدابر الهجران.

أقول : وما اشتمل عليه الخبر الأول ، من ذكر الناجش والمنجوش ، وانهما ملعونان ، فالظاهر ان المراد به : هو ان يواطى‌ء البائع رجلا ، إذا أراد بيعا ، ان يساومه بثمن كثير ، ليقع فيه غيره.

والمشهور في كلام الأصحاب : تحريمه. بل قال في المنتهى : انه محرم إجماعا ، لأنه خديعة. وقد صرحوا بأنه لا يبطل البيع به ، بل العقد صحيح.

ونقل في الدروس عن ابن الجنيد : انه إذا كان من البائع أبطل ، وعن القاضي : انه يتخير المشتري ، لأنه تدليس.

وقطع في المبسوط بأنه لا خيار إذا لم يكن بمواطاة البائع. وقوى عدم الخيار ايضا بمواطاته.

وقيد الفاضلان الخيار بالغبن كغيره من العقود.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٧ حديث : ٢.

(٢) المصدر ص ٣٣٨ حديث : ٤.

٤٦

أقول : ولا ريب ان ظاهر النهى هو التحريم ، ولا يبعد القول بذلك في الفردين الآخرين ايضا ، لظاهر الخبرين المتقدمين ، مع عدم المعارض.

(ومنها) استحباب المماكسة ، إلا في مواضع مخصوصة.

ويدل على ذلك ما رواه في الكافي عن الحسن بن على عن رجل يسمى سوادة ، قال : كنا جماعة بمنى فعزت علينا الأضاحي ، فنظرنا فإذا أبو عبد الله عليه‌السلام واقف على قطيع ، يساوم بغنم ويماكسهم مكاسا شديدا ، فوقفنا ننظر ، فلما فرغ اقبل علينا ، فقال : أظنكم قد تعجبتم من مكاسي! فقلنا : نعم. فقال : ان المغبون لا محمود ولا مأجور. الحديث (١).

وعن الحسين بن يزيد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ـ وقد قال له أبو حنيفة : عجب الناس منك أمس ، وأنت بعرفة تماكس ببدنك أشد مكاس يكون ـ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فما لله من الرضا ان أغبن في مالي قال : فقال أبو حنيفة : لا والله ما لله في هذا من الرضا ، قليل ولا كثير ، ما نجيئك بشي‌ء إلا جئتنا بما لا مخرج لنا منه (٢).

وروى الصدوق ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ماكس المشتري ، فإنه أطيب للنفس ، وان اعطى الجزيل ، فان المغبون في بيعه وشرائه غير محمود ولا مأجور (٣).

وفي عيون الاخبار بسنده عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قال : المغبون لا محمود ولا مأجور (٤).

اما ما استثنى من ذلك فيدل عليه ما رواه في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان على بن الحسين يقول لقهرمانة : إذا أردت أن تشترى لي من

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٤٩٦ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٠ ص ١١٨ حديث : ٢.

(٣) المصدر ج ١٢ ص ٣٣٥ حديث : ٢.

(٤) المصدر حديث : ٣.

٤٧

حوائج الحج شيئا فاشتر ولا تماكس (١).

وبإسناده عن حماد بن عمرو ، وانس بن محمد ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ في وصية النبي لعلي عليه‌السلام قال : يا على ، لا تماكس في أربعة أشياء : شراء الأضحية ، والكفن ، والنسمة ، والكراء إلى مكة (٢).

وفي الخصال بسند مرفوع ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : لا تماكس في أربعة أشياء : في الأضحية ، والكفن ، وثمن النسمة ، والكراء إلى مكة (٣).

قال في الوافي : ينبغي تخصيص هذه الاخبار ببعض المواضع ، كما إذا كان البائع مؤمنا. وحمل الأولين على مواضع أخر ، كما إذا كان البائع مخالفا أو غير ذلك انتهى. وهو جيد.

(ومنها) ان يكون سهل البيع والشراء ، والقضاء والاقتضاء ، لما رواه الشيخ في الموثق عن حنان ، عن أبيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : بارك الله تعالى على سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء (٤). وروى الصدوق مرسلا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الله تبارك وتعالى يحب العبد في ان يكون سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء سهل الاقتضاء (٥).

