الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

المقام الرابع

في أرض الأنفال

وقد تقدم الكلام فيها في كتاب الخمس ، ونقل جملة من أخبارها ، الا ان من جملة اخبارها ، مما لم يتقدم ذكره : ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة ، قال : سألته عن الأنفال ، فقال : كل أرض خربة أو شي‌ء كان للملوك فهو خالص للإمام ليس للناس فيه سهم. قال ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (١).

أقول : ظاهر هذا الخبر : ان البحرين مما أسلمت للمسلمين طوعا من غير قتال ، وانها من الأنفال حينئذ ، وبذلك صرح في الروضة في كتاب الخمس ، الا انه في كتاب احياء الموات ، عدها مع المدينة المشرفة وأطراف اليمن فيما أسلم عليه اهله طوعا ، وحكم بأن أرضها لهم (٢) لذلك. ولا يخفى ما فيه من المناقضة لكلامه في كتاب الخمس.

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ٣٦٧ حديث : ٨ والتهذيب ج ٤ ص ١٣٣ حديث : ٧ ـ ٣٧٣.

(٢) اى ملكا لأصحاب الأراضي الذين أسلموا طوعا.

٣٢١

المسألة السابعة

في أحكام اليتامى وأموالهم

وتحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مناهج أربعة :

(الأول) : في ولي اليتيم.

المفهوم من كلام الأصحاب : ان الولاية على الصغير للأب ثم الجد له وان علا على الترتيب ، الأقرب فالأقرب للميت ، فان عدم الجميع فالوصي من جهة الأب ، ثم الوصي من جهة الجد على الترتيب المتقدم ، ثم مع عدم جميع هؤلاء فالحاكم الشرعي.

وممن صرح بذلك شيخنا في المسالك ، حيث قال ـ بعد نقل قول المصنف «ولو مات انسان ولا وصى له كان للحاكم النظر في تركته» ـ ما صورته : الأمور المفتقرة في الولاية ، اما ان تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا ، فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم جده ثم لمن يليه من الأجداد ، على ترتيب الولاية ، للأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، فإن عدم الجميع فوصى الأب ثم وصى الجد وهكذا ، فان عدم الجميع فالحاكم. والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي ثم الحاكم. الى آخر كلامه رحمه‌الله.

٣٢٢

ونقل في الدروس عن ابن الجنيد : ان للام الرشيدة الولاية بعد الأب ، ثم رده بأنه شاذ.

أقول : وكان الواجب ان يعد في ذلك ، الولاية بعد الحاكم لعدول المؤمنين ، كما صرح به جملة من الأصحاب (١) من انه مع تعذر الحاكم فلعدول المؤمنين تولى بعض الحسبيات ، المنوطة بنظر الحاكم الشرعي.

وعليه تدل الأخبار المذكورة أيضا :

ومنها : ما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : مات رجل من أصحابنا ولم يوص ، فرفع أمره الى قاضي الكوفة ، فصير عبد الحميد القيم بماله ، وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن ، إذ لم يكن الميت صير اليه وصيته ، وكان قيامه بهذا بأمر القاضي ، لأنهن فروج. قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه‌السلام فقلت : يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ، ويخلف جواري ، فيقيم القاضي منا رجلا لبيعهن ، أو قال يقوم بذلك رجل منا ، فيضعف قلبه لأنهن فروج ، فما ترى في ذلك القيم؟ قال : فقال : إذا كان القيم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس (٢).

وروى في الكافي والفقيه في الصحيح من الثاني ، عن ابن رئاب ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن رجل بيني وبينه قرابة ، مات وترك أولادا صغارا ، وترك مماليك غلمانا وجواري ، ولم يوص. فما ترى فيمن يشترى منهم الجارية ، يتخذها

__________________

(١) المشهور بين الأصحاب : انه مع تعذر الحاكم ، أو وجوده ولكن في غير البلد مع حصول المشقة الشديدة في الرجوع إليه ، فإنه يجوز لعدول المؤمنين تولى بعض الحسبيات ونقل عن ابن إدريس المنع ، وهو محجوج بالأخبار التي ذكرناها في الأصل.

منه قدس‌سره.

 (٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٧٠ حديث : ٢.

٣٢٣

أم ولد ، وما ترى في بيعهم؟ فقال : إذا كان لهم ولى يقوم بأمرهم ، باع عليهم ونظر لهم كان مأجورا فيهم ، قلت : فما ترى فيمن يشترى منهم الجارية فيتخذها أم ولد؟ قال لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم ، فليس لهم ان يرجعوا عما صنع القيم لهم الناظر فيما يصلحهم (١).

أقول : وهذا الخبر وان كان مجملا ، الا ان الظاهر منه بعد التأمل : ان المراد بالولي فيه انما هو أحد عدول المؤمنين ، لأن انتفاء الوصي ظاهر من الخبر ، وانتفاء الحاكم الشرعي الذي هو أحد الأولياء أيضا ظاهر ، إذ ليس في وقته ـ عليه‌السلام ـ حاكم شرعي ـ أصالة ـ سواه. واحتمال الجد بعيد من سياق الخبر. وبالجملة فإن الحكم المذكور مما لا ريب فيه.

