الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

كما عرفت.

وبالجملة فالمسألة محل اشكال.

* * *

(السادس) : المشهور بين الأصحاب : انه يجوز للوصي أن يقوم على نفسه ويقترض إذا كان مليا ، وكثير منهم لم ينقل خلافا في المقام ، فيشترط بعضهم مع ملائته الرهن عليه حذرا من إفلاسه وزيادة ديونه فيحفظ بالرهن مال الطفل. قال في مسالك وهو حسن.

وكذا يعتبر الاشهاد حفظا للحق ، وانما يصح له التقويم مع كون البيع مصلحة للطفل ، إذ لا يصح بيع ماله بدونها ، مطلقا. قالوا : واما الاقتراض فيشترط عدم الإضرار بالطفل وان لم تكن المصلحة موجودة. ومنع ابن إدريس من الاقتراض من مال الطفل مطلقا.

وجملة من الاخبار تدل على الجواز. وقد تقدم الكلام في ذلك منقحا في المسألة السابعة من مسائل المقدمة الرابعة (١). ولا دلالة في شي‌ء من تلك الاخبار على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط الرهن ، وغاية ما تدل عليه : اشتراط الملائة ، كما هو متفق عليه.

وبها فسر قوله سبحانه «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (٢).

فقيل : ان المراد بالتي هي أحسن : ان يكون للمتصرف مال بقدر مال الطفل زائدا على المستثنيات في الدين ، وعن قوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة.

وفسره بعض المتأخرين بكون المتصرف بحيث يقدر على أداء المال المأخوذ

__________________

(١) تقدمت في ص ٣٢٢.

(٢) سورة الانعام : ١٥٢.

٤٢١

من ماله إذا تلف بحسب حاله.

أقول : لم أقف في الاخبار على مستند لشي‌ء من هذين التفسيرين ، وحينئذ فيكون من قبيل التفسير بالرأي المنهي عنه في الاخبار ، وظاهر الآية : ان يختار ما هو الأحسن لليتيم ، من حفظ ماله وإصلاحه وتنميته ونحو ذلك من المصالح ، وفيها إشارة الى ما صرح به الأصحاب من اشتراط المصلحة والغبطة لليتيم في التصرف في ماله.

وبالجملة فإن الاستناد الى الآية فيما ذكروه بعيد عن ظاهر لفظها.

نعم قد دلت جملة من الاخبار المتقدمة في المسألة المشار إليها على المنع من التصرف الا ان يكون مليا ، مثل قوله عليه‌السلام في رواية أسباط بن سالم «ان كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم ان تلف فلا بأس به ، وان لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم» (١). ونحوه في روايته الأخرى (٢). ونحوهما غيرهما ايضا. والجميع خال من اشتراط الرهن.

وكيف كان فإنه أحوط ، لكن لا على جهة الاشتراط في صحة القرض ، إذ لم يقم عليه دليل كما عرفت والله العالم.

المسألة السادسة

قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجب ان يكون المشترى مسلما إذا ابتاع عبدا مسلما.

__________________

(١) تقدمت في ص ٣٢٨.

(٢) تقدمت في ص ٣٢٨.

٤٢٢

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف ذلك ـ : يمكن ان يريد بالمسلم من حكم بإسلامه ظاهرا لان ذلك هو المتبادر من لفظ المسلم ، وإجراء أحكامه عليه ، فيدخل فيه فرق المسلمين المحكوم بكفرهم ، كالخوارج والنواصب ، ويمكن ان يكون يريد به المسلم حقيقة نظرا الى ان غيره إذا حكم بكفره دخل في دليل المنع الدال على انتفاء السبيل للكافر على المسلم ، وهذا هو الاولى ، لكن لم أقف على مصرح به ، وفي حكم العبد المسلم المصحف وأبعاضه دون كتب الحديث النبوية ، وتردد في التذكرة فيها. انتهى.

أقول : فيه ـ أولا ـ ان قوله «لان ذلك هو المتبادر من لفظ المسلم» ان أراد بحسب عرف الناس فيمكن ، ولكن لا يجدى نفعا ، وان أراد في الاخبار التي عليها المدار في الإيراد والإصدار ، فهو ممنوع أشد المنع. لان منها الأخبار الكثيرة المستفيضة بأنه بني الإسلام على خمسة وعد منها الولاية ، وانه لم يناد بشي‌ء كما نودي بالولاية ، وهي أعظمهن واشرفهن. (١) ومن الاخبار المستفيضة المتكاثرة الواردة في بيان الفرق بين الايمان والإسلام ، بأن الإسلام ما يحقن به الدم والمال ويجرى عليه النكاح والمواريث والطهارة.

ومنها قوله عليه‌السلام في حسنة الفضيل بن اليسار «والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء» (٢) الحديث.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة حمران «والإسلام ما ظهر من قول وفعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث ، وجاز النكاح» الحديث (٣). الى غير ذلك من الأحاديث التي وردت بهذا المضمون ، ولا

__________________

(١) الوسائل ج ١ ص ١٠ حديث : ١٠. والكافي ج ٢ ص ٢١.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦ حديث : ٣.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٢٦ حديث : ٥.

