الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

المسألة الثالثة

لا اشكال ولا خلاف في حل جوائز السلطان وجميع الظلمة ، على كراهية ما لم يخبره بأن ذلك من ماله ، فإنه لا كراهة. وما لم يعلم بكونه حراما فيجب رده على مالكه ، أو الصدقة به عنه.

ويدل على الثالث : ما تقدم في مسألة تحريم معونة الظالمين ، من رواية على ابن أبي حمزة (١).

وعلى الأول والثاني : أصالة الحل ، المدلول عليها بالأخبار المتكاثرة ، وقد تقدم شطر منها في مقدمات الكتاب.

وعلى الكراهة في الأول : وقوع الشبهة فيها ، باحتمال كونها من الحرام أو دخول الحرام في تلك الجوائز ، لعدم تورع الدافع لها ، مع عدم اخباره بالحل.

ولهذا صرح الأصحاب باستحباب إخراج الخمس منها ، من حيث احتمال الاختلاط ، وخروج الخمس محلل للمال المختلط حلاله بحرامه.

قال في المنتهى : ولو لم يعلم حراما جاز تناولها وان كان المجيز لها ظالما ،

__________________

(١) تقدمت في صفحة : ١٢٥ من هذا الجزء.

٢٦١

وينبغي له ان يخرج الخمس من جوائز الظالم ، ليطهر بذلك ماله ، لان الخمس يطهر المختلط بالحرام فيطهر ، ما لم يعلم فيه الحرام. وينبغي ان يصل إخوانه من الباقي بشي‌ء وينتفع هو بالباقي.

أقول : ومن الاخبار الواردة في المقام ما تقدم قريبا من خبر يحيى بن ابى العلاء (١).

وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح ، عن ابي ولاد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الرجل يلي أعمال السلطان ليس له كسب الا من أعمالهم ، وانا أمر به وانزل عليه فيضيفني ويحسن الى ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة ، وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : كل وخذ منه ، لك المهنا وعليه الوزر (٢).

وما رواه في الفقيه عن ابى المعزا ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وانا عنده ، فقال : أصلحك الله أمر بالعامل أو اتى العامل ، فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال : نعم ، وحج بها. (٣). ورواه الشيخ في الصحيح مثله بدون قوله «أو اتى العامل».

وما رواه الشيخ عن محمد بن هشام أو غيره ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال : نعم. قلت : وأحج منها؟ قال : نعم حج منها (٤).

وعن محمد بن مسلم وزرارة قالا : سمعناه يقول : جوائز العمال ليس بها

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٧ حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٦ حديث : ١ باب : ٥١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٦ حديث : ٢.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٧ حديث : ٣.

٢٦٢

بأس (١).

وعن عمار في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال : لا ، الا ان لا يقدر على شي‌ء يأكل ولا يشرب ، ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده شي‌ء فليبعث بخمسه الى أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ (٢).

وما رواه في الكافي عن عمر أخي عذافر ، قال : دفع الى انسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبي عبد الله عليه‌السلام فكانت في جوالقي ، فلما انتهيت إلى الحفيرة شق جوالقي وذهب بجميع ما فيه ، ورافقت عامل المدينة بها ، فقال : أنت الذي شق جوالقك وذهب بمتاعك؟ قلت : نعم. قال : إذا قدمنا المدينة فأتنا نعوضك. قال : فلما انتهينا إلى المدينة ، دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام فقال : يا عمر شقت زاملتك وذهب بمتاعك؟ فقلت : نعم. فقال : ما أعطاك الله تعالى خير مما أخذ منك ـ الى ان قال ـ فائت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك ، فإنما هو شي‌ء دعاك الله اليه لم تطلبه منه (٣).

الى غير ذلك من الاخبار الدالة على صلة خلفاء بنى العباس للأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وقبولهم ذلك منهم.

فوائد

الأولى : ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من كراهة هذه الجوائز لما تقدم ذكره ، ربما نافاه الأخبار الدالة على قبولهم ـ عليهم‌السلام ـ لجوائز

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٧ حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٤٦ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٨ حديث : ٨.

٢٦٣

خلفاء الجور ، وقد تقدم خبر قبول الحسن والحسين عليهما‌السلام لجوائز معاوية ، ومثله ما رواه في كتاب الاحتجاج في حديث : انه كان يبعث الى الحسين عليه‌السلام في كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب (١).

ويمكن الجواب عن ذلك ، بوجوه :

(أحدها) : ان الأرض وما فيها لهم ـ عليهم‌السلام ـ كما دلت عليه جملة من الاخبار التي قدمناها في كتاب الخمس (٢) فكيف بما في أيدي هؤلاء الفجرة من ذلك.

