الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

كتابته اجرا؟ قال : لا بأس. الحديث (١).

وعن عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : ان أم عبد الله بنت الحسن أرادت أن تكتب مصحفا فاشترت ورقا من عندها ، ودعت رجلا فكتب لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا. وانه لم تبع المصاحف الا حديثا (٢).

وفي هذا الخبر : إشارة إلى كراهة اشتراط الأجرة على كتابة القرآن ، كما سيأتي إنشاء الله تعالى في مسألة تعليم القرآن ، وأخذ الأجرة على التعليم.

الثالث : يكره محو شي‌ء من كتابة القرآن بالبزاق ، لما رواه في الفقيه في حديث المناهي ، المذكور في آخر الكتاب ، عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ونهى ان يمحى شي‌ء من كتاب الله العزيز بالبزاق أو يكتب به (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١١٦ حديث : ٩.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١١٦ حديث : ١٠.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١١٧ حديث : ٣.

٢٢١

البحث الثاني

فيما يكره التكسب به ، وهي أمور :

الأول : الصرف. لان صاحبه لا يكاد يسلم من الربا.

ويدل عليه من الاخبار : ما في الكافي والتهذيب ، عن إسحاق بن عمار قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام ، فأخبرته أنه ولد لي غلام. فقال : ألا سميته محمدا! قال. قلت : قد فعلت. قال : فلا تضرب محمدا ولا تشتمه ، جعله الله قرة عين لك في حياتك ، وخلف صدق بعدك. قلت : جعلت فداك في أي الأعمال أضعه؟ قال : إذا عدلت عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت ، لا تسلمه صيرفيا ، فإن الصيرفي لا يسلم من الربا ولا تسلمه بياع الأكفان فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان. ولا تسلمه نخاسا فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر الناس من باع الناس. ولا تسلمه بياع الطعام ، فإنه لا يسلم من الاحتكار. ولا تسلمه جزارا ، فان الجزار تسلب منه الرحمة (١).

وروى في الكافي والفقيه عن سدير الصيرفي ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : حديث بلغني عن الحسن البصري ، فإن كان حقا فانا لله وانا إليه راجعون! قال :

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٩٧ حديث : ١ مع تقديم وتأخير لبعض فقراته الأخيرة.

٢٢٢

وما هو؟ قلت : بلغني ان الحسن كان يقول : لو غلى دماغه من حر الشمس ما استظل بحائط صيرفي. ولو تفرثت كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ماء!

وهو عملي وتجارتي ، وفيه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجى وعمرتي! فجلس عليه‌السلام ثم قال : كذب الحسن ، خذ سواء وأعط سواء. فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك ، وانهض الى الصلاة ، اما علمت ان أصحاب الكهف كانوا صيارفة (١)؟.

ومن هذين الخبرين يعلم ما ذكرناه من جواز التصريف على كراهية.

واما قوله ـ في آخر الخبر الثاني ـ : اما علمت ان أصحاب الكهف كانوا صيارفة ، ففيه بحث قد استوفينا الكلام فيه في كتابنا الدرر النجفية.

ويمكن ان يقال : ان الجواز على كراهة ، مخصوص بمن لم يكن يتمكن من التحرز من الوقوع في تلك الأشياء ، للنهي عنها ، وعليه يحمل الخبر الأول. واما من تمكن من ذلك فلا يكره في حقه ، وعليه يحمل الخبر الثاني.

ويؤيده ان إسحاق المذكور في الخبر الأول من أعاظم الصيارفة ، وهو بالمحل الأدنى (٢) عندهم ، وهو إسحاق بن عمار بن حيان التغلبي ، المذكور في كتاب النجاشي ، من بيت كبير من الشيعة.

ويؤيد ما قلناه ـ ايضا ـ انه قد تقدم في الخبر الأول النهي عن كونه نخاسا ، مع انه قد روى في الموثق عن ابن فضال ، قال : سمعت رجلا يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام فقال : إني أعالج الرقيق فأبيعه ، والناس يقولون : لا ينبغي. فقال له الرضا عليه‌السلام : وما بأسه؟ كل شي‌ء مما يباع إذا اتقى الله فيه العبد فلا بأس به (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٩٩ ـ ١٠٠ حديث : ١ باب : ٢٢.

(٢) من الدنو وهو القرب. اى كان من التقرب الى الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ في المنزلة القربى.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٩٦ حديث : ٥.