٤٢٣

ريب انه من المتفق عليه بينهم : عدم جواز إجراء شي‌ء من هذه الأحكام على من ذكره من الخوارج والنواصب ، فكيف يدعى انه المتبادر من لفظ المسلم ، وإجراء أحكامه عليه ، وأي أحكام يريد؟ وهذه أحكام الإسلام المترتبة عليه في الاخبار ، والاخبار مستفيضة بكفر هؤلاء ، مصرحة به ، بأوضح تصريح ، ولا سيما النواصب ، وإطلاق الإسلام عليهم انما وقع في كلام الأصحاب ، مع تعبيرهم بمنتحلي الإسلام ، بمعنى انه لفظي محض ، لاحظ لهم في شي‌ء مما يترتب عليه من الأحكام التي ذكرناها فكيف يدخلون تحت تبادر هذا اللفظ والحال كما عرفت.

وثانيا : ان المستفاد من كلامه هنا وكلام غيره ايضا : ان المستند في أصل هذه المسألة انما هو الآية الكريمة ، أعني قوله عزوجل «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (١) وأنت خبير بما فيه ، فإنه لو أريد بالسبيل هنا ما يدعونه من سلطنة الكافر على المسلم بالملك والدخول تحت طاعته ووجوب الانقياد لأمره ونهيه ، لا تنقض ذلك ـ أولا ـ بما أوجبه الله تعالى على أئمة العدل من الانقياد إلى أئمة الجور ، والصبر على ما ينزل بهم من ائمة الجور ، وعدم الدعاء عليهم ، كما ورد في تفسير قوله عزوجل «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». (٢)

و ـ ثانيا ـ بما أوقعوه بالأنبياء والأئمة ـ عليهم‌السلام ـ من القتل فضلا عن غيره من أنواع الأذى ، واى سبيل أعظم من هذا السبيل.

و ـ ثالثا ـ بما رواه الصدوق في العيون (٣) من انه قيل له : ان في سواد الكوفة قوما يزعمون ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقع عليه السهو ، فقال : كذبوا ـ لعنهم الله ـ ان الذي لا يسهو هو الله ، لا إله الا هو.

__________________

(١) سورة النساء : ١٤١.

(٢) سورة الجاثية : ١٤.

(٣) عيون اخبار الرضا ـ ع ـ ج ٢ ص ٢٠٣.

٤٢٤

قيل : ومنهم قوم يزعمون ان الحسين بن على لم يقتل وانه القى اليه شبهة على حنظلة بن أسعد الشامي ، فإنه رفع الى السماء كما رفع عيسى بن مريم عليه‌السلام ، ويحتجون بهذه الآية «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً».

فقال : كذبوا ـ عليهم غضب الله ولعنته ـ وكفروا بتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في اخباره بأن الحسين ـ عليه‌السلام ـ سيقتل ، والله لقد قتل الحسين وقتل من كان خيرا من الحسين عليه‌السلام أمير المؤمنين والحسن بن على وما منا الا مقتول ، وانى والله لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني ، اعرف ذلك بعهد معهود الى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره به جبرئيل عن رب العالمين عزوجل.

واما قوله تعالى «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» فإنه يقول : لن يجعل الله للكافر على مؤمن حجة. ولقد أخبر الله عن كفار قتلوا نبيين بغير حق ، ومع قتلهم إياهم لم يجعل لهم على أنبيائه ـ عليهم‌السلام ـ من طريق الحجة.

أقول : والخبر ـ كما ترى ـ صريح في تفسير السبيل المنفي في الآية بالحجة والدليل ، فتعلق أصحابنا بظاهر هذه الآية في مواضع من الأحكام ، بناء على المعنى الذي نقلناه عنهم ، مع ظهور انتقاضه بما قدمنا ذكره ، وورود هذا الخبر ، مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، والعذر لهم ظاهر في عدم الوقوف على الخبر المذكور.

وهذا مما يؤيد ما صرحنا به في مواضع من أبواب العبادات من هذا الكتاب ، انه لا ينبغي المسارعة إلى الاستدلال بظواهر الآيات قبل مراجعة الأخبار الواردة في تفسيرها عن أهل العصمة ـ عليهم‌السلام ـ

وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا في هذا المقام سوى ما عرفت مما لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا.

نعم يمكن ان يستدل على ذلك بمفهوم رواية حماد بن عيسى عن الصادق عليه‌السلام ان أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ اتى بعبد ذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا فبيعوه من

٤٢٥

المسلمين وادفعوا ثمنه لصاحبه ، ولا تقروه عنده (١). رواه الكليني والشيخ في التهذيب والنهاية.