و (ثانيها) : انه من المحتمل ـ قريبا ـ ان قبولهم لها لا يستلزم أكلهم منها ، فيجوز ان يتصدقوا بها ، لأنها من مال المسلمين فيصرفونها عليهم.

ويدل على ذلك : ما رواه في العيون عن صاحب الفضل بن الربيع ، عن ابى الحسن موسى عليه‌السلام ، في حديث : ان الرشيد بعث اليه بخلع وحملان ومال. فقال : لا حاجة لي بالخلع والحملان والمال ، إذا كان فيه حقوق الأمة. فقلت : ناشدتك بالله ان لا ترده فيغتاظ. قال : اعمل به ما أحببت (٣).

وفي خبر آخر ، ان الرشيد أمر ان يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير. فقال عليه‌السلام : والله لو لا انى ارى من أزوجه بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها (٤).

وروى في الكافي عن محمد بن قيس بن رمانة قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام فذكرت له بعض حالي ، فقال : يا جارية هاتي ذلك الكيس ، هذه أربعمائة دينار

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٩ حديث : ١٤.

(٢) الجزء ١٢ ص ٤٣٤ من هذه الطبعة.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٨ حديث : ١٠.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٩ حديث : ١١.

٢٦٤

وصلني بها أبو جعفر ، فخذها وتفرج بها (١) الحديث.

و (ثالثها) : جواز فعلهم للمكروه أحيانا ، كما دلت عليه جملة من الاخبار لبيان جوازه ، وانهم لو امتنعوا من قبول ذلك امتنع الناس التابعون لهم بامتناعهم منه اقتداء بهم ، ولزم به إدخال الضرر عليهم في بعض الموارد ، لا سيما في مقام الضرورة ، مع حل ذلك شرعا.

و (رابعها) : ان لهم حقا في بيت المال ، فيكون ذلك من حقوقهم الواجبة لهم ، ويحمل الامتناع منهم في بعض الأوقات على التنزه والله العالم.

الثانية : ما ذكره الأصحاب هنا من استحباب إخراج الخمس من هذه الجوائز لم أقف فيه على خبر ، الا ما قدمناه من خبر عمار (٢).

ومورده انما هو الدخول في أعمالهم وحصول شي‌ء له من ذلك. والفرق بينه وبين الجوائز ظاهر ، لما تقدم من اختلاف الاخبار في جواز الدخول في أعمالهم ، وقد تقدمت في تلك المسألة ، بخلاف مسألة الجوائز ، فإن الأخبار متفقة على حلها ، ومعارضة بالقاعدة المتفق عليها ـ نصا وفتوى ـ كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (٣).

ومورد اخبار الخمس ـ الكثيرة بالنسبة الى هذا الفرد ـ انما هو المال المعلوم دخول الحرام فيه ، مع عدم معلوميته بعينه ، وعدم معلومية صاحبه. وقد تقدمت في كتاب الخمس (٤).

وظاهر عبارة العلامة المتقدمة : انه انما استند في إخراج الخمس في هذا المقام

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٥٨ حديث : ٩.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٦ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٧ ص ٩١ حديث : ١ و ٢.

(٤) في الجزء الثاني عشر ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

٢٦٥

الى هذه الاخبار باعتبار دلالتها على ذلك بطريق الأولوية. حيث انها دلت على تطهير المال المعلوم فيه وجود الحرام بإخراج الخمس ، فتطهير ما ظن كونه حراما أو دخل فيه الحرام بطريق اولى.

وفيه منع ظاهر ، بل هو قياس محض مع الفارق ، للاتفاق هنا على الحل نصا وفتوى ، مع الاعتضاد ـ كما عرفت ـ بالقاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، بخلاف ما لو علم فيه الحرام ، إذ لا خلاف في تحريمه بمقتضى النصوص الواردة في المحصور من ذلك ، لكن لما وردت هذه الاخبار بتحليله بإخراج الخمس منه وجب استثناؤه من النصوص المذكورة.

الثالثة : قد صرحت موثقة عمار المتقدمة (١) بأنه يبعث بخمس المال الذي يصير في يده من عملة الظالمين إليهم ـ عليهم‌السلام ـ والظاهر من ذلك : ان مصرفه مصرف الخمس المأخوذ من الغنائم ونحوها ، مما تقدم في كتاب الخمس ، مع ان هذا الموضع مما لم يتعرض أحد من الأصحاب لعده في كتاب الخمس في عداد تلك الأشياء وقد وقع في الخمس المأخوذ من الحلال المختلط بالحرام بحث في مصرفه قدمنا ذكره في الكتاب المشار اليه.

