الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

فالرواية من جهة السند لا يتطرق إليها طعن.

وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في خلاف ما ذكروه ، وقد اضطرب في التفصي عنها كلام جملة من المتأخرين.

قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد ذكر الرواية وبيان صحة سندها ـ ما صورته : وهي تدل على جواز الجهل في الثمن ، وانه يقع البيع صحيحا ، وينصرف إلى القيمة السوقية إذا بيع بحكم المشترى. ولكن نقل العلامة في التذكرة الإجماع على اشتراط العلم مع عدم ظهور خلافه ، يمنع القول بها ، ولكن تأويلها مشكل ، وكذا ردها ، فيمكن ان يكون حكما في قضية ، ولا تتعدى. انتهى.

وقال الفاضل السيد حسين المشهور بخليفة سلطان ، في حواشيه على كتاب الفقيه على هذا الخبر ما صورته : لا يخفى ان البيع بحكم المشتري أو غيره في الثمن باطل إجماعا ، كما نقله الفاضل في التذكرة وغيره ، لجهالة الثمن وقت البيع ، فعلى هذا يكون بيع الجارية المذكورة باطلا ، وكان وطي المشترى محمولا على الشبهة ، واما جواب الامام عليه‌السلام للسائل فلا يخلو من اشكال ، لأن الظاهر ان الحكم حينئذ رد الجارية مع عشر القيمة أو نصف العشر ، أو شراؤها مجددا بثمن يرضى به البائع مع أحد المذكورين ، سواء كان بقدر ثمن المثل أم لا ، فيحتمل حمله على ما إذا لم يرض البائع بأقل من ثمن المثل ، ويكون حاصل الجواب حينئذ : انه تقوم بثمن المثل ان أراد ، ويشترى به مجددا ، وان كان المثل أكثر مما وقع ، ندبا أو استحبابا ، بناء على انه أعطاه سابقا. وهذا الحمل وان كان بعيدا عن العبارة ، مشتملا على التكلف لكن لا بد منه لئلا يلزم طرح الحديث الصحيح بالكلية. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مدار كلامهم في رد الخبر المذكور على الإجماع الذي ادعى في التذكرة في هذه المسألة ، فإنه لا معارض له سواه. وأنت خبير بان من لا يعتمد على مثل هذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم ، والمتكرر دورانها على رؤوس أقلامهم ،

٤٦١

تبقى الرواية المذكورة سالمة عنده من المعارض ، فيتعين العمل بها ، خصوصا مع صحة السند واعتضاد ذلك برواية صاحب الفقيه ، المشعر بقوله بمضمونها والعمل بها ، بناء على قاعدته المذكورة في أول الكتاب ، كما تكرر في كلامهم من عد مضامين اخباره مذاهب له ، بناء على القاعدة المذكورة.

وليس هنا بعد الإجماع المذكور الا العمومات التي أشاروا إليها ، من حصول الغرر ، وتطرق النزاع ونحو ذلك. وهذه العمومات ـ مع ثبوت سندها وصحته ـ يمكن تخصيصها بالخبر المذكور ، بل من الجائز ـ أيضا ـ تخصيص الإجماع المذكور ، مع تسليم ثبوته ، بهذا الخبر الصحيح ، كما يخصص عمومات الأدلة من الآيات والروايات ، وهو ليس بأقوى منها ، ان لم يكن أضعف ، بناء على تسليم صحته.

وحينئذ فيقال باستثناء صورة حكم المشترى ، وقوفا على ظاهر الخبر. وما المانع من ذلك؟ وقد صاروا إلى أمثاله في مواضع لا تحصى ، على انه سيأتيك ما يؤيد ما ذكرناه ويشيد ما اخترناه.

واما ما ذكروه من عدم الصحة مع كون المبيع مجهول القدر ، وان كان مشاهدا فقد تقدم ذكر خلاف الجماعة المتقدم ذكرهم في ذلك.

قال في الدروس : ولا تكفي المشاهدة في الوزن ، خلافا للمبسوط ، وان كان مال السلم ، خلافا للمرتضى ، ولا القول بسعر ما بيعت مع جهالة المشتري ، خلافا لابن الجنيد ، حيث جوزه ، وجعل للمشتري الخيار ، وجوز ابن الجنيد بيع الصبرة مع المشاهدة جزافا بثمن جزاف مع تغاير الجنس. ومال في المبسوط الى بيع الجزاف وفي صحيحة الحلبي كراهية بيع الجزاف. انتهى.

أقول : صحيحة الحلبي المذكورة هي : ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح ، عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام في رجل اشترى من رجل طعاما ، عدلا بكيل معلوم ، ثم ان صاحبه قال للمشتري : ابتع هذا العدل الأخر بغير كيل ، فان فيه مثل ما في الأخر

٤٦٢

الذي ابتعته. قال : لا يصلح الا ان يكيل وقال : وما كان من طعام سميت فيه كيلا فإنه لا يصلح مجازفة ، هذا مما يكره من بيع الطعام (١). وروى في الفقيه في الصحيح عن الحلبي ، والشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : ما كان من طعام. الحديث. كما تقدم.

قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف «ولو باع المكيل والموزون والعدد جزافا ، كالصرة بطل وان شوهد» ـ ما لفظه : اعتبارهما فيهما هو المشهور بينهم ، ولكن ما رأيت له دليلا صالحا ، وأدل ما رأيته حسنة الحلبي في الكافي ـ ثم ساق الرواية الاولى ـ وناقش في السند بما لا طائل في نقله ، الى ان قال : وبقي في المتن شي‌ء ، لأنها تدل بظاهرها على عدم الاعتبار بخبر البائع بالكيل ، وهو خلاف ما هو المشهور بينهم وفي الدلالة على المطلب أيضا تأمل للإجمال ، وللاختصاص بالكيل والطعام في قوله «ما كان من طعام سميت فيه كيلا» ولقوله «هذا مما يكره من بيع الطعام» وكأنه لذلك قال البعض بجواز بيع المكيل والموزون بدونها مع المشاهدة ، ويمكن القول به مع الكراهة ، ويؤيد الجواز الأصل ، وعموم أدلة العقود ، ويدل عليه بعض الاخبار ، مثل ما ذكر في جواز بيع الطعام من غير قبض. انتهى.

وظاهره الميل الى الجواز في الصورة المذكورة ، وفاقا للجماعة المتقدمين. وفيه ـ كما ترى ـ تأييد ظاهر لما قدمنا ذكره من البيع بحكم المشترى ، وان ذلك مستثنى من عدم جواز البيع مع جهل الثمن ، ان صح الدليل عليه للخبر الصحيح الصريح ، وإذا جاز البيع في هذه الصورة مع اختلال الشرط الذي ذكروه ، استنادا الى عدم الدليل على ما ادعوه من الشرط المذكور ، سوى هذه الرواية التي طعنوا فيها بما عرفت في كلام المحقق المذكور ، ونحوه صاحب الكفاية ، فلم لا يجوز فيما ذكرناه مع دلالة الصحيحة الصريحة على ذلك ، وما ذكره المحقق المذكور

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٤ حديث : ٢ باب : ٤.

٤٦٣

من تأييد الجواز هنا بالأصل وعموم أدلة العقود ، صالح للتأييد لما ذكرنا ايضا وبذلك يظهر لك ما في كلامه الذي قدمنا ذكره في تلك المسألة واستشكاله فيها فإنه لا وجه له بعد ما عرفت من كلامه في هذه المسألة ، والشرطان من باب واحد.

ومما يؤيد جواز بيع المكيل والموزون بغير وزن ولا كيل ـ كما ذهب إليه أولئك المتقدم ذكرهم ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله البصري ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن الرجل يشترى بيعا فيه كيل أو وزن بغيره (١) ثم يأخذه على نحو ما فيه : فقال : لا بأس به (٢).

قال في الوافي ـ بعد نقل هذا الخبر ـ اى بغير ما يكال ويوزن على نحو ما فيه ، اى بغير كيل ولا وزن. ويشبه ان يكون يعيره بالمثناة التحتانية والعين المهملة من التعيير ، فصحف. انتهى.

ومما يؤيد ذلك أيضا الأخبار الدالة على جواز الاعتماد على اخبار البائع بكيله أو وزنه ، والاخبار الدالة على وزن بعض الأحمال وأخذ الباقي على نحو ذلك الموزون.

روى الكليني في الكافي عن عبد الملك بن عمرو ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام اشترى مأة رواية من زيت ، فاعترض رواية أو اثنتين وازنها ، ثم آخذ سائره على قدر ذلك. قال : لا بأس (٣). ورواه الصدوق عن عبد الملك بن عمرو ، والشيخ عن ابى سعيد المكاري مثله

وروى الشيخ عن محمد بن حمران ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : اشترينا طعاما فزعم صاحبه انه كاله فصدقناه وأخذنا بكيله ، فقال : لا بأس. فقلت : فيجوز أن أبيعه

__________________

(١) في نسخة «يعيره».

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٥ حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٥ حديث : ١ باب : ٥.

٤٦٤

كما اشتريته منه بغير كيل؟ قال : اما أنت فلا تبعه حتى تكيله (١).

وفي الفقيه عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، انه سأل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الرجل يشترى الطعام ، أشتريه منه بكيله وأصدقه؟ فقال : لا بأس ، ولكن لاتبعه حتى تكيله (٢).

وروى في الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق ، قال : سألته عن شراء الطعام مما يكال أو يوزن ، هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال : اما ان يأتي رجلا في طعام قد كيل أو وزن فيشترى منه مرابحة فلا بأس ان أنت اشتريته ولم تكله ولم تزنه ، إذا كان المشتري الأول قد أخذه بكيل أو وزن ، فقلت له عند البيع : إني أربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس به (٣).

أقول : ومن هذه الاخبار ونحوها يعلم ان ما ذكروه من الشرط المذكور ليس كليا ، بل يجب الوقوف فيه على موارد النصوص ، مما دل على الجواز في بعض الموارد والعدم في آخر ، ومنه يعلم صحة ما قدمناه في الشرط الأول من الصحة بحكم المشترى في صورة الجهل بالثمن ، لدلالة الصحيحة المتقدمة عليه فان الطعن فيها وردها بمجرد ما ادعوه من الإجماع غير الحقيق بالاتباع ، مجازفة محضة.

فإن قيل : ان العلم بالقدر هنا حاصل بإخبار البائع والتفاوت اليسير مغتفر ، كما في تفاوت المكائيل والموازين.

قلنا : دعوى حصول العلم بإخبار البائع ، لا سيما على قواعدهم المعلومة البطلان حيث يمنعونه في اخبار العدل بل العدلين ، وغاية ما يفيده اخبار العدلين عندهم مجرد الظن ، كما صرحوا به في غير موضع ، فكيف يمكن ان يدعى هنا حصول العلم باخبار

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٦ حديث : ٣.

(٢) المصدر ص ٢٥٧ حديث : ٨.

(٣) المصدر حديث : ٧.