والتقريب فيه : انه ليس للأمر ببيعه قهرا سبب ولا علة إلا رفع السلطنة والسبيل عنه ، وعدم جواز تملكه ، وحينئذ فيمتنع شراؤه ويحرم تملكه ، لما فيه من وجود السلطنة والسبيل على المسلم. والله العالم.

فروع

الأول : قد صرحوا ـ بناء على ما قدمنا ذكره من تحريم شراء الكافر للمسلم ـ باستثناء ما لو كان العبد المسلم ممن ينعتق عليه بعد الشراء كالأب ونحوه ، فإنه يجوز شراؤه لأنه ينعتق عليه قهرا بعد الدخول في ملكه.

وهو اختيار العلامة في المختلف ، ونقله عن والده.

ونقل عن المبسوط وابن البراج عدم الجواز وعدم ترتب العتق عليه.

والمشهور الأول ، قالوا : وفي حكمه كل شراء يستعقب العتق ، كما لو أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه فإنه ينعتق عليه بمجرد الشراء.

وصرحوا ـ أيضا ـ بأنه انما يمتنع دخول العبد المسلم في ملك الكافر اختيارا كالشراء والاستيهاب اما غيره كالإرث وإسلام عبده الكافر ، فإنه يجبر على بيعه بثمن المثل على الفور ، ان وجد راغب والا حيل بينهما الى ان يوجد الراغب ، ونفقته زمن المهلة عليه وكسبه اليه. وفي حديث حماد بن عيسى المتقدم (٢) ما يشير الى ذلك.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٨٢ حديث : ١ باب ٢٨.

(٢) نفس المصدر.

٤٢٦

الثاني : قد صرح جملة من الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ بأنه لا يجوز للكافر استيجار المسلم ، وعللوه بحصول السبيل المنفي في الآية المتقدمة ، وفصل آخرون بأنه ان كانت الإجارة لعمل في الذمة فإنه يجوز وتكون حينئذ كالدين الذي في ذمته لو استدان منه دراهم مثلا ، ونفى السبيل في هذه الصورة كما في صورة الدين ، وان كانت على العين ، حرمت للعلة المتقدمة ، وهو وجود السبيل المنفي في الآية.

واختار هذا التفصيل جملة من المتأخرين ، كالمحقق الشيخ على في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في المسالك. وممن صرح بالأول الشهيد في الدروس ، وهو ظاهر العلامة في القواعد.

وأنت خبير بما في الجميع ـ بعد ما عرفت ـ ويؤيده جملة من الاخبار بأن عليا عليه‌السلام كان يؤجر نفسه من اليهود يسقى لهم النخل. وكفاك ما ورد من الاخبار في قصة نزول سورة هل أتى الدالة على غزل فاطمة ـ عليها‌السلام ـ الصوف لليهود بأصواع من الشعير (١).

الثالث : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز رهن العبد المسلم عند الكافر ان وضع على يد مسلم ، وان وضع عند الكافر حرم.

وعللوا الأول بأن استحقاق أخذ الدين من قيمته لا يعد سبيلا. وعللوا الثاني بوجود السبيل متى وضع عنده.

وفي عاريته قولان ، قال في المسالك : أجودهما المنع. قال : وفي إيداعه وجهان أجودهما الصحة ، لأنه فيها خادم لا ذو سبيل.

وأنت خبير بما في هذه التفريعات ، بعد ما عرفته في الأصل ، من عدم ثبوته وعدم قراره ، فكيف يتم ما يبنى عليه.

الرابع : مقتضى شرطية الإسلام في المشتري ـ متى كان المبيع مسلما أو مصحفا

__________________

(١) راجع : إما لي الصدوق ص ١٥٥ فما بعد.

٤٢٧

ـ هو بطلان البيع لو لم يكن كذلك وقيل بصحة البيع ولكن يجبر على بيعه ويؤمر بإزالة ملكه للاية المتقدمة بالنسبة إلى المسلم ، ولما في ملك الكافر للقرآن من الإهانة ومنافاة التعظيم المأمور به.

قيل : وفي حكم المسلم ولده الصغير والمجنون ومسبيه المنفرد به ، ان ألحقناه به فيه ، ولقيط يحكم بإسلامه ظاهرا ، بان يكون في دار الإسلام أو في دار الحرب وفيها مسلم يمكن تولده منه.

٤٢٨

المقام الثالث

قد عرفت ان أحد أركان البيع العوضان. والكلام في ذلك وتحقيق البحث فيه يقتضي بسطه في مسائل : ـ

الأولى : المشهور بين الأصحاب انه يشترط في العوضين : ان يكونا عينا ، فلا يصح بيع المنفعة ، خلافا للشيخ في المبسوط ، حيث جوز بيع خدمة العبد على ما نقل عنه ، وهو شاذ لا اعلم عليه دليلا.

وان يكونا ذوي نفع محلل مقصود لأرباب العقول ، فلا يصح بيع مالا منفعة تترتب عليه من الأعيان النجسة والمتنجسة مما لا يقبل التطهير ، وقد تقدم البحث في جملة من هذه الأشياء ، كالعذرات والأبوال والسباع والميتة والكلاب وآلات اللهو وهياكل العبادة ونحو ذلك. والاخبار المتعلقة بها ، وتحقيق القول فيها ، في المقدمة الثالثة من مقدمات هذا الكتاب.

