الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

نعم يبقى الكلام في الجمع بين هذا الخبر وبين ما دل على الكفاية.

والظاهر : هو حمل هذا الخبر على تلك الأخبار الدالة على الكفاية ، لاعتضاد تلك الاخبار بظاهر الآية الشريفة ، حيث دلت على الأكل بالمعروف ، وهو كما عرفت مالا إسراف فيه ولا تقتير ، وهو الحد الوسط. وبذلك يظهر ان ما أطال بها أصحابنا فيما قدمناه من أقوالهم ، من القول بأقل الأمرين ، بناء على الجمع بذلك بين الدليلين ، من الاحتمالات والتخريجات لا ضرورة تلجئ اليه بل الأظهر الجمع بما ذكرناه ، وحينئذ تجتمع الاخبار على القول بالكفاية حسبما يأتي تحقيقه إنشاء الله تعالى.

ثم لا يخفى ان ظاهر الاخبار المتقدمة ـ بعد التأمل فيها يعين التحقيق ـ : ان المراد بالكفاية هو ما كان له ولعياله الواجبي النفقة.

أما ـ أولا ـ فلان الآية والاخبار ـ كما عرفت ـ قد دلا على اشتراط الفقر في جواز الأخذ ، ومنعا من الأخذ حال الغنى ، ومن الظاهر المعلوم : انه لو اقتصر في الكفاية على نفقته خاصة مع وجود الواجبي النفقة عليه ، فإنه لا يخرج بذلك عن الفقر ، ولا يدخل في الغنى ، للاتفاق نصا وفتوى على ان الغنى انما يحصل بملك مؤنة السنة لنفسه وعياله الواجبي النفقة قوة وفعلا والا فهو فقير.

وبالجملة فإن شرط الفقر الموجب لجواز الأخذ موجود ، والغنى المانع من الأخذ مفقود ، وحينئذ فلا معنى لتخصيص الكفاية به خاصة دون عياله المذكورين.

واما ـ ثانيا ـ فلان الاخبار قد دلت على اشتراط حبس نفسه على إصلاح أموالهم في جواز الأخذ ، وحينئذ فاللازم من تخصيص الأخذ بما يكفيه خاصة ضياع عياله الواجبي النفقة ، مع انه يجب عليه الإنفاق عليهم.

وبذلك يظهر جواز أخذه الكفاية له ولعياله المذكورين ، ولا يختص بالأكل ،

٣٤١

وان كان ظاهر صحيحتي عبد الله بن سنان ذلك ، بل يتعدى الحكم إلى الكسوة (١) أيضا ، لأن المفروض انه حبس نفسه على أموالهم ليس له مكسب سوى ذلك ، وحينئذ يحمل القوت في الخبرين المذكورين على التمثيل ، لانه الضروري اللابدى (٢).

قال في المسالك : ان الأكل بالمعروف يحتاج الى تنقيح ، فإن أريد به الأكل المتعارف ـ كما يظهر من الآية والرواية وجعل مختصا بالولي ـ لا يتعدى الى عياله ، فلا منافاة بين الفقر وحصول الكفاية منه بهذا الاعتبار ، لان حصول القوت يحتاج معه إلى بقية مؤنة السنة من نفقة وكسوة ومسكن وغيرها ، حتى يتحقق ارتفاع الفقر ، ان لم نشترط حصول ذلك في بقية عياله الواجبي النفقة ، وحينئذ فقولهم ـ في الاستدلال بثبوت أقل الأمرين «انه مع حصول الكفاية يكون غنيا فيجب عليه الاستعفاف عن بقية الأجرة» ـ غير صحيح. وان أريد به مطلق التصرف كما هو المراد من قوله «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً» ـ «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» ـ «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» وغير ذلك ، فقيد المعروف من ذلك غير واضح المراد ، ليعتبر

__________________

(١) أقول : وعلى هذا فالمراد بالأكل في قوله تعالى «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» مطلق التصرف كما وقع مثله في جملة من الآيات ، كقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» وقوله «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» وقوله «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» وحينئذ فالمراد والله سبحانه اعلم : انه يتصرف في أموالهم ويأخذ ما يحتاج اليه من نفقة وكسوة ونحو ذلك له ولعياله بالمعروف ، من غير إفراط ولا تفريط بإسراف أو تقتير : منه قدس‌سره.

(٢) والا فاللازم من التخصيص بالقوت كما هو ظاهر الخبرين ، مع فرض حبس نفسه عن تحصيل المعاش حصول الضرر عليه ، ان أوجبنا عليه القيام بإصلاح أموالهم ، كما هو ظاهر. أو الإضرار بالأيتام ان لم نوجب عليه ذلك ، فيجوز له السعى فيما له ولعياله من الكسوة ونحوها وترك أموالهم معطلة خرابا ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ـ منه قدس‌سره.

٣٤٢

صحة أقل الأمرين ، لأن التصرف على الوجه المعروف يختلف باختلاف الأشخاص والحاجة ، وربما ادى ذلك الى الإضرار بمال اليتيم. الى آخر كلامه.

ومما قدمنا من التحقيق في المقام قد انكشف غشاوة الإبهام عما استشكل هنا وكذا غيره من الاعلام. هذا.