٤٦٥

البائع ، كائنا من كان. وهذه الدعوى انما وقعت هنا لضيق الخناق في المقام بسبب هذه الاخبار الظاهرة الدلالة على خلاف قواعدهم في هذه الأحكام. فالأخبار ظاهرة في تأييد ما ذكرناه كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

ومن هذه الاخبار ايضا يظهر ان ما اشتملت عليه صحيحة الحلبي المتقدمة ، من عدم صحة بيع العدل الثاني بعد وزن الأول ، وعدم تصديق البائع في ذلك ، مما يحتاج الى ارتكاب التأويل فيه ، والإخراج عن ظاهره.

الموضع الثاني : لا يخفى انه متى قلنا بعدم الصحة في بعض الموارد لاختلال أحد هذه الشرائط المذكورة ، وقد قبض المشترى المبيع ، مع ما عرفت من بطلان البيع ، فإنهم قد صرحوا بأنه يكون مضمونا عليه ، لما تقرر عندهم من ان «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». ويؤيد الخبر المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» وكذا كل مأخوذ بالبيع الفاسد ، عالما بالفساد كان أو جاهلا.

ويظهر من المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ المناقشة هنا في عموم الحكم. قال ـ بعد قول المصنف «والمقبوض بالسوم أو البيع الفاسد مضمون على المشترى» ـ ما لفظه :

ثم الذي يظهر من كلامهم : عدم الخلاف في ان المقبوض بالسوم اى المال الذي أخذ للبيع أو الشراء مضمون مثل الغصب ، ولو تلف مطلقا فالقابض ضامن. ووجهه غير ظاهر مع الأصل ، والذي يقتضيه النظر كونه امانة ، ولعل لهم نصا أو إجماعا ، كما هو الظاهر من تشبيه البيع الفاسد به في الضمان ، فتأمل.

وكذا المأخوذ بالبيع الفاسد كان القابض عالما بالفساد أو جاهلا ، ودليلهم الخبر المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» والقاعدة المشهورة «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وصحتها غير ظاهرة. والأصل يقتضي العدم ، وهو مع الجهل بالفساد قوى ، ومع علم الأخر أقوى.

٤٦٦

ومع ذلك قال في شرح الشرائع : لا إشكال في الضمان مع الجهل بالفساد ، فتأمل ومع علمه بالفساد ، وبعدم جواز التصرف وحفظه ووجوب رده الى مالكه معجلا كالمغصوب. وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد وعدم رضاه بكونه عنده ، وفتوى العلماء له بذلك ، فهو ضامن للأصل. وما يتفرع عليه كما قيل في الغصب ، حتى انه يضمن العين والمنفعة ، وان لم ينتفع بها ، مثل اجرة الدابة في المدة التي كانت عنده ، واما مع الجهل بالفساد لا سيما في أمر غير ظاهر الفساد ، وكذا بعد العلم به ، ولكن مع عدم العلم بوجوب الرد في الحال ، والضمان غير ظاهر.

ولو ظن ان المالك رضى لهذا المال بالبدل المعلوم ، فهو راض بأن يتصرف فيه عوضا عما في يده ، فالأكل حينئذ ليس بالباطل ، بل بالرضا ، فإنه رضى بالتصرف فيه بان يجوز له التصرف في بدله ، وقد جوز صاحبه ذلك ، وعرف كل واحد من صاحبه ذلك. فحينئذ يجوز تصرف كل واحد في بدل ماله وان لم يكن بسبب البيع ، بل بسبب الاذن المفهوم مع البدل ، وكأنه يرجع الى المعاطاة والإباحة مع العوض من غير بيع ، ولا تجد منه مانعا ، غاية الأمر انه يكون لكل واحد الرجوع عن قصده الأول وأخذ ماله عينا وزيادة.

نعم إذا علم عدم الرضا الا بوجه البيع ، أو اشتبه ذلك ، يتوجه عدم جواز التصرف والضمان على تقدير فهم عدم الرضا بالمكث عنده ، وكونه امانة على تقدير غيره ويحتمل جواز التصرف على تقدير التقابض أيضا في بعض المحال ، بان غاب وامتنع الاطلاع عليه وإيصاله اليه وأخذ ماله منه. كما في غير هذه الصورة.

وبالجملة دليل حكم المشهور بينهم ، وهو جعل حكم المقبوض بالسوم والعقد الفاسد مثل الغصب في أكثر الأحكام ، حتى في إلزامه بالإيصال الى صاحبه فورا ، فلا يصح عباداته في أول وقتها ، على تقدير القول بمنافاة حقوق الآدمي ، كما هو ظاهر كلامه غير ظاهر ، فالحكم مشكل ، ولا شك انه ينبغي ملاحظة ذلك مهما أمكن.

٤٦٧

فتأمل. انتهى.

وانما أوردناه بطوله لقوته وجودة محصوله. واما ما استظهر في آخر كلامه من عدم صحة العبادة في أول وقتها ، مع منافاة حق الأدمي ، فهو مبنى على مذهبه في المسألة الأصولية ، من ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص. والذي حققناه فيما تقدم من كتب العبادات من هذا الكتاب عدم ثبوت هذه القاعدة وما يترتب عليها من الفائدة.

الموضع الثالث: لو تلف المبيع في يد المشترى في صورة يكون مضمونا عليه ، فان كان قيميا فقيمته ، الا انه قد وقع الخلاف هنا في القيمة.

فقيل : قيمة يوم التلف لانه وقت الانتقال إلى القيمة ، واما قبل التلف فهو مخاطب برد العين وأدائها لا بالقيمة. وجعله شيخنا الشهيد الثاني في الروضة هو الأقوى.