وروى في الخصال بسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غفر الله تعالى لرجل كان قبلكم ، كان سهلا إذا باع ، سهلا إذا قضى ، سهلا إذا اقتضى (٦).

__________________

(١) المصدر. أبواب آداب التجارة باب : ٤٦. حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٦ حديث : ٢.

(٣) المصدر حديث : ٣.

(٤) المصدر ص ٣٣٢ باب : ٤٢ أبواب آداب التجارة حديث : ١.

(٥) المصدر حديث : ٢.

(٦) المصدر حديث : ٣.

٤٨

وروى في الكافي عن حماد بن عثمان ، قال : دخل رجل على ابى عبد الله عليه‌السلام فشكى اليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث ان جاء المشكو ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام مغضبا : ما لفلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت منه حقي! قال : فجلس أبو عبد الله عليه‌السلام مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عزوجل في كتابه فقال «يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» أترى انهم خافوا الله ان يجور عليهم! لا والله ، ما خافوا الا الاستقضاء. فسماه الله ـ عزوجل ـ سوء الحساب. فمن استقضى فقد أساء (١).

(ومنها) استحباب البيع عند حصول الربح ، وكراهة تركه.

ويدل عليه : ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سعيد الدغشي ، قال : كنت على باب شهاب بن عبد ربه ، فخرج غلام شاب ، فقال : انى أريد أن أسأل هاشم الصيدناني عن حديث السلعة والبضاعة. قال : فأتيت هاشما ، فسألته عن الحديث ، فقال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البضاعة والسلعة ، فقال : نعم ، ما من أحد يكون عنده سلعة أو بضاعة. إلا قيض الله ـ عزوجل ـ له من يربحه ، فان قبل والا صرفه الله تعالى الى غيره. وذلك لانه رد بذلك على الله ـ عزوجل ـ (٢) وروى في الفقيه مرسلا ، قال : قال على عليه‌السلام : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رجل معه سلعة يريد بيعها. فقال : عليك بأول السوق (٣).

أقول : يعنى أول من يربحك في سلعتك في السوق ، كما يدل عليه الخبر الأول.

أقول : وهذا من المشهورات ، بل المجربات. ومن الأمثال المتعارفة بين الناس ، قولهم : عليك بثاني زينة! قال : والاولى؟ قال : لست من رجالها. والمعنى : انك لا توفق للأولى لمزيد الطمع ، مع أنها أوفر مما تعطى بعدها ، فان فاتتك

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٠ ـ ١٠١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٥٣ حديث : ١٧.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٩٦ حديث : ٣.

٤٩

فلا تفوتك الثانية.

ويؤيد الأخبار المذكورة : ما ورد من كراهة استقلال قليل الرزق ، (١) وانه يؤدى الى حرمان الكثير.

روى في الكافي عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من طلب قليل الرزق كان ذلك داعية الى اجتلاب كثير من الرزق (٢).

وعن الحسن بن بسام الجمال ، قال : كنت عند إسحاق بن عمار الصيرفي ، فجاءه رجل يطلب غلة بدينار ، وقد كان أغلق باب الحانوت وختم الكيس ، فأعطاه غلة بدينار ، فقلت : ويحك يا إسحاق ، ربما حملت لك من السفينة ألف ألف درهم! فقال : ترى كان بي هذا ، لكني سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من استقل قليل الرزق حرم كثيره ، ثم التفت الى ، فقال : يا إسحاق لا تستقل قليل الرزق فتحرم كثيره (٣).

«ومنها» استحباب المبادرة إلى الصلاة وترك ما بيده من التجارة والاشتغال بها.

ويدل عليه : ما رواه في الكافي عن الحسين بن يسار ، عن رجل رفعه ، في قول الله تعالى «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» قال : هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى ، إذا دخل مواقيت الصلاة ، أدوا الى الله تعالى حقه منها (٤).