واما ما ذكره الشيخ الطبرسي فيما قدمنا نقله منه ، من الرواية عن مولانا الباقر عليه‌السلام «ان الأكل انما هو على جهة القرض» فلم يصل إلينا. ويمكن ان يكون ذلك إشارة إلى رواية رفاعة المنقولة من تفسير العياشي ، الدالة على ان هذه الآية منسوخة ، فإنه متى ثبت النسخ تعين عدم جواز الأكل إلا قرضا ، إلا انك قد عرفت تكاثر الاخبار واستفاضتها بخلاف ما دلت عليه هذه الرواية ، مضافا الى ظاهر الآية ايضا ، لدلالتها على جواز الأكل كما عرفت ، فلا عمل عليها وهي مرجئة إلى قائلها.

واما قوله «والظاهر من رواياتنا. الى آخر كلامه. فقد عرفت انه خلاف الظاهر ، بل الظاهر منها بمعونة ظاهر الآية الشريفة انما هو الكفاية على الوجه الذي قدمنا تحقيقه.

(المنهج الرابع) قد استفاضت الاخبار بتحريم أكل مال اليتيم ظلما وعدوانا. ويعضدها القرآن العزيز ، حيث قال ـ عز من قائل ـ «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (١) اى ما يجر الى النار والسعير.

ومن الاخبار في ذلك : ما رواه في الكافي عن سماعة في الموثق ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : وعد الله عزوجل في أكل مال اليتيم بعقوبتين ، إحداهما : عقوبة الآخرة : النار ، واما عقوبة الدنيا فقوله عزوجل «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» (٢) يعنى ليخش أن اخلفه في ذريته ان يصنع بهم كما صنع

__________________

(١) سورة النساء : ١٠.

(٢) سورة النساء : ٩.

٣٤٣

بهؤلاء اليتامى (١).

وعن عجلان بن صالح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أكل أموال اليتامى ، فقال : هو كما قال الله ـ عزوجل ـ «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» ثم قال ـ من غير أن أسأله ـ : من عال يتيما حتى ينقطع يتمه أو يستغنى بنفسه ، أوجب الله ـ عزوجل ـ له الجنة ، كما أوجب النار لمن أكل مال اليتيم (٢).

وروى في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، قال : قيل لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : انا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم ، فنقعد على بساطهم ، ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم ، وربما أطعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا ، وفيه من طعامهم. ما ترى في ذلك؟ فقال : ان كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس ، وان كان فيه ضرر فلا. وقال عليه‌السلام «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» فأنتم لا يخفى عليكم ، وقد قال الله ـ عزوجل ـ «وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» (٣).

وروى في الكافي عن على بن المغيرة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان لي ابنة أخ يتيمة فربما اهدى لها شي‌ء ، فآكل منه ثم أطعمها بعد ذلك شيئا من مالي ، فأقول. يا رب هذا بذا ، فقال : لا بأس (٤).

وروى في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون للرجل عنده المال ، اما بيع واما قرض ، فيموت ولم يقضه إياه ، فيترك أيتاما صغارا فيبقى لهم عليه لا يقضيهم ، أيكون ممن يأكل أموال اليتامى

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٨١ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٠ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٣ حديث : ١.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٤ حديث : ٢.

٣٤٤

ظلما؟ قال : لا ، إذا كان نوى ان يؤدى إليهم (١).

وعن سماعة في الموثق قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» فقال : يعنى اليتامى ، إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره ، فليخرج من ماله على قدر ما يحتاج اليه على قدر ما يخرجه لكل انسان منهم ، فيخالطهم ويأكلون جميعا ، ولا يزرأن من أموالهم شيئا ، انما هي النار (٢).

وقد تقدم نحو هذا الخبر في جواب ابى الصباح الكناني (٣).

وروى العياشي في تفسيره عن على عليه‌السلام عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله في اليتامى «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» قال : يكون لهم التمر واللبن ، ويكون لك مثله على قدر ما يكفيك ويكفيهم ، ولا يخفى على الله المفسد من المصلح (٤).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى الحسن موسى عليه‌السلام قال : قلت له : يكون لليتيم عندي الشي‌ء وهو في حجري أنفق عليه منه ، وربما أصيب مما يكون له من الطعام ، وما يكون مني إليه أكثر. قال : لا بأس بذلك (٥).

وروى على بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : لما نزلت «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» اخرج كل من كان عنده يتيم ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إخراجهم ، فأنزل الله تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ». قال : وقال الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٤ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٨ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٨ حديث : ١.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٩ حديث : ٣.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٩ حديث : ٤.

٣٤٥

لا بأس ان تخلط طعامك بطعامهم ، فان الصغير يوشك ان يأكل مثل الكبير ، واما الكسوة وغيرها فيجب على كل رأس صغير وكبير ما يحتاج إليه (١).

أقول : ويستفاد من هذه الاخبار الشريفة جملة من الأحكام المنيفة : ـ (منها) : ان أكل أموال اليتامى ظلما ـ كما دلت عليه الآية ـ انما هو في صورة ما لو لم ينو رده ، كما يظهر من رواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة ، ونحوها ما تقدم في المنهج الثاني من رواية أحمد بن ابى نصر.

وربما أشعر ذلك بجواز التصرف في مال اليتيم ، ولو من غير الولي إذا كان ينوي الرد (٢) مع ان ظاهر كلام الأصحاب : التحريم حيث خصوا جواز الاقتراض

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٩ حديث : ٥ و ٦.