ثم ان الأصحاب ـ بناء على ما قدمنا نقله عنهم ، من ان الولاية على الصغار مخصوصة بالأب والجد له وان علا ، دون غيرهما من الوصي والحاكم ـ فرعوا على ذلك ما لو أوصت الأم لطفلها بمال ، أو أحد أقاربه ، وعين عليه وصيا ليصرفه في مصالح الطفل ، فإن للأب أو الجد انتزاعه من ذلك الوصي ، لثبوت ولايتهما عليه شرعا ، فلا تنفذ وصية الموصى بالولاية لغيرهما.

قال في الدروس : ولا ولاية للأم على الأطفال. فلو نصبت عليهم وليا لغى. ولو أوصت لهم بمال ونصبت عليه قيما لهم صح في المال خاصة. ثم نقل قول ابن الجنيد الذي قدمنا نقله عنه.

وبنحو ذلك صرح في المسالك ، فقال ـ أيضا في شرح قول المصنف «لو اوصى بالنظر في مال ولده الى أجنبي وله أب لم يصح ، وكانت الولاية إلى جد اليتيم ـ ما صورته : قد عرفت من المسألة السابقة ان الولاية للجد وان علا على الولد مقدمة على ولاية وصي الأب ، فإذا نصب الأب وصيا على ولده المولى عليه مع وجود جدة للأب لم يصح ، لأن ولاية الجد ثابتة له بأصل الشرع ، فليس للأب نقلها عنه ، ولا إثبات

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٤ حديث : ١.

٣٢٤

شريك معه. الى آخر كلامه رحمه‌الله.

والظاهر : ان الحكم المذكور مما لا خلاف فيه الا ما تقدم نقله عن ابن الجنيد ، وضعف أقواله غالبا معلوم من قواعده.

* * *

(المنهج الثاني) : في الاتجار بمال الصغير والعمل به.

ولا تخلو الحال في ذلك ، اما بأن يكون الاتجار لليتيم من الولي ، أو الاتجار للولي نفسه بمال اليتيم ، أو يكون المتصرف غير ولي شرعي.

قال في النهاية : ومتى اتجر الإنسان بمال اليتيم ، نظرا لهم وشفقة عليهم ، فربح كان الربح لهم ، وان خسر كان عليهم ، ويستحب له ان يخرج من جملته الزكاة. ومتى اتجر به لنفسه ، وكان متمكنا في الحال من ضمان ذلك المال وغرامته ، ان حدث به حادث ، جاز ذلك وكان المال قرضا عليه ، فان ربح كان له ، وان خسر كان عليه ، وتلزمه في حصته الزكاة ، كما يلزمه لو كان المال له ، ندبا واستحبابا. ومتى اتجر لنفسه بما لهم وليس بمتمكن في الحال من مثله وضمانه ، كان ضامنا للمال. فان ربح كان للأيتام ، وان خسر كان عليه دونهم. انتهى.

وقال ابن إدريس : ومتى اتجر الإنسان المتولي لمال اليتيم ، نظرا لهم وشفقة لهم فربح كان الربح لهم ، وان خسر كان عليهم. وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويستحب ان يخرج من جملته الزكاة. والذي يقوى عندي : انه لا يخرج ذلك ، لانه لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع. ولانه لا يجوز التصرف الا فيما فيه مصلحة لهم ، وهذا لا مصلحة لهم فيه ، من دفع عقاب ولا تحصيل ثواب ، لان الأيتام لا يستحقون ثوابا ولا عقابا ، لكونهم غير مخاطبين بالشرعيات. وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى اتجر به لنفسه ـ ثم نقل العبارة كما قدمناها ـ ثم قال : قال ابن إدريس : هذا غير واضح ولا مستقيم ، ولا يجوز له ان يستقرض منه شيئا من ذلك سواء كان متمكنا في الحال من ضمانه وغرامته أو لم يكن ، لأنه أمين

٣٢٥

والأمين لا يجوز له ان يتصرف لنفسه في أمانته بغير خلاف منا ـ معشر الإمامية ـ ولا يجوز له ان يتجر فيه لنفسه على حال من الأحوال ، وانما أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا ، من جهة أخبار الآحاد ، كما ورد أمثاله في هذا الكتاب ، وهو غير عامل عليه. قال في الكتاب المشار اليه : ومتى اتجر لنفسه بمالهم ـ الى آخر ما قدمناه ـ ثم قال : وقد قلنا : انه لا يجوز له ان يتجر لنفسه في ذلك المال بحال من الأحوال. انتهى ما ذكره ابن إدريس ملخصا.

أقول : اما اتجار الولي لليتيم نظرا له وشفقة عليه ، فالظاهر : انه لا خلاف في كون الحكم فيه ما ذكره الشيخ ، من ان الربح لليتيم والنقصان له ، الا ان الاخبار في هذه الصورة لا تخلو من تدافع ، وكذا بقية الاخبار في المسألة لا تخلو من الاشكال كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.