وقيل : يوم القبض ، لانه مضمون عليه من ذلك الوقت بسبب فساد البيع ، وهو اختيار الشرائع.

وقيل : الا على من يوم القبض الى يوم التلف ، وهو منقول عن ابن إدريس ، واستحسنه شيخنا الشهيد الثاني ، ان كان التفاوت بسبب نقص في العين أو زيادة ، لأن زيادة العين مضمونة مع بقائها ، وكذا مع تلفها فيرجع عليه بأعلى القيمتين. اما لو كان التفاوت باختلاف السوق فان الواجب القيمة يوم التلف ، كما هو القول الأول. فالأقوال في المسألة : أربعة.

أقول : لا يخفى ان الاعتماد على هذه التعليلات الاعتبارية ، لا سيما مع تضادها ، لا يخلو من الاشكال ، مع انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي ، والشيخ في التهذيب. عن ابى ولاد الحناط في الصحيح ، قال : اكتريت بغلا الى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت ان صاحبي توجه الى النيل ، فلما أتيت النيل خبرت انه قد توجه الى بغداد ، فاتبعته

٤٦٨

فلما ظفرت به وفرغت عما بيني وبينه رجعت الى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوما ، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلل منه بما صنعت وأرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهما ، فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة فأخبرته بالقضية وأخبره الرجل.

فقال لي : ما صنعت بالبغل؟ قلت قد دفعته اليه سليما. قال : نعم بعد خمسة عشر يوما. قال : فما تريد من الرجل؟ قال : أريد كرى بغلي ، وقد حبسه على خمسة عشر يوما. قال : ما ارى لك حقا ، لانه اكتراه الى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه الى النيل والى بغداد ، فضمن قيمة البغل وسقط الكرى ، فلما رد الرجل البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكرى.

قال : فخرجنا من عنده ، وجعل صاحب البغل يسترجع. فرحمته مما افتى به أبو حنيفة فأعطيته شيئا وتحللت منه ، وحججت في تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما افتى به أبو حنيفة. فقال لي : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها وتمنع الأرض بركتها. قال : فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت؟ قال : ان له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل راكبا من النيل الى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إياه.

قال : فقلت ـ جعلت فداك ـ : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنك غاصب. فقلت : أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة البغل يوم خالفته. فقلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟ فقال : عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترد عليه. قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : أنت وهو اما ان يحلف هو على القيمة وتلزمك ، وان رد اليمين عليك فحلفت على القيمة فيلزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون ان قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا ، فيلزمك. فقلت : كنت أعطيته دراهم ورضى بها وحللني.

٤٦٩

فقال : إنما رضي بذلك وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم. ولكن ارجع اليه فأخبره بما أفتيتك به ، فان جعلك في حل بعد معرفته فلا شي‌ء عليك بعد هذا. قال أبو ولاد : فلما انصرفت من وجهي ذلك ، لقيت المكاري فأخبرته بما أفتاني أبو عبد الله عليه‌السلام ، وقلت له : قل ما شئت حتى أعطيك. فقال : قد حببت الى جعفر بن محمد ، ووقع في قلبي له التفضيل ، وأنت في حل. وان أحببت أن أرد عليك الذي أخذت منك فعلت (١).

وأنت خبير بان ما نحن فيه ـ أحد جزئيات مسألة الغصب ، كما عرفته آنفا من كلام المحقق الأردبيلي ، ونقل ذلك عن الأصحاب.

ومن هذه الرواية يظهر قوة القول الثاني ، وهو قيمة يوم القبض ، لان ظاهره : انه عليه‌السلام أوجب عليه قيمة البغل يوم المخالفة ، التي بها صار مغصوبا وصار في ذلك اليوم مضمونا عليه ، الا ان في الخبر المذكور احتمالا آخر ، وهو ان يكون قوله عليه‌السلام «يوم خالفته» ظرفا للزوم القيمة ، بمعنى انه يلزم القيمة في ذلك اليوم ، واما قدر القيمة فهو غير معلوم من الخبر ، فيحتاج في تعيينه الى دليل آخر. والاستدلال بالخبر ـ كما ذكرنا ـ أو لا مبنى على كون الظرف المذكور ظرفا للقيمة ، يعني قيمة ذلك اليوم. وتغاير الوجهين واضح. وبذلك بقيت المسألة في قالب الاشكال.

* * *

هذا ان كان قيميا ، وان كان مثليا فالمعروف من مذهب الأصحاب : انه يضمنه بمثله ، الا انه قد اضطرب عباراتهم في ضبط المثلي. فالمشهور بينهم : انه ما يتساوى قيمة اجزائه. وضبطه بعضهم بالمقدر بالكيل أو الوزن. وبعض بأنه ما يتساوى اجزاؤه في الحقيقة النوعية ، وزاد آخرون : اشتراط جواز السلم فيه. وعرفه في الدروس بأنه المتساوي الأجزاء المتقاربة الصفات. قيل : وهو أقرب التعريفات إلى السلامة.

فلو كان المثل موجودا ولم يسلمه حتى فقد ـ والمراد بفقدانه ان لا يوجد في

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٢٥٥ ـ ٢٥٧ حديث : ١ باب : ١٧ أبواب أحكام الإجارة.

٤٧٠

تلك البلاد وما حولها مما يتعارف نقله عادة من الأماكن بعضها الى بعض ـ فاللازم القيمة. وفيها أوجه :

أولها ـ وهو أشهرها عندهم ـ اعتبار قيمته حين تسليم البدل.

وثانيها : اعتبارها وقت الإعواز. قال في المسالك : وهو الأقوى.