(٢) أقول : ومما يعضد ذلك ما رواه في الكافي ج ٥ ص ١٣٢ حديث : ٧ في الصحيح أو الحسن عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى الحسن عليه‌السلام في الرجل يكون عند بعض أهل بيته مال لأيتام فيدفعه إليه فيأخذ منه دراهم يحتاج إليها ولا يعلم الذي كان عنده المال للأيتام أنه أخذ من أموالهم شيئا ، ثم تيسر بعد ذلك. أى ذلك خير له ، أيعطيه الذي كان في يده أم يدفعه الى اليتيم وقد بلغ؟ وهل يجزيه ان يدفعه الى صاحبه على وجه الصلة ولا يعلمه انه أخذ له مالا؟ فقال : يجزيه أى ذلك فعل ، إذا أوصله الى صاحبه. فان هذا من السرائر ، إذا كان من نيته ، ان شاء رده الى اليتيم ان كان قد بلغ على اى وجه شاء ، وان لم يعلمه ان كان قبض له شيئا. وان شاء رده الى الذي كان في يده المال. وقال : ان كان صاحب المال غائبا فليدفعه إلى الذي كان المال في يده.

والتقريب ـ في الخبر المذكور ـ : ان الامام عليه‌السلام لم ينكر على السائل المذكور في أخذه وتصرفه في مال اليتيم ، مع صراحة الخبر في أنه ليس بولي ، بل أقرّه على ما فعله ، حيث كان من نيته الأداء ، كما يشير اليه قوله «فان هذا من السرائر إذا كان من نيته. الى آخره».

منه قدس‌سره.

٣٤٦

بالولاية والملائة ، وحكموا بكون غيره عاصيا غاصبا.

ويمكن الجمع بأن عدم دخول هذا التصرف في مدلول الآية لا يستلزم الحل له ، بل غاية ذلك انه لا يكون عقوبته عقوبة الناوي ، وهو الذي يأكل في بطنه نارا وسيصلى سعيرا. وان كان ذلك محرما ومستوجبا للعقاب في الجملة.

وأنت خبير بأن روايات جواز الاقتراض من مال اليتيم التي تقدمت ، ليست نصا فيما ذكره الأصحاب من الاشتراط ، بل ربما ظهر منها الجواز مطلقا ، الا ان الأحوط الوقوف على ما ذكروه حسما لمادة الشبهة.

(ومنها) : ان التصرف في أموالهم يتوقف على نوع مصلحة لهم في ذلك ، مثل الجلوس على فرشهم والشرب من مائهم واستخدام خادمهم ونحو ذلك ، كما يظهر من رواية الكاهلي المتقدمة ، بأن يكون التصرف بأحد هذه الأنواع ممن يصل إليهم نفعه بأي وجوه المنافع فيكون هذا بهذا.

ولو لم يكن كذلك فهو مجرد مفسدة وضرر عليهم وداخل تحت قوله تعالى «وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» ويشير الى هذا رواية على بن المغيرة ، ورواية عبد الرحمن ابن الحجاج المنقولة عن العياشي.

(ومنها) : جواز خلط طعام الأكل معهم بطعام الأيتام مع تساوى الغذاء والأكل جميعا ، معللا بأنه ربما كان الصغير يأكل مثل الكبير ، اما لو علمنا يقينا ان الصغير لا يأكل ذلك المقدار فإشكال ، من ظواهر الأخبار المذكورة ، ومن أصالة التحريم. والاحتياط لا يخفى.

(ومنها) : جواز أكل شي‌ء من مالهم إذا كان اليتيم يأكل عوضه أو أكثر. الى غير ذلك من الفوائد التي يمكن استنباطها منها. والحمد لله رب العالمين.

٣٤٧

أحكام العقود والمعاملات

الفصل الأول

(في البيع)

وأركانه ثلاثة : الصيغة ، والمتعاقدان ، والعوضان.

والبحث عن ذلك يقتضي بسطه في مقامات : ـ

الأول : المشهور ـ بل كاد يكون إجماعا ـ هو اشتراط الصيغة الخاصة في البيع كغيره من العقود ، فلا يكفى التقابض من غير تلك الصيغة ، وان حصل من الألفاظ والأمارات ما يدل على ارادة البيع ، سواء كان في الخطير والحقير.

قال في الشرائع : ولا ينعقد الا بلفظ الماضي (١) ، فلو قال : اشتر ، أو ابتع أو أبيعك لم يصح ، وان حصل القبول. وكذا في طرف القبول ، مثل ان يقول : بعني

__________________

(١) قالوا : لا بد من صيغة الماضي ، لأنه صريح في إرادة نقل الملك. واما المستقبل فإنه شبيه بالوعد. والأمر بعيد عن المراد جدا. وكذا في سائر العقود اللازمة. منه رحمه‌الله.

٣٤٨

أو تبيعني ، لأن ذلك أشبه بالاستدعاء أو بالاستعلام.

وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أم لا؟ فيه تردد ، والأشبه : عدم الاشتراط.

وقال في الدروس : فالإيجاب : بعت وشريت وملكت. والقبول : ابتعت واشتريت وتملكت وقبلت ـ بصيغة الماضي. فلا يقع الأمر والمستقبل ، ولا ترتيب بين الإيجاب والقبول على الأقرب ، وفاقا للقاضي ـ الى ان قال ـ : ولا تكفي المعاطاة وان كان في المحقرات ، نعم يباح التصرف في وجوه الانتفاعات ، ويلزم بذهاب احدى العينين ويظهر من المفيد الاكتفاء بها مطلقا وهو متروك. انتهى.