واما لو اقترضه الولي مع كونه مليا ، فإنه يكون الربح له وهو ضامن لمال اليتيم.

ومنع ابن إدريس هنا من اقتراض الولي ، مردود بالاخبار الاتية في المقام إنشاء الله تعالى. وكذا منعه من الزكاة في الصورة الأولى ، مردود بالاخبار ، كما تقدم تحقيقه في كتاب الزكاة.

واما لو كان التصرف مع عدم استكمال الشرطين المتقدمين ، فظاهر الاخبار وكلام جملة من الأصحاب : ان الربح في هذه الصورة لليتيم وهو على إطلاقه لا يخلو من اشكال ، كما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى في المقام.

* * *

والواجب أولا : نقل ما وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ، ثم بيان ما هو المستفاد منها بتوفيق الله سبحانه.

فمنها ـ مما تدل على جواز الاقتراض من مال اليتيم ، ردا على ابن إدريس : ـ ما رواه في الكافي عن منصور بن حازم. عن ابى عبد الله عليه‌السلام في رجل ولى مال

٣٢٦

يتيم ، أيستقرض منه؟ قال : ان على بن الحسين عليه‌السلام كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره (١) ورواه الصدوق في الصحيح ايضا عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليه‌السلام مثله وزاد : «فلا بأس بذلك» (٢).

وعن احمد بن محمد بن ابى نصر قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يكون في يده مال لأيتام فيحتاج اليه ، فيمد يده فيأخذه ، وهو ينوي أن يرده إليهم ، فقال : لا ، ولكن ينبغي له ان لا يأكل إلا بقصد ولا يسرف. فان كان من نيته : ان لا يرد عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (٣).

وروى العياشي في تفسيره مثله ، وزاد : قال : قلت له : كم ادنى ما يكون من مال اليتيم إذا هو أكله ، وهو لا ينوي رده ، حتى يكون يأكل في بطنه نارا؟ قال : قليله وكثيره واحد ، إذا كان من نفسه ونيته ان لا يرده إليهم (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٢ حديث : ١ أقول : ومما يؤيد هذا الخبر : ما رواه ابن إدريس ، في مستطرفات السرائر ، نقلا عن كتاب جامع البزنطي ، قال : سألته عن رجل كانت عنده وديعة لرجل ، فاحتاج إليها ، هل يصلح له ان يأخذ منها ـ وهو مجمع على ان يردها ـ بغير اذن صاحبها؟ قال : ان كان عنده وفاء فلا بأس بأن يأخذ ويرده. (الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٣ حديث : ٢) وابن إدريس بعد ان أورد هذا الخبر رده ، وقال : لا يلتفت اليه. قال : لأن الإجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير اذن ملاكها ، فلا يرجع عما يقتضيه العلم الى ما يقتضيه الظن. وبعد هذا فأخبار الآحاد لا يجوز العمل بها على كل حال في الشرعيات ، على ما بيناه. انتهى. وهو جيد على أصله غير الأصيل.

منه قدس‌سره.

(٢) هذه الزيادة موجودة في رواية الكافي أيضا ج ٥ ص ١٣١ حديث : ٥.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٢ حديث : ٢.

(٤) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢٤ حديث : ٤٢.

٣٢٧

* * *

ومنها ـ مما يتعلق بأصل المسألة ـ : ما رواه في الكافي والتهذيب عن أسباط ابن سالم ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : كان لي أخ هلك ، واوصى الى أخ أكبر مني ، وأدخلني معه في الوصية وترك ابنا له صغيرا ، وله مال ، أفيضرب به أخي ، فما كان من فضل سلمه الى اليتيم ، وضمن له ماله؟ فقال : ان كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم ان تلف فلا بأس به ، وان لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم (١).

وما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في مال اليتيم ، قال : العامل به ضامن ، ولليتيم الربح ، إذا لم يكن للعامل به مال. وقال : ان عطب أداه (٢).

وعن ربعي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام قال : في رجل عنده مال اليتيم فقال : ان كان محتاجا وليس له مال ، فلا يمس ماله. وان هو اتجر به فالربح لليتيم ، وهو ضامن (٣).

وعن أسباط بن سالم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت : أخي أمرني أن أسألك عن مال يتيم في حجره يتجر به. فقال : ان كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم ان تلف أو اصابه شي‌ء غرمه ، والا فلا يتعرض لمال اليتيم (٤).

وما رواه في التهذيب ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون في يده مال لأخ له يتيم وهو وصيه ، أيصلح له ان يعمل به؟ قال نعم ، كما يعمل بمال غيره والربح بينهما. قال : قلت : فهل عليه ضمان؟ قال : لا ، إذا كان ناظر له (٥).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٠ حديث : ١ باب : ٧٥ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٣.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٤.

(٥) الوسائل ج ٦ ص ٥٨ حديث : ٦ ر ١١٥٩٥.

