الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

وحينئذ فما ذكروه من الخيار في صورة الجهل لتبعيض الصفقة مشكل ، الا ان يقوم دليل من خارج على ثبوت هذا الخيار ، وهو وان كان مشهورا في كلامهم ومتداولا على رؤوس أقلامهم ، الا انه لا يحضرني الآن دليل عليه من الاخبار ، فإن وجد فلا بد من تخصيص هذا الخبر به ، والا كان العمل بإطلاق الخبر المذكور متجها ، وسيجي‌ء تحقيق المسألة إنشاء الله تعالى عند ذكر أقسام الخيار.

(الثاني) : قد عرفت انه لا فرق في اعتبار تقسيط الثمن بين ما إذا صح البيع في الجميع بالإجازة ، أو صح في المملوك خاصة إذا لم يجز ، فإنه يقسط الثمن بنسبة المالين ، ليأخذ المالك المجيز حصته منه في الأول ، ويرجع المشترى على البائع بقسط غير المملوك في الثاني.

وطريق التقسيط المذكور ـ على ما صرح به جمع منهم ـ : ان يقوما جميعا بقيمة عادلة ، ثم يقوم أحدهما منفردا ، ثم ينسب قيمة المنفرد إلى قيمة المجموع ، ويؤخذ من الثمن الذي وقع عليه العقد بتلك النسبة.

فإذا قوما جميعا بعشرين درهما مثلا ، وقوم أحدهما بعشرة ، فالنسبة بينهما النصف. فيصح البيع في المملوك بنصف ذلك الثمن الذي وقع عليه العقد.

وكذا في صورة اجازة المالك ، فان لكل من المالك البائع ، والمالك المجيز ، النصف.

وانما أخذ بنسبة القيمة ، ولم يخصه من الثمن قدر ما قوم به ، لاحتمال زيادة النسبة عن قدر ما يقوم به ونقصانها ، فربما جمع في بعض الفروض بين الثمن والمثمن على ذلك التقدير.

كما لو اشترى المجموع بعشرة ، وقوم أحدهما بعشرة ، فإنه لو أخذ قدر ما قوم به المملوك من الثمن المذكور وهو العشرة المذكورة ، للزم الجمع بين العوض والمعوض ، وذهب الثوب عن المالك البائع عن نفسه بغير عوض. وعلى هذا فقس زيادة ونقصانا.

٤٠١

قالوا : وانما يعتبر قيمتهما مجتمعين إذا لم يكن لاجتماعهما مدخل في زيادة قيمة كل واحد منفردا ، كعبدين وثوبين مثلا. اما لو استلزم زيادة القيمة كمصراعي باب ، كل واحد لمالك فإنهما لا يقومان مجتمعين إذ لا يستحق كل واحد حصته الا منفردا ، فلا يستحق ما يزيد باجتماعهما.

وطريق تقويمهما ـ على هذا ـ : ان يقوم كل واحد منهما منفردا وينسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين ، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة.

فإذا قوم كل منهما منفردا بعشرة يؤخذ نصف الثمن ، لانه نسبة أحدهما إلى المجموع. وهذا واضح في بيع ما يملكه البائع وما لا يملكه في عقد.

فلو فرض كونهما لمالك واحد ، كما لو باع الفضولي المصراعين معا فأجاز مالكهما في أحدهما خاصة دون الأخر ، ففي تقديرهما مجتمعين كالغاصب ، أو منفردين كما لو كانا لمالكين ، نظر.

ولم أقف في هذا المقام ـ بعد التتبع ـ على خبر يدل على ما ذكروه من التقسيط ولو مجملا ، الا ان الظاهر ان ما ذكروه لا يخرج عن مقتضى القواعد ، وان كان الاحتياط بالمصالحة أولى.

(الثالث) : قد ذكر الأصحاب في طريق التقسيط ـ فيما لو باع حرا مع عبد أو خمرا مع خل أو شاة مع خنزير ـ : ان يقوم الحر لو كان عبدا بالوصف الذي هو عليه ، من كبر وصغر وبياض وغيرها ، فيصح البيع في العبد ونحوه بنسبة قيمته الى مجموع القيمتين ، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة ، كما تقدم.

واما الخمر والخنزير فيرجع فيهما الى قيمتهما عند مستحلهما ، لا بمعنى قبول قولهم في القيمة ، لاشتراط عدالة المقوم ، بل يمكن فرضه في تقويم عدلين قد أسلما عن كفر كان يشتمل على استحلالهما. أو اخبار جماعة كثيرة منهم يؤمن من تواطئهم على الكذب ، ويحصل بقولهم الظن الغالب المقارب للعلم كما احتمله في المسالك. وهو يشعر بان المعتبر عند الأصحاب انما هو الأول.

قال في المسالك : وبقي في المسألة إشكال من وجهين.

