الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

عن البلوغ والعقل والاختيار ، ففيه : منع ظاهر ، لان الخصم يقول : ان الأهلية عبارة عن ذلك بإضافة المالكية للأصل أو التصرف ، ولا يسلم له ما ادعاه من أهلية الفضولي ، وان الأهلية عبارة عما ذكره ، بل هو أول المسألة.

واما ما ذكره من صدوره في محله باعتبار وقوعه على عين يصح تملكها وتقبل النقل فيه ، ففيه : ما في الأول ، فإن الخصم يقول : ان محله المال المملوك أصلا أو تصرفا ، لا ما يصلح للتملك ويقبله في حد ذاته.

وبالجملة فإن ما ذكره من الدليل مصادرة على المطلوب كما لا يخفى.

واما ما ذكره من انه لا فرق بين الاذن قبل البلوغ أو بعده فغير مسلم أيضا ، لأن التصرف بعد الإذن شرعي بلا خلاف فلا يترتب عليه اثم ولا ضمان ، واما قبله فغصبى يترتب عليه الضمان والإثم ، لقبح التصرف في مال الغير بغير اذنه ، ومنع الشارع من ذلك. وقد صرحوا بذلك في مواضع عديدة ، والا لجازت الصلاة في الأماكن مطلقا ، وفي الثياب كذلك ، وجاز أكل الغير والتصرف فيه بأنواع التصرفات ، بناء على الاذن المتأخر. حيث لا فرق بينه وبين الاذن المتقدم ، فان اذن المالك والا غرم له اجرة ذلك ، وتكون التصرفات على التقديرين تصرفات شرعية ، وهو مخالف للمعقول والمنقول.

واما ما احتج به من الرواية فلا تقوم بها حجة في هذا المجال ، وان اشتهر نقلها في كتب الاستدلال ، حيث انها عامية والعجب منه ـ رحمه‌الله ـ وممن تبعه في ذلك حيث انهم كثيرا ما يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويردونها لمخالفتها ما اصطلحوا عليه من هذا الاصطلاح الجديد ، ويعتمدون هنا في أصل الحكم على رواية عامية ، ويفرعون عليها فروعا ، ويرتبون عليها أحكاما ، والحال كما ترى.

وأنت خبير بأن المفهوم من هاتين الحجتين : ان المراد بالبائع : من باع لنفسه أو للمالك ـ كما أشرنا إليه سابقا.

ويؤيده : أنهم جعلوا بيع الغاصب من قبيل بيع الفضولي ، ومن الظاهر ان الغاصب انما يبيع لنفسه لا لمالكه ، وقد صرح بذلك العلامة في القواعد ، والشيخ على في

٣٨١

شرحه. فقال ـ بعد قول المصنف «وكذا الغاصب» ما صورته : اى حكم الغاصب كالفضولي ، وهو أصح الوجهين ، وان احتمل الفساد نظرا إلى القرينة الدالة على عدم الرضا ، وهي الغصب.

وكذلك في الدروس ، حيث قال ـ بعد ذكره البيع ـ : ولا يقدح في ذلك علم المشترى بالغصب. انتهى.

ومن العجب هنا منعه في التذكرة في بيع مالا يملك ثم يمضى ليشتريه من مالكه ويسلمه إلى المشتري. قال : ولا نعلم فيه خلافا ، لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع ما ليس عندك ، ولاشتماله على الضرر فان صاحبها قد لا يبيعها وهو غير مالك لها ولا قادر على تسليمها. انتهى.

وسؤال الفرق متجه ، فان ما ذكره من الدليلين الأولين على المنع شامل لما نحن فيه ، ونسبة اجازة المالك في الفضولي بعد العقد كنسبة بيع المالك على البائع الفضولي ، في ان حصول كل منهما مصحح ، ويلزم بالعقد السابق. وان كان هناك غرر كما ذكره ففي الفضولي أيضا غرر بأنه قد لا يجيز المالك ايضا ، وعدم المالكية ثابتة في الموضعين ، وعدم القدرة على التسليم مشترك أيضا ، لأن تسليم البائع الفضولي من غير اذن المالك تصرف غصبي منهي عنه شرعا ، فيصدق في حقه انه غير قادر على التسليم شرعا.

وبالجملة فإن تجويزه في بيع الفضولي الذي هو محل البحث ، ومنعه هنا مما لا وجه له.

(الثالث) : ما أجابوا به عن حجة الشيخ من جهة المنع من التصرف في مال الغير بأنه مسلم ، لكن إذا كان بغير الاذن ، والاذن هنا موجود وهو الإجازة القائمة مقامه ، ففيه ما عرفت من حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه إلا ما استثنى ، وليس منه هذا. ولا شك ان هذا العقد الواقع بغير اذن المالك وما يترتب عليه من دفع المبيع وقبض الثمن من ذلك القبيل ، واذنه أخيرا لا يخرج تلك التصرفات السابقة عن ان تكون غصبا. نعم يعفى عما جناه من ذلك ، كما لو جنى شخص على شخص ثم أبرأه من ذلك. ولو لم يأذن المالك

٣٨٢

فان حكم الغصب باق فيكون هو مؤاخذا لجميع تصرفاته دينا ودنيا ، اما الأول فبالمعاقبة واما الثاني فبوجوب إرجاع كل حق الى مستحقه.

(الرابع) : ما أجابوا به عن النهي بأنه لا يستلزم الفساد في المعاملات ، فهو وان كان مشهورا بينهم ، إلا انا كثيرا ما نرى عقودا قد حكموا ببطلانها بسبب النهى الوارد في الروايات ، ومن تتبع كتاب النكاح ، وكتاب البيع فيما حرموه من بيع الخمر والكلب والخنزير ونحوها ، ظهر له ذلك ، وما ذكروه من هذه الكلية انما هو اصطلاح أصولي لا تساعد عليه الآيات والروايات على إطلاقه ، كما لا يخفى على من اعطى المسألة حقها من التتبع.