والظاهر : ان عدم تعرض الأصحاب لهذا الفرد ، اما من حيث عدم وجوبه ، فان ظاهرهم انما هو الاستحباب ، أو ندور الرواية المذكورة.

وكيف كان فإخراج الخمس مخصوص بمورد الخبر ، وهو العمل لهم ، دون ما نحن فيه من الجوائز. والله العالم.

الرابعة : قد عد بعض مشايخنا المحققين من محدثي متأخري المتأخرين جوائز الظالم ، في الشبهات الواردة في اخبار التثليث «حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك» (٢). بناء على ان ما احتمل الحرمة وان كان بحسب ظاهر الشرع حلالا ،

__________________

(١) في صفحة : ٢٦٣.

(٢) راجع : الكافي ج ١ ص ٦٨.

٢٦٦

الا انه من جملة أفراد الشبهة المعدودة في هذه الاخبار.

وعد من ذلك ـ بناء على هذا الأصل الذي ذكره ايضا ـ ما اختلف فيه الاخبار ، مع ترجيح أحد طرفيها في نظر الفقيه ، كمسألة نجاسة البئر مثلا ، مع القول بالطهارة.

وفيه ـ أولا ـ : ان الحل والحرمة ـ كما حققناه في محل أليق وقد تقدم أيضا في المجلد الثاني من كتاب الطهارة ـ ليس عبارة عما كان كذلك في نفس الأمر والواقع ، وانما ذلك بالنظر الى علم المكلف ، وكذلك الطهارة والنجاسة ، فالحلال هو ما لم يعلم المكلف حرمته ، وان كان حراما في الواقع ، لا ما علم عدم حرمته. والطاهر : ما لم يعلم نجاسته ، لا ما علم عدم نجاسته.

ولا يقال : هذا حلال بحسب الظاهر وحرام في الواقع ، إذ لا واقع هنا لذلك ، فإن الأحكام الشرعية لم يجعلها الشارع منوطة بالواقع ونفس الأمر الذي لا يعلمه الا هو ، وانما جعلها منوطة بعلم المكلف.

وتحقيق البحث في المقام واسع ، وقد تقدم في الموضع المشار اليه.

وثانيا : ان المفهوم من الاخبار في هذا القسم الثالث ـ اعنى قسم الشبهة ـ هو الكف والتثبت والرد إلى الأئمة ـ عليهم‌السلام (١) كما ان الحكم في الحلال البين والحرام البين ، هو الإباحة في الأول ، والمنع مع المؤاخذة بالمخالفة في الثاني.

ومن الاخبار المشار إليها : قول ابى جعفر عليه‌السلام في حديث طويل : وما اشتبه عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا (٢).

وقول الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأمور ثلاثة ، أمر تبين لك رشده

__________________

(١) راجع : الكافي ج ١ ص ٥٠ حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ١٢٣ حديث : ٤٣.

٢٦٧

فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده الى الله عزوجل (١).

وقول الصادق عليه‌السلام : أورع الناس من وقف عند الشبهة (٢).

وقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام : أوصيك يا بنى ـ الى ان قال ـ : والصمت عند الشبهة (٣).

وقوله عليه‌السلام : الوقوف عند الشبهة ، خير من الاقتحام في الهلكة (٤). الى غير ذلك من الاخبار.

وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لتصريح الاخبار به ، واتفاق الأصحاب على الحل من غير توقف.

وبالجملة ، فإن دخول ما ذكره في افراد الشبهة المعدودة في هذه الاخبار ظاهر الفساد لمن تأمل في ما ذكرناه بعين الفكر والسداد.

نعم يمكن ان يقال : ان معنى الشبهة لا ينحصر في هذا الفرد المذكور في هذه الاخبار ، بل من جملته ما يستحب التنزه عنه فيما إذا حصل الشك أو الظن باحتمال النقيض لما قام الدليل على حليته أو طهارته على الإطلاق كما فيما نحن فيه ، فان الدليل دل على ان كل شي‌ء حلال حتى تعلم حرمته ، وجوائز الظالم من هذا القبيل كما صرحت به اخبارها ، لكن يحتمل قريبا بسبب العلم بأخذه الحرام كون هذا الفرد منه ، وان لم يعلم المكلف. فالأفضل له التورع عنه. والله العالم.

الخامسة : روى في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، انه كتب الى صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٦٨. واللفظ في الوسائل ج ١٨ ص ١١٨ حديث : ٢٣.

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ١١٨ حديث : ٢٤.

(٣) الوسائل ج ١٨ ص ١٢٣ حديث : ٤٢.

(٤) الكافي ج ١ ص ٦٨ واللفظ في الوسائل ج ١٨ ص ١١٢ حديث : ٢.