٤٠٢

أحدهما : ان المشترى لهذين الشيئين ان كان جاهلا بما لا يملك توجه ما ذكروه ، لقصده إلى شرائهما ، فإذا لم يتم له الأمران وزع الثمن ، اما إذا كان عالما بفساد البيع فيما لا يملك ، أشكل صحة البيع مع جهله بما يوجبه التقسيط ، لإفضائه إلى الجهل بثمن المبيع حال البيع. لأنه في قوة : بعتك العبد بما يخصه من ألف إذا وزعت عليه وعلى شي‌ء آخر وهو باطل. وقد نبه على ذلك العلامة في التذكرة ، وقال : ان البطلان ليس ببعيد من الصواب.

الثاني : ان هذا الحكم ـ اعنى التوزيع ـ انما يتم ايضا قبل اقباض المشترى الثمن ، وبعده مع جهله بالفساد ، واما مع علمه فيشكل التقسيط ليرجع بقسطه ، لتسليطه البائع عليه أو إباحته له ، فيكون كما لو دفعه الى بائع مال غيره كالغاصب ، وقد تقدم ان الأصحاب لا يجيزون الرجوع بالثمن ، اما مطلقا أو مع تلفه ، فينبغي هنا مثله.

الا ان يقال : ذلك خرج بالإجماع ، والا فالدليل قائم على خلافه ، فيقتصر على مورده. وهو حسن. انتهى.

أقول : وهذه المسألة أيضا لم أقف فيها على نص ، الا ان بعض أحكامها جار على مقتضى القواعد الشرعية.

المسألة الخامسة

كما انه يصح العقد من المالك ، كذا يصح من القائم مقامه.

وهم ستة ـ على ما ذكره الأصحاب ـ وسبعة ـ على ما يستفاد من الاخبار ـ وبه صرحوا أيضا في غير هذا الموضع : ـ

الأب ، والجد له ـ لا الام ـ والوصي من أحدهما ـ على من لهما الولاية عليه ـ والوكيل من المالك ، أو ممن له الولاية ، والحاكم الشرعي حيث فقد الأربعة المتقدمة ، وأمينه ، وهو المنصوب من قبله لذلك ، أو لما هو أعم ، وعدول المؤمنين ، مع تعذر

٤٠٣

الحاكم ، أو تعذر الوصول اليه.

ولم يذكره الأصحاب هنا مع تصريحهم بجواز تولية بعض الحسبيات التي هي وظيفة الحاكم لعدول المؤمنين مع عدمه ، أو عدم إمكان الوصول اليه.

قالوا : ويحكم الحاكم المقاص ، وهو من يكون له مال على غيره فيجحده أو لا يدفعه مع وجوبه.

قالوا : ويجوز للجميع تولى طرفي العقد.

واستثنى بعضهم الوكيل والمقاص ، فلا يجوز لهما تولي طرفيه ، بل يبيعان من الغير.

* * *

وتحقيق الكلام في هذه المسألة يقع في مواضع : ـ (الأول) : لا خلاف في ثبوت الولاية للأب والجد له على الطفل ، الى ان يبلغ رشيدا اى غير سفيه ولا مجنون ، فلو عرض له الجنون والسفه قبل البلوغ واستمر به الى بعد البلوغ ، استمرت الولاية عليه.

وظاهره في المفاتيح في كتاب النكاح : انه لا خلاف فيه ، حيث قال : ثبت الولاية في النكاح للأب والجد وان علا ، على الصغير ، للنصوص المستفيضة ، وعلى السفيه والمجنون ، ذكورا كانوا أو اناثا ، مع اتصال السفه والجنون بالصغر ، بلا خلاف انتهى.

مع انه قال ـ بعد ذلك في الباب الخامس في التصرف بالنيابة ، بعد ان صرح بتخصيص ما ذكرنا من التفصيل بالجنون ـ : قيل وكذا حكم الولاية في مال من بلغ سفيها ، استصحابا لولاية الأب والجد ، اما من تجدد سفهه بعد ان بلغ رشيدا فولايته للحاكم لا غير.

وقيل : بل الولاية في السفيه مطلقا للحاكم لا غير ، وهو أشهر. انتهى.

ولا يخفى ما بين الكلامين من المدافعة ، فإن ظاهر الأول : نفي الخلاف عن

٤٠٤

عن ثبوت ولاية الأب والجد على من بلغ سفيها ، استصحابا للولاية السابقة فتستمر مع استمرار السفه ، وظاهر الثاني ان هذا القول خلاف الأشهر ، وان الأشهر ثبوت الولاية للحاكم على السفيه مطلقا ، تجدد سفهه بعد البلوغ أو استمر الى بعد البلوغ (١).

والذي يفهم من الاخبار. كما ستمر بك إنشاء الله تعالى ـ هو كون الولاية للأب والجد كما ذكره أولا.

والجواب عن المدافعة المذكورة بالفرق بين النكاح والمال ، لم أقف على قائل به.

والمفهوم من كلام الأصحاب ـ في كتاب النكاح ـ : ان هذا الإجماع انما هو في الجنون خاصة ، بمعنى ان من بلغ مجنونا ، فان ولايته للأب والجد بلا خلاف ، واما من بلغ سفيها ففيه خلاف ، فقيل بكونها لهما ، وقيل بكونها للحاكم. هذا.