* * *

والذي يخطر بالبال في الجمع بين ما ذكروه ـ من هذه القاعدة ـ وبين ما ورد من الاخبار الدالة على النهى ، وحكم الأصحاب بالفساد عملا بمضمونها ، ان يقال :

ان النهى الواقع من الشارع عليه‌السلام في ذلك العقد اما ان يكون باعتبار عدم قابلية المعقود عليه لذلك كالكلب والخنزير ونجس العين ونحوها في البيع مثلا. وإحدى المحرمات ونحوها في النكاح مثلا ، وحينئذ لا إشكال في الفساد.

أو يكون باعتبار أمر خارج ، مثل كون ذلك في زمان مخصوص أو حال مخصوصة أو نحو ذلك من الأمور الخارجية عن العوضين المتقابلين فربما يقال بما ذكروه وتخص القاعدة المذكورة بهذا الفرد كالبيع وقت النداء ، فإن النهي عنه وقع من حيث الزمان ، فيقال بصحة البيع لعدم تعلق النهى بذات شي‌ء من العوضين ، باعتبار عدم قابليته للعوضية ، بل وقع باعتبار أمر خارج من ذلك ، وان أثم باعتبار إيقاعه في هذا الزمان المنهي عن الإيقاع فيه. وما نحن فيه انما هو من قبيل الأول ، لأن الظاهر ان توجه النهي اليه انما هو من حيث عدم صلاحية المعقود عليه لذلك ، لكونه تصرفا في مال الغير بغير اذنه ، وهو قبيح عقلا ونقلا كتابا وسنة. واذن المالك أخيرا على تقدير وقوعه لا يخرج تلك التصرفات عن كونها غصبا كما تقدم بيانه في الموضع الثالث.

٣٨٣

وهذا التفصيل مما خطر ببالي العليل في سابق الزمان ، وهو جيد وجيه ، وقد تقدم في المباحث السابقة من هذا الكتاب ما يؤيده.

ويؤيد هذا التفصيل الذي ذكرناه ما وفق الله سبحانه للوقوف عليه في كلام شيخنا زين الملة والدين في المسالك في مسألة العقد على بنت الأخ وبنت الأخت على العمة والخالة بغير اذنها حيث انه قيل في المسألة ببطلان العقد ، وقيل بالصحة وان للعمة والخالة الخيار في فسخه وعدمه.

وقد استدل القائل بالبطلان بالنهي عنه. ورده في المسالك بأن النهي لا يدل على الفساد في المعاملات ، ثم قال ـ بعد ذلك ـ فان قيل : النهي في المعاملات وان لم يدل على الفساد بنفسه ، لكنه إذا دل على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح فهو دال على الفساد من هذه الجهة ، كالنهي عن نكاح الأخت ، وكالنهي عن بيع الغرر ، والنهى في محل النزاع من هذا القبيل. قلنا : لا نسلم دلالتها هنا على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح ، فإنها عند الخصم صالحة له ، ولهذا صلحت مع الاذن ، بخلاف الأخت ، وبيع الغرر ، فإنهما لا يصلحان أصلا ، وصلاحية الأخت على بعض الوجوه ـ كما لو فارق الأخت ـ لا يقدح ، لأنها حينئذ ليست أخت الزوجة ، بخلاف بنت الأخت ونحوها فإنها صالحة للزوجية ، مع كونها بنت أخت الزوجة. والاخبار دلت على النهى عن تزويجها ، وقد عرفت انه لا يدل على الفساد ، فصار النهى عن هذا التزويج من قبيل ما حرم لعارض كالبيع وقت النداء لا لذاته. والعارض هو عدم رضاء الكبيرة ، فإذا لحقه الرضا زال النهى. انتهى.

وقد ظهر منه ما ذكرناه من التفصيل ، باعتبار رجوع النهي تارة إلى المعقود عليه من حيث عدم صلاحيته لإيقاع العقد عليه فيكون العقد باطلا ، وتارة إلى أمر خارج عنه فلا يستلزم الفساد ، ومنه بنت الأخ وبنت الأخت ، كما اختاره. فإن النهي عنهما انما وقع باعتبار أمر خارج ، وهو عدم رضاء العمة والخالة ، فيكون العقد صحيحا مراعى بالرضا ، ولا يخفى انه قد تقدم لنا تحقيق في هذه المسألة في باب صلاة

٣٨٤

الجمعة من كتاب الصلاة بنحو ما ذكرناه هنا ، الا انه ربما تعسر على الناظر في هذه المسألة الرجوع الى ذلك الكتاب ، فلم نكتف بالحوالة على ذلك الموضع ، بل أوضحنا المسألة في المقام ، لدفع ثقل المراجعة على الناظر في هذا الكلام.

ثم انه ينبغي ان يعلم ان ما ذكرناه هنا ، وأطلنا به البحث ليس ذبا عن الحديث الذي استدل به الشيخ ، فإنه حديث عامي لا تنهض عندنا حجة ، وانما هو تحقيق في المسألة في حد ذاتها أولا. وثانيا انه على جهة المجاراة معهم في الاستدلال بالخبر المذكور ، فإنه لا وجه لرده من هذه الجهة التي ذكروها ، بل كان الاولى رده بما ذكرناه ، من انه حديث عامي لا ينهض حجة.

(الخامس) : ما أجابوا به عن النفي بأنه إذا دخل على حقيقة أريد به نفى صفة من صفاتها فمسلم ، إلا انا نقول : ان تلك الصفة هي الصحة لا اللزوم كما يقولونه ، وقولهم : والا لزم بطلان بيع الوكيل ، فيه : ان وجه الملازمة غير ظاهر ، ومع ذلك نقول : المراد بالمملوك : ما هو أعم من ان يكون مملوك العين أو التصرف ، كما تقدم ذكره ، وهو مستعمل في كلامهم كثيرا.