٣٢٨

وعن منصور الصيقل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مال اليتيم يعمل به ، قال : فقال : إذا كان عندك مال وضمنته ، فلك الربح وأنت ضامن للمال ، وان كان لا مال لك وعملت به فالربح للغلام ، وأنت ضامن للمال (١).

وما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة ومحمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : مال اليتيم ، ان عمل به من وضع على يديه ضمنه ، ولليتيم ربحه ، قالا : فقلنا له : قوله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ»؟ قال : انما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم ، فلم يتخذ لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم (٢).

وما رواه في الكافي عن سعيد السمان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ليس في مال اليتيم زكاة الا ان يتجر به فان اتجر به فالربح لليتيم ، وان وضع فعلى الذي يتجر به (٣).

وما رواه في الفقيه عن زرارة وبكير ، في الصحيح عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وان كثر ، وليس في نقر الفضة زكاة ، ولا على مال اليتيم زكاة ، الا ان يتجر به ، فان اتجر به ففيه الزكاة ، والربح لليتيم وعلى التاجر ضمان المال (٤).

وما رواه في التهذيب عن بكر بن حبيب ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل دفع اليه مال يتيم مضاربة ، فقال : ان كان ربح فلليتيم ، وان كان وضيعة فالذي أعطى

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ٥٨ حديث : ٧.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢٤ حديث : ٤٣ والمصنف نقل الحديث عن الوسائل ملحونا فأصلحناه على نسخة التفسير.

(٣) الوسائل ج ٦ ص ٥٧ حديث : ٢. قوله : «وان وضع» اى خسر المال.

(٤) من لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٩ حديث : ٢.

٣٢٩

ضامن (١).

وفي الفقه الرضوي : وروى ان من اتجر بمال اليتيم فربح كان لليتيم ، والخسران على التاجر ، ومن حول مال اليتيم أو اقترض شيئا منه كان ضامنا لجميعه ، وكان عليه زكاته دون اليتيم ـ الى ان قال ـ وروى ان لرئيس القبيلة وهو فقيهها وعالمها : ان يتصرف لليتيم في ماله بما يراه حظا وصلاحا ، وليس عليه خسران ، ولا له ربح ، والربح والخسران لليتيم وعليه. انتهى.

هذا ما حضرني من الاخبار في هذا المقام ، والذي يدل منها على ما قدمنا نقله عن الشيخ ومن تبعه ، من انه متى اتجر الولي لليتيم نظرا له ، فان الربح لليتيم والنقيصة عليه : رواية أبي الربيع المذكورة (٢) ورواية الفقه الرضوي.

الا ان ظاهر رواية أسباط بن سالم الاولى (٣) المنافاة لذلك ، حيث ان ظاهرها :

ان المتجر ولى اليتيم ، مع انه شرط عليه‌السلام في صحة تصرفه وتجارته لليتيم «الملاء» المؤذن ذلك بضمانه النقصان.

ويؤيد الخبر الأول ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب على الحكم المذكور ، فانى لم أقف على مخالف فيه ، وحينئذ فلا بد من ارتكاب التأويل في الخبر الثاني ، وان بعد ، بحمله على ما إذا لم يكن وليا للطفل ، وان كان وصيا على ما عداه من الأموال والتصرفات.

والذي يدل على ما ذكره الأصحاب ، من أنه متى كان وليا مليا فإنه يجوز له الاقتراض من مال الطفل ، والاتجار لنفسه ، وان الربح له والنقيصة عليه ، فاما على

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ١٨٩ ـ ١٩٠ حديث ١ باب : ١٠.

(٢) وهي التي رواها المصنف عن التهذيب من غير ان يذكر الراوي عن الامام ـ ع ـ قال : سئل أبو عبد الله ـ ع ـ عن الرجل يكون في يده. الوسائل ج ٦ ص ٥٨ حديث : ٦.

(٣) تقدمت في ص ٣٢٨ عن الوسائل ج ١٢ ص ١٩٠ حديث : ١ باب : ٧٥.

٣٣٠

الاقتراض فما تقدم من صحيحة منصور بن حازم (١). واما على باقي الأحكام فرواية منصور الصيقل (٢) حيث صرحت بأنه إذا كان عنده مال وضمنه فله الربح. وهي وان كانت مطلقة بالنسبة إلى كونه وليا ، الا انه يجب حملها على ذلك ، لما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى ، من انه متى لم يكن وليا ، فإنه غاصب وتصرفه باطل ، فلا يكون مستحقا للربح.

ويدل ذلك ايضا مفهوم صحيحة ربعي (٣) ورواية أسباط بن سالم الثانية (٤) وهما ايضا ، وان كانتا مطلقتين بالنسبة إلى كونه وليا ، الا انه يجب حملهما على ذلك لما ذكرناه.

ويعضده : انه هو الأغلب ، إذ لا خلاف بين الأصحاب في تحريم التصرف في مال اليتيم الا بالشرطين المتقدمتين.