وعن أسباط بن سالم قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام وساق الخبر عنه عليه‌السلام الى ان قال : يقول الله عزوجل «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» يقول

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٣٨ باب : ٥٠ أبواب آداب التجارة. والاستقلال : عد الشي‌ء قليلا.

(٢) المصدر حديث : ١.

(٣) المصدر حديث : ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ١٥٤ حديث ٢١.

٥٠

القصاص : ان القوم لم يكونوا يتجرون ، كذبوا ولكنهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها ، وهو أفضل ممن حضر الصلاة ولم يتجر (١).

وعن ابى بصير في الصحيح أو الموثق ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفة وكان لازما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مواقيت الصلاة كلها ، لا يفقده في شي‌ء منها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرق له وينظر الى حاجته وغربته. ثم يقول : يا سعد ، لو قد جائني شي‌ء لأغنيتك ، قال فأبطأ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاشتد غم رسول الله ، فعلم الله ـ عزوجل ـ ما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غمه بسعد ، فأهبط جبرئيل عليه‌السلام ومعه درهمان. فقال له : يا محمد ، ان الله ـ عزوجل ـ قد علم ما دخل عليك من الغم بسعد ، أفتحب ان تغنيه؟ قال : نعم. فقال له : فهاك هذين الدرهمين ، فأعطه إياهما ، ومره ان يتجر بهما ، فأخذهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جبرئيل عليه‌السلام.

ثم خرج الى صلاة الظهر ، وسعد قائم على باب حجرات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ينتظره. فلما رآه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : يا سعد أتحسن التجارة؟ فقال له سعد : والله ما أصبحت أملك مالا اتجر به ، فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدرهمين ، فقال له : اتجر بهما ، وتصرف لرزق الله عزوجل ، فأخذهما سعد ومضى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صلى معه الظهر والعصر ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم واطلب الرزق ، فقد كنت بحالك مغتما يا سعد.

قال : فاقبل سعد لا يشترى بدرهم شيئا إلا باعه بدرهمين ، ولا يشترى بدرهمين الا باعه بأربعة دراهم ، وأقبلت الدنيا عليه ، حتى كثر متاعه وماله ، وعظمت تجارته واتخذ على باب المسجد موضعا وجلس فيه ، وجمع تجاراته اليه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقام بلال للصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا ، لا يتطهر ولا يتهيأ كما كان يفعل قبل ان يتشاغل بالدنيا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يا سعد ، شغلتك الدنيا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٧٥ حديث : ٨.

٥١

عن الصلاة! وكان يقول : ما أصنع ، أضيع مالي؟ هذا رجل قد بعته وأريد ان استوفى منه ، وهذا رجل قد اشتريت منه وأريد ان أو فيه ، فدخل رسول الله من أمر سعد غم شديد أشد من غمه بفقره فهبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد ، ان الله تعالى قد علم غمك بسعد ، فأيما أحب إليك : حاله الأولى أو حاله هذه؟ فقال : يا جبرئيل ، بل حاله الاولى ، فقد ذهبت دنياه بدينه وآخرته. فقال له جبرئيل عليه‌السلام : ان حب الأموال والدنيا فتنة ومشغلة عن الآخرة ، قل لسعد ، يرد عليك الدرهمين الذين دفعتهما إليه ، فإن أمره يصير الى الحال التي كان عليها أولا ، قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمر بسعد ، فقال له : اما تريد ان ترد علينا الدرهمين الذين أعطيتكهما؟ فقال له سعد : ومأتين. فقال له : لست أريد منك الا الدرهمين ، فأعطاه سعد درهمين. قال : فأدبرت الدنيا عن سعد ، حتى ذهب ما كان معه وما جمع ، وعاد الى حالته التي كان عليها (١).

«ومنها» ان لا يتوكل حاضر لباد. والمراد بالبادي : الغريب الجالب للبلد ، أعم من ان يكون من البادية أو قرويا. ومعناه : ان يحمل البدوي أو القروي متاعه الى بلد فيأتيه البلدي ، ويقول له : انا أبيعه لك بأعلى ما تبيعه ، قبل ان يعرفه السعر ، ويقول : انا أبيع لك. وأكون سمسارا. كذا ذكره في المسالك.