وملخص الكلام فيها : ان كل ما كان له نفع محلل مقصود للعقلاء فإنه يجوز بيعه والتجارة فيه ، الا ما قام الدليل على خلافه.

قالوا : لا يصح بيع ما لا منفعة فيه من الخنافس والعقارب ونحوهما ، وفضلات الإنسان كشعره وأظفاره ورطوباته ، لعدم عد شي‌ء من ذلك مالا عرفا وشرعا ، وعدم

٤٢٩

المنفعة المقابلة للمال الذي يجعل قيمة لها ، ولا اعتبار بما ورد في الخواص من منافع بعض هذه الأشياء ، فإنه مع ذلك لا يعد مالا.

نعم صرحوا باستثناء اللبن من فضلات الإنسان ، حيث انه طاهر ينتفع به ، فيجوز بيعه وأخذ الأجرة عليه ، مقدرا بالقدر المعين أو المدة المعلومة ، كما في إجارة الظئر. خلافا لبعض العامة.

وقد عدوا من هذا الباب ما لم تجر العادة بملكه ، كحبة حنطة ، وان يجز غصبها من مالكها ، فيضمن المثل ان تلفت ، وردها ان بقيت. كذا صرح به في الدروس.

وظاهر المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ المناقشة في هذا المقام ، حيث قال ـ بعد قول المصنف «ولا ما لا ينتفع به لقلته كالحبة من الحنطة» ـ ما صورته :

كأنه أشار الى ان المراد بالملك الذي يحصل به النفع ، فهو عطف على الحر ، فلا يصح ولا يجوز المعاملة بما لا ينتفع به لقلته ، وان كان ملكا كحبة من الحنطة ، ولهذا لا يجوز أخذه من غير اذن صاحبه ، وان لم يجب الرد والعوض ، بناء على ما قيل ، ولعل دليله يظهر مما مر ، من ان بذل المال في مقابلة مثله سفه عقلا وشرعا ، فلا يجوز وانه ليس معاملة مثله متعارفا ، والمتعاملة المجوزة تصرف إليها.

وفيه تأمل ، لأنه قد ينتفع به وذلك يكفى ، ولهذا قيل : لا يجوز سرقة حبة من الحنطة ، وينبغي الضمان والرد ايضا ، كما في سائر المعاملات.

وان قيل بعدمها ومجرد كونه ليس بمتعارف لا يوجب المنع ، نعم لا بد من بذل مالا يزيد عليه لئلا يكون سفها وتبذيرا كما في سائر المعاملات ، فإنه قد يشتري حبة حبة ويجتمع عنده ما يحصل فيه نفع كثير ، وقد يحصل النفع بالانضمام الى غيره ايضا.

وبالجملة مالا نفع فيه أصلا وبوجه من الوجوه لا يجوز معاملتها للسرف ، واما ماله نفع في الجملة كالحبة ليس بظاهر عدم جواز المعاملة بأمثالها. انتهى.

وهو بناء على ظاهره جيد ، الا ان الظاهر ان بناء كلام الأصحاب هنا في الحكم

٤٣٠

بكون الحبة من الحنطة لا يجوز المعاملة عليها لعدم الانتفاع بها ، انما جرى على الغالب ، لا على هذا الفرض النادر الذي ذكره ، والأحكام الشرعية ـ كما تقدم في غير مقام ، ولا سيما في كتب العبادات ـ انما يبنى الإطلاق فيها على الافراد المتكررة الوقوع المتعارفة الدوران لا على الفروض النادرة التي ربما لا تقع بالكلية ، وان جاز فرضها ، وان ما ذكره من الفرض المذكور معارض بما هو معلوم قطعا من أحوال الناس ، فإنه قد ينتشر من الإنسان الحنطة والأرز ونحوهما فيجمع منه ما يعتد به وينتفع به ويبقى في الأرض منه حبات كثيرة ويعرض عنها ويتركها لعدم ما يترتب عليها من النفع لقلتها بل لو تعرض لجمع تلك الحبات ولقطها من الأرض لنسب إلى الجهالة والحماقة وقلة العقل ، لما ارتسم في قلوب العقلاء إن الأليق بذوي المروات هو الاعراض عن مثل ذلك ، وان خلافه عيب عندهم ، وهذا أمر معلوم مجزوم به عادة.

المسألة الثانية

من الشرائط : ان يكون العوضان مملوكين لمن له البيع والشراء ، وهو ظاهر عقلا ونقلا ، إذ لا معنى لبيعه ما ليس له ، ولا الشراء بما ليس له ، بان يتوجه العقد الى تلك الأعيان.