نعم استثنى جملة من المتأخرين الأب والجد من شرط الملائة ، فجوزوا لهما التصرف وان كانا غير مليين. واستشكله في المسالك. والظاهر : ان ما ذكره الأصحاب أقرب ، لا سيما مع الضمان كما هو المفروض ، لما تقدم في المسألة الرابعة ، من الاخبار الكثيرة الدالة على حل مال الولد للوالد. وبالجملة ، فالظاهر : ان الحكم في هاتين الصورتين مما لا اشكال فيه.

والذي يدل على ما ذكروه ، من انه متى اتجر في مال اليتيم بدون الشرطين المتقدمتين ، فان الربح لليتيم ، والمتصرف ضامن ، فاما بالنسبة إلى الضمان ، فلان تصرفه غير شرعي ، وهو يوجب الضمان البتة.

واما بالنسبة إلى كون الربح لليتيم ، فأكثر الأخبار المتقدمة ، مثل صحيحة

__________________

(١) تقدمت في ص ٣٢٦ عن الوسائل ج ١٢ ص ١٩٢ حديث : ١.

(٢) تقدمت في ص ٣٢٩ عن الوسائل ج ٦ ص ٥٨ حديث : ٧.

(٣) تقدم في ص ٣٢٨ عن الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٣.

(٤) تقدمت في ص ٣٢٨ عن الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٤.

٣٣١

محمد بن مسلم (١) وصحيحة ربعي (٢) وعجز رواية منصور الصيقل (٣) ونحوها غيرها مما ذكر ايضا ، وقد اشترك الجميع في الدلالة على أنه متى لم يكن له مال واتجر به ، فإنه ضامن ، والربح لليتيم ، كما ذكرناه ، أعم من ان يكون وليا أو غير ولى ، اتجر للطفل أو لنفسه ، وقع الشراء بعين المال أو في الذمة.

إلا ان في هذا المقام اشكالا ، قد نبه عليه جملة من علمائنا الأعلام.

منهم : صاحب المدارك ، قال ـ عليه الرحمة ـ في كتاب الزكاة : أما ان ربح المال يكون لليتيم ، فلان الشراء وقع بعين ماله كما هو المفروض ، فيملك المبيع ويتبعه الربح ، لكن يجب تقييده بما إذا كان المشترى وليا أو اجازه الولي ، وكان للطفل غبطة في ذلك ، والا وقع الشراء باطلا ، بل لا يبعد توقف الشراء على الإجازة في صورة شراء الولي أيضا ، لأن الشراء لم يقع بقصد الطفل ابتداء ، فإنما أوقعه المتصرف لنفسه ، فلا ينصرف الى الطفل بدون الإجازة ، ومع ذلك كله فيمكن المناقشة في صحة مثل هذا العقد ، وان قلنا بصحة الفضولي مع الإجازة ابتداء ، لانه لم يقع للطفل ابتداء من غير من اليه النظر في ماله ، وانما أوقعه المتصرف في مال الطفل لنفسه على وجه منهي عنه. انتهى.

وحاصله : ان ما ذكرناه من مقتضى إطلاق الاخبار المذكورة ، مناف لجملة من القواعد المقررة بين كافة الأصحاب :

منها : أنه لو لم يكن وليا واتجر بعين مال الطفل لنفسه ، فالظاهر أنها تجارة باطلة ، أو موقوفة على الإجازة من الولي أو الطفل بعد بلوغه ، ان قلنا بصحة عقد الفضولي ، وعلى تقدير البطلان أو عدم الإجازة فلا ربح لأحد ، بل يجب رد ما أخذ على صاحبه ورد مال اليتيم الى محله مع ان ظاهر الاخبار المتقدمة : صحة البيع ،

__________________

(١) تقدمت في ص ٣٢٨ عن الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٢.

(٢) تقدمت في ص ٣٢٨ عن الوسائل ج ١٢ ص ١٩١ حديث : ٣.

(٣) تقدمت في ص ٣٢٩ عن الوسائل ج ٦ ص ٥٨ حديث : ٧.

٣٣٢

وان الربح لليتيم.

ومنها : أنه لو اتجر في الذمة لنفسه ، فان مقتضى القواعد صحة البيع والشراء ، وكون الربح له ، وان كان تصرفه في مال اليتيم بدفعه عما في الذمة ، فلا تبرأ ذمته عما عليه من الثمن ، بل يجب دفع الثمن من غيره ، ورد مال اليتيم الى محله. مع ان مقتضى إطلاق الاخبار المذكورة : صحة العقد ، وكون الربح لليتيم ايضا.

ومنها : أنه لو لم يكن وليا واتجر للطفل ، فان الظاهر : ان هذه الصورة كالأولى ، في الوقوف على الإجازة أو البطلان ، بناء على القول بصحة عقد الفضولي. مع ان ظاهر إطلاق النصوص المذكورة : الصحة ، وان الربح لليتيم.