وبالجملة فإن ما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه من البطلان هو الموافق لمقتضى الأصول الشرعية والعقلية ، وعليه تدل جملة من الأحاديث المعصومية ، التي هي المعتمد في كل حكم وقضية ، والعجب انهم مع قولهم بالبطلان استدلوا بتلك الرواية العامية في كتبهم الفروعية ، حتى من مثل المحقق الأردبيلي كما تقدم في كلامه ، ودعواه انها أقوى دلالة وسندا من رواية البارقي ، مع ان الجميع من طريق العامة ، وروايات أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ مكشوفة القناع ، صريحة الدلالة على هذه المقالة ، مع تعددها في كتب الاخبار ، فكيف غفلوا عنها ، مع عكوفهم على كتب الأخبار ، مطالعة وتدريسا ، وبذلك يظهر لك صحة المثل السائر «كم ترك الأول للآخر».

* * *

٣٨٥

فمن الاخبار المشار إليها : صحيحة محمد بن الحسن الصفار : أنه كتب الى ابى محمد الحسن العسكري عليه‌السلام في رجل باع له قطاع أرضين ، وعرف حدود القرية الأربعة ، وانما له في هذه القرية قطاع أرضين ، فهل يصلح للمشتري ذلك وانما له بعض هذه القرية ، وقد أقر له بكلها؟ فوقع عليه‌السلام : لا يجوز بيع ما ليس بملك ، وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك (١).

والأصحاب قد أفتوا في هذه المسألة التي هي مضمون هذه الرواية ـ بلزوم البيع فيما يملكه ووقوفه فيما لا يملك على الإجازة من المالك ، بمعنى انه صحيح لكونه فضوليا موقوفا في لزومه على اجازة المالك ، والرواية ـ كما ترى ـ تنادي بأنه «لا يجوز» الدال على التحريم. وليس ثمة مانع يوجب التحريم سوى عدم صلاحية المبيع للنقل بدون اذن مالكه.

ومنها : صحيحة محمد بن القاسم بن الفضيل ، قال : سألت أبا الحسن الأول عن رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم ، وكتب عليها كتابا بأنها قد قبضت المال ولم تقبضه ، فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال : قل له : ليمنعها أشد المنع ، فإنها باعت مالا تملكه (٢).

أقول : فلو كان البيع الفضولي صحيحا ـ كما يدعونه ـ ودفع الثمن للبائع الفضولي جائزا ـ كما يقولونه ـ لما أمر عليه‌السلام بمنعها من الثمن أشد المنع ، معللا ذلك بأنها باعت مالا تملكه.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام في حديث قال فيه : سأله رجل من أهل النيل عن ارض اشتراها بفم النيل ، وأهل الأرض يقولون : هي أرضهم ، وأهل الأستان يقولون : هي من أرضنا. قال : لا تشترها الا برضاء أهلها (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٢ حديث ١ والمؤلف اختزل من الحديث.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٤٩ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٤٩ حديث : ٣.

٣٨٦

لا يقال : ان السؤال في الرواية انما وقع عن ارض متنازع فيها ، معلوم عدم اجازة المالك فيها على تقدير الفضولية ، لأنا نقول : موضع الاستدلال في الخبر انما هو قوله «لا تشترها الا برضاء أهلها» الدال على تحريم الشراء قبل تقدم الرضا. ودعوى قيام الإجازة المتأخرة مقام الرضا السابق ، مع كونه لا دليل عليه ، مردود بما ينادى به الخبر من المنع والتحريم ، الا مع تقدم الرضا.

وحاصل معنى الجواب تطبيقا على السؤال : ان الأرض المذكورة لما كانت محل النزاع فلا تشترها حتى تعلم مالكها من اى الفريقين ، ويكون راضيا بالبيع.

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن شراء الخيانة والسرقة. فقال : إذا عرفت انه كذلك فلا (١) ، فقد نهى عليه‌السلام عن الشراء مع العلم. والنهى دليل التحريم ، وليس ذلك الا من حيث ان المبيع غير صالح للنقل ، لكون التصرف فيه غضبا محضا ، والتصرف في المغصوب قبيح عقلا ونقلا. والأصحاب في مثل هذا يحكمون بالصحة والوقوف على الإجازة ، وهل هو الا رد لهذا الخبر ونحوه ، ولكنهم معذورون من حيث عدم الاطلاع على هذه الاخبار ، الا انه يشكل هذا الاعتذار بالمنع من الفتوى الا بعد تتبع الأدلة من مظانها ، والاخبار المذكورة في كتب الأخبار المتداولة في أيديهم مسطورة.

ومنها : ما رواه في الاحتجاج مما خرج من الناحية المقدسة ، في توقيعات محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، في السؤال عن ضيعة للسلطان فيها حصة مغصوبة ، فهل يجوز شراؤها من السلطان أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام الضيعة لا يجوز ابتياعها الا من مالكها أو بأمره أو رضا منه (٢).

والتقريب فيها ما تقدم من تحريم الشراء الا بعد تقدم رضاء المالك.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٠ حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٠ حديث : ٨.

٣٨٧

ومنها : ما رواه في الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد ، عن الحسين بن زيد ، عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث المناهي ، قال : ومن اشترى خيانة وهو يعلم فهو كالذي خانها (١).

ومنها : ما رواه الشيخ عن ابى بصير ، قال : سألت أحدهما عن شراء الخيانة والسرقة ، قال : لا (٢).

ومنها : ما رواه عن جراح المدائني عن الصادق عليه‌السلام قال : لا يصلح شراء الخيانة والسرقة إذا عرفت (٣).

ومنها : ما في قرب الاسناد بسنده عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل سرق جارية ثم باعها ، يحل فرجها لمن شراها؟ قال : إذا أنبأهم أنها سرقة لا يحل ، وان لم يعلم فلا بأس (٤).