٢٦٨

مستحلا لما في يده ، لا يتورع عن أخذ ماله ربما نزلت في قريته وهو فيها ، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فيدعوني إليه ، فان لم آكل من طعامه عاداني عليه ، فهل يجوز لي ان آكل من طعامه ، وأتصدق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وان اهدى هذا الوكيل هدية الى رجل آخر فيدعوني الى ان أنال منها ، وانا اعلم ان الوكيل لا يتورع عن أخذ ما في يده فهل على فيه شي‌ء إذا أنا نلت منها؟ الجواب : ان كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده ، فكل طعامه واقبل بره ، والا فلا (١). ورواه الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الغيبة أيضا.

وأنت خبير بان ظاهر هذا الخبر : عدم جواز قبول جوائز الظالم الا مع العلم بان له معاشا أو مالا حلالا ، وظواهر الأخبار المتقدمة أعم من ذلك ، فالواجب تقييد تلك الاخبار به.

الا ان ذلك خلاف ما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب في هذا الباب ، فإنهم يكتفون في الحكم بالحلية بمجرد مجهولية الحال وان لم يعلم ان له مالا حلالا أو معاشا حلالا ، وهو ظاهر الاخبار المتقدمة. وانما يستثنون معلومية كونه حراما.

اللهم الا ان يقال : ان ظاهر هذا الخبر يعطي : ان السائل عالم بان هذا الوكيل ليس له مال الا مال الوقف الذي في يده ، وانه يستحل اكله ، وعلى هذا فيكون جميع ما يصرفه ويهديه انما هو من هذا المال الذي في يده ، فأجابه عليه‌السلام ان كان كذلك فلا يجوز الأكل من عنده ، وان كان له معاش أو مال غير ذلك ، بحيث يحتمل كون ما يعطيه من ذلك المال الحلال جاز الأكل ، وحينئذ فلا يدخل في هذا مجهول الحال الذي دل كلام الأصحاب وظواهر الأخبار المتقدمة على حل جوائزه.

السادسة : قد صرح الأصحاب ، وعليه دلت الأخبار ، بأنه لا بأس بمعاملة

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٦٠ حديث : ١٥.

٢٦٩

الظلمة والبيع عليهم والشراء منهم ، وان كان مكروها.

ومن الاخبار في ذلك ما تقدم في المسألة السابقة ، من موثقة إسحاق بن عمار الدال على انه يشترى من العامل ما لم يعلم انه يظلم فيه أحدا (١).

وما رواه في التهذيب عن محمد بن أبي حمزة عن رجل ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترى طعاما فيجيئني من يتظلم يقول : ظلموني ، فقال : اشتره (٢).

أقول : إنما أمره عليه‌السلام بالاشتراء ، لانه لم يعلم ان ظلمة كان في ذلك الطعام بعينه ، بل أخبره بأنهم يظلمون الناس. وقد عرفت ان ذلك غير مانع من جواز الشراء منهم ، ما لم يعلم الظلم في ذلك المبيع المعين المعلوم.

وعن على بن عطية ، قال أخبرني زرارة ، قال : اشترى ضريس بن عبد الملك واخوه من هبيرة أرزا بثلاثمائة الف ، قال : فقلت له : ويلك ـ أو ويحك ـ انظر الى خمس هذا المال فابعث به اليه واحتبس الباقي ، فأبى على ، قال : فأدى المال ، وقدم هؤلاء (٣) فذهب أمر بنى أمية. قال : فقلت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال ـ مبادرا للجواب ـ : هو له هو له. فقلت : انه قد أداها ، فعض على إصبعه (٤).

وظاهر سياق الخبر المذكور : ان هبيرة كان من بنى أمية أو أعمالهم ، وان الشراء وقع في مقدمات ذهاب دولتهم على يد العباسية. وزرارة لما علم ذلك أمر ابن أخيه ان يبقى الثمن ولا يدفعه إلى البائع ، وان يبعث بخمسه الى الامام عليه‌السلام ليحل له المال ، لانه مال الناصب المأمور بإخراج الخمس منه ، فامتنع ابن أخيه من ذلك ، فلما أخبر زرارة الإمام عليه‌السلام قبل ان يتم له الحكاية ، حلل له الخمس الذي

__________________

(١) أصل الحديث في الوسائل ج ١٢ ص ١٦٣ حديث : ٢ باب ٥٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٦١ حديث : ٣.

(٣) اى بنوا العباس. والمقصود : ظهور أمرهم واستيلائهم على سرير الخلافة.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٦١ حديث : ٢.