ومن هنا يظهر وجه الإشكال في العمل بظاهر الأخبار المذكورة ، الا أن الأظهر العمل بما دلت عليها ، لتكاثرها وتعددها ، مع ظهورها في ذلك ، وعدم إمكان تقييدها بما تقتضيه القواعد المشار إليها ، كما سمعتها من كلام صاحب المدارك.

فاللازم حينئذ اما طرحها. وفيه من الشناعة ما لا يخفى. واما العمل بها ، ويكون هذا الحكم مستثنى من تلك القواعد المذكورة.

ويشير الى ما ذكرناه : ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب على الحكم المذكور ، من انه متى وقع الاتجار في مال الطفل بدون الشرطين المتقدمين فان الربح لليتيم ، والعامل ضامن من غير تفصيل وتقييد ، حسبما دل عليه إطلاق الاخبار المذكورة.

وهذه المناقشة حصلت من متأخري المتأخرين ، كالسيد في المدارك ، وقبله المحقق الأردبيلي ، ومن تأخر عنهما.

وبالجملة فالمسألة لذلك محل اشكال ، وان كان العمل بإطلاق الأخبار المذكورة ، وفاقا لظاهر الأصحاب ، لا يخلو من قوة ، والله أعلم.

* * *

٣٣٣

(المنهج الثالث) : فيما يحل لقيم مال اليتيم.

وقد اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في ذلك على أقوال :

(أحدها) : أجرة مثل عمله. وبه صرح في الشرائع ، وعلله في المسالك ، قال : لأنها عوض عمله ، وعمله محترم فلا يضيع عليه ، وحفظه بأجرة مثله.

وقال في مجمع البيان : والظاهر من روايات أصحابنا : ان له اجرة المثل ، سواء كان قدر كفايته أو لم يكن.

أقول : وفي ظهوره من الروايات كما ادعاه نظر ، كما سيظهر.

(وثانيها) : ان يأخذ قدر كفايته لقوله عزوجل «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (١) والمعروف : مالا إسراف فيه ولا تقتير.

ونقل في المجمع هذا القول عن عطاء بن ابى رباح وقتادة وجماعة. قال : ولم يوجبوا اجرة المثل بما كانت أكثر من قدر الحاجة.

واستظهر هذا القول بعض مشايخنا المعاصرين ، قال : وهذا هو الظاهر من الاخبار ، ولكن ليس على إطلاقه المتناول للغنى وقلة المال وعدم الاشتغال عن أمور نفسه ، فإطلاقه مشكل. انتهى.

أقول : وسيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ توضيح ما ذكره.

(وثالثها) : أقل الأمرين من الأجرة والكفاية ، واحتج له بوجهين :

أحدهما : ان الكفاية ان كانت أقل من الأجرة ، فلان ـ مع حصولها ـ يكون غنيا ، ومن كان غنيا وجب عليه الاستعفاف عن بقية الأجرة ، وان كانت اجرة المثل أقل ، فإنما يستحق عوض عمله ، فلا يحل له أخذ ما زاد عليه.

وثانيهما : ان العمل لو كان لمكلف يستحق عليه الأجرة ، لم يستحق أزيد من اجرة مثله ، فكيف يستحق الأزيد مع كون المستحق عليه يتيما.

وفيه بحث يأتي ذكره ـ إنشاء الله تعالى ـ بعد نقل روايات المسألة ، وتحقيق

__________________

(١) سورة النساء : ٦.

٣٣٤

ما هو الحق الظاهر منها.

(ورابعها) : استحقاق اجرة المثل مع فقره ، وعلل بأنه يمكن حمل الأكل بالمعروف عليه ، لان أجرة المثل ان كانت أقل من المعروف بين الناس فالإنسان لا يأخذ عوض عمله من غير زيادة عن عوضه المعروف وهو اجرة مثله ومثل هذا يسمى أكلا بالمعروف ، والزيادة عليه أكل بغير المعروف ، هذا إذا كان فقيرا ، اما لو كان غنيا فالأقوى وجوب استعفافه مطلقا ، عملا بظاهر الآية.

(وخامسها) : جواز أخذ أقل الأمرين ، من اجرة مثله وكفايته ، مع فقره.

قال في المسالك : ولو تحقق للكفاية معنى مضبوط ، كان هذا القول أجود الأقوال. ومثبتو أحد الأمرين من غير تقييد بالفقر ، حملوا الأمر بالاستعفاف على الاستحباب ، وادعوا ان لفظ الاستعفاف مشعر به ، وله وجه. انتهى.

* * *

أقول : والواجب ـ أولا ـ بسط الروايات الواردة عنهم ـ عليهم‌السلام ـ والتنبيه على ما يمكن استنباطه من الأحكام منها.

فمنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق ، عن الصادق عليه‌السلام في قوله الله تعالى «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه ، وهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر ولا يسرف. وان كانت ضيعتم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرز أن من أموالهم شيئا (١).