وعلى هذا النهج كلام العلامة وغيره.

وبالجملة ، فإنه لا بد عندهم من لفظ دال على الإيجاب وآخر على القبول ، وان يكون بلفظ الماضي.

ومنهم من أوجب قصد الإنشاء.

ومنهم من أوجب تقديم الإيجاب على القبول.

ومنهم من أوجب فورية القبول وانه لا يضر الفصل بنفس أو سعال ونحوهما.

ومنهم من أوجب وقوع الإيجاب والقبول بالعربية إلا مع المشقة. الى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع لكلامهم.

قال الشهيد الثاني ـ في شرح قول المصنف «ولا يكفى التقابض من غير لفظ. الى آخره» ـ هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعا ، غير ان ظاهر كلام المفيد يدل على الاكتفاء في تحقق البيع بما يدل على الرضا من المتعاقدين ، إذا عرفاه وتقابضا. وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب الى ذلك ايضا ، ولكن يشترط في الدال كونه لفظا ، وإطلاق كلام المفيد أعم منه ، والنصوص المطلقة من الكتاب والسنة الدالة على حل البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة تدل على ذلك ، فانا لم نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معين ، غير ان الوقوف مع المشهور هو الأجود ،

٣٤٩

مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كل واحد لعوضه الى ان يعلم الناقل.

وقال في أواخر البحث ـ بعد ان نقل عن متأخري الشافعية وجميع المالكية انعقاد البيع بكل ما دل على التراضي وعده الناس بيعا ـ ما صورته : وهو قريب من قول المفيد وشيخنا المتقدم ، فما أحسنه وأتقن دليله ، ان لم ينعقد الإجماع على خلافه. انتهى.

أقول : والى هذا القول مال جملة من محققي متأخري المتأخرين ، وبه جزم المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وأطال في نصرته والاستدلال عليه ، وبه جزم ايضا المحقق الكاشاني في المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية ، واليه يميل والدى ، والشيخ عبد الله بن صالح البحراني ، ونقلاه ايضا عن شيخهما العلامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.

وهو الظاهر عندي من اخبار العترة الاطهار التي عليها المدار في الإيراد والإصدار ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى على وجه لا تعتريه غشاوة الإنكار. هذا.

واما ما ذكره في المسالك من ان الأجود القول المشهور ، فلا اعرف له وجها في المقام ، بعد ما صرح به من الكلام ، واما الاعتضاد بأصالة بقاء ملك كل واحد لعوضه الى ان يعلم الناقل. ففيه : انه قد اعترف هو بأن إطلاق الكتاب والسنة دال على حصول البيع بكل ما دل على التراضي من قول أو فعل ، وصرح في آخر كلامه بأنه ما أحسنه وامتن دليله ، وهو اعتراف منه بوجود الناقل ، فكيف يصح منه الحكم بأجودية القول المشهور لهذا التعليل العليل المذكور ، ولم يبق الا التعلق بالشهرة بين الأصحاب ، وهي ليست بدليل شرعي في هذا الباب ولا غيره من الأبواب.

ثم انه ينبغي ان يعلم أنه لا بد في هذا البيع (١) من جميع الشرائط المعتبرة في صحة البيوع ، سوى الصيغة الخاصة التي أدعوها ، فإنه لا دليل عليها.

بل ظاهر الروايات الواصلة إلينا في أبواب البيوع والأنكحة ونحوهما من

__________________

(١) يريد به بيع المعاطاة الخالية من الصيغة الخاصة.

٣٥٠

سائر العقود والمعاملات : ان المعتبر فيها ، انما هو الألفاظ الجارية في البين ، مما يدل على الرضا من الطرفين.

ولا بأس بإيراد ما خطر بالبال من الاخبار الجارية على هذا المنوال :

فمنها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألته عن الرجل يأتي بالدراهم إلى الصيرفي فيقول له : آخذ منك المأة بمأة وعشرة ، أو بمأة وخمسة ، حتى يراوضه على الذي يريد ، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو ذهبا ، ثم قال له : قد راددتك البيع (١) وانما أبايعك على هذا ، لأن الأول لا يصلح ، أو لم يقل ذلك ، وجعل ذهبا مكان الدراهم : فقال : إذا كان اجرى البيع على الحلال فلا بأس بذلك (٢).

وظاهر الخبر ـ كما ترى ـ ان البيع انما وقع بهذا اللفظ المذكور الذي وقع بينهما أولا من المحاورة على الزيادة ، حتى تراضيا على قدر معلوم ، غاية الأمر انه لما كان البيع باطلا بسبب الزيادة الجنسية المستلزمة للربا ، فمتى أبدلها بغير الجنس صح البيع وتم.

ومنها : حسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال قدم لأبي متاع من مصر فصنع طعاما ، ودعى له التجار ، فقالوا له : نأخذه منك بده دوازده (٣) فقال لهم ابى : وكم يكون ذلك؟ فقالوا في العشرة آلاف ألفان ، فقال لهم أبي : فإني أبيعكم هذا المتاع باثني عشر الف درهم. فباعهم مساومة (٤).