وانما قيدناه بما ذكرنا ، احترازا عما لو وقع البيع والشراء في الذمة ، ودفع ذلك عوضا عما في الذمة ، فإن البيع والشراء صحيح ، حيث انه لم يقع على تلك العين غير المملوكة ولا بها ، وانما وقع على شي‌ء في الذمة ، فغاية ما يلزم هو حصول الإثم بدفع المال غير المملوك ثمنا أو مثمنا ، والا فالبيع صحيح كما هو ظاهر ، الا ان الشيخ قال في النهاية : من غصب غيره مالا واشترى به جارية ، كان الفرج له حلالا وعليه وزر المال ، ولا يجوز ان يحج به فان حج به لم يجزه عن حجة الإسلام. انتهى.

٤٣١

وهو على إطلاقه ـ مشكل. ولهذا اعترضه ابن إدريس هنا ، فقال : ان كان الشراء بالعين بطل ولم يجز الوطي ، وان كان قد وقع في الذمة صح البيع وحل الوطي.

أقول : ما ذكره ابن إدريس هو المشهور في كلام المتأخرين ، وبه صرح الشيخ في أجوبة المسائل الحائرية.

والوجه في ذلك ـ زيادة على ما ذكرنا ـ : أولا ، الجمع بين ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى ، قال : كتب محمد بن الحسن الى ابى محمد ـ عليه‌السلام رجل اشترى من رجل ضيعة أو خادما بمال أخذه من قطع الطريق أو من سرقة. هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له ان يطأ هذا الفرج الذي اشتراه من سرقة أو من قطع الطريق؟ فوقع عليه‌السلام : لا خير في شي‌ء أصله حرام ، ولا يحل له استعماله (١). ورواه الشيخ ـ ايضا ـ بسنده الى الصفار.

وبين ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قال : لو ان رجلا سرق الف درهم فاشترى بها جارية ، أو أصدقها امرأة ، فإن الفرج له حلال ، وعليه تبعة المال (٢).

بحمل الأول على الشراء بعين المال ، والثاني على الشراء في الذمة.

وبالجملة فإنه لا خلاف ولا إشكال في شرطية الملك ، فلا يجوز بيع الحر اتفاقا ، ولا بيع ما اشترك فيه المسلمون ، كالماء والكلاء ، إذا كانا في أرض مباحة. كذا وقع في عبائر جمع من الأصحاب.

واعترض بأنه يدل على ملكية المسلمين له على جهة الشركة ، كالأرض المفتوحة عنوة ، مع انه ليس كذلك ، انما هما قابلان لملك كل انسان بعد الحيازة.

وفيه : ان الظاهر ان التعبير هنا خرج مخرج التجوز ، وان المراد انما هو ما اشترك

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٥٨ حديث : ١ باب : ٣ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) الوسائل ج ١٤ ص ٥٧٨ حديث : ١ باب : ٨١ من أبواب نكاح العبيد والإماء.

٤٣٢

المسلمون في جواز حيازته الموجبة للملك بعد ذلك ، وانما قيد بكونه في أرض مباحة ، لأنه إذا كان في أرض مملوكة كان تابعا للأرض في الملك ، فيصح بيعه وشراؤه ، ويحرم على غير المالك أخذه بغير اذن منه ، فعلى هذا لو باع الأرض لم يدخل فيها الماء والكلاء الا ان ينص عليهما في البيع ، أو يذكر لفظا يعمهما.

وقد صرحوا هنا بأنه لا يجوز بيع الأرض المفتوحة عنوة ، لأنها للمسلمين قاطبة ، وقيل بالجواز تبعا لآثار التصرف. وقد تقدم البحث في هذه المسألة منقحا في المسألة السادسة من المقدمة الرابعة ، وينافيها ما هو المختار ، الظاهر عندنا من الاخبار.

ومنع الشيخ من بيع بيوت مكة وإجارتها ، ومنع المسلمين من سكناها إذا كانت خالية ، محتجا بالخبر وآية الإسراء من المسجد الحرام ، مع انه كان من دار أم هاني. ونقل في الخلاف الإجماع على ذلك وجملة ممن تأخر عنه تبعه في هذه الدعوى ، وبعض تردد لذلك.

والظاهر ان المشهور قالوا بالجواز. ولله در شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ، حيث قال : وربما علل المنع بالرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنهي عنه ، وبكونها في حكم المسجد لاية الإسراء ، مع انه كان من بيت أم هاني ، ولكن الخبر لم يثبت ، وحقيقة المسجدية منتفية ، ومجاز المجاورة والشرف والحرمة ممكن ، والإجماع غير متحقق ، فالجواز متجه. انتهى. وهو جيد.

أقول : وقد مر في الموضع المشار اليه آنفا ما يؤيد ما اختاره هنا ايضا.

والظاهر ان الخبر الذي احتج به الشيخ في هذه المسألة ، هو ما نقله عنه في المختلف ، وهو ما رواه عبد الله بن عمرو بن عاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : مكة حرام ، وحرام أرباعها ، وحرام أجر بيوتها (١).