وما رواه في التهذيب عن ابن سنان في الصحيح ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وانا حاضر عن القيم لليتامى ، في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم ، إله أن يأكل من أموالهم؟ فقال : لا بأس ان يأكل من أموالهم بالمعروف ، كما قال الله عزوجل

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٨٥ ـ ١٨٦ حديث : ٤.

٣٣٥

في كتابه «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال : المعروف هو القوت. وانما عنى الوصي لهم والقيم في أموالهم ما يصلحهم (١).

وما رواه الشيخان المتقدمان عن عبد الله بن سنان في الصحيح ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال : المعروف هو القوت ، وانما عنى الوصي والقيم في أموالهم ما يصلحهم (٢).

وعن حنان بن سدير في الموثق ، قال : قال الصادق عليه‌السلام سألني عيسى بن موسى عن القيم للأيتام في الإبل ، ما يحل له منها فقلت : إذا لاط حوضها ، وطلب ضالتها وهنأ جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير نهك لضرع ، ولا فساد لنسل (٣).

وعن ابى الصباح الكناني عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قوله عزوجل «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (٤) فقال : ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة ، فلا بأس أن يأكل بالمعروف ، إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا. قال : قلت : أرأيت قول الله عزوجل «(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٥)»؟

قال : تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم ، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ، ثم تنفقه ، قلت ، أرأيت ان كانوا يتامى صغارا وكبارا ، وبعضهم أعلى كسوة من بعض ، وبعضهم أكل من بعض ، وما لهم جميعا. فقال : اما الكسوة فعلى كل انسان ثمن كسوته ، واما الطعام فاجعلوه جميعا ، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (٦).

__________________

(١) البرهان ج ١ ص ٣٤٤ حديث : ٨.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٣٤٠ حديث : ٧١.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٣٤٠ حديث : ٧٢ ، لاط حوضها اى : طينها ، وهنأ جرباها : إذا طلاه بالهناء اى القطران ، وهو ما يتخذ من حمل شجرة العرعر. والنهك : استيفاء ما في الضرع من اللبن.

(٤) سورة النساء : ٦.

(٥) سورة البقرة : ٢٢٠.

(٦) التهذيب ج ٦ ص ٣٤١ حديث : ٧٣.

٣٣٦

وما رواه الشيخ في الصحيح عن هشام بن الحكم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن تولى مال اليتيم ، ماله ان يأكل منه؟ فقال : ينظر الى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم ، فليأكل بقدر ذلك (١).

وما رواه الثقة الجليل محمد بن مسعود العياشي في تفسيره ، عن محمد بن مسلم ، قال : سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ يتيم (٢) في حجره. أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ فقال : ان كان يليط حياضها ، ويقوم على هنأتها ، ويرد شاردها ، فليشرب من ألبانها ، غير مجهد للحلاب ولا مضر بالولد. ثم قال : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف» (٣).

وروى هذه الرواية في مجمع البيان الى قوله «ولا مضرة بالولد» (٤) ورواه الزمخشري في الكشاف ، عن ابن عباس (٥).

وما رواه العياشي في تفسيره عن أبي أسامة عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : ذلك رجل يحبس نفسه على أموال اليتامى ، فيقوم لهم فيها ، ويقوم لهم عليها ، فقد شغل نفسه عن طلب المعيشة ، فلا بأس ان يأكل بالمعروف ، إذا كان يصلح أموالهم ، وان كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا (٦).

وما رواه في الكتاب المذكور (٧) عن سماعة عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قوله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : بلى

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٣٤٣ حديث : ٨١.

(٢) لفظة «يتيم» ليست في نسخة المصدر المطبوعة.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢١ حديث : ٢٨.

(٤) مجمع البيان ج ٣ ص ٩.

(٥) الكشاف ج ١ ص ٤٧٥ باختلاف يسير.

(٦) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢١ حديث ٢٩.

(٧) وهو تفسير العياشي.

٣٣٧

من كان. الحديث كما تقدم عن الكافي ، الا انه قال : «ليس له شي‌ء» عوض قوله ثمة «وليس له ما يقيمه» (١).

وما رواه العياشي في تفسيره ـ ايضا ـ عن إسحاق بن عمار عن ابى بصير ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» فقال : هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ، ويشغل فيها نفسه. فليأكل منه بالمعروف ، وليس ذلك له في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة (٢).

وما رواه فيه ايضا عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال : ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم ، فلا يحترث لنفسه ، فليأكل بالمعروف من مالهم (٣).

وما رواه فيه ايضا عن رفاعة ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قوله «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال : كان ابى يقول : انها منسوخة (٤).

وقال في مجمع البيان في تفسيره : قوله «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» ، معناه ، ومن كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية ، على جهة القرض ، ثم يرد عليه ما أخذ إذا وجد. عن سعيد بن جبير ومجاهد وابى العالية والزهري وعبيدة السلماني ، وهو مروي عن الباقر عليه‌السلام. وقيل : معناه يأخذ ما يسد به جوعته و

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ حديث : ٣٠ وفرق آخر قوله «بلى من كان». ولم تكن «بلى» في حديث الكافي : كما لم يذكرها المصنف ، ولكنا أثبتناها وفق المصدر الأصل.