٢٧٠

امره بإرساله ، ثم لما أخبره زرارة انه دفع الثمن عض على يديه ندما على ما فعل ضريس من دفع الثمن ، ففي الخبر المذكور دلالة على حل مال الناصب كما ورد به غيره ، وعلى إخراج خمسه ، وعلى تحليل الامام عليه‌السلام بالخمس ، كما تقدم في كتاب الخمس ، وعلى جواز معاملة الظلمة كما هو المقصود بالبحث ، الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام.

واما الكراهة فالوجه فيها : ما تقدم بيانه في الجوائز. والله العالم.

٢٧١

المسألة الرابعة

قد اختلفت الاخبار وكلمة الأصحاب ، وان كان الأول أشد اختلافا ، فيما يأخذ كل من الولد والوالد من مال الأخر.

فقال الشيخ في الاستبصار ـ بعد إيراد صحيحة محمد بن مسلم ، وصحيحة أبي حمزة الثمالي ، وحسنة محمد بن مسلم الآتي (١) جميع ذلك إنشاء الله تعالى ـ ما لفظه : هذه الاخبار كلها دالة على انه يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده ، إذا كان محتاجا ، فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز له أن يتعرض له ، ومتى كان محتاجا وقام الولد به وبما يحتاج اليه فليس له ان يأخذ من ماله شيئا ، وان ورد في الاخبار ما يقتضي جواز تناوله من مال ولده مطلقا ، من غير تقييد. فينبغي ان يحمل على هذا التقييد. انتهى.

وقال في النهاية : لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا على كل حال ، إلا بإذنه قل ذلك أم كثر ، لا مختارا ولا مضطرا ، فان اضطر ضرورة شديدة حتى يخاف تلف النفس ، أخذ من ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم. والوالد فما دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته ، من الكسوة

__________________

(١) بعد الانتهاء من نقل كلمات الأصحاب ـ رضوان الله عليهم.

٢٧٢

والطعام بالمعروف ، فليس للوالد أن يأخذ من ماله شيئا. وان لم يكن الولد ينفق عليه وكان الوالد مستغنيا عن ماله ، فلا يجوز له ايضا ان يأخذ من ماله شيئا على حال. فان احتاج الى ذلك أخذ من ماله قدر ما يحتاج اليه من غير إسراف. بل على طريق القصد. وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده ، جاز له ان يأخذ منه ما يحج به حجة الإسلام ، فأما حجة التطوع فلا يجوز له ان يأخذ نفقتها من ماله إلا باذنه ، وإذا كان للولد جارية ولم يكن وطأها ولا مسها بشهوة ، جاز للوالد أن يأخذها ويطأها ، بعد ان يقومها على نفسه بقيمة عادلة ، ويضمن قيمتها في ذمته. ومن كان له ولد صغار فلا يجوز له ان يأخذ شيئا من أموالهم إلا قرضا على نفسه ، والوالدة لا يجوز لها ان تأخذ من مال ولدها شيئا الا على سبيل القرض على نفسها. انتهى.

وقال ابن إدريس في السرائر : لا يجوز للولد ان يأخذ من مال والده شيئا ، قليلا كان أو كثيرا إلا بإذنه ، لا مختارا ولا مضطرا. وان اضطر ضرورة يخاف معها على تلف نفسه أخذ من ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم.

«هذا إذا كان الوالد ينفق عليه ويقوم بواجب حقه ، لأن نفقة الولد عندنا تجب على الوالد إذا كان الولد معسرا ، سواء كان بالغا أم غير بالغ ، ويجبر الوالد على ذلك. فاما إذا كان الولد موسرا فلا تجب نفقته على والده ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، بلا خلاف بيننا.

«فإذا تقرر ذلك فإن أنفق عليه والا رفعه الى الحاكم ، وأجبره الحاكم على الإنفاق. فان لم يكن حاكم يجبره على ذلك ، فللولد عند هذه الحال الأخذ من مال والده ، مقدار ما ينفقه على الاقتصاد ، ويحرم عليه ما زاد على ذلك.

«والوالد فما دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته ، من الكسوة والطعام بالمعروف ، فليس لوالده ان يأخذ من ماله بعد ذلك شيئا ، لا لقضاء ديونه ، ولا ليتزوج به ، ولا ليحج به ، ولا لغير ذلك. فان لم يكن الوالد معسرا وكان مستغنيا

٢٧٣

من مال ولده ، فلا يجوز ان يأخذ من ماله شيئا على كل حال ، لا بالمعروف ولا غيره. لان نفقة الوالد لا تجب على الولد عندنا الا مع الإعسار ، فاما مع الاستغناء فلا تجب النفقة على ولده».