واما لو بلغ عاقلا ، ثم عرض له الجنون أو السفه ، فالذي وقفت عليه في كلام جملة منهم : ان الولاية هنا للحاكم.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف «وتنقطع ولايتهما بثبوت البلوغ والرشد» ـ ما لفظه : ويشترط في ثبوت ولايتهما على غير الرشيد استمرار سفهه قبل البلوغ ، فيستصحب حكم الولاية لهما عليه من الصغر ، فلو بلغ رشيدا ثم زال رشده لم تعد ولايتهما ، بل تكون للحاكم. وكذا القول في المجنون. انتهى.

وظاهره في المفاتيح ـ في كتاب النكاح ـ : ان في المسألة قولا برجوع الولاية إلى الأب والجد ايضا.

__________________

(١) قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : وكذا من حصل له جنون أو سفه بعد البلوغ ، فإن أمره ايضا الى الحاكم ، إذ قد انقطعت ولايتهم بالبلوغ والرشد ، ولا دليل على العود ، فهم كالمعدوم ، فيكون للحاكم كما في غيره. وقال في الكفاية : والأب والجد يبقى تصرفهما ما دام الولد غير بالغ وكذا إذا بلغ واستمر عدم رشده. انتهى. ولم يشر أحد منهم الى خلاف هنا غير ما عرفت من عبارة المفاتيح. منه رحمه‌الله.

٤٠٥

قال : وان طرأ الوصفان بعد البلوغ والرشد ، ففي ثبوت ولايتهما قولان.

ولم أقف فيما حضرني من كتب الأصحاب على من نقل الخلاف هنا غيره.

ثم ان ما يدل على الولاية للأب والجد على من بلغ مجنونا أو سفيها ، لا الحاكم بالنسبة إلى السفيه ، كما نسبه في المفاتيح إلى الأشهر ـ أولا ـ أصالة بقائها ، حيث انها قبل البلوغ ثابتة لهما بالاتفاق ، فيستصحب الى ان يثبت المزيل ، والبلوغ على الكيفية المذكورة في حكم العدم ، فإنهم كالصغير في الحجر والمنع من التصرفات.

وثانيا : قوله عليه‌السلام في رواية هشام بن سالم : وان احتلم ولم يؤنس منه رشده ، وكان سفيها أو ضعيفا ، فليمسك عنه وليه ماله (١).

وروى في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : انه سئل عن قول الله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» قال : إيناس الرشد حفظ المال (٢).

ونقل في مجمع البيان عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ تفسير إيناس الرشد بالعقل وإصلاح المال.

وحينئذ فالموجب لدفع ماله اليه من الولي هو البلوغ مع الرشد ، فلو لم يحصل فالولاية ثابتة ومستمرة عليه.

وبه يضعف القول بكون الولاية للحاكم في الصورة المتقدم ذكرها ، وان كان هو الأشهر ، كما في المفاتيح. والعجب انه لم يتنبه لذلك مع ظهور الأخبار المذكورة فيه.

(الثاني) : قد عرفت مما قدمنا ، ان الولاية بعد الأب والجد وكيلهما أو وصيهما للحاكم ، وهو مما لا خلاف فيه الا من ابن الجنيد ، فإنه جعلها للام الرشيدة بعد الأب ، وهو شاذ متروك عند الأصحاب ، بل نقل عنه في المختلف ثبوت الولاية للجد من قبلها في النكاح.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٦٨ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٣ ص ١٤٣ حديث : ٤.

٤٠٦

بقي الكلام في تعارض ولايتي الأب والجد لو اختلفا أو تصرفا دفعة ، هل يقدم الأب على الجد؟

ثم في ترتيب أجداد الأب أو اشتراكهم مع وجود الأعلى والأدنى أقوال ، نقل ذلك في المفاتيح.

والذي وقفت عليه في كلام من حضرني كلامه هو تقديم الأب على الجد الأدنى من الجدود ، والأدنى على الأعلى.

والظاهر انه المشهور ، الا ان بعض الاخبار دل على تقديم الجد على الأب في النكاح مع التعارض.

قال في المسالك ـ في كتاب الوصايا ، بعد قول المصنف «وكذا لو مات انسان ولا وصى له كان للحاكم النظر في تركته» ـ ما صورته : اعلم ان الأمور المفتقرة إلى الولاية اما ان تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا ، فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد ، على ترتيب الولاية الأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، فإن عدم الجميع فوصى الميت ، ثم وصى الجد ، وهكذا. فان عدم الجميع فالحاكم. انتهى.

وعلى هذا النهج كلام غيره من غير نقل خلاف في المقام الا انه قال في المسالك ـ في كتاب الحجر ايضا ـ : لا خلاف في كون الولاية عليهما للأب والجد له وان علا ، وانما الكلام في انهما إذا تعارضا أو وقع العقد دفعة فهل يقع باطلا ، لاستحالة الترجيح ، أو تقديم عقد الجد أو عقد الأب.

الذي اختاره في التذكرة في هذا الباب هو الثاني ، والكلام في المال. واما في التزويج فسيأتي في كتاب الوصايا من التذكرة ، قال : ان ولاية الأب مقدمة على ولاية الجد ، وولاية الجد مقدمة على ولاية الوصي للأب ، والوصي للأب والجد اولى من الحاكم (١).