والحديث ـ كما ترى ـ صريح في صحة البيع بهذا اللفظ ، مع انه غير جار على مقتضى قواعدهم التي اشترطوها ، من تقديم الإيجاب على القبول ، كما

__________________

(١) اى فسخت البيع الأول.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٠٥ حديث : ٥٥.

(٣) بزيادة اثنين على كل عشرة.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٣٨٥ حديث : ١.

٣٥١

هو المشهور بينهم ، وكونهما بلفظ الماضي لا المستقبل والأمر ، كما عليه ظاهر اتفاقهم ، فإنه لا قبول في الحديث بالكلية إلا ما يفهمه قولهم أولا : «نأخذ منك بده دوازده» يعنى على جهة المرابحة. وهو عليه‌السلام باعهم بهذه القيمة مساومة. ويفهم من الخبر ان رأس المال كان عشرة آلاف درهم. والإيجاب هنا انما هو بلفظ المستقبل.

ومنها : رواية زرارة عن الصادق عليه‌السلام في زرع بيع وهو حشيش ثم سنبل. قال : لا بأس إذا قال : ابتاع منك ما يخرج من هذا الزرع. فإذا اشتراه وهو حشيش فان شاء أعفاه وان شاء تربص به (١).

والتقريب ظاهر ، فإن صيغة البيع هي هذه التي حكاها الامام عليه‌السلام عن لسان المشترى ورضاء البائع بذلك.

ومنها : رواية إسحاق بن عمار قال : قلت للصادق عليه‌السلام : يكون للرجل عندي الدراهم الوضح ، فيلقاني فيقول : كيف سعر الوضح اليوم؟ فأقول : كذا وكذا. فيقول : أليس لي عندك كذا وكذا الف درهما وضحا؟ فأقول : نعم فيقول : حولها لي دنانير بهذا السعر ، وأثبتها لي عندك. فما ترى في هذا؟ فقال لي : إذا كنت قد استقصيت له السعر يومئذ فلا بأس بذلك. فقلت : انى لم أوازانه ولم أناقده ، وانما كان كلام منى ومنه. فقال أليس الدراهم والدنانير من عندك؟ قلت : بلى. قال : فلا بأس (٢). أقول : الوضح الدرهم الصحيح. فانظر الى بيع هذه الدراهم بالدنانير بأي نحو وقع ، والراوي انما استشكل من حيث كونه صرفا يجب فيه النقد والتقابض في المجلس ، فأزال عليه‌السلام استشكاله بأنه لما كان النقدان كلاهما عنده كفى تحويل أحدهما بالاخر في صحة الصرف.

ومنها : رواية محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٢٢ حديث : ٩.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٠٢ حديث : ٤٧.

٣٥٢

فقالت : زوجني. فقال : من لهذه؟ فقام رجل فقال : انا يا رسول الله ، زوجنيها. فقال : ما تعطيها؟ فقال : ما لي شي‌ء ، فقال : لا ، فأعادت فأعاد رسول الله الكلام. فلم يقم غير الرجل ، ثم أعادت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرة الثالثة : أتحسن من القرآن شيئا؟ قال : نعم. قال : قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن ، فعلمها إياه (١).

وهذه الرواية مخالفة لقواعدهم من وجوه ، منها : وقوع القبول من الزوج بلفظ الأمر ، والظاهر من كلامهم وجوب كونه بلفظ الماضي. ومنها : تقديم القبول على الإيجاب. ومنها : الفصل بين الإيجاب والقبول بزيادة على ما اعتبروه.

وفي حديث تزويج الجواد عليه‌السلام بابنة المأمون ، المروي في إرشاد المفيد وغيره ، قال الجواد عليه‌السلام في خطبة النكاح : ثم ان محمد بن على بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو خمسمائة درهم جياد ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين على هذا الصداق المذكور؟ قال : نعم ، قد زوجتك يا أبا جعفر ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت ذلك؟ قال أبو جعفر : قبلت ذلك ورضيت به (٢).

وفي رواية أبان بن تغلب ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال : تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا وارثة ولا موروثة كذا وكذا يوما ، وان شئت كذا وكذا سنة ، وبكذا وكذا درهما. وتسمى من الأجر ما تراضيتما عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، فإذا قالت : نعم ، فقد رضيت ، فهي امرأتك (٣) الحديث.

وبمضمون هذه الرواية أخبار عديدة في صورة عقد المتعة بلسان الزوج.

وفي موثقة سماعة. قال : سألته عليه‌السلام عن بيع الثمرة ، هل يصلح شراؤها قبل

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ ص ١٩٥ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٤ ص ١٩٤ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٦ حديث : ١.

٣٥٣

ان يخرج طلعها؟ فقال : لا ، الا ان يشترى معها شيئا من غيرها. رطبة أو بقلا ، فيقول : اشترى منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر (١) بكذا وكذا ، فان لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشترى في الرطبة والبقل (٢).

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ انه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه ، فقال : كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما (٣).

أقول : وهذا من صيغ الصلح الدالة هنا على انتقال ما في يد كل منهما اليه ، وبراءة ذمته من مال الأخر من ذلك المال المشترك وبمثل ذلك في باب الصلح أخبار عديدة.