ثم نقل عن الشيخ في النهاية : جواز أخذ الوالد لحج الإسلام. ثم قال : الا انه رجع عنه في الاستبصار. فإنه ـ رحمه‌الله ـ قال. ثم نقل عبارته المتقدمة في صدر المسألة ، ثم نقل عنه في الاستبصار في حيزه : أما موثقة سعيد بن يسار الاتية إنشاء الله ، الدالة على الحج من مال ابنه الصغير ، وانه ينفق من مال ولده. وانه أجاب عن الإنفاق بالحمل على ما إذا امتنع الولد من القيام به ، وعن الحج بأنه محمول على انه يأخذ على وجه القرض على نفسه ، إذا كان وجبت عليه حجة الإسلام.

ثم نقل عنه في الاستبصار أيضا ، بحمل الأخبار الدالة على انه يطأ جارية ابنه ، على ما إذا كان الابن صغيرا وقومها على نفسه ، أو يكون هو القيم بأمورهم والناظر في أموالهم.

ثم اعترضه في تجويزه أخذ نفقة الحج قرضا. قال : فان هذا لا يجوز ، لانه لا تجب عليه الاستدانة ليحج بها ، الا انه لو حج به كانت الحجة مجزية عما وجبت ، واستقر في ذمته. انتهى.

أقول : وأنت خبير بأن ما ادعاه ابن إدريس هنا ، من ان الشيخ رجع عما ذكره في النهاية ، من جواز أخذ الوالد للحج في الاستبصار ، واستدل بالعبارة المتقدمة ، لا يخلو من خدش ، فان من تأمل كلام الاستبصار في هذا المقام ، من أوله الى آخره ، يعلم ان العبارة المتقدمة ، وان أوهمت ما ذكره ، الا ان آخر كلامه وحكمه بجواز القرض إذا كانت ذمة الأب مشغولة بالحج ، مخصص للكلام المتقدم.

ولا فرق بين كلامه في النهاية وكلامه في الاستبصار ، إلا إطلاقه في النهاية «جواز الأخذ للحج وان لم يستطع قبل ذلك» وتقييده في الاستبصار بما إذا كانت الذمة مشغولة

٢٧٤

بالحج ، وأخذه على سبيل القرض. ولهذا نازعه في جواز القرض للحج ايضا. وبهذا يظهر انه لم يرجع عن أصل المسألة ، كما هو ظاهر كلامه ، وانما رجع عن ذلك الإطلاق الى هذا التقييد.

ثم ان ما ذكره في النهاية أيضا ، بالنسبة إلى وطي الأب جارية ابنه ، مطلق بالنسبة إلى الولد صغيرا كان أو كبيرا ، وظاهر الاستبصار التخصيص بالصغير.

قال ابن إدريس : وهذا هو الصحيح الذي عليه الإجماع ، فاما إذا كان الولد كبيرا بالغا فلا يجوز للوالد وطي جاريته إلا باذنه على كل حال.

ثم انه في السرائر اعترض على الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ أيضا في قوله في آخر كلامه بجواز أخذ الأم قرضا من مال ولدها مع الاستغناء ، فقال بعد نقل كلام الشيخ رحمه‌الله المتقدم : وهذا غير واضح ، لانه لا دلالة على ذلك. وقوله عليه‌السلام : «لا يحل مال مرء الا عن طيب نفس منه» (١). وايضا التصرف في مال الغير بغير اذنه قبيح عقلا وسمعا ، فمن جوزه فقد اثبت حكما يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي. انتهى.

وما ذكره ابن إدريس هنا محل نظر ، لما سيأتي إنشاء الله تعالى عند نقل الاخبار ، من جواز أخذها قرضا ، مع تحقيق المسألة.

أقول : والواجب هنا أو لا نقل الأخبار الواردة في المقام ، ثم الكلام فيها بتوفيق الملك العلام ، بما ينحل به عنها شبهة الإبهام ، وينجلي عنها غياهب الظلام.

(الأول) : ما رواه في الكافي والفقيه ، في الصحيح ، عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن رجل لابنه مال ، فيحتاج الأب إليه ، قال : يأكل منه. فأما الأم فلا تأكل منه الا قرضا على نفسها (٢).

(الثاني) : ما رواه في الكافي عن على بن جعفر عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته

__________________

(١) راجع الوسائل ج ٣ ص ٤٢٤ باب : ٣ من أبواب مكان المصلي.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٦ حديث : ٥.

٢٧٥

عن الرجل يأكل من مال ولده؟ قال : لا ، الا ان يضطر إليه فيأكل منه بالمعروف ، ولا يصلح للولد ان يأخذ من مال والده شيئا ، إلا بإذن والده (١).