فهذه جملة من الاخبار الواضحة الظهور كالنور على الطور في عدم جواز بيع الفضولي وعدم صحته ، ولو كان ما يدعونه من صحة بيع الفضولي وتصرفه بالدفع والقبض صحيحا وانما يتوقف على الإجازة ، لصرح به بعض هذه الاخبار أو أشير اليه ولا جابوا ـ عليهم‌السلام ـ بالصحة ، وان كان اللزوم موقوفا على الإجازة ، في بعض هذه الاخبار ان لم يكن في كلها ، مع انه لا اثر فيها لذلك ولو بالإشارة ، فضلا عن صريح العبارة.

ومنها : ما رواه الشيخ في المجالس بإسناده عن زريق قال : كنت عند الصادق عليه‌السلام ـ إذ دخل عليه رجلان ـ الى ان قال ـ فقال أحدهما : انه كان على مال لرجل من بنى عمار ، وله بذلك ذكر حق وشهود ، فأخذ المال ولم استرجع منه الذكر الحق ، ولا كتبت عليه كتابا ، ولا أخذت عليه براءة ، وذلك لأني وثقت به وقلت له : مزق الذكر الحق الذي عندك ، فمات وتهاون بذلك ولم يمزقها ، وعقب هذا أن طالبني بالمال

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٤٨ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٤٩ حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٠ حديث : ٧.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٢ حديث : ١٢.

٣٨٨

وراثه ، وحاكموني واخرجوا بذلك الذكر الحق ، فأقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم فأخذت بالمال وكان المال كثيرا ، فتواريت عن الحاكم ، فباع على قاضي الكوفة معيشة لي ، وقبض القوم المال ، وهذا رجل من إخواننا ابتلى بشراء معيشتي من القاضي. ثم ان ورثة الميت أقروا ان المال كان أبوهم قد قبضه ، وقد سألوه ان يرد على معيشتي ويعطونه في أنجم معلومة ، فقال : انى أحب ان تسأل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن هذا.

فقال الرجل ـ يعني المشتري ـ : جعلني الله فداك ، كيف اصنع؟ فقال : تصنع ان ترجع بمالك على الورثة وترد المعيشة إلى صاحبها ، وتخرج يدك عنها ، قال : فإذا فعلت ذلك له ان يطالبني بغير هذا؟ قال : نعم ، له ان يأخذ منك ما أخذت من الغلة ثمن الثمار ، وكل ما كان مرسوما في المعيشة يوم اشتريتها ، يجب عليك ان ترد ذلك ، الا ما كان من زرع زرعته أنت فإن للزارع قيمة الزرع ، فاما ان يصبر عليك الى وقت حصاد الزرع ، فان لم يفعل كان ذلك له ورد عليك قيمة الزرع ، وكان الزرع له.

قلت : جعلت فداك ، فان كان هذا قد أحدث فيها بناء وغرسا. قال : له قيمة ذلك ، أو يكون ذلك الحدث بعينه يقلعه ويأخذه. قلت أرأيت ان كان فيها غرس أو بناء ، فقلع الغرس وهدم البناء؟ فقال : يرد ذلك الى ما كان أو يغرم القيمة لصاحب الأرض ـ فإذا رد جميع ما أخذ من غلاتها الى صاحبها ورد البناء والغرس وكل محدث الى ما كان ، أو رد القيمة كذلك ، يجب على صاحب الأرض ان يرد عليه كلما خرج عنه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة ، ودفع النوائب عنها ، كل ذلك مردود عليه (١).

أقول : هذا الخبر ، وان تضمن ان البائع هو الحاكم وهو صحيح بحسب الظاهر ، بناء على ما ورد عنهم ـ عليهم‌السلام ـ من الأخذ بأحكامهم في زمان الهدنة والتقية ، الا انه بعد ظهور الكاشف عن بطلانه واعتراف الورثة بقبض الدين ، يكون من باب البيع الفضولي ، وهو كما سيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ على قسمين : أحدهما ما يكون المشترى

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٣ حديث : ١.

٣٨٩

عالما بالغصب ، وانه ليس ملكا للبائع ، وثانيهما : ان يكون جاهلا أو ادعى البائع الاذن من المالك ، وما اشتمل عليه الخبر من القسم الثاني. الا ان ما اشتمل عليه الخبر المذكور من رجوع المشترى بما اغترمه على المالك ، خلاف ما سيأتي في كلامهم ، من انه انما يرجع الى البائع ، وما ذكره عليه‌السلام هو الأوفق بالقواعد ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.

والعجب هنا كل العجب من صاحب المفاتيح ، حيث جرى في هذه المسألة على ما هو المشهور في أصلها وفروعها ، كما لا يخفى على من راجعه ، مع ان جل الأخبار التي ذكرناها مما نقله في الوافي ، ولكن العذر له على ما ذكره في حواشيه على الكتاب المذكور من انه اعتمد في العبادات على كتاب المدارك ، وفي غيرها على المسالك وهو عذر ضعيف واه من مثله ، لا سيما مع تصريحه في الكتاب المذكور بجملة من متفرداته في الأحكام ، الدالة على انه من رؤوس العلماء الاعلام ، الذين لا يجوز لهم الجمود على التقليد في الأحكام ، ولا الاعتماد على غيرهم من الأنام.

* * *

فإن قيل : ان البيع الفضولي عند الأصحاب هو ان يبيع مال غيره أو يشترى ، بأن يكون ذلك البيع أو الشراء للمالك ، لكنه من غير اذنه ولا رضاه ، وما دلت عليه هذه الاخبار انما هو البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك ، وأحدهما غير الأخر! قلنا : فيه ـ أولا ـ ان المفهوم من كلام الأصحاب تصريحا في بعض ، وتلويحا في آخر ، ان البيع والشراء الفضولي أعم من كل الفردين المذكورين ، وقد تقدم ذكر ذلك ، وتصريح جملة منهم كالعلامة والشهيد في الدروس ، والمحقق الشيخ على ، بأن بيع الغاصب من افراد البيع الفضولي.