__________________

(١) قال في المختلف : المشهور عند علمائنا اجمع إلا ابن الجنيد ان الأم والجد

٤٠٧

أقول : والمسألة خالية من النص ، فمن أجل ذلك حصل التردد فيها ، والاحتمال في تقديم كل من الجد والأب على الأخر.

ثم انه ينبغي ان يعلم : ان ولاية وصي الأب لا تنفذ الا مع فقد الجد وان علا ، لأن الولاية له بعد الأب أصالة ، فلا يجوز ان يعين وصيا على أطفاله مع وجود أحد آبائه وان علا ، لان ولايته ثابتة بأصل الشرع ، فليس للأب ان ينقلها الى غيره ، ولا جعل شريك معه في ذلك وبذلك صرح الأصحاب.

(الثالث) : المشهور بين الأصحاب انه مع فقد الإمام في موضع تكون الولاية على الأطفال راجعة إليه ، فلعدول المؤمنين النظر في ذلك.

وعن ابن إدريس المنع ، قال : لان ذلك موقوف على الاذن الشرعي وهو منتف.

والأول مختار الشيخ والأكثر ، لما فيه من المعاونة على البر والتقوى المأمور بهما ، ولقوله عزوجل «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (١) خرج منه ما اجمع على عدم ولايتهم فيه فيبقى الباقي تحت العموم.

ويمكن أيضا استفادة ذلك من عموم دلائل الأمر بالمعروف ، وهذا كاف في رد ما ادعاه من عدم الإذن الشرعي.

ويؤيده ـ أيضا ـ تطرق الضرر الى مال الطفل بعدم القيم الحافظ له. والمعارضة بطرو الضرر بالتصرف فيه مدفوعة باشتراط العدالة في الولي المانعة من اقدامه على ما يخالف المصلحة للطفل.

__________________

لها لا ولاية لهما في النكاح. وقال ابن جنيد : فاما الصبية غير البالغة فإذا عقد عليها أبوها فبلغت لم يكن لها اختيار ، وليس ذلك لغير الأب وآبائه في حياته. والام وأبوها يقومان مقام الأب وآبائه في ذلك ، لان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر نعيم بن النجاح أن يستأمر أم بنته في أمرها. وقال وأمروهن في بناتهن. انتهى. ولا ريب ان حديثه عامي ، وأخبارنا ترده كما سيأتي تحقيق المسألة في محلها. منه رحمه‌الله.

(١) سورة براءة : ٧١.

٤٠٨

ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ما قدمناه في المسألة السابعة في أحكام اليتامى وأموالهم من المقدمة الرابعة ، من صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع ، وصحيح ابن رئاب (١) ومثلهما في ذلك. بل أوضح من ذلك

رواية سماعة ، قال : سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية ، وله خدم ومماليك وعقار ، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال : ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس (٢).

وعن إسماعيل بن سعد ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل مات بغير وصية وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا وترك جواري ومماليك ، هل يستقيم ان تباع الجواري؟ قال : نعم (٣).

وإطلاق هذا الخبر محمول على الاخبار المتقدمة الصريحة في التقييد بالعدل من المؤمنين.

وبذلك يظهر لك زيادة ضعف ما ذهب اليه ابن إدريس ، من قوله بالمنع لمجرد خيال تخيله.

(الرابع) : لو كان له على غيره مال فجحده أو تعذر استيفاؤه منه ، فإنه يجوز له الاستقلال بأخذ جنس ماله ان وجده ، والا فمن غيره بالقيمة ، مخيرا بين بيعه من نفسه ومن غيره ولا يشترط اذن الحاكم وان أمكن بوجوده ووجود البينة التي يثبت بها حقه ، على الأشهر الأظهر ، الا ان يحلف الجاحد أو يكون وديعة. على خلاف في ذلك.

والأصل في ذلك الاخبار ، بعد ظاهر قوله عزوجل «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (٤).

__________________

(١) مرتا في صفحة : ٣٢٣.

(٢) الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٤ حديث : ١.

(٣) المصدر ص ٤٧٥ حديث : ٣.

(٤) سورة البقرة : ١٩٤.

٤٠٩

ومنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن رزين قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : انى أخالط السلطان فتكون عندي الجارية ، فيأخذونها ، والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ، ثم يقع لهم عندي المال فلي ان آخذه؟ فقال : خذ مثل ذلك ولا تزد عليه (١).

وعن ابى بكر الأرمني ، قال : كتبت الى العبد الصالح عليه‌السلام جعلت فداك ، ان كان لي على رجل دراهم فجحدني فوقعت له عندي دراهم فاقبض من تحت يدي مالي عليه؟ فان استحلفني حلفت ان ليس له شي‌ء على؟ قال : نعم ، فاقبض من تحت يدك ، وان استحلفك فاحلف له انه ليس له عليك شي‌ء (٢).