ورواه الحميري في قرب الاسناد ، عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر ، الا انه قال : لا ، إلا بإذنه أو يضطر فيأكل بالمعروف أو يستقرض منه حتى يعطيه إذا أيسر (٢).

(الثالث) : ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل : أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما أحب ان يأخذ من مال ابنه الا ما احتاج اليه مما لا بد منه ، ان الله عزوجل لا يحب الفساد (٣).

(الرابع) : ما رواه في الكافي عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون لولده مال ، فأحب أن يأخذ منه ، قال : فليأخذ. وان كانت امه حية فما أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا على نفسها (٤).

(الخامس) : ما رواه في الكافي والتهذيب ، عن محمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يحتاج الى مال ابنه ، قال : يأكل منه ما شاء من غير سرف. وقال : في كتاب على عليه‌السلام : ان الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا باذنه ، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء ، وله ان يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها. وذكر ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل : أنت ومالك لأبيك (٥).

ورواه الصدوق عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن ابى جعفر عليه‌السلام في كتاب

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٦ حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٦ حديث : ٦.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٥ حديث : ٢.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٦ حديث : ٧.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٤ ـ ١٩٥ حديث : ١.

٢٧٦

على عليه‌السلام : ان لم يكن الابن وقع عليها. ثم قال : وفي خبر آخر : لا يجوز ان يقع على جارية ابنه إلا بإذنه (١).

(السادس) : ما رواه في الكافي والفقيه ، عن الحسين بن ابى العلاء ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال : قوته بغير سرف إذا اضطر اليه. قال : فقلت له : فقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للرجل الذي أتاه فقدم أباه ، فقال له : أنت ومالك لأبيك؟ فقال : انما جاء بأبيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله هذا ابى ، وقد ظلمني ميراثي من أمي ، فأخبره الأب انه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شي‌ء أو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبس الأب للابن؟!. ورواه الصدوق في كتاب معاني الاخبار في الحسن (٢).

(السابع) : ما رواه الشيخ في الموثق عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيحج الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال : نعم. قلت : يحج حجة الإسلام وينفق منه؟ قال : نعم ، بالمعروف. ثم قال : نعم ، يحج منه وينفق منه ، ان مال الولد للوالد ، وليس للولد ان يأخذ من مال والده إلا بإذنه (٣).

(الثامن) : ما رواه عن الحسين بن علوان ، عن زيد بن على ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قال : انى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ان ابى عمد الى مملوك لي ، فأعتقه كهيأة المضرة لي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت ومالك من هبة الله لأبيك ، أنت سهم من كنانته ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ...) جازت عتاقة أبيك ، يتناول والدك من مالك وبدنك ، وليس لك ان تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٤ ص ٥٤٤ حديث : ٦ و ٧.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٧ حديث : ٨.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٥ ـ ١٩٦ حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج ١٦ ص ٧٨ حديث : ١ باب : ٦٧ من أبواب العتق.

٢٧٧

(التاسع) : ما رواه أيضا في الصحيح عن ابن سنان (١) ـ والظاهر انه عبد الله ـ قال : سألته ـ يعني أبا عبد الله عليه‌السلام ـ ما ذا يحل للوالد من مال ولده؟ قال : أما إذا أنفق عليه ولده بأحسن النفقة ، فليس له ان يأخذ من ماله شيئا. وان كان لوالده جارية للولد فيها نصيب ، فليس له ان يطأها الا ان يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه. قال : ويعلن ذلك. قال : وسألته عن الوالد ، أيرزأ من مال ولده شيئا؟ قال : نعم ، ولا يرزأ الولد من مال والده شيئا إلا بإذنه ، فإن كان لرجل ولد صغار ، لهم جارية ، فأحب أن يفتضها فليقومها على نفسه قيمة ، ثم ليصنع بها ما شاء ، ان شاء وطأ وان شاء باع (٢).

(العاشر) : ما رواه ايضا عن إسحاق بن عمار في الموثق ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الوالد ، يحل له من مال ولده إذا احتاج اليه؟ قال : نعم ، وان كان له جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه ويعلن ذلك ، قال : وإذا كان للرجل جارية فأبوه أملك بها ان يقع عليها ما لم يمسها الابن (٣).

(الحادي عشر) : ما رواه الصدوق في العيون والعلل ، بسنده عن محمد بن سنان ، ان الرضا عليه‌السلام كتب اليه فيما كتب من جواب مسائله : وعلة تحليل مال الولد لوالده بغير اذنه ، وليس ذلك للولد ، لان الولد موهوب للوالد في قوله عزوجل «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» مع انه المأخوذ بمؤنته صغيرا وكبيرا. والمنسوب اليه والمدعو له ، لقوله عزوجل «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ». ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك». وليس للوالدة مثل ذلك ، لا تأخذ من ماله شيئا إلا بإذنه أو بإذن الأب ، ولان الوالد مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ الام بنفقة ولدها (٤).