أقول : انظر الى هذا التساهل في الأحكام من كل من هؤلاء الاعلام ، في الاعتماد

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٥ ص ٣٤.

٤٣٣

على هذه الرواية العامية ، التي هي من أضعف رواياتهم ، حتى ان منهم من وافق الشيخ في المسألة ، ومنهم من تردد في الحكم ، وهذا مستنده ، مع تصلبهم في هذا الاصطلاح ، برد جملة من الروايات المروية في الأصول التي عليها المدار ، بزعم انها ضعيفة أو غير موثقة ، لا سيما مثل المحقق والعلامة ونحوهما الذين قد وافقوه في هذه المسألة فبين من تردد في ذلك كالمحقق في الشرائع ، حيث قال «وفي بيع بيوت مكة تردد ، والمروي المنع» ، وبين من وافقه والحال كما ترى.

المسألة الثالثة

وقد صرحوا بان من الشرائط ان يكون المبيع مقدورا على تسليمه ، أو يضم اليه ما يصح بيعه منفردا ، فلو باع الحمام الطائر أو غيره من الطيور المملوكة لم يصح الا ان تقضى العادة بعوده فيصح ، لانه يكون كالعبد المنفذ في الحوائج والدابة المرسلة.

وتردد العلامة في النهاية في الصحة بسبب انتفاء القدرة في الحال على التسليم ، وان عوده غير موثوق به ، إذ ليس له عقل باعث.

قال في المسالك : وهو احتمال موجه ، وان كان الأول أقوى.

أقول : لم أقف في هذا المقام على نص يقتضي صحة البيع في الصورة المذكورة ، فتردد العلامة في محله ، وان كان الأول قريبا ، تنزيلا للعادة منزلة الواقع ، الا ان الفتوى بذلك بمجرد هذا التعليل مشكل ، على قاعدتنا في الفتاوى.

* * *

ولو باع المملوك الآبق لم يصح الا على من هو في يده أو مع الضميمة الى ما يصح بيعه منفردا ، فان وجده المشترى وقدر على إثبات اليد عليه ، والا كان الثمن بإزاء

٤٣٤

الضميمة ، ونزل الآبق بالنسبة إلى الثمن بمنزلة المعدوم. ولكن لا يخرج بالتعذر عن ملك المشترى ، فيصح عتقه عن الكفارة وبيعه على آخر مع الضميمة أيضا.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ، ما رواه في الكافي في الصحيح عن رفاعة النخاس ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام قلت له : يصلح لي ان اشترى من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن فاطلبها أنا؟ قال : لا يصلح شراؤها الا ان تشترى معها ثوبا أو متاعا ، فنقول لهم : اشترى منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهما ، فان ذلك جائز (١).

وما رواه الشيخ عن سماعة في الموثق عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يشترى العبد وهو آبق عن اهله ، قال : لا يصلح الا ان يشترى معه شيئا آخر ، ويقول : اشترى منك هذا الشي‌ء وعبدك بكذا وكذا ، فان لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى معه (٢). ورواه الصدوق بإسناده عن سماعة مثله ، ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد مثله.

وفي الرواية الأولى إشارة إلى كون الضميمة شيئا له قيمة كالثوب والمتاع ونحو ذلك ، وينبغي ان يحمل عليها إطلاق الشي‌ء في الرواية الثانية.

وفي الثانية دلالة على ما قدمنا ذكره من أنه مع تعذر المبيع يكون الثمن ـ وان كثر ـ في مقابلة الضميمة ـ وان قلت ـ وفيه ، وكذا في أمثاله ، من مواضع الضمائم الاتية إنشاء الله تعالى في مواضعها ، رد على بعض الفضلاء المعاصرين فيما تفرد به ، من ان ذلك غير جائز ، لأنه غير مقصود وان المشترى لا ينقد هذا الثمن الكثير في مثل هذا المبيع اليسير في سائر الأوقات وما جرت به العادة. وهو اجتهاد في مقابلة النصوص وجرأة على أهل الخصوص.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٢ حديث : ١ باب : ١١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٣ حديث : ٢ باب : ١١.

٤٣٥

وفي الخبرين المذكورين تأييد لما قدمنا ذكره في المقام الأول من هذا الفصل. من الاكتفاء في صيغة البيع بالألفاظ الدالة على الرضا كيف اتفقت ، فان ما ذكره في الخبرين من قوله «تقول : اشترى» هو عقد البيع وصيغته الجارية بين المتبايعين ، وهو ظاهر في عدم وجوب تقديم الإيجاب على القبول كما ادعوه ، ولا كونه بلفظ الماضي كما زعموه ، ولا وجوب المقارنة كما ذكروه.

تنبيهات

الأول : لا خيار للمشتري مع العلم بالإباق ، لقدومه على النقض ورضاه به. اما لو جهل الإباق جاز له الفسخ ان قلنا بصحة البيع.