وعن على بن مهزيار ، قال أخبرني إسحاق بن إبراهيم ، ان موسى بن عبد الملك كتب الى ابى جعفر عليه‌السلام يسأله عن رجل دفع اليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البر ، فلم يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به ، وقد كان له عليه بقدر هذا المال ، فسأل هل يجوز لي ان أقبض مالي أو أرده عليه؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ اقبض مالك مما في يدك (٣).

وعن على بن سليمان قال : كتب اليه : رجل غصب رجلا مالا أو جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه ، أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب اليه : نعم ، يحل له ذلك ان كان بقدر حقه ، وان كان أكثر فيأخذ منه ما كان له عليه ويسلم الباقي إليه إنشاء الله (٤).

أقول : الظاهر ان على بن سليمان هو الرازي ، والمكتوب اليه صاحب الأمر ـ عليه‌السلام. وفيه دلالة على جواز المقاصة من الوديعة.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٧ حديث : ٧.

(٢) الوسائل ج ١٦ ص ٢١٤ حديث : ١ باب : ٤٧.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٤ حديث : ٨.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٤ حديث : ٩.

٤١٠

وعن جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده ، أيأخذه وان لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : نعم (١).

وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح في بعضها ، عن ابى بكر الحضرمي ، وهو ممدوح ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل كان له على رجل مال فجحده إياه وذهب به ، ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب بماله مال قبله ، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال : نعم ، ولكن لهذا كلام ، يقول : اللهم انى آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني ، وانى لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلما (٢). الى غير ذلك من الاخبار.

وقيل : لو كان لصاحب الحق بينة يثبت بها الحق عند الحاكم لو أقامها وأمكن الوصول الى حقه بذلك لم تجز له المقاصة مطلقا ، لان التسلط على مال الغير على خلاف الأصل ، فيقتصر منه على موضع الضرورة ، وهي هنا منتفية ، ولان الممتنع يتولى القضاء عنه الحاكم.

وأنت خبير بما في هذه الوجوه في مقابلة النصوص الصريحة. وهل هو الا اجتهاد في مقابلة النص.

* * *

وظاهر الأصحاب ، وعليه دل أكثر النصوص ، انه لا تجوز المقاصة فيما حلف عليه.

ومنها : ما رواه في الكافي والفقيه عن خضر بن عمرو النخعي ، عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده ، قال : ان استحلفه فليس له ان يأخذ منه بعد اليمين شيئا ، وان احتسبه عند الله تعالى فليس له ان يأخذ شيئا ، وان تركه ولم يستحلفه فهو

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٥ حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٤ حديث : ٥.

٤١١

على حقه (١).

أقول : لعل معنى احتسابه عند الله سبحانه هبته له أو قصد التصدق به أو إبراء ذمته ، فان جميع ذلك احتساب عند الله.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن خضر النخعي ، عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده ، قال : فان استحلفه فليس له ان يأخذ شيئا ، فإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه (٢).

وعن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده إياه فيحلف له يمين صبر ان ليس له عليه شي‌ء؟ قال : لا ليس له ان يطلب منه ، وكذلك ان احتسبه عند الله فليس له ان يطلب منه (٣).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن ابى يعفور ، عن الصادق عليه‌السلام قال : إذا رضى صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف ان لاحق له قبله ذهبت اليمين بحق المدعى فلا دعوى له. قلت له : وان كانت عليه بينة عادلة؟ قال : نعم ، وان أقام بعد ان استحلفه بالله خمسين قسامة ، ما كان له حق وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه (٤).

وما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : من حلف لكم بالله فصدقوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ذهبت اليمين بدعوى المدعى ولا دعوى له (٥).

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح في بعضها ، عن سليمان بن خالد ، قال :

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ٢١٥ حديث : ١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر حديث : ٢.

(٤) الوسائل ج ١٨ ص ١٧٩ حديث : ١ باب : ٩.

(٥) نفس المصدر حديث : ٢.

٤١٢

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ، ثم وقع له عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه وجحده وحلف عليه كما صنع؟ فقال : ان خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عتبة عليه (١).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن وضاح ، قال : كان بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم ، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت انه حلف يمينا فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت ان اقتص الالف درهم التي كانت لي عنده وحلف عليها ، فكتبت الى ابى الحسن عليه‌السلام فأخبرته انى قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال ، فإن أمرتني أن آخذ منه الالف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب عليه‌السلام لا تأخذ منه شيئا ان كان ظلمك فلا تظلمه. ولولا انك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذ منه شيئا ، وانتهيت الى كتاب ابى الحسن عليه‌السلام (٢).

* * *

واما ما رواه الشيخ في الصحيح الى ابى بكر الحضرمي وهو ممدوح عندهم ، قال : قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي ـ ان وقع له قبلي دراهم ـ ان آخذ منه بقدر حقي؟ قال : فقال : نعم ، ولكن لهذا كلام. قلت : وما هو؟ قال : تقول اللهم لم آخذه ظلما ولا خيانة ، وانما أخذته مكان مالي الذي أخذه منى لم أزد عليه شيئا (٣). فحمله الصدوق والشيخ على انه حلف من غير ان يستحلفه صاحب الحق ، وهو جيد. هذا.