وقد اختلف الأصحاب في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ في النهاية الى الثاني. وهو قول العلامة في المختلف ، واختيار المحقق في الشرائع ، والشهيد في الدروس.

وفي المبسوط والخلاف إلى الأول ، الا انه قيده في المبسوط بما يضطر اليه الناس ، بان يكون في فقده إضرار بهم.

وقال ابن البراج في المهذب كقول الشيخ في المبسوط. وبه قال ابن إدريس ، والعلامة في المنتهى.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٩٧ باب : ١٤ أبواب آداب التجارة حديث : ٢ والكافي ج ٥ ص ٣١٢ حديث : ٣٨.

٥٢

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ، ما رواه في الكافي عن عروة بن عبد الله ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يتلقى أحدكم تجارة ، خارجا من المصر ، ولا يبيع حاضر لباد ، والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض (١). وروى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يبيع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (٢).

ولا يبعد ان يكون الخبر المذكور من طريق العامة ، لأن أكثر رجاله منهم.

وعن يونس بن يعقوب قال : تفسير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يبيعن حاضر لباد» : أن الفاكهة وجميع أصناف الغلات ، إذا حملت من القرى الى السوق ، فلا يجوز ان يبيع أهل السوق لهم من الناس ، بل ينبغي ان يبيعه حاملوه من القرى والسواد. فاما من يحمل من مدينة إلى مدينة فإنه يجوز ، ويجرى مجرى التجارة.

وأنت خبير بان ظاهر هذا الخبر تخصيص ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديثين الأولين بالفاكهة وجميع أصناف الغلات. إذا حملت من القرى ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب من العموم في هذا الحكم ، الا ان ظاهر الخبر المذكور انما هو من كلام يونس ، فيهون الاشكال.

ومن ذهب من أصحابنا إلى التحريم أخذ بظاهر النهي في الحديثين الأولين.

ومن ذهب الى الكراهة ، اعتمد على الأصل ، ورد الخبرين بضعف السند ، وحملهما على الكراهة تفاديا من طرحهما.

وقد ذكر الأصحاب في تحريمه أو كراهته شروطا :

أحدها : ان يكون الحاضر عالما بورود النهى. وهذا شرط يعم جميع المناهي. الثاني : ان يظهر من ذلك المتاع سعر في البلد ، فلو لم يظهر ، اما لكبر البلاد ، أو لعموم وجوده ، ورخص السعر ، فلا تحريم ولا كراهة. لأن المقتضي للنهي تفويت الربح

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٦٨ باب التلقي حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٢٧ باب ٣٧ أبواب آداب التجارة حديث : ٣.

٥٣

وفقد الرفق على الناس ، ولم يوجد هنا.

الثالث : ان يكون المتاع المجلوب بما تعم الحاجة إليه ، فما لا يحتاج اليه الا نادرا ، لا يدخل تحت النهى.

الرابع : ان يعرض الحضري ذلك على البدوي ويدعوه اليه ، فلو التمس الغريب ذلك لم يكن به بأس.

الخامس : ان يكون الغريب جاهلا بسعر البلد ، فلو كان عالما به لم يكره ، بل يكون مساعدته محض الخير.

أقول : أنت خبير بان الظاهر ، ان ما عدا الأول والأخير من هذه الشروط ، تقييد للنص من غير دليل ، الا مجرد هذه التخرصات.

والظاهر : ان أكثر هذه الشروط مأخوذة من كلام العامة.

اما استثناء الأول والأخير فظاهر ، لان الخطاب تحريما أو كراهة انما يتوجه الى العالم. والتعليل بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يرزق الله تعالى الناس بعضهم من بعض ، انما يترتب على الجهل بسعر البلد لا مع العلم. فلا بأس باشتراطهما.

ثم انه على القول بالتحريم فالظاهر هو صحة البيع. وان أثم ، لأصالة الصحة ، وبه صرح جملة من الأصحاب.