وفي صحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام انه قال في الرجل يعطى الرجل المال فيقول له : ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها ، قال : فان جاوزها وهلك المال فهو ضامن (٤) الحديث.

أقول : وهذه من صيغ المضاربة التي أوجبت للعامل استحقاق حصة من الربح ، وان لم يصرح بها في الخبر ، لكون الغرض من سياقه بيان مخالفة العامل في تجاوزه عن البلدة المأمور بها. الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع. الدالة على سهولة الأمر في العقود ، وان الألفاظ الجارية بين المتعاقدين الدالة على الرضا ، والمقصود من تلك العقود الرافعة للنزاع والاشتباه بأي نحو كان ، كافية في صحة العقد وترتب أحكام الصحة عليه.

__________________

(١) أي ثمرة هذا الشجر ، لأن السؤال كان عنها.

(٢) الوسائل ج ١٣ ص ٩٠ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٣ ص ١٦٦ حديث : ١.

(٤) الوسائل ج ١٣ ص ١٨١ حديث : ٢.

٣٥٤

* * *

وتمام الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور : ـ

(الأول) : المفهوم مما نقله في المسالك عن بعض مشايخه المعاصرين ، هو اشتراط وجود اللفظ الدال على التراضي من الطرفين.

والمفهوم مما نقل عن المفيد : الاكتفاء بمجرد التراضي ، ولو بالإشارة والقرائن ، وان لم يحصل بينهما ألفاظ دالة على ذلك ، واختاره في المفاتيح وسجل عليه.

والظاهر هو الأول ، لتطرق القدح الى ما ذكره ، فإن الأصل بقاؤ ملك كل واحد لمالكه حتى يعلم الناقل شرعا ، وغاية ما يفهم من الاخبار الجارية في هذا المضمار ـ مما تلوناه عليك ونحوه ـ هو النقل وصحة العقد بالألفاظ الجارية من الطرفين ، الدالة على التراضي بمضمون ذلك العقد ، دون الصيغ الخاصة التي اعتبرها الأكثر.

واما مجرد التراضي والتقابض من غير لفظ يدل على ذلك فلم يقم عليه دليل ، وحديث «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام» (١). مؤيد ظاهر لما قلنا ، وغاية ما تدل عليه الأدلة التي استند (٢) إليها ، من الهدايا والهبة ووقوع الشراء قديما وحديثا من البائع بغير كلام إذا كان السعر معهودا ونحو ذلك ، هو جواز التصرف ، وهو مما لا نزاع فيه ولا إشكال ، اما كونه موجبا للنقل من المالك السابق ما دامت العين موجودة ، بحيث لا يجوز لصاحبها الرد فيها ، فغير معلوم ، كيف وقد صرحوا بأنه لا خلاف في جواز الرد في الهدايا ما دامت العين موجودة ، وحديث «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام». مؤيد أيضا ، إذ لم يحصل من الكلام ما أوجب الانتقال حتى يحرم الرد والرجوع ، واما جواز التصرف فلا ينافي الخبر المذكور ، لانه محمول على اللزوم وعلى ما بعد

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٣٧٦ حديث : ٤.

(٢) صاحب المفاتيح.

٣٥٥

الرجوع ، جمعا بينه وبين ما دل على الإباحة بالتراضي.

وبالجملة فالتمسك بأصالة بقاء الملك حجة قوية ، الى ان يحصل المخرج عن ذلك من الحجج الشرعية ، وغاية ما يستفاد من الاخبار ـ كما عرفت ـ هو الاكتفاء بالتراضي الحاصل من الألفاظ ، دون مجرد التراضي.

(الثاني) : المشهور بين القائلين بعدم لزوم بيع المعاطاة : هو صحة المعاطاة المذكورة ، إذا استكملت شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وانها تفيد اباحة تصرف كل منهما فيما صار اليه من العوض المعين ، من حيث اذن كل منهما في التصرف ، وتسليطه على ما دفعه اليه الا انه لا يفيد اللزوم ما دامت العين باقية ، بل لكل منهما الرجوع فيما دفعه للآخر.

وعن العلامة ـ في النهاية ـ القول بفساد بيع المعاطاة ، وانه لا يجوز لكل منهما التصرف فيما صار اليه ، من حيث الإخلال بالصيغة الخاصة ، الا ان جمعا من الأصحاب نقلوا رجوعه عن هذا القول في باقي كتبه.

قال في المسالك ـ على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في صدر المسألة ـ : فلو وقع الاتفاق بينهما على البيع ، وعرف كل منهما رضا الأخر بما يصير اليه من العوض المعين ، الجامع لشرائط البيع غير اللفظ المخصوص ، لم يفد اللزوم. لكن هل يفيد اباحة تصرف كل منهما فيما صار اليه من العوض؟ نظرا إلى اذن كل منهما للآخر في التصرف ، أو يكون بيعا فاسدا ، من حيث إخلال شرطه وهو الصيغة الخاصة ، المشهور الأول. فعلى هذا يباح لكل منهما التصرف ، ويجوز له الرجوع في المعاوضة ، ما دامت العين باقية ، فإذا ذهبت لزمت. اما جواز التصرف ، فلما فرض من تسليط كل منهما الأخر على ما دفعه اليه واذنه له فيه ، ولا نعني لإباحة التصرف الا ذلك. واما لزومها مع التلف ، فلرضاهما بكون ما أخذه كل منهما عوضا عما دفعه ، فإذا تلف ما دفعه كان مضمونا عليه ، الا انه قد رضى بكون عوضه هو ما بيده ، فان كان ناقصا فقد رضى به ، وان كان زائدا فقد رضى به الدافع ، فيكون بمنزلة ما لو دفع المديون عوضا عما في ذمته ورضى به صاحب الدين. انتهى.