* * *

واما الوديعة فالمشهور ايضا انه لا يجوز المقاصة منها لوجوب أداء الأمانات ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٤ حديث : ٧.

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ١٨٠ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٣ حديث : ٤.

٤١٣

ولجملة من الاخبار.

منها : ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن معاوية بن عمار ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : الرجل يكون لي عليه حق فيجحدنيه ثم يستودعني مالا ، إلى أن آخذ مالي عنده؟ قال : لا ، هذه خيانة (١).

وما رواه في التهذيب عن ابن ابى عمرو ، عن ابن أخي الفضيل بن يسار ، قال : كنت عند الصادق عليه‌السلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها ، فقالت لي : اسأله ، فقلت : عما ذا؟ فقالت : ان ابني مات وترك مالا ، كان في يد أخي فأتلفه ، ثم أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أد الأمانة الى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك (٢).

وما رواه في الفقيه بإسناده عن زيد الشحام ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : من ائتمنك بأمانة فأدها اليه ، ومن خانك فلا تخنه (٣).

والشيخ حمل هذه الاخبار على الكراهة ، جمعا بينها وبين ما دل على الجواز ، مثل ما قدمناه من خبر على بن سليمان ، المتضمن لكون المال وديعة ، مع انه عليه‌السلام جوز له المقاصة منه.

ونحوه ما رواه في التهذيب في الصحيح عن ابى العباس البقباق ، ان شهابا ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك الف درهم ، قال أبو العباس فقلت له : خذها مكان الألف الذي أخذ منك ، فأبى شهاب. قال : فدخل شهاب على ابى عبد الله عليه‌السلام فذكر له ذلك ، فقال : اما انا فأحب أن تأخذ وتحلف (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٥ حديث : ١١.

(٢) المصدر ص ٢٠٢ حديث : ٢.

(٣) المصدر ص ٢٠٥ حديث : ١٢.

(٤) المصدر ص ٢٠٢ حديث : ٢. وقوله : «ماراه» من المراء والمماراة بمعنى الجدل واللجاج.

٤١٤

قال في الوافي ـ بعد نقل هذا الخبر ـ وفيه. إشكالان : أحدهما : جواز الأخذ من الوديعة ، مع انه خيانة كما مر. والثاني : محبته عليه‌السلام ذلك. ويمكن التفصي عنهما بحمله على ما إذا كان الغاصب المودع هو العامل ، فان ماله اما في‌ء للمسلمين أو هو للإمام ، وللإمام الاذن في أخذه ، فان لم يكن كله للإمام فلا أقل من الخمس. ويشعر بذلك عدم ذكر الغاصب ، والإتيان بصيغة المعلوم في الاستيذان ، كأنه كان معلوما بينهما ، وكان ممن يتقى منه. انتهى.

* * *

أقول : ملخص الكلام في المقام ، ان هذه الاخبار قد خرجت على أقسام ثلاثة :

(الأول) : من وقع بيده مال لرجل فجحده حقه أو امتنع من إعطائه.

ولا خلاف ولا إشكال في جواز مقاصته. وعليه تدل الأخبار الأولة.

(الثاني) : من جحد وحلف.

والظاهر ـ ايضا ـ انه لا إشكال في انه ان استحلفه المدعى فلا تجوز المقاصة كما تدل عليه الاخبار الثانية. والخبر المنافي ظاهر ـ كما عرفت ـ في انه محمول على حلف من عليه المال بدون استحلاف صاحب المال ، وهو كمن لم يحلف إذ لا اثر لهذه اليمين اتفاقا ، بل لو أحلفه الحاكم بدون طلب صاحب الدعوى ، فإنها لاغية.

(الثالث) : الوديعة.

وقد عرفت اختلاف الاخبار فيها.

وجمع الشيخ بينها بحمل اخبار المنع من المقاصة على الكراهة.

وما ذكره صاحب الوافي من الحمل على كون ذلك الغاصب المنكر عاملا ، فالظاهر انه بعيد عن سياق الخبرين المذكورين الدالين على ذلك.

ومن المحتمل عندي قريبا في المقام : هو الجمع بين الاخبار المشار إليها بالإتيان بالدعاء المذكور وعدمه ، وان التصرف انما يكون خيانة مع عدمه ، كما يشير اليه قوله عليه‌السلام في رواية الحضرمي الاولى «وانى لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلما».

٤١٥

وكذا في الرواية الثانية.

والاولى وان كانت مطلقة حيث ذكرناها في عداد الروايات الأولى ، الا ان الظاهر حملها على الوديعة ، فإن جواز المقاصة في غير الوديعة صحيح شرعي ، لا يتوقف على هذا الدعاء.

ونحوها الرواية الثانية ـ أيضا ـ بحملها على ذلك ، والحلف فيها ـ قد عرفت ـ انه بحكم العدم.