الثاني : ينبغي ان يعلم انه يشترط في بيعه ما يشترط في غيره من كونه معلوما وموجودا وقت العقد وغير ذلك سوى القدرة على تسليمه. فلو ظهر تلفه حين العقد أو استحقاق الغير له بطل البيع فيما قابله من الثمن. ولو ظهر كونه مخالفا للوصف تخير المشترى.

الثالث : قال في الدروس عن المرتضى : انه جوز بيع الآبق منفردا لمن يقدر على تحصيله ، ثم قال : وهو حسن. واختار ذلك أيضا في اللمعة ، واليه جنح جمع من المتأخرين ، منهم العلامة والمحقق الشيخ على في شرح القواعد. ولا يخلو عن قوة ، لحصول الشرط وهو القدرة على تسليمه.

ووجه الاشتراط : صدق الإباق معه ، الموجب للضميمة بالنص ، وكون الشرط التسليم وهو أمر آخر غير التسليم. ويضعف بأن الغاية المقصودة من التسليم حصوله بيد المشترى بغير مانع وهي موجودة ، والموجب للضميمة العجز عن تحصيله وهي مفقودة ، فلا مانع من الصحة. والخبران المتقدمان محمولان على عدم قدرة المشترى

٤٣٦

وقت العقد ، وفي الثاني منهما ما يشير الى ذلك ، من قوله «فان لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى معه» فإنه ظاهر في كون البيع وقع في حالة لا يتحقق فيها قدرة المشترى على تحصيله ، بل هي تحتمل للأمرين ، وبه يظهر قوة القول المذكور.

الرابع : قد صرح جملة من الأصحاب ، منهم صاحب التذكرة والروضة وغيرهما ، بأنه لا يلحق بالآبق في هذا الحكم ما في معناه ، كالبعير الشارد ، والفرس الغائر ، والضالة من البقر والغنم ونحوهما ، بل المملوك المتعذر تسليمه بغير الإباق ، كالجحود مثلا ، فان الظاهر جواز بيعها من غير ضميمة شي‌ء ، للأصل وعموم أدلة العقود ، وحصول الرضا ، واقتصارا فيما خالف الأصل على موضع النص ، وحينئذ فيصح البيع ويراعى بإمكان التسليم ، فان أمكن في وقت قريب لا يفوت به شي‌ء من المنافع يعتد به ، أو رضى المشترى بالصبر الى ان يسلم ، لزم العقد. وان تعذر فسخ المشترى ان شاء ، وان شاء التزم بالعقد وبقي على ملكه ، فينتفع بالعبد بالعتق ونحوه.

الخامس : قيل : وكما يجوز جعل الآبق مثمنا يجوز جعله ثمنا ، سواء كان في مقابله آبق آخر أم غيره ، لحصول معنى البيع في الثمن والمثمن ، وفي احتياج جعل العبد الآبق المجعول ثمنا إلى الضميمة احتمال ، لصدق الإباق المقتضي لها ، ولعله الأقرب لاشتراكهما في العلة المقتضية لها.

وحينئذ يجوز ان يكون أحدهما ثمنا والأخر مثمنا مع الضميمتين ، كذا قيل. وللتوقف فيه مجال ، فان الحكم وقع خلاف الأصل كما اعترفوا به ، فالواجب الاقتصار فيه على مورد النص المتقدم ، ومورده انما هو المثمن لا الثمن.

السادس : ان الآبق يخالف غيره من المبيعات في أشياء : منها : اشتراط الضميمة في صحة بيعه.

٤٣٧

ومنها : انه ليس له قسط من الثمن.

ومنها : ان تلفه قبل القبض من المشترى.

ومنها : انه لا تخيير للمشتري مع فقده ، وكل ما شرط أو ذكر في العقد يتخير المشترى مع فواته.

السابع : لو وجد المشترى في الآبق عيبا سابقا ، اما بعد القدرة عليه أو قبلها كان له الرجوع بأرشه ، بأن يقوم العبد صحيحا مع الضميمة بعشرة مثلا ، ويقومان معيبا بتسعة ، فالأرش هو العشر ، يرجع به المشترى من القيمة التي وقع عليها العقد ، وهكذا لو ظهر العيب في الضميمة وكان سابقا على البيع ، فان الحكم فيه كذلك.

الثامن : لا يكفي في الضميمة ، إلى الثمن أو المثمن ، ضم آبق آخر ، لان الغرض من الضميمة أن تكون ثمنا أو مثمنا إذا تعذر تحصيل ما ضمت اليه ، فلا بد ان تكون جامعة لشرائطه التي من جملتها إمكان التسليم ، والآبق المجعول ضميمة ليس كذلك.

المسألة الرابعة

قد صرحوا بأن من الشرائط : ان يكون المبيع طلقا فلا يصح بيع الوقف العام مطلقا. بضميمة كان أو بغير ضميمة.