وثالثها : اعتبار أقصى القيم من حين الغصب الى حين دفع العوض ، وهو المعبر عنه بيوم الإقباض.

ورابعها : اعتبار الأقصى من حينه الى حين الإعواز.

وخامسها : اعتبار الأقصى من حين الإعواز إلى حين دفع القيمة ، ولم نجد لهم دليلا شرعيا على شي‌ء من هذه الأقوال ، إلا مجرد اعتبارات ترجع بها الى ما ذكروه كما تقدم نقله عنهم في القيمي.

الرابع : قد صرح الأصحاب بأن المراد بالمكيل والموزون هو ما ثبت في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وحكم الباقي في البلدان ما هو المتعارف فيها ، فكل ما كان مكيلا أو موزونا في بلد يباع كذلك والا فلا. وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في ذلك ، حيث قال ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : وفيه تأمل ، لاحتمال ارادة الكيل أو الوزن المتعارف عرفا عاما في أكثر البلدان أو في الجملة مطلقا أو بالنسبة الى كل بلد بلد كما قيل في المأكول والملبوس في السجدة ، من الأمر الوارد بها لو سلم ، والظاهر هو الأخير. انتهى.

أقول : لا ريب ان الواجب في معاني الألفاظ الواردة في الاخبار هو الحمل على عرفهم ـ عليهم‌السلام ـ فكلما علم كونه مكيلا أو موزونا في زمنهم ـ عليهم‌السلام ـ وجب اجراء الحكم بذلك عليه في الأزمنة المتأخرة ، وما لم يعلم فهو ـ بناء على قواعدهم ـ يرجع الى العرف العام ، الى آخر ما ذكروه من التفصيل.

ويمكن ان يستدل على الرجوع الى العرف بما تقدم في صحيحة الحلبي من قوله

٤٧١

عليه‌السلام «وما كان من طعام سميت فيه كيلا ، فإنه لا يصلح مجازفة ، هذا مما يكره من بيع الطعام» فان ظاهره : ان الرجوع في كونه مكيلا الى تسميته كيلا عرفا ، فكلما وقع التسمية عليه بأنه مكيل فلا يجوز بيعه مجازفة.

ويمكن ان يقيد بما إذا لم يعلم حاله في زمنهم ـ عليهم‌السلام ـ والا لوجب الأخذ به كما ذكرناه. وكيف كان فالخبر لا يخلو عن إجمال يمنع الاستناد إليه في الاستدلال.

واما ما يفهم من كلامه من الرجوع الى العرف مطلقا وان علم كونه مكيلا أو موزونا أو علم عدمه في زمانهم ـ عليهم‌السلام ـ فالظاهر انه بعيد ومخالف لما صرح به الأصحاب في غير موضع ، من تقديم العرف الخاص : اعنى عرفهم ـ عليهم‌السلام ـ على العرف العام ، أو عرف كل بلد بلد.

وبالجملة فمحل الاشكال فيما يجهل حاله في زمنهم ـ عليهم‌السلام ـ من كونه مكيلا أم لا ، وموزونا أم لا ، فهل يكون المرجع فيه الى العرف العام ، أو الى ما ذكره من الافراد ، ووجه الاشكال ما تقدم التنبيه عليه في غير موضع ، من ان العرف مع تسليم إمكان الوقوف عليه في كل بلد بلد وقطر وناحية ، لا انضباط له ، فان لكل قطر عرفا وعادة بخلاف ما عليه غيرها من النواحي والأقطار ، ومن الظاهر ان الأحكام الشرعية متحدة لا اختلاف فيها ، فلا تناط بالأمور غير المنضبطة.

الخامس : انه متى ثبت الكيل أو الوزن في بعض الأشياء ، فهل يجوز بيع المكيل وزنا وبالعكس أم لا؟ أو يختص الجواز ببيع المكيل وزنا دون العكس؟ احتمالات ، بل أقوال.

للأول : حصول الانضباط بهما. ورجحه في سلم الدروس ، لرواية وهب.

وللثاني : عدم الدليل على ذلك.

وللثالث : ان الوزن أصل الكيل وأضبط منه ، وانما عدل الى الكيل تسهيلا.

٤٧٢

أقول : قال في الدروس : ولو أسلم في الكيل وزنا أو بالعكس فالوجه الصحة لرواية وهب ، عن الصادق عليه‌السلام. وأشار بالرواية المذكورة الى ما رواه الشيخ عن احمد بن ابى عبد الله عن وهب عن جعفر عن أبيه عن على عليه‌السلام قال : لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن (١). ورواه في الفقيه عن وهب.

وأنت خبير بان الظاهر من قوله «لا بأس يسلف المكيل في الموزون وبالعكس» ان يكون أحدهما ثمنا والآخر مثمنا ، لا ما ذكره من كيل الموزون ووزن المكيل ، كما هو المدعى.

ويعضد ما ذكرناه ذكر الشيخ الرواية المذكورة في باب إسلاف السمن بالزيت واحتمال انه أشار بالرواية إلى رواية أخرى غير هذه الرواية بعيد ، إذ لم نقف في الباب على غيرها. ويحتمل في عبارة الدروس ان يقال : ان وزنا بمعنى الموزون ، فيوافق ظاهر الرواية ، الا ان سياق كلامه يأبى الحمل على ذلك. وبذلك يظهر لك قوة القول الثاني.

وبالجملة فإن مقتضى القاعدة المتقدمة هو الوقوف في كل شي‌ء على ما ورد ، فالمكيل لا يباع الا كيلا وكذا الموزون والمعدود ، الا مع ورود دليل شرعي على جواز الاكتفاء بأحدها عن الأخر ، ومجرد هذه التعليلات التي يتداولونها في مثل هذه المقامات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.