وهذا الدعاء يشير الى ما دلت عليه روايات المنع من المقاصة من الوديعة ، من كون ذلك خيانة ، فهذا الدعاء في هذا المقام كأنه بمنزلة الصيغ الشرعية والعقود الناقلة في المعاملات ، فيحتاج اليه لانتقال المال اليه مكان ماله عليه ، كما يحتاج الى العقود الناقلة في المعاملات.

وقال في الفقيه ـ بعد ذكر خبر الحضرمي الأول ـ وفي خبر آخر ليونس بن عبد الرحمن عن الحضرمي مثله الا انه قال : يقول : اللهم انى لم آخذ ما أخذت خيانة ولا ظلما. قال : وفي خبر آخر : ان استحلفه على ما أخذ فجائز له ان يحلف ، إذا قال هذه الكلمة.

وبالجملة فإن المقاصة في الصورة الأولى مما لا خلاف فيه ولا إشكال في جوازها ـ كما دلت عليه اخبارها ـ من غير توقف على شي‌ء بالكلية. وفي الصورة الثانية لا اشكال ولا خلاف في عدمها. وانما محل الاشكال والخلاف في الثالثة. والمستفاد من هذه الاخبار هو انه مع قول هذا الدعاء والإتيان به يجوز المقاصة والا فلا. والله العالم.

* * *

(الخامس) قد صرح جمع من الأصحاب منهم في المسالك والروضة والدروس :

بأنه يجوز لجميع من تقدم ذكره ممن له الولاية حتى المقاص ، تولى طرفي العقد ، بأن يبيع من نفسه وممن له الولاية عليه.

٤١٦

واستثنى بعضهم الوكل والمقاص من الحكم المذكور ، فمنع من توليهما طرفي العقد.

واقتصر آخر على استثناء الوكيل خاصة ، على تفصيل فيه.

وممن ظاهره القول بالعموم هنا المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد.

ولا فرق في ذلك في عقد البيع وغيره من العقود حتى النكاح ايضا.

وتفصيل كلامهم في التوكيل ، هو انه إذا اذن الموكل لوكيله في بيع ماله من نفسه ، أو وكلته المرأة على ان يعقد بها على نفسه ، فهل يجوز له تولى طرفي العقد أم لا؟ المشهور بين أصحابنا هو الأول ، واليه مال في المسالك ، قال : لوجود المقتضى ـ وهو الاذن المذكور ـ وانتفاء المانع. إذ ليس الا كونه وكيلا ، وذلك لا يصلح للمانعية.

وعن الشيخ وجماعة : المنع ، للتهمة وانه يصير موجبا قابلا. ورد بأن التهمة مع الإذن ممنوعة ، ومنع جواز تولى الطرفين على إطلاقه ممنوع. فإنه جائز عندنا في الأب والجد ، كما قرر في محله.

وظاهر كلامهم ان ذلك جار في جميع العقود ، من بيع ونكاح ، مع انه قد روى عمار في الموثق ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن امرأة تكون في أهل بيت ، فتكره ان يعلم بها أهل بيتها ، أيحل لها ان توكل رجلا يريد ان يتزوجها ، تقول له : قد وكلتك ، فاشهد على تزويجي. قال : لا. قلت : جعلت فداك ، وان كانت أيما؟ قال : وان كانت أيما. قلت له : فان وكلت غيره فيزوجها؟ قال : نعم (١).

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ صريحة في المنع من ذلك مع الاذن صريحا بالنسبة إلى النكاح ، وليس في هذه الرواية ما يمكن استناد المنع اليه ، الا تولى طرفي العقد. واما غير النكاح من العقود فلم أقف فيه على خبر ، وما عللوا به من الجواز لا ينهض

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ ص ٢١٧ حديث : ٤.

٤١٧

دليلا على إثبات حكم شرعي مخالف للأصل ، والأصل عصمة الفروج والأموال حتى يقوم دليل شرعي واضح على زوالها ، والأحوط المنع ، كما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه.

هذا مع الاذن ، اما مع الإطلاق فهل يجوز البيع من نفسه أم لا؟ ظاهر جملة من الأصحاب ـ وكأنه المشهور ـ المنع. واليه مال في المسالك ، لان المفهوم من الاستنابة هو البيع على غيره ، فلا يتناوله الإطلاق. وللاخبار. وقيل بالجواز على كراهة.

وقد مر شرح الكلام في هذا المقام في المقدمة الثانية في آداب التجارة في مسألة «ما لو قال انسان للتاجر اشتر لي ، فهل يجوز ان يعطيه مما عنده أم لا» ونقلنا القولين في المسألة والاخبار الدالة على المنع (١) وبها تظهر قوة القول المشهور وصحته.

وما ذكرنا يعلم ان ليس الخلاف في هذه المسألة من جهة اعتبار تولى الواحد طرفي العقد وعدمه

اما أولا ، فلان جماعة ممن قال بالجواز في الصورة الأولى ، منعوا في الصورة الثانية.

واما ثانيا ، فلانه يمكن المغايرة بالتوكيل في القبول والإيجاب ، مع انه لا يجدى نفعا في مقام المنع ، كما لو وكل ذلك الوكيل أعم من ان يكون مأذونا له أو مطلقا في الإيجاب والقبول ، فان ظاهر النصوص المشار إليها العدم ، لأن النهي فيها انما وقع عن إعطائه من الجنس الذي عنده ، وأخذه من الجنس الذي وكل في بيعه ، أعم من ان يكون هو الموجب أو القابل ، أو يجعل غيره وكيلا في ذلك.