وثانيا ـ : ان السؤالات الواقعة في الاخبار المذكورة ، وان تضمنت بيع البائع أو شرائه لنفسه ، الا ان الأجوبة منهم ـ عليهم‌السلام ـ من قوله عليه‌السلام في الرواية الاولى «لا يجوز بيع ما ليس يملك» وقوله في الثانية ، في تعليل المنع من دفع الثمن «فإنها

٣٩٠

باعت مالا تملك» وقوله عليه‌السلام في الثالثة «لا تشترها الا برضاء أهلها» ونحوها رواية الاحتجاج ، ورواية قرب الاسناد ، ظاهرة العموم للفردين المذكورين ، وخصوص السؤال لا يدافع عموم الجواب كما تقرر في أصولهم ، والعبرة انما هو بعموم الجواب فإنها ظاهرة بل صريحة في ان مالا يملكه الإنسان لا يجوز وقوع البيع فيه ، أعم من ان يكون البيع للبائع أو لصاحب ذلك المبيع ، من غير رضاه واذنه.

وبالجملة فالقول بما عليه الشيخ واتباعه من البطلان هو المختار ، كما دلت عليه صحاح الاخبار ، على انا لا نحتاج في الإبطال إلى دليل ، بل المدعي للصحة عليه الدليل ، كما هو القاعدة المعلومة بين العلماء جيلا بعد جيل ، وقد عرفت ما في أدلتهم وانها لا تسمن ولا تغني من جوع كما لا يخفى.

المقام الثاني قال في الشرائع ـ بعد ان صرح بوقوف البيع الفضولي على الإجازة ـ : فان لم يجز كان له انتزاعه من المشترى ويرجع المشترى على البائع بما دفع اليه وبما اغترمه من نفقة أو عوض عن اجرة أو نماء ، إذا لم يكن عالما انه لغير البائع أو ادعى البائع ان المالك اذن له ، وان لم يكن كذلك لم يرجع بما اغترمه. وقيل : لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب. انتهى.

وعلل في المسالك عدم رجوع المشترى بما اغترمه ، قال : لأنه حينئذ غاصب مفرط فلا يرجع بشي‌ء مما يغرمه للمالك مطلقا ، وعلل عدم رجوعه بالثمن مع العلم بالغصب بأنه دفعه اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه ، فيكون بمنزلة الإباحة.

أقول : الظاهر ان المراد بالغصب ـ هنا ـ المعنى الأعم من الغصب الصرف ومن الفضولي ، وهو البيع من غير إذن ، فإنه حكم في شرح اللمعة بأنه لا رجوع بالثمن مع العلم بكونه غير مالك ولا وكيل ، لانه سلطه على إتلافه مع علمه بعدم استحقاقه له ، فيكون بمنزلة الإباحة.

٣٩١

هذه عبارته هناك بلفظها ، فعبر عن الغاصب الذي صرحت به عبارة الشرائع بكونه غير مالك ولا وكيل.

ونحو ذلك وقع في عبارة الدروس ، فإنه قال : ان المالك يرجع عند هلاك العين على المشترى مع العلم ، وعلى الغاصب مع الجهل ، أو دعوى الوكالة. فعبر عن البائع الفضولي بالغاصب ، وظاهرهم هنا دعوى الإجماع على عدم رجوع المشترى على البائع بالثمن مع تلفه ، نقله العلامة في التذكرة.

قال في المسالك في شرح قوله «وقيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب» : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، مطلقين الحكم فيه الشامل لكون الثمن باقيا وتالفا ، ووجهوه بأن المشتري قد دفعه اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له ، فيكون بمنزلة الإباحة. وهذا يتم مع تلفه ، اما مع بقائه فلا ، لانه له وهو مسلط عليه بمقتضى الخبر ، ولم يحصل منه ما يوجب نقله عن ملكه ، لأنه إنما دفعه عوضا عن شي‌ء لا يسلم له لا مجانا ، فمع تلفه يكون إذنا فيه ، اما مع بقائه فله أخذه ، لعموم النصوص الدالة على ذلك ، بل يحتمل الرجوع بالثمن مطلقا ، وهو الذي اختاره المصنف في بعض تحقيقاته ، لعدم جواز تصرف البائع فيه ، حيث انه أكل مال بالباطل ، فيكون مضمونا عليه ، ولو لا ادعاء العلامة في التذكرة الإجماع على عدم الرجوع مع التلف ، لكان في غاية القوة ، وحيث لا إجماع مع بقاء العين فيكون العمل به متعينا.

فان قيل : كيف يجامع تحريم تصرف البائع في الثمن عدم رجوع المشترى به مع التلف ، فإنه حينئذ لا محالة غاصب آكل للمال بالباطل ، فاللازم اما جواز تصرفه أو جواز الرجوع اليه مطلقا.

قلنا : هذا اللازم في محله ، ومن ثم قلنا : ان القول بالرجوع مطلقا متجه ، لكن لما أجمعوا على عدمه مع التلف كان هو الحجة.

وحينئذ نقول : ان تحقق الإجماع فالأمر واضح والا فمن الجائز ان يكون عدم

٣٩٢

جواز رجوع المشترى العالم عقوبة له ، حيث دفع ماله معاوضا به على محرم ، وعلى هذا يكون البائع مخاطبا برده أو رد عوضه مع التلف ، فان بذله أخذه المشترى ، وان امتنع منه بقي للمشتري في ذمته ، وان لم يجز له مطالبته به ، ونظير ذلك ما لو حلف المنكر على عدم استحقاق المال في ذمته ، فإنه لا يجوز للمدعى مطالبته ولا مقاصته ، وان كان الحق مستقرا في ذمة المنكر في نفس الأمر ، وذلك لا يمنع من تكليفه برده وعقوبته عليه لو لم يرده.