٣٥٦

أقول : لقائل أن يقول : انه لا يخفى ما في هذا الكلام من تطرق المناقشة اليه ، وان كان ظاهرهم الاتفاق عليه. وذلك فإنه متى كانت الصيغة الخاصة عندهم أحد أركان البيع (١) كما صرحوا به مع تصريحهم هنا باشتراط جميع شروط البيع في صحة المعاطاة ما عدا الصيغة الخاصة ، فقضية ذلك هو بطلان هذه المعاطاة وفسادها ، لفوات أحد أركان الصحة ، وهو الصيغة الخاصة ، كما ذكره العلامة في النهاية. وهم انما تمسكوا في صحة المعاطاة وإفادتها الإباحة مع وجود العين ، واللزوم مع تلفها ، بالرضا من كل من المتعاقدين ، كما يدور عليه كلامه في المسالك.

ولا ريب ان افادة الرضا لما ذكروه فرع المشروعية ، الا ترى انهما لو تراضيا على بيع المجهول وشرائه ، أو الربوي أو نحو ذلك ، مما لا يصح بيعه شرعا ، فإنه لا يصح. ولا ثمرة لهذا الرضا بالكلية ، فكذا فيما نحن فيه ، بناء على ما حكموا به من ركنية الصيغة الخاصة ، ودوران الصحة والابطال مدارها ، وجودا وعدما.

وبالجملة فإنه بالنظر الى مقتضى الأدلة الشرعية ، فاللازم هو صحة المعاطاة ، وان حكمها حكم البيع المترتب على الصيغة الخاصة ، من غير فرق ، كما هو المختار. واليه ذهب من عرفت من علمائنا الأبرار. وبالنظر الى قواعدهم وتصريحاتهم بما قدمنا ذكره ، فالواجب هو الحكم بالفساد ، لما عرفت. وما ذكروه تفريعا على الصحة من اباحة التصرف وعدم اللزوم ، الا بعد ذهاب العين ، بناء على ما عرفت من تعليلات المسالك ، فإنه غير موجه عندي ولا ظاهر كما أوضحناه.

فإن قيل : ان اشتراط الصيغة الخاصة انما هو في البيع ، وهذا ليس ببيع ، وانما هي معاملة أخرى تفيد الإباحة على الوجه المذكور في كلامهم.

قلنا : فيه ـ أولا ـ : ان صحة هذه المعاملة على الوجه الذي ذكروه ، موقوفة

__________________

(١) حيث انهم عبروا بأن أركان البيع ثلاثة : العقد والمتعاقدان والعوضان. صرح به العلامة في القواعد والإرشاد ، وغيره في غيرها. ومرادهم بالعقد ـ كما عرفت ـ هو الصيغة الخاصة التي ذكروا شروطها بما نقلناه عنهم في الأصل. منه رحمه‌الله.

٣٥٧

على الدليل الشرعي ، وليس الا مجرد هذه التعليلات التي ذكروها ، وقد عرفت ما فيها.

وثانيا : اشتراطهم جميع شروطهم البيع عدا الصيغة الخاصة في ترتب تلك الأحكام على المعاطاة ، ينافي ما ذكرت. فان الناظر في ذلك يجزم بأنه بيع (١) فان ثبت اشتراط صحة البيع بالصيغة الخاصة كان بيعا فاسدا ، وان لم يثبت ـ كما هو المختار ـ كان بيعا صحيحا.

نعم لو لم يشترط شرط صحة البيع في المعاطاة لأمكن ان يقال : انها معاملة أخرى غير البيع ، وان لم يقم عليها دليل ، الا ان الأمر ليس كذلك ، كما عرفت.

وبالجملة ، فاللازم اما فساد هذه المعاملة أو كونها بيعا حقيقيا ، وما ذكروه من التعليلات كما صرحوا به وان كانت ترى في بادئ النظر صحته ، الا انه بالتأمل فيما ذكرناه يظهر فساده ، وهو مؤيد لما قلناه في غير مقام من مجلدات كتابنا هذا ، من ان الاعتماد على أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مما لا ينبغي العمل عليها ، بل الاعتماد انما هو على الاخبار ان صرحت به ، أو أومأت إليه.

(الثالث) : قال في المسالك : هل المراد بالإباحة الحاصلة بالمعاطاة قبل ذهاب العين ، افادة ملك متزلزل كالمبيع في زمن الخيار ، وبالتصرف يتحقق لزومه ، أم الإباحة المحضة التي هي بمعنى الاذن في التصرف ، وبتحققه يحصل الملك له وللعين الأخرى؟ يحتمل الأول ، بناء على ان المقصود للمتعاقدين انما هو الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ولم يجز التصرف في العين ، وان الإباحة إذا لم تقتض الملك فما الذي أوجب حصوله بعد ذهاب العين الأخرى؟ ويحتمل الثاني ، التفاتا الى ان الملك لو حصل بها لكانت بيعا ، ومدعاهم نفى ذلك ، واحتجاجهم بان الناقل للملك لا بد

__________________

(١) أقول : وممن صرح بأنها بيع ، المحقق الشيخ على في شرح القواعد ، حيث قال في ضمن كلام في المقام : فان المعروف بين الأصحاب انها بيع ، وان لم يكن كالعقد في اللزوم خلافا لظاهر عبارة المفيد. منه رحمه‌الله.