__________________

(١) بقرينة رواية ابن المغيرة عنه ، وروايته عن الصادق ـ ع ـ.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٥ حديث : ٣. والارزاء : الاصاب من شي‌ء. يقال : أرزا الرجل ماله ـ بنصب المفعولين ـ اى أصاب من ماله شيئا بمعنى الأخذ مهما كان.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٨ ـ ١٩٩ حديث : ٢.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٧ حديث : ٩.

٢٧٨

(الثاني عشر) : ما رواه على بن جعفر في كتابه ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون لولده الجارية ، أيطأها؟ قال : ان أحب. وان كان لولده مال ، وأحب ان يأخذ منه فليأخذ. وان كانت الأم حية فلا أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا (١).

(الثالث عشر) : ما في الفقه الرضوي ، حيث قال عليه‌السلام : اعلم انه جائز للوالد أن يأخذ من مال ولده بغير اذنه ، وليس للولد ان يأخذ من مال والده إلا بإذنه (٢).

* * *

أقول : ظاهر كلام الأصحاب ـ في غير مسألتي الحج ووطئ الجارية ـ : الاتفاق على انه لا يجوز للوالد الأخذ من مال ولده شيئا متى أنفق عليه وقام بما يحتاج اليه الا بإذنه.

قال في المنتهى : ولا يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده البالغ مع الغناء عنه ، ولا مع إنفاق الولد عليه. بالاتفاق ، لأن الأصل عصمة مال الغير. انتهى.

ويدل على ذلك ، من هذه الاخبار المذكورة : الخبر الثاني. لا سيما برواية الحميري.

والمراد بما يضطر اليه فيه : هو القوت الواجب على الولد ، كما فسره الخبر السادس.

ويدل على ذلك ـ ايضا ـ : الخبر الثالث والسادس والتاسع.

وما دلت عليه هذه الاخبار ، المعتضدة باتفاق كلمة الأصحاب ، هو الموافق للقواعد الشرعية ، من الآيات القرآنية ، والسنة النبوية ، الدالة على تحريم التصرف في مال الغير إلا بإذن صاحبه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٩٨ حديث : ١٠.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٥٤ باب : ٦٢ من أبواب ما يكتسب به حديث : ٣.

٢٧٩

ولهذا ان الأصحاب أجمعوا على طرح ظاهر هذه الاخبار المخالفة لذلك ، وتأولوها بالحمل على كون أخذ الوالد للنفقة.

الا أن الاخبار المذكورة تنبو عن ذلك ، إذ لا فرق حينئذ بين الولد والوالد ، مع ان الروايات المذكورة دلت على الفرق ، وانه انما يباح الأخذ للوالد خاصة دون الولد.

وكذلك الفرق في الاخبار المذكورة بين الام والأب حيث منعت الام من الأخذ مع انها واجبة النفقة أيضا كالأب.

وبالجملة فإن الحمل المذكور ، وان أمكن إجراؤه في بعض ، الا انه لا يتم في الجميع ، كما عرفت.

وأجاب بعض الأصحاب ، بان ما تضمن جواز أخذ الأب من مال الولد ، محمول اما على قدر النفقة الواجبة عليه مع الحاجة ، أو على الأخذ على وجه القرض ، أو على الاستحباب بالنسبة إلى الولد. وما تضمن منع الولد ، محمول على عدم الحاجة ، أو على الأخذ لغير النفقة الواجبة ، وكذا ما تضمن منع الام ، لجواز وجود الزوج لها فتجب نفقتها عليه لا على الولد.

وأنت خبير بما في ذلك كله من البعد ، الا انه لا مندوحة عن المصير اليه لعدم إمكان الوقوف على ظواهر هذه الاخبار.

والأظهر عندي هو : حمل هذه الاخبار ـ وان تعددت ـ على التقية ، لاتفاق الأصحاب على ترك العمل بها ، مضافا الى خروجها عن مقتضى القواعد الشرعية. وبعد التأويلات التي ذكروها ، مع إمكان إرجاع بعضها الى ما يوافق القول المشهور.

ويشير الى ما ذكرناه من الحمل المذكور : الخبر الثالث ، حيث انه عليه‌السلام بعد ان نقل الخبر النبوي الدال على الحكم المذكور ، أضرب عنه تنبيها واشارة الى عدم صحته. والا فكيف ينقله وهو صحيح عنده ، ثم يخالفه ويسمي ذلك فسادا ،

٢٨٠