واما ثالثا ، فان المانع انما استند الى الاخبار ، مضافة الى ما قدمنا نقله من عدم تناول الإطلاق لذلك ، لا الى عدم جواز تولى طرفي العقد.

__________________

(١) راجع : الصفحة : ٣٢ ـ ٣٦.

٤١٨

واما رابعا ، فلان الأخبار المشتملة على المنع قد علل ذلك في بعضها بالتهمة ، فلو لم يخف التهمة جاز الشراء من نفسه أو لنفسه. وفي بعضها ما يشير الى عدم دخول جواز البيع على نفسه تحت الإطلاق كما تقدم ذكر جميع ذلك في الموضع المشار اليه.

قال في المسالك ـ في شرح قول المصنف في كتاب الوكالة : «إذا اذن الموكل لوكيله في بيع ماله من نفسه فباع جاز ، وفيه تردد ، وكذا في النكاح» ـ ما لفظه : والخلاف في المسألة في موضعين ، وينحل إلى ثلاثة :

أحدها : ان الوكيل هل يدخل في إطلاق الإذن أم لا. الثاني : مع التصريح بالاذن هل له ان يتولاه لنفسه ، وان وكل في القبول أم لا. الثالث : على القول بالجواز مع التوكيل ، هل يصح تولى الطرفين أم لا. والشيخ ـ عليه الرحمة ـ على المنع في الثلاثة. والعلامة في المختلف على الجواز في الثلاثة. وفي غيره في الأخيرين. والمصنف يجوز الأخير ويمنع الأول. وقد تردد في الوسط. انتهى.

* * *

ولو كان المتولي لطرفي العقد وكيلا فيهما بأن وكله شخص على الشراء ، وآخر على البيع. فهل له ان يتولى العقد نيابة عنهما؟ المشهور ذلك.

قال في الروضة : وموضع الخلاف مع عدم الإذن توليه لنفسه ، واما لغيره بان يكون وكيلا لهما فلا إشكال في الصحة ، الا على القول بمنع كونه موجبا قابلا. انتهى.

وهذا الكلام في الوصي أيضا جار عندهم ، فإنه ان كان توليه الطرفين لنفسه فهو محل الخلاف المتقدم ، وان كان لغيره فالمشهور الجواز ، الا عند من يمنع من كونه قابلا موجبا.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان جملة ما استدلوا به على صحة تولى الواحد طرفي

٤١٩

العقد في جملة المواضع المتقدمة ، هو عموم أدلة البيع ، مثل قوله سبحانه «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ، ولانه عقد صدر من أهله في محله مع الشرائط فيصح ، والأصل عدم اشتراط شرط آخر ، وعدم اشتراط التعدد وعدم مانعية كونه من شخص واحد وللاتفاق على الجواز في الأب والجد ، وهو صريح في عدم مانعية الوحدة ، وعدم اشتراط التعدد.

وأنت خبير بما في هذه الأدلة ، من إمكان تعدد المناقشة ، فإن للخصم ان يتمسك بأن الأصل عصمة مال الغير حتى يثبت الناقل له شرعا ، وعصمة الفرج حتى يثبت المبيح. والمعهود الذي جرى عليهم الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وأصحابهم ، وجملة السلف والخلف ، في العقود الناقلة في بيع كان ونحوه أو نكاح ، انما هو تعدد المتولي للإيجاب والقبول ، وما ذكر هنا من جواز تولى الواحد انما وقع فرضا في المسألة ولم ينقل وقوعه في عصر من الأعصار. وبذلك يظهر لك الجواب عن الاستدلال بإطلاق الآيات المتقدمة ، حيث انهم قرروا في غير مقام ان الإطلاق في الاخبار انما ينصرف الى الافراد المتكررة الشائعة ، دون الفروض النادرة التي ربما لا توجد ، والأمر فيما نحن فيه كذلك. فالواجب حملها على ما هو المعهود المعلوم الذي جرى عليه التكليف في هذه المدة المتطاولة ، وهو وقوع العقد من موجب وقابل ، ويخرج موثقة عمار المتقدمة (١) شاهدا على ما ذكرنا ، فان ظاهرها : ان وجه المنع مع اذنها ورضاها انما هو من حيث لزوم تولى طرفي العقد وكونه موجبا قابلا ، وما استندوا اليه من الاتفاق على ذلك في الأب والجد ، ففيه ـ مع الإغماض عن تطرق المناقشة إليه أيضا بعدم الدليل وعدم الاعتماد في الأحكام على مثل هذا الإجماع ان تم وما عداه محل الخلاف في المقام كما عرفت ، وقولهم انه عقد صدر من أهله في محله : ـ انها مصادرة محضة ، فإن الخصم لا يسلم ذلك ، بل هو محل النزاع والبحث ،

__________________

(١) مرت في الصفحة : ٤١٧.

٤٢٠