ولا فرق في هذا الحكم بين كون البائع غاصبا صرفا مع علم المشترى به أو فضوليا ولم يجز المالك ، كما هو مقتضى الفرض. انتهى.

* * *

أقول : ظاهرهم : ان البيع الفضولي هو ما لو باع مال غيره بغير اذن صاحبه ، أعم من ان يكون المشترى عالما بذلك أو جاهلا ، أو مع دعوى البائع الاذن ، وهو كذلك بناء على قاعدتهم في المسألة المذكورة ، وظاهرهم انه مع الإجازة يصح البيع المذكور بجميع افراده ، وانما يظهر الافتراق فيها مع عدم الإجازة ، فإنه متى كان المشترى جاهلا أو ادعى البائع الإذن له في البيع فإنه يرجع المالك على المشترى بعين ماله ان كانت موجودة ، والا فبالقيمة. وكذا يرجع عليه بمنافعها ونمائها ، وبالقيمة مع التلف ، ويرجع المشترى على البائع بما اغترمه على ذلك المبيع من نفقة ونحوها.

وأنت خبير بأن رواية زريق المتقدمة قد صرحت بان الرجوع بما غرمه على ذلك المبيع انما هو على المالك لا على البائع ، وانما يرجع بالثمن خاصة. فإنه عليه‌السلام بعد ان حكم برجوع المالك على المشترى بعد قبض المبيع بما استوفاه من منافعه وما أحدثه في الضيعة المذكورة من الفساد أو قيمته ، حكم بعد ذلك برجوع المشترى على المالك بما أنفقه في إصلاح الضيعة ودفع النوائب عنها.

وظاهر كلام شيخنا في الروضة : ان المشترى يرجع على البائع أيضا بمنافع

٣٩٣

المبيع ونمائه مما حصل له في مقابلته نفع (١).

قال : لغروره ودخوله على ان يكون ذلك له بغير عوض ، اما ما أنفقه عليه ونحوه مما لم يحصل له في مقابلته نفع فيرجع به قطعا. انتهى.

وفيه : ان المستفاد من الخبر المذكور ، وقوله فيه : «تصنع ان ترجع بمالك على الورثة وترد المعيشة على صاحبها» ان الرجوع على البائع انما هو بالثمن خاصة ، والمقام مقام بيان ، مع حكمه عليه‌السلام في الخبر برجوع المالك على المشترى بعوض المنافع ، فلو كان للمشتري الرجوع بها على البائع لذكره عليه‌السلام مع ذكره أخيرا ان المشترى يرجع بما أنفقه على المالك لا على البائع.

وبالجملة فإن المطابق للأصول : انه لا رجوع هنا للمشتري ، لأن المالك انما أخذ منه عوض منافعه التي استوفاها من ماله ، فسبيلها كسبيل العين في وجوب الرد على المالك ، وظهور البطلان الموجب لرد العين على مالكها موجب لرد ما استوفاه المشترى من منافعها.

وتعليله بأن دخوله على ان يكون ذلك له بغير عوض ، عليل لا يصلح لتأسيس حكم شرعي ، لا سيما مع دلالة الخبر على ما قلناه ، ومتى كان المشترى عالما فإنه يرجع المالك على المشترى بجميع ما تقدم ذكره ، واما المشتري فإنه بالنسبة الى ما غرمه للمالك لا يرجع به ، لما علله به في المسالك مما تقدم ذكره واما بالنسبة إلى الثمن فقد عرفت من كلام شيخنا في المسالك ، ان المشهور عدم الرجوع به عليه ،

__________________

(١) قال في المختلف : لو رجع المالك على المشترى الجامل بالعين والمنافع ، رجع المشترى على البائع بالثمن إجماعا. واما المنافع التي استوفاها هل يرجع بها أم لا؟ قال الشيخ في المبسوط : الأقوى انه لا يرجع ، لانه غرمه في مقابلة نفع ، فلا يرجع به على أحد. وقال بعض علمائنا : له الرجوع ، لانه مغرور ، فكان الضمان على الغار ، كما لو قدم اليه طعام الغير فأكله مع جهل ، فإنه إذا رجع على الأكل رجع الأكل على الأمر بجهله وتغرير الأمر له. وسيأتي البحث في ذلك في باب الغصب إنشاء الله تعالى. منه رحمه‌الله.

٣٩٤

باقيا كان الثمن أو تالفا.

وقيل بالرجوع مطلقا ، كما نقل عن المحقق في بعض تحقيقاته.

وقيل بالتفصيل ، بالتلف وعدمه ، فيرجع على الثاني دون الأول ، وظاهره في المسالك الميل اليه.

والاشكال هنا في موضعين :

(أحدهما) : في عدم رجوع المشترى على البائع بما اغترمه في صورة العلم ، لما علله به في المسالك من انه حينئذ غاصب مفرط ، فلا يرجع بشي‌ء مما يغرمه للمالك مطلقا.

فان فيه : ان مقتضى ما صرحوا به من صحة عقد الفضولي ، وجوب الحكم بصحة ما يترتب عليه من التصرفات ، إذ لا ثمرة لهذه الصحة مع بطلان ما يترتب عليها ، فكيف يكون مع عدم الإجازة غاصبا؟! اللهم الا ان يقول : ان العقد وان كان صحيحا ، لكن لا يجوز للمشتري قبض الثمن الا بعد الإجازة ، والا فهو غاصب. وصريح كلامهم خلافه.

ومتى حكم ببطلان هذه التصرفات انتفى الحكم بأصل العقد ، فضلا عن صحته. مع ان العقد عندهم عبارة عن الإيجاب والقبول الدالين على نقل الملك بعوض ، وانه يقتضي استحقاق التصرفات في المبيع والثمن. وتسليمهما كما تقدم نقله عن ابى الصلاح وقد صرحوا بان حكم العقد تقابض العوضين ، الا ان يشترط تأخيرهما.