واما شراء البلدي للبادي ، فلا إشكال في جوازه ، لعدم دخوله تحت النص المذكور وللعامة فيه قولان.

«ومنها» تلقى الركبان.

وهل التلقي مكروه أو محرم؟ قولان للشيخ ـ عليه الرحمة.

وقد صرح في النهاية بالكراهة ، ونقله في الخلاف عن المفيد ايضا ، وقال في المبسوط والخلاف : لا يجوز.

وحمل العلامة في المختلف كلامه في المبسوط والخلاف على الكراهة المؤكدة ، قال : لانه كثيرا ما يستعمل لفظ «لا يجوز» في المكروه وهو غير بعيد.

٥٤

وبالتحريم صرح ابن البراج ، وتبعه ابن إدريس ، وهو قول ابى الصلاح ايضا ، واختاره في المنتهى.

واما الاخبار الواردة في هذا المقام فمنها : ما تقدم في سابق هذه المسألة ، من حديث عروة بن عبد الله.

ومنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : لا تلق ، ولا تشتر ما تلقى ولا تأكل منه (١).

وما رواه في الفقيه عن منهال القصاب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تلقى الغنم ، فقال : لا تلق ولا تشتر ما تلقى ولا تأكل من لحم ما تلقى (٢).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب. قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تلق ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن التلقي. قلت : وما حد التلقي؟ قال : ما دون غدوة أو روحة. قلت وكم الغدوة والروحة؟ قال : أربعة فراسخ (٣) قال ابن ابى عمير : وما فوق ذلك فليس بتلق.

وأنت خبير بأن الأخبار المذكورة متفقة على النهى عن ذلك ، وهو حقيقة في التحريم عندهم ، والخروج عنه من غير دليل صارف غير معقول.

وغاية ما أجاب به العلامة في المختلف ـ بعد اختياره القول بالكراهة ونقله خبر منهال الأول ، وكذا خبر عروة ، الى ان قال ـ : والجواب : ان النهى كما يدل على التحريم ، فكذا يدل على الكراهة.

ولا يخفى ما في هذا الجواب من النظر الظاهر لكل ناظر! وكيف لا وهو وغيره قد صرحوا بأن الأصل في النهي التحريم ، وهو المعنى الحقيقي له ، والحمل على الكراهة مجاز لا يصار اليه الا مع القرينة ، ولو تم ما ذكره هنا من هذا الكلام لزم ان

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٢٦ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٣٢٦ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٣٢٦ حديث : ١.

٥٥

لا يقوم النهى دليلا على التحريم ، في حكم من الأحكام بالكلية.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : ان الوجه في الكراهة هو التمسك بالأصل. وضعف الأخبار المذكورة. فلا تنهض حجة في الخروج عن مقتضى الأصل. فتحمل على الكراهة ، تفاديا من طرحها.

وفيه ما قد أوضحناه في غير موضع مما تقدم.

وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور :

«الأول» : الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في ان حد التلقي المنهي عنه أربعة فراسخ.

قال في المنتهى : حد علماؤنا التلقي بأربعة فراسخ ، فكرهوا التلقي الى ذلك الحد ، فان زاد على ذلك كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقيا. وهو ظاهر ، لانه بمضيه ، ورجوعه يكون مسافرا ، ويجب عليه التقصير ، فيكون سفرا حقيقيا. الى ان قال : ولا نعرف بين علمائنا خلافا فيه. انتهى.

أقول : ويدل على التحديد بالأربعة كما ذكروه ما تقدم في رواية منهال القصاب وظاهره ان التلقي المنهي عنه ، هو ما يكون فيما دون مسافة الأربعة ، بمعنى انه إذا بلغ الأربعة خرج عن محل النهى ، فيحمل اسم الإشارة في كلام ابن ابى عمير على الرجوع الى ما دون الأربعة.