٣٥٨

ان يكون من الأقوال الصريحة في الإنشاء المنصوبة من قبل الشارع وانما حصلت الإباحة باستلزام إعطاء كل واحد منهما للآخر سلعته مسلطا عليها الاذن في التصرف فيها بوجوه التصرفات ، فإذا حصل كان الأخر عوضا عما قابله ، لتراضيهما على ذلك ، وقبله يكون كل واحد من العوضين باقيا على ملك مالكه ، فيجوز الرجوع فيه ، ولو كانت بيعا قاصرا عن افادة الملك المترتب عليه لوجب كونها بيعا فاسدا ، إذ لم تجتمع شرائط صحته ، ومن ثم ذهب العلامة في النهاية إلى كونها بيعا فاسدا ، وانه لا يجوز لأحدهما التصرف فيما صار إليه أصلا. انتهى.

أقول : وبالاحتمال الأول جزم المحقق الشيخ على في شرح القواعد كما سيأتي نقل كلامه ، لما تقدم من التعليل.

ثم أقول : انه لما كان البناء في هذه المسألة ـ كما قدمنا الإشارة اليه ـ على غير أساس ، حصل الشك فيه والالتباس ، إذ لم يقم لهم دليل شرعي على صحة هذه الدعوى ، من إفادة المعاطاة جواز التصرف ، من غير ان تكون ملكا حقيقيا ، سواء سمى ملكا متزلزلا أو اباحة ، وانما مقتضى الأدلة ـ كما عرفت ـ هو كونها بيعا حقيقيا موجبا للانتقال وعدم جواز الرجوع ، وان كانت العين موجودة ، حسبما قيل في البيع المشتمل على الصيغة الخاصة ، واللازم على تقدير ما ذهبوا إليه في هذا المقام ، انما هو فساد البيع ، كما قدمنا ذكره ، لانه لا خلاف بينهم في ان البيع المترتب عليه الانتقال وصحة التصرف ، مشروط بشروط عديدة ، بالنسبة إلى الصيغة والمتعاقدين والعوضين وانه باختلال شرط من تلك الشروط يكون البيع فاسدا ، وان حصل التراضي ، فإن التراضي لا اثر له في تصحيح ما حكم الشارع بإبطاله ، وبيع المعاطاة عندهم مما يجب استكماله جميع شروط البيع غير الصيغة الخاصة ، مع تصريحهم بكون الصيغة الخاصة أحد أركان البيع وقضية ذلك بطلان البيع بالإخلال بها كما في الإخلال بغيرها من الشروط.

ودعوى استثنائها من تلك الشروط ، بان تركها لا يوجب البطلان ، وانما يكون

٣٥٩

الحكم هو الإباحة أو الملك متزلزلا ، تحكم محض. ولم نظفر لهم بدليل الا ما عرفت من التعليلات المبنية على التراضي ، مع انها جارية في صورة اختلال غيرها من الشروط ، لجواز تراضيهما على بيع المجهول والربوي ونحوهما مما منع الشارع منه ، مع انهم لا يقولون به ، والكلام في الصيغة الخاصة ـ بناء على دعواهم وجوبها وانه لا يلزم البيع الا بها ـ كذلك ، وبذلك يظهر لك ما في قوله في المسالك في تعليل الاحتمال الأول من انه مبنى على ان المقصود للمتعاقدين انما هو الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ، فإن فيه : انهم قد أوجبوا في حصول القصد المذكور دلالة لفظ صريح عليه ، وخصوه بالصيغة الخاصة ولم تحصل ، والى ذلك يشير قوله في الاحتجاج للاحتمال الثاني : ان الناقل للملك لا بد ان يكون من الأقوال الصريحة ، فاللازم حينئذ هو فساد المعاطاة كما ذكرنا ، لانتفاء الدال على ذلك المقصود ، وكذا في قوله ـ في تعليل الاحتمال الثاني ـ من انه انما حصل باستلزام إعطاء كل واحد منهما للآخر سلعته ، فان فيه : ان هذا لو صلح وجها لما ذكروه من الإباحة لا طرد في صورة الإخلال بغير هذا الشرط من شروط صحة البيع ولزومه ، مع انهم لا يلتزمونه ، وتخصيصه بهذا الموضع تحكم كما عرفت.

وقال المحقق الشيخ على في شرح القواعد ـ بعد قول المصنف «ولا تكفي المعاطاة» ـ ما ملخصه : وظاهره انها لا تكفي في المقصود بالبيع ، وهو نقل الملك ، وليس كذلك ، فان المعروف بين الأصحاب انها بيع وان لم تكن كالعقد في اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد ، وقوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١) يتناولها ، لأنها بيع بالاتفاق حتى من القائلين بفسادها ، لأنهم يقولون هي بيع فاسد ، وقوله «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٢) فإنه عام الا فيما أخرجه الدليل ، وما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب ، انها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب احدى العينين ، يرون به عدم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٢) سورة النساء : ٢٩.

٣٦٠