نعم قد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن ابن مسكان والحلبي ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه سئل عن الجوز لا نستطيع ان نعده فيكال بمكيال ثم يعد ما فيه ، ثم يكال ما بقي على حساب ذلك العدد ، فقال : لا بأس به (٢).

وهذا في الحقيقة لا يخرج عن بيعه عددا وان دل على اغتفار التفاوت اليسير

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٦٣ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٤ ص ٢٥٩ حديث : ١ باب : ٧.

٤٧٣

الحاصل بذلك ، كما ورد مثله في رواية عبد الملك بن عمرو المتقدمة ، في اشتراء مأة راوية من الزيت ووزن واحدة منها وأخذ الباقي بذلك الوزن.

وقيد بعض الأصحاب جواز بيع كيل المعدود بتعذر عده ، وبعض بتعسره ، قال شيخنا الشهيد الثاني : ولو قيل بجوازه مطلقا ، لزوال الغرر ، وحصول العلم ، واغتفار التفاوت ، لكان حسنا. وفي بعض الاخبار دلالة عليه.

أقول : الظاهر ان من شرط أحد الأمرين المذكورين في المعدود نظر الى قوله في الرواية «لا نستطيع ان نعده» وان الجواب انما بنى على ذلك ، لكن ينافي ذلك رواية الزيت المذكورة ، وهي التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره ، بقوله : وفي بعض الاخبار دلالة عليه. والى الجواز مطلقا ـ كما اختاره شيخنا المتقدم ذكره ـ مال في المفاتيح ، قال : لو رد مثله في الزيت من غير تقييد ولا قائل بالفرق بين المعدود والموزون مع ان الأول أدخل في الجهالة وأقل ضبطا ، ولانتفاء الغرر ، وحصول العلم ، واغتفار التفاوت اليسير ، كما في اختلاف المكائيل والموازين ، كما يستفاد من المعتبرة ، وتجويزهم إندار ما يحتمل الزيادة والنقيصة للظروف من الموزونات ، وجواز بيعها مع الظروف من غير وضع ، بناء على ان معرفة الجملة كافية ، وللأخبار في الإندار ، وفي بعضها «إذا كان عن تراض منكم فلا بأس» (١). «وان كان يزيد ولا ينقص فلا تقربه» (٢). وكذا تجويزهم ـ بلا خلاف ـ الجمع بين شيئين مختلفين في عقد واحد بثمن واحد كبيع واجارة ونكاح ، وان كان عوض كل منهما بخصوصه غير معلوم حال العقد. انتهى.

وهو جيد الا انه يبقى الكلام في محمل تحمل عليه رواية الجوز المذكورة.

السادس : قد صرحوا بأنه إذا كان العوضان من المكيل والموزون أو المعدود فلا بد من اعتبارهما بما هو المعتاد من الكيل والوزن والعدد ، فلا يكفى المكيال المجهول

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٧٣ حديث : ١ باب : ٢٠.

(٢) المصدر حديث : ٤.

٤٧٤

كقصعة حاضرة وان تراضيا بها ، ولا الوزن المجهول كالاعتماد على صخرة معينة وان عرفا قدرها تخمينا ، ولا العدد المجهول بان عولا عليه ثم اعتبر العدد به ، للغرر المنهي عنه في ذلك كله.

أقول : ومما يدل على ما ذكروه : ما رواه الصدوق في الحسن عن الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : لا يصلح للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر (١). ورواه الكليني في الحسن مثله.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : لا يحل للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر. قلت : فان الرجل يستأجر الحمال في المكيل الكيال فيكيل له بمد بيته ، لعله يكون أصغر من مد السوق ، ولو قال هذا أصغر من مد السوق لم يأخذ به ، ولكنه يحمله ذلك ويجعله في أمانته. فقال : لا يصلح الأمد واحد والأمناء بهذه المنزلة (٢). قوله : الأمناء جمع منا مقصورا ، وهو المن في اللغة المشهورة في ألسن الناس ، وما ذكر في الخبر هو الأفصح مما هو المشهور الان في الألسن. وتثنيته منوان.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن سعد بن سعد عن ابى الحسن عليه‌السلام ، قال : سئل عن قوم يصغرون القفزان يبيعون بها. قال : أولئك الذين يبخسون الناس أشياءهم (٣).

وظاهر المحقق الأردبيلي : المناقشة في المقام ، بحمل حسنة الحلبي ـ وهي الأولى ـ على المنع من البيع بغير صاع البلد بسعر البلد لاحتمال كونه ناقصا أو زائدا ، ثم أيد ذلك برواية محمد الحلبي المذكورة بعدها ، واستند فيما عدا ذلك الى الأدلة العامة الكثيرة ، الدالة على الوفاء بالعقود ، وعلى هذا فلو حصل التراضي من البائع

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٨ حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٨٠ حديث : ٢.

(٣) المصدر ص ٢٥٨ حديث : ١ باب : ٦.

٤٧٥

والمشترى على مكيال مجهول كقصعة ونحوها وحجر مخصوص مجهول ، وقرر القيمة بناء على ذلك صح البيع بمقتضى ما اختاره.