وأظهر منه في هذا المعنى ما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : وروى ان حد التلقي روحة ، فإذا صار الى أربعة فراسخ فهو جلب. بمعنى انه متى قطع الأربعة ووصل على رأسها فهو جلب ، لأنه حينئذ يصير سفرا برجوعه كما تقدم في كتاب الصلاة ، وبذلك يظهر ما في كلام الأصحاب من المسامحة ، كما في عبارة العلامة المتقدمة ، حيث انه جعل كراهة التلقي إلى حد تمام الأربعة ، وخص التجارة والجلب بما زاد عن الأربعة ، وعلله بأنه يكون حينئذ مسافرا. وأنت خبير بأنه يكون مسافرا بالحصول على رأس الأربعة ، وان لم يزد عليها.

٥٦

والظاهر ان منشأ التسامح هو ان الحصول على رأس الأربعة بلا زيادة ولا نقصان نادر.

ومن الاخبار في ذلك : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب ، قال : قلت له : ما حد التلقي؟ قال : روحة (١).

وإجماله يعرف من خبره المتقدم. وتفسير الروحة والغدوة بأربعة فراسخ ، لأن الغدوة من أول النهار الى الزوال ، والروحة من الزوال الى الغروب وبياض اليوم ـ كما تقدم في كتاب الصلاة ـ عبارة من ثمانية فراسخ فيكون كل نصف من النهار أربعة فراسخ.

«الثاني» : قد صرح بعض الأصحاب بتقييد التحريم أو الكراهة هنا بقيود :

(منها) : ما تقدم من تحديد التلقي ، وان ما زاد عليه ليس بتلق.

(ومنها) : كون الخروج بقصد ذلك فلو خرج لا لذلك فاتفق الركب لم يحرم ولم يكره.

(ومنها) : تحقق مسمى الخروج من البلد ، فلو تلقى الركب في أول وصوله البلد ، لم يثبت الحكم.

(ومنها) : جهل الركب بسعر البلد فيما يبيعه ويشتريه ، فلو علم بهما أو بأحدهما لم يثبت الحكم فيه.

أقول : واليه يشير التعليل في رواية عروة بن عبد الله المتقدمة ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والمسلمون يرزق الله تعالى بعضهم من بعض.

(ومنها) : ان يكون التلقي للبيع عليه أو الشراء منه ، فلو خرج لغيرهما من المقاصد ، ولو في بعض المعاملات كالإجارة ، لم يثبت الحكم. وفي إلحاق الصلح ونحوه من عقود المغابنات اشكال ، فيحتمل ذلك للعلة المذكورة ، والعدم اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر المتيقن.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٢٦ حديث : ٤.

٥٧

أقول : والظاهر ان الأقرب الأول.

«الثالث» : لو خالف وتلقى ، ثم اشترى منهم أو باع عليهم ، انعقد البيع ، وان قلنا بالتحريم. اما لان النهي في المعاملات لا يقتضي البطلان ، وانما ذلك في العبادات على الوجه المقرر فيها ، أو ان النهى وان اقتضى ذلك في المعاملات ، الا انه مخصوص بما إذا تعلق بحقيقة البيع ، ويرجع الى البيع من حيث هو ، لا إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة. وقد تقدم (١) منا تحقيق نفيس في ذلك.

وظاهر المنتهى : اتفاق العلماء على الصحة. ونقل في ذلك من ابن الجنيد الخلاف في ذلك.

ثم انه مع الحكم بصحة البيع ، فالمشهور انه لا خيار الا مع الغبن الفاحش. ونقل في المختلف عن ابن إدريس انه قال : التلقي محرم ، والبيع صحيح ، ويتخير البائع.

والأقرب هو القول المشهور ، لأن الأصل لزوم البيع ، قام الدليل على الخيار في الغبن الفاحش ، وبقي ما عداه على الأصل.

ولعل ابن إدريس استند هنا الى ما روى من طريق العامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا اتى سيده السوق فهو بالخيار (٢).

وأجاب عنه في المنتهى بان المفهوم من جعل الخيار إذا اتى السوق ، انما هو لأجل معرفة الغبن بالسوق ، ولولا ذلك لكان له الخيار من حين البيع.

(ومنها) الاحتكار وهو افتعال من الحكرة ـ بالضم ـ وهو جمع الطعام وحبسه يتربص به الغلاء.