وبالجملة فالموافق لحكمهم بصحة العقد هو صحة ما يترتب عليه من التصرفات.

نعم بعد ظهور الكاشف ، وهو عدم الإجازة ، يظهر ان تلك التصرفات كلها كانت باطلة ، ويكون من قبيل البيع الصحيح بحسب ظاهر الشرع ثم يظهر بطلانه ، فيجب عود كل شي‌ء إلى محله ، وكل حق الى مستحقه.

فالقول بصحة البيع وجواز قبض المشترى المبيع لذلك ، مع الحكم بأنه مع عدم الإجازة لا يرجع المشترى بما اغترمه لكونه غاصبا مفرطا فيما أنفقه ، مشكل

٣٩٥

لا اعرف له وجها.

و (ثانيهما) : في عدم الرجوع بالثمن في الصورة المذكورة ، موجودا كان أو تالفا ، فان فيه : ان ما عللوه به ، من ان المشترى قد دفعه اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له فيكون بمنزلة الإباحة ، مردود :

أولا ـ بأن قضية تصحيح الفضولي ، وان كان موقوفا في لزومه ، تصحيح دفع الثمن مع الموقوفية أيضا ، وان يجعل له التصرف في قبض الثمن مثل تصرفه في البيع والإقباض.

وحينئذ فمع عدم الإجازة يرجع كل مال الى مقره ، وكل من الثمن والمثمن الى مالكه.

ويؤيده : ما صرحوا به ـ كما نقله في الدروس عن الشيخ ـ من انه لو قبض الفضولي الثمن دفع الى المالك عند أجازته.

ونقل عن العلامة : أنه اشترط اجازة قبض الثمن على حياله ، واستحسنه وان كان الثمن في الذمة. وظاهره موافقة الشيخ في الاكتفاء بإجازة العقد ، وان كان قد دفعه للبائع ، وحينئذ فكيف يحكم بصحة القبض مع الإجازة وانه يصير للمالك ويحكم بكونه باطلا ومجانا مع عدمها ، فإنه ان كان صحيحا في حال الدفع فهو في الموضعين المذكورين ، والا فيهما معا.

وثانيا ـ ان المشترى إنما دفع الثمن متوقعا للإجازة من المالك ، فهو انما دفعه عوضا عن شي‌ء لكن لم يسلم له ولم يدفعه مجانا حتى يصير بمنزلة الإباحة.

وقوله في المسالك ـ بعد نقل التعليل المذكور ـ : وهذا يتم مع تلفه. الى آخره ، مردود بأن ما علل به الرجوع مع بقائه جاز ايضا مع تلفه ، فان الخبر الذي أشار اليه ـ وهو قوله عليه‌السلام «الناس مسلطون على أموالهم». لا اختصاص له بالعين ، بل يشمل في الذمم ايضا. وكذا قوله : ولم يحصل منه ما يوجب نقله ، جار أيضا في صورة ما لو أتلفه.

٣٩٦

واما قوله : فمع تلفه يكون إذنا فيه فإنه ضعيف في غاية الضعف. بل بعيد الصدور من مثله ، مع ما عرفت.

وكيف يصح اجتماع الحكم بوجوب الرد مع وجود العين ، وعدم جواز التصرف فيها مع الحكم ببراءة ذمة من يجب عليه ردها ويحرم عليه التصرف فيها لو أتلفها.

واما اعتماده على الإجماع في أمثال هذه البقاع ، فهو مردود بما حققه في رسالة صلاة الجمعة ـ كما قدمنا ذكره في كتاب الصلاة في باب صلاة الجمعة ، حيث انه قد مزقه تمزيقا ، وجعله حريقا.

واما قوله : على تقدير عدم تحقق الإجماع ، والا فمن الجائز ان يكون عدم جواز رجوع المشترى العالم عقوبة.

ففيه ـ أولا ـ : ما عرفت في غير موضع مما تقدم في مباحث الكتاب ، ان أمثال هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، بل المدار انما هو على النصوص الجلية والأحاديث المعصومية.

و ـ ثانيا ـ : ما عرفت آنفا ، من ان ذلك مناف لحكمهم بصحة العقد ، فإن قضية صحته صحة ما يترتب عليه ، من قبض الثمن واقباض المثمن ، وحينئذ فكيف يتم قوله «بأنه مع عدم الإجازة وقعت المعاوضة على محرم فلا يستحق عوض ما دفعه» فان كان هذا التحريم ثابتا حال العقد فالمعاوضة باطلة ، والإجازة بعدها لا تؤثر معها شيئا بالكلية ، وان كان انما علم بعد ذلك فالمعاوضة الأولى صحيحة ، وبعد ظهور الكاشف عن بطلانها يحكم بالبطلان من حينه ، ورجوع كل شي‌ء إلى مقره ، وتحريم رجوع المشترى فيما دفعه من الثمن ، مع كونه انما دفعه بناء على صحة العقد وتوقع الإجازة من المالك ، مما لا وجه له بالكلية.

وما نظره به من مسألة حلف المنكر قياس مع الفارق ، فان تلك المسألة منصوصة ، قد دلت النصوص فيها على ذلك ، بخلاف محل البحث ، إذ ليس فيه الا مجرد هذه

٣٩٧

التعليلات العليلة التي أوضحنا ضعفها.

وبالجملة فتعليلاتهم في هذا المقام كلها عليلة ، لكون البناء على غير أساس وثيق ، كما لا يخفى على من تأمل في ما ذكرناه من هذا التحقيق.