وفيه : ان إطلاق قوله عليه‌السلام في الخبرين «لا يصلح» كما في الأول ، و «لا يحل» كما في الثاني «للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر» أعم من ان يكون البيع بسعر صاع المصر ، وتقدير القيمة والسعر على ذلك المكيال المجهول. وورود ما ذكره في تتمة الرواية الثانية حكم آخر ، فلا منافاة فيه ، مع ان الجواب الصادر منه عليه‌السلام في الرواية الثانية بإطلاقه شامل للمنع من الصورة التي ادعى جوازها ، وخصوص السؤال لا يخصصه كما تقرر في كلامهم.

وبالجملة فإن عبارات هذه الاخبار شاملة بإطلاقها لما ذكرنا ، وتخصيصها يحتاج الى دليل ، ومع ورود المنع في الصورة التي وافق عليها كما في صحيحة سعد بن سعد ، فإنها ظاهرة فيما ذكره ، لا يوجب تخصيص ذلك الإطلاق. فإن هذا أحد فردي المطلق الذي دلت عليه تلك الاخبار.

واما الاستناد الى عموم أدلة الوفاء بالعقد ، فإنه لا يخفى ان العقود ، منها : ما هو صحيح ومنها : ما هو باطل ، ومن الظاهر ان وجوب الوفاء انما يترتب على العقد الصحيح ، فلا بد ـ أولا ـ من النظر في العقد صحة وبطلانا ، ليمكن ترتب وجوب الوفاء به عليه. فالاستناد الى الاستدلال بهذا العموم قبل النظر في العقد ـ كما ذكرنا ـ مجازفة ظاهرة.

ثم ان المحقق المشار اليه قال ـ في المقام ـ : ومنه يعلم البحث في المعدود. والظاهر عدم الدليل على عدم جواز بيعه الا عدا ، وعموم أدلة جواز العقود ، والوفاء بها ، يدل على الجواز ، وعدم اشتراط العد ، والأصل والعمومات ، وحصول التراضي الذي هو العمدة في الدليل ، دليل قوي. فإثبات خلافه مشكل ، وان كان المشهور عدم الجواز ، والاحتياط معه قبل وقوع العقد ، نعم الاولى عدم ارتكابه ، والترك لبائعه على

٤٧٦

تقدير رضاه. فتأمل انتهى.

أقول : لا ريب انه لم يرد هنا دليل واضح في الدلالة على ما ذكره الأصحاب ، من عدم الجواز ، الا ان صحيحة الحلبي وابن مسكان المتقدمة : الواردة في الجوز مؤيدة لما ذكروه ، وان لم تكن الدلالة صريحة في ذلك ، فان الظاهر من السؤال : ان الحكم في بيع الجوز هو العد ، والسائل رتب سؤاله على ذلك ، فقال : انه إذا كان مما لا يجوز بيعه الا عدا ، والحال انه لا يستطيع عده لكثرته ، فلو كيل على هذا النحو ، فهل يجزي أم لا؟ والامام عليه‌السلام قد قرره على ذلك ، والا لكان يجيبه بأنه لا يحتاج الى ذلك بل يبيعه مجازفة ، كما يدعيه المحقق المذكور. وقد تقرر ان تقريره عليه‌السلام حجة كقوله وفعله.

وحينئذ فيكون الخبر ظاهرا في تأييد ما ذكره الأصحاب ، بل دالا عليه. وإذا ثبت هذا الحكم في الجوز يثبت في غيره مما يباع عددا ، ويتعدى الى ما سواه بتنقيح المناط القطعي ، كما في جل الأحكام ، إذ لا خصوصية لذكر الجوز هنا الا من حيث وقوع السؤال عنه.

واما استناده الى ما ذكره من عموم أدلة الوفاء بالعقود ، فقد عرفت ما فيه ، واما الأصل فإنه معارض بأن الأصل بقاء كل ملك لمالكه حتى يقوم دليل شرعي على انتقاله عنه الى غيره.

واما حصول التراضي الذي جعله العمدة ، ففيه ـ أولا ـ : انه لا يطرد كليا ، والا لجرى في الصرف والربا ونحوهما بمجرد التراضي ، وسقط ما اشترط فيهما من الشروط.

و ـ ثانيا ـ ان غاية ما يفيده التراضي مجرد الإباحة ، والمدعى هو البيع الناقل عن الملك والمخرج له عن صاحبه.

و ـ ثالثا ـ ما يتضمنه من الغرر المنهي عنه ، كما علله به بعض الأصحاب ، مع اعتضاد ذلك بالاحتياط كما اعترف به. وبالجملة فالأظهر ما ذكره الأصحاب.

٤٧٧

السابع : قد صرحوا بأنه يجوز ابتياع جزء معلوم بالنسبة كالنصف والثلث ـ مثلا ـ مشاعا ، تساوت اجزاؤه كالحبوب والأدهان أو اختلفت كالجواهر والحيوان ، إذا كان الأصل الذي بيع جزؤه معلوما بما يعتبر فيه من كيل أو وزن أو عد أو مشاهدة ، فيصح بيع نصف الصبرة المعلومة المقدار والوصف ، ونصف الشاة المعلومة بالمشاهدة أو الوصف.

أقول : ودليل الجواز فيما ذكروه هنا ظاهر ، وهو عموم أدلة البيع بشروطه المعتبرة فيه ، فلو باع شاة غير معلومة من قطيع غنم معلوم العد مشاهد ، وان تساوت أثمان ما اشتمل عليه من الشاة ، لم يصح لمجهولية المبيع.

ولو باع قفيزا من جرة مجهولة ، فهل يعتبر العلم باشتمالها على المبيع ، أو اخبار البائع بذلك ، والا لم يصح ، أو انه يصح البيع ، فان نقصت تخير المشترى بين أخذ الموجود منها بحصته من الثمن ، وبين الفسخ ، لتبعض الصفقة قولان.