وقد اختلف الأصحاب أيضا في كراهته وتحريمه ، فنقل في المختلف عن

__________________

(١) وهو في الباب الثالث في بقية الصلوات ، في فضل صلاة الجمعة ، في المسألة الثانية من المطلب الرابع في اللواحق (منه قدس‌سره) ج ١٠ ص ١٧٢ فما بعد.

(٢) صحيح مسلم ج ٥ ص ٥.

٥٨

الصدوق في الهداية القول بالتحريم. قال : وبه قال ابن البراج. والظاهر من كلام ابن إدريس. واختاره في المسالك.

وقال العلامة في المنتهى ، والشيخ في المبسوط ، والمفيد في المقنعة : انه مكروه. وبه قال أبو الصلاح في المكاسب من كتاب التلقي. وقال في فصل البيع : انه حرام. ثم استقرب في المختلف الكراهة ، وهو اختيار المحقق في الشرائع أيضا.

واما الاخبار الواردة في المقام ، فمنها : ما رواه في التهذيب عن السكوني عن ابى عبد الله عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ورواه في الفقيه مرسلا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحتكر الطعام الا خاطئ (١).

وما رواه في الكافي عن حذيفة بن منصور عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : نفد الطعام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه المسلمون. فقالوا : يا رسول الله ، قد نفد الطعام ولم يبق الشي‌ء إلا عند فلان ، فمره ببيعه ، قال فحمد الله واثنى عليه ثم قال : يا فلان ، ان المسلمين ذكروا ان الطعام قد نفد ، إلا شيئا عندك فأخرجه فبعه كيف شئت ولا تحبسه (٢).

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن ، عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يحتكر الطعام ، يتربص به هل يجوز ذلك؟ فقال : ان كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس ، وان كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره ان يحتكر الطعام ، ويترك الناس ليس لهم طعام! (٣).

وعن ابن القداح عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجالب مرزوق والمحتكر ملعون. ورواه الصدوق مرسلا (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣١٥ حديث : ١٢.

(٢) المصدر ص ٣١٧ حديث : ١.

(٣) المصدر ص ٣١٣ حديث : ٢.

(٤) المصدر حديث : ٣.

٥٩

وعن السكوني عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : الحكرة في الخصب أربعون يوما ، وفي البلاء والشدة ثلاثة أيام ، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون ، وما زاد في العسرة على ثلاثة أيام فصاحبه ملعون (١). ورواه في الفقيه بإسناده عن السكوني وايضا روى في الفقيه مرسلا ، قال : نهى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الحكرة في الأمصار (٢). وما رواه في التهذيب عن الحسين بن عبيد الله بن ضمرة عن جده عن على بن أبي طالب عليه‌السلام انه قال : رفع الحديث الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، انه مر بالمحتكرين ، فأمر بحكرتهم الى ان تخرج الى بطون الأسواق ، وحيث ينظر الأبصار إليها فقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قومت عليهم؟ فغضب حتى عرف الغضب في وجهه ، فقال : انا أقوم عليهم! انما السعر الى الله تعالى يرفعه إذا شاء ، ويضعه إذا شاء (٣).

وما رواه الشيخ في كتاب المجالس بسنده فيه عن ابى مريم ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ، ثم باعه فتصدق بثمنه ، لم يكن كفارة لما صنع (٤).

وما رواه في كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد (ع) عن أبيه عليه‌السلام ان عليا عليه‌السلام ، كان ينهى عن الحكرة في الأمصار. وقال : ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن (٥). وما رواه في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابه إلى مالك الأشتر ، قال فيه : فامنع من الاحتكار ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا ، بموازين عدل ، واسعا لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه ، فنكل وعاقب في غير

__________________

(١) المصدر ص ٣١٢ حديث : ١.

(٢) المصدر ص ٣١٤ حديث : ٩.

(٣) المصدر ص ٣١٧ حديث : ١.

(٤) المصدر ص ٣١٤ حديث : ٦.

(٥) المصدر حديث : ٧.

٦٠