وأنت خبير بان هذه المسألة في كلامهم نظيره مسألة الهبة قبل لزومها ، فإنهم صرحوا هناك بأن العقد صحيح غير لازم الا بالتصرف أو التعويض أو نحوهما ، فمع قبض المتهب العين بناء على ما هو المشهور ، من ان القبض من شروط الصحة لا اللزوم وعدم حصول شي‌ء من الأسباب الموجبة للزوم العقد ، لو حصل هناك نماء ، ثم بعد ذلك رجع الواهب في العين ، فإنهم قالوا ان النماء ، ان كان متصلا كالسمن فهو للواهب ، وان كان منفصلا كالولد واللبن ونحوهما فهو للمتهب ، قالوا : لانه نماء حدث في ملكه فيختص به ، وحكموا بأنه لو عابت العين والحال كذلك لم يرجع الواهب في الأرش ، لأنه حدث في عين مملوكة.

ونحن نقول هنا ـ بناء على حكمهم بصحة الفضولي ـ : ان وجه الصحة في الموضعين واحد ، والتصرفات المتفرعة عليهما كذلك ، ولا فرق بينهما ، الا ان رجوع الواهب ليس كاشفا عن فساد العقد السابق ، فلا يؤثر فيما تقدم ، وفيما نحن فيه ـ لكشفه عن فساد ما وقع فغايته وجوب رجوع كل مستحق الى مستحقه.

وبالجملة فهو من قبيل البيع الذي ظهر فساده ، فيوجب هنا ما يوجبه هناك.

وحيث كانت المسألة على تقدير كلامهم خالية عن النص الشرعي ، فالقول بها والجزم بالحكم في فروعها أمر مشكل جدا.

واما على ما اخترناه فلا اشكال ، لقيام النصوص عموما وخصوصا على العدم.

اما الأولى ، فلما علم كتابا وسنة من تحريم التصرف في مال الغير من غير اذنه ، ولو اكتفى بالإجازة المتأخرة لجاز التصرف في أموال الناس بجميع وجوه التصرف بناء على ذلك ، وهو قبيح عقلا.

واما الثانية ، فهو ما قدمناه من النصوص الواردة في البيع بخصوصه ، الدالة

٣٩٨

على المنع الا بعد رضاء المالك.

ولم أقف على من تعرض لهذه المسألة بما ذكرناه من هذه التنبيهات ، ولا كشف عن نقابها بمثل هذه التحقيقات. ولله سبحانه المنة على ما منحنا به من التوفيق ، ونسأله النجاة من كل مضيق ، والهداية إلى سواء الطريق في أحكامه عز شأنه بحسن التقريب لها والتحقيق ، انه أكرم مسئول وأجود مأمول.

المسألة الرابعة

قد صرح الأصحاب بأنه إذا باع ملكه وملك غيره بغير اذن من ذلك الغير ، فإنه يصح فيما ملكه ويبقى موقوفا على الإجازة فيما لا يملكه.

وهو مبنى على ما هو المشهور بينهم ، من صحة عقد الفضولي كما تقدم ، فان لم يجز المالك صح فيما ملكه وبطل فيما لا يملك.

هذا إذا كان المشترى عالما ، ولو كان جاهلا بكون بعض المبيع غير مملوك للبائع تخير ـ لتبعيض الصفقة ـ بين الفسخ والإمضاء. فإن فسخ رجع كل ملك الى مالكه ، وان رضى صح البيع فيما يملكه. وان كان الأمر فيما لا يملك ما ذكرناه أولا.

قالوا : ويقسط الثمن بان يقوما جميعا ثم يقوم أحدهما ويرجع على البائع بحصته من الثمن. وكذا يقسط الثمن ايضا فيما لو صح البيع في الجميع ، بأن أجاز المالك في صورة بيع ما يملكه وما لا يملكه.

وكذا لو باع ما يملك ـ بالبناء للمجهول ـ ومالا يملك ، كالعبد مع الحر ، والشاة مع الخنزير ، والخل مع الخمر.

وتفصيل هذا الإجمال يقع في مواضع :

٣٩٩

(الأول) : قد عرفت ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على الصحة فيما يملكه والبطلان فيما لا يملك مع عدم الإجازة.

واحتمل بعض المحققين (١) من متأخري المتأخرين بطلان العقد رأسها. قال : فإنه انما حصل التراضي والعقد على المجموع وقد بطل ، ولم يحصل التراضي بالعقد على البعض.

وفيه ـ مع تسليمه ـ انما يتجه على تقدير الجهل ، لانه مع العلم قادم على انه ربما لا يسلم له عين المملوك لعدم رضا المالك.

نعم ان تم ذلك فإنما يتم في صورة الجهل ، الا انه مجبور بالخيار في هذه الحال.

والظاهر ان بناء القول المشهور ، على ان العقد على الكل بمنزلة عقود متعددة على الاجزاء ، ولهذا لو خرج بعض المبيع مستحقا للغير لا يبطل الا فيه.

وظاهر كلامهم في هذا المقام انه لا نص في هذه المسألة ، وانما بنوا الكلام فيها على ما قربوه من التعليلات المستفادة من قواعد أحكام البيوع ، مع انه قد تقدم في صحيحة محمد بن الحسن الصفار المذكورة في المقام الأول (٢) من المسألة المتقدمة ، الدالة على عدم جواز البيع فيما لا يملك ، وثبوت الشراء فيما يملك ، وهي دالة على بطلان ما احتمله المحقق المتقدم ذكره ، من بطلان العقد رأسا ، حيث انه عليه‌السلام حكم بالصحة فيما يملك والبطلان فيما لا يملك.

وفيها ايضا رد لما ذكره الأصحاب من صحة بيع الفضولي وانه موقوف على الإجازة ـ كما تقدم ذكره في ذيل الرواية المذكورة.

ثم ان ظاهر الصحيحة المذكورة : ان الحكم في المسألة على ما ذكره عليه‌السلام أعم من ان يكون المشترى عالما أو جاهلا.

__________________

(١) هو المحقق الأردبيلي ـ قدس‌سره ـ في شرح الإرشاد. منه رحمه‌الله.

(٢) في صفحة : ٣٨٦.

٤٠٠