(٢) المصدر حديث : ٣١.

(٣) العياشي ج ١ ص ٢٣٢ حديث : ٣٢. وفي نسخة الوسائل ج ١٢ ص ١٨٧ حديث : ١٠ «فلا يحترف».

(٤) العياشي ج ١ ص ٢٢٢ حديث : ٣٣.

٣٣٨

يستر عورته ، لا على جهة القرض. عن عطاء بن ابى رباح وقتادة وجماعة ، ولم يوجبوا اجرة المثل ، لأنها ربما كانت أكثر من قدر الحاجة. والظاهر من روايات أصحابنا : ان له اجرة المثل ، سواء كان قدر كفايته أو لم يكن. انتهى (١).

أقول : وبالله سبحانه التوفيق ، المستفاد من هذه الاخبار المذكورة ـ بعد ضم بعضها الى بعض ، عدا الرواية الأخيرة من روايات العياشي ـ : أنه يشترط في صحة أكل الولي من مال اليتيم شروط :

(أحدها) : فقره ، فمتى كان غنيا فليس له ان يأكل منه شيئا.

وعلى ذلك دل ظاهر الكتاب بحمل الأمر بالاستعفاف ـ في الآية ـ على الوجوب. فاما الحمل على الاستحباب ـ كما تقدم نقله عن المسالك ، وظاهره الميل اليه ـ فلا اعرف له وجها ، الا مجرد الاجتهاد في مقابلة النصوص ، لأن الأصل تحريم أكل مال الغير ، خرج منه في هذا الموضع بالآية والروايات المرخصة للولي إذا كان فقيرا ، مع اتفاقهم على ان أوامر القرآن للوجوب ، الا ما خرج بدليل ، والحال انه لا معارض هنا ، بل المؤيد المؤكد موجود من الاخبار ، والآية الدالة على اشتراط الفقر.

و (ثانيها) : اشتغاله بإصلاح أموالهم بحيث يمنعه ذلك عن الاشتغال لأمر نفسه فلو لم يكن قائما بها أو كان كذلك ، ولكن لا يشغله عن تحصيل المعاش لنفسه وعياله ، فإنه لا يجوز له ان يأكل منه شيئا.

وبهذا الشرط صرحت الروايات المتقدمة عن تفسير العياشي ، وبه وبالذي قبله صرحت موثقة سماعة المنقولة من الكافي في صدر الاخبار.

و (ثالثها) : سعة مال اليتيم ، فلو كان قليلا لم يجز له الأكل منه ، والآية الشريفة وان كانت بالنسبة الى هذا الشرط مطلقة ، الا ان الاخبار قد صرحت به كرواية أبي الصباح ، ورواية أبي سلمة المنقولة من تفسير العياشي.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٩ ـ ١٠.

٣٣٩

والظاهر ان الوجه فيه هو انه متى كان قليلا فإنه لا يشغله عن تحصيل المعيشة لنفسه ولا موجب لحبس نفسه على إصلاح أموالهم.

و (رابعها) : كون الأكل مقدار الكفاية من غير إسراف ، لقوله عزوجل «بِالْمَعْرُوفِ» والمعروف : مالا إسراف فيه ولا تقتير ، وهو الحد الوسط.

والى هذا الشرط يشير قوله ـ في صحيحة عبد الله ابن سنان ـ : «المعروف هو القوت» وقوله ـ في موثقة سماعة ـ : «فليأكل بقدر ولا يسرف».

ومن هنا يعلم صحة القول الثاني من الأقوال المتقدمة باعتبار هذا الشرط ، وان كان بالنظر الى إطلاقه غير صحيح ، لما عرفت من اشتراط الأكل بالشروط التي ذكرناها ، وكذا غيره من الأقوال المتقدمة ان أخذت على إطلاقها ، كما هو ظاهر قولهم بها ونقل الناقلين لها.

وحينئذ يكون ما اخترناه هنا (١) قولا سادسا.

اما القول باعتبار اجرة المثل ـ كما هو أول الأقوال المتقدمة ـ فأنكره بعض مشايخنا المعاصرين (٢) بعد اختياره القول الثاني ، لعدم وجود الدليل عليه ، وادعى انه ليس في الاخبار تقييد اجرة المثل ، وانما هو تخريج محض واستنباط صرف ، وهو في مقابلة النص غير معتبر. قال : وهذا كاف في رد هذا القول. انتهى.

أقول : يمكن ان يستدل على هذا القول بقوله عليه‌السلام في صحيحة هشام بن الحكم «ينظر الى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك» فإنه ـ كما ترى ـ ظاهر في الرجوع الى أجرة المثل ، وحينئذ فيكون هذا الخبر مستند القول المذكور.

__________________

(١) وهو القول الثاني مقيدا بالشروط الأربعة المذكورة.

(٢) هو شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني قدس‌سره في أجوبة مسائل سئل عنها. منه قدس‌سره.

٣٤٠