والظاهر : ان المشهور الأول. والثاني اختيار الشهيد في اللمعة.

ثم انه مع العلم باشتمالها على المبيع وصحة البيع ـ كما هو قول المشهور فهل يتنزل على الإشاعة ، أو يكون المبيع قفيزا في الجملة ، وجهان. قرب في المسالك الثاني. وتظهر الفائدة فيما لو تلف بعضها ، فعلى الأول فيتلف من المبيع بالنسبة ، وعلى الثاني يبقى المبيع ما بقي قدر المبتاع.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار ، مما يتعلق بهذه المسألة : ما رواه الشيخ في الصحيح عن بريد بن معاوية ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة ، والأنبار فيه ثلاثون الف طن ، فقال البائع : قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن ، فقال المشترى. قد قبلت واشتريت ورضيت. فأعطاه من ثمنه الف درهم ، ووكل المشترى من يقبضه ، فأصبحوا وقد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون الف طن ، وبقي عشرة آلاف طن ،

٤٧٨

فقال : عشرة آلاف طن التي بقيت هي للمشتري. والعشرون التي احترقت من مال البائع (١).

وهي ظاهرة في ان الجزء المباع من الجملة ليس على سبيل الإشاعة بحيث يلحقه جزء من النقص الواقع على المجهول ، كما هو أحد الوجهين المتقدمين ، بل يعتبر ذلك القدر المبيع بعينه ، كما قربه في المسالك.

والطن ـ بالضم ـ الحزمة من حطب أو قصب. والجمع أطنان ، مثل قفل وأقفال.

قالوا : ولو قال : بعتك كل قفيز منها بدرهم لم يصح ، ولو قال : بعتكها كل قفيز منها بدرهم فالمشهور انه لا يصح ايضا مطلقا ، خلافا للشيخ ، ونفى عنه البعد في الكفاية فقال : وقول الشيخ غير بعيد.

وظاهر هذا الكلام هو صحة هذه الأحكام ، أعم من ان تكون الجملة مجهولة أو معلومة ، وخص في الدروس البطلان في الصورة الثانية بما إذا كان المجموع مجهولا.

قال : ولو كان قال «بعتكها كل قفيز بدرهم» بطل مع الجهالة. وظاهر الشيخ الصحة مطلقا. انتهى.

قال في الروضة : واعلم ان أقسام بيع الصبرة عشرة ، ذكر المصنف بعضها منطوقا وبعضها مفهوما وجملتها : أنها اما ان تكون معلومة أو مجهولة ، فإن كانت معلومة صح بيعها اجمع ، وبيع جزء منها معلوم مشاع ، وبيع مقدار كقفيز تشتمل عليه ، وبيعها كل قفيز منها بكذا لا بيع كل قفيز منها بكذا والمجهولة. تبطل في جميع الأقسام الخمسة إلا الثالث. انتهى.

ومنه يعلم : ان بيعها كل قفيز بكذا يصح مع المعلومية ، ويبطل مع المجهولية الا على قول الشيخ ، حيث نقل عنه الصحة مطلقا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٧٢ حديث : ١ باب : ١٩.

٤٧٩

واما بيع كل قفيز منها بكذا فهو باطل مطلقا ، وبه يتبين ما في الكلام الأول من الإجمال.

وقد صرحوا ـ أيضا ـ بأنه لا يجوز ابتياع شي‌ء مقدر غير معين منه ، إذا لم يكن متساوي الأجزاء ، كالذراع من الثوب ، والجريب من الأرض ، وعبد من عبيد ، وشاة من قطيع. ولو عينه من جهة ، كما لو قال : من هذا الطرف الى حيث ينتهي ، ففي صحته قولان ، أشهرهما : الصحة. ويجوز ذلك في المتساوي الأجزاء ، كالقفيز من الكر.

أقول : لا يبعد التفصيل في هذا المقام ، بان يقال بعدم الصحة في نحو عبد من عبدين أو عبيد ، وشاة من قطيع. والصحة في نحو ذراع من الثوب وجريب من الأرض. لحصول المجهولية في الأول فيبطل البيع لذلك ، لتفاوت افراد العبيد وافراد الشاة تفاوتا فاحشا ، بخلاف اجزاء الثوب واجزاء الأرض ، إذ الغالب في الثوب المصنوع ان تكون صنعته من أوله الى آخره على نهج واحد. وكذلك الأرض. وحينئذ فلا فرق بين ان يبيعه ذراعا معينا مشارا اليه ـ كما اعترفوا بالصحة فيه ـ ولا بين ان يبيعه ذراعا من اى طرف أراد المشترى. وهكذا في الأرض

ويؤيده ما تقدم من الاكتفاء بالمعلومية في الجملة من المواضع. والى ما ذكرنا يشير كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال ـ بعد ان نقل عنهم المنع من عدم تعيين الموضع ، والجواز مع تعيينه ، كأن يقول ـ ابتداء ـ : الذرع من هذا الرأس وابتداء الجريب من هذا الجانب من الأرض ـ ما لفظه : وفيه تأمل ، إذ لم يقم دليل على اعتبار هذا المقدار من العلم فإنهما إذا تراضيا على ذرع من هذا الكرباس ، من أي رأس أراد المشتري ، أو من اى جانب كان من الأرض ، فما المانع بعد العلم بذلك ، مع ان الغالب هو التساوي في طول ثوب الكرباس ـ مثلا ـ وارض متصلة الاجزاء بمعنى عدم تفاوت بين اجزائها المستلزم لتفاوت في قيمته. فتأمل فيه. انتهى.

٤٨٠