والمشهور : استثناء موضع خاص ، الا انهم قد اختلفوا في شروطه اختلافا شديدا فاحشا ، حتى من الواحد في الكتاب الواحد في باب البيع وباب الوقف ، فقلما يتفق فتوى واحد منهم. فضلا عن المتعددين ، وان أردت الاطلاع على صحة ما قلناه فارجع الى شرح الشهيد على الإرشاد ، فإنه قد بلغ الغاية في ذلك ، في بيان المراد

٤٣٨

بنقل جملة من فتاويهم ، وبين الاختلاف فيها باعتبار الشروط المجوزة للبيع.

ونحن ننقل لك ذلك في هذا المقام ، إزاحة لثقل المراجعة عمن اراده من الاعلام ، وتقريبا لمسافة وصوله إلى الأفهام ، فنقول :

قال في الكتاب المذكور : قال الصدوق بجواز بيع «الوقف على قوم دون عقبهم» ومنع من بيع «الوقف المؤبد». وقال المفيد : انه يجوز بيع الوقف إذا خرب ولم يوجد له عامر ، أو يكون غير مجد نفعا ، أو اضطر الموقوف عليه الى ثمنه ، أو كان بيعه أعود عليه ، أو يحدث ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرب الى الله بصلتهم. قال : فهذه خمسة مجوزة للبيع ، ليس بعضها مشروطا ببعض.

وقال الشيخ في المبسوط ، بجوازه إذا خيف خرابه أو خيف خلف بين أربابه ، فجوزه في أحد الأمرين. وفي الخلاف ظاهر كلامه جوازه عند خرابه بحيث لا يرجى عوده. فقد خالف عبارة المبسوط في شيئين : أحدهما : انه ذكر هناك خوف الخراب ، وهنا تحققه. وثانيهما : انه لم يذكر الخلف بين أربابه في الخلاف. وقال في النهاية : لا يباع الا عند خوف هلاكه أو فساده ، أو كان بالموقوف عليهم حاجة ضرورية يكون بيعه أصلح ، أو يخاف خلف يؤدى الى فساد بينهم. فهذه أربعة بعضها غير مشروط ببعض. ومخالفتها لعبارتي الكتابين ظاهرة. وتبعه صاحب الجامع ، الا انه لم يذكر هلاكه أو فساده ، بل قال ـ عند خرابه ـ وقيد الفساد بينهم بأن تستباح فيه الأنفس.

وقال المرتضى : يجوز إذا كان لخرابه بحيث لا يجدى نفعا ، أو تدعو الموقوف عليهم ضرورة شديدة ، فقد وافق المفيد خمسي الموافقة.

وقال ابن البراج وأبو الصلاح : لا يجوز بيع المؤبد ، واما المنقطع فيجوز بقيود النهاية ، وتجويز بيع المنقطع أشد اشكالا من الكل.

٤٣٩

وقال سلار : فان تغير الحال في الوقف حتى لا ينتفع به على اى وجه كان ، أو يلحق الموقوف عليه حاجة شديدة ، جاز بيعه.

وابن حمزة في كتابيه جوزه عند الخوف من خرابه أو الحاجة الشديدة التي لا يمكنه معها القيام به.

والشيخ نجم الدين ـ في التجارة من الشرائع ـ جواز إذا أدى بقاؤه إلى خرابه لخلف بين أربابه ، ويكون البيع أعود. وفي كتاب الوقف جوز بيعه إذا خشي خرابه لخلف بين أربابه ، ولم يقيد بكون البيع أعود. ثم استشكل فيما لم يقع خلف ولا خشي خرابه ، بل كان البيع أعود ، واختار المنع.

ففي ظاهر كلامه الأخير رجوع عن الأول ، وفي تقييده بقوله «إذا لم يقع خلف ولا خشي خرابه» افهام جواز بيعه عند أحدهما أيا ما كان ، وهو مخالف لما ذكر في الموضعين. وعبارته في هذه المواضع الثلاثة اختارها المصنف في القواعد في هذه المواضع ايضا ، فيلزمه ما لزمه ، وفي النافع أطلق المنع من البيع ، الا ان يقع خلف يؤدى الى فساد ، فإنه تردد فيه.

وقال المصنف في متاجر التحرير : يجوز بيعه إذا أدى بقاؤه إلى خرابه ، وكذا إذا خشي وقوع فتنة بين أربابه على خلاف. وفي مقصد الوقف منه : لو وقع خلف بين أرباب الوقف بحيث يخشى خرابه جاز بيعه على ما رواه أصحابنا. ثم قال : ولو قيل بجواز البيع إذا ذهبت منافعه بالكلية ، كدار انهدمت وعادت مواتا ولم يتمكن من عمارتها ، ويشترى بثمنها وقفا ، كان وجها. وفي التلخيص جوز عند وقوع الخلف الموجب للخراب ، وبدونه لم يجوز. وجوز في القواعد بيع حصير المسجد إذا خلق وخرج عن الانتفاع به فيه ، وبيع الجذع غير المنتفع به الا في الإحراق.

هذه عبارات معظم المجوزين.

وابن الجنيد أطلق المنع ، ونص ابن إدريس على إطلاق المنع ، وزعم الإجماع

٤٤٠