٢٢٣

وعلى هذا الوجه حمل الشيخ الرواية الأولى ، كذا رواية إبراهيم بن عبد الحميد الاتية فقال في التهذيب : هذان الخبران محمولان على من لا يتمكن من أداء الامانة ، ولا يحترز في شي‌ء من هذه الصنائع ، فاما من تحفظ فليس عليه في شي‌ء منها بأس ، وان كان الأفضل غيرها. ثم ذكر رواية ابن فضال المذكورة.

الثاني : بيع الأكفان ، وبيع الطعام ، وبيع الرقيق ، والذبح ، والصياغة ، والحياكة ، والحجامة.

وعلى ذلك تدل جملة من الاخبار : منها : خبر إسحاق بن عمار المتقدم. ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله عليهما‌السلام : انى أعطيت خالتي غلاما ونهيتها ان تجعله قصابا أو حجاما أو صائغا (١).

وعن إسماعيل الصيقل الرازي ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام ومعى ثوبان ، فقال لي : يا أبا إسماعيل ، تجيئني من قبلكم أثواب كثيرة وليس يجيئني مثل هذين الثوبين الذين تحملهما أنت : فقلت : جعلت فداك تغزلهما أم إسماعيل وأنسجهما أنا. فقال لي : حائك؟ قلت : نعم فقال : لا تكن حائكا : قلت : فما أكون؟ قال : كن صيقلا. وكانت معي مائتا درهم ، فاشتريت بها سيوفا ومرايا عتقا. وقدمت بها الى الري فبعتها بربح كثير (٢).

وروى في الكافي عن احمد بن محمد عن بعض أصحابه ، رفعه الى ابى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : ذكر الحائك عند ابى عبد الله عليه‌السلام انه ملعون. فقال : انما ذلك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وما رواه المشايخ الثلاثة عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن ابى الحسن موسى

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٩٧ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٠٠ حديث : ١ باب ٢٣.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٠١ حديث : ٢.

٢٢٤

ابن جعفر عليه‌السلام ، قال : جاء رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، قد علمت ابني هذا الكتاب ، ففي أي شي‌ء أسلمه؟ فقال : أسلمه ـ لله أبوك ـ ولا تسلمه في خمس : لا تسلمه سباء ، ولا صائغا ، ولا قصابا ، ولا حناطا ، ولا نخاسا. قال : فقال : يا رسول الله ما السباء؟ قال : الذي يبيع الأكفان ، ويتمنى موت أمتي. والمولود من أمتي أحب الى مما طلعت عليه الشمس. واما الصائغ فإنه يعالج غبن أمتي. واما القصاب فإنه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه ، واما الحناط فإنه يحتكر الطعام على أمتي. ولان يلقى الله العبد سارقا أحب الى من ان يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوما. واما النخاس فإنه أتاني جبرئيل ، فقال : يا محمد ان شرار أمتك الذين يبيعون الناس (١).

أقول : قال بعض مشايخنا : اتفقت نسخ أخبارنا في قوله سباء ـ بالباء الموحدة ـ وقال في الوافي : والسباء في النسخ التي رأيناها من الكتب الثلاثة ، بالباء الموحدة المشددة.

أقول : وهذا الخبر قد روته العامة ـ بالياء المثناة من تحت ـ كما ذكره ابن الأثير في النهاية ، وجعله من السوء والمسائة (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٩٨ حديث : ٤.

(٢) أقول : قال في النهاية : لا تسلم ابنك سياء. جاء تفسيره في الحديث : انه الذي يبيع الأكفان ويتمنى موت الناس ولعله من السوء والمسائة أو من السيئ ـ بالفتح ـ وهو اللبن الذي يكون في مقدم الضرع. يقال : سيأت الناقة إذا اجتمع السي‌ء في ضرعها ، وسيأتها : حلبت ذلك منها. فيجوز ان يكون فعالا من سيأتها إذا حلبتها. كذا قال أبو موسى ، انتهى. منه قدس‌سره.

* * *

قلت : ولعل الصحيح هي رواية الباء الموحدة ، مأخوذة من قولهم : «تفرقوا أيادى سبأ» اى يتمنى بائع الأكفان ابادة الناس بالموت الذريع ، كما جاء في رواية

٢٢٥

وقوله : يعالج غبن أمتي ، قيل : معناه : انه يفسد عليهم الدينار والدرهم ، فيكون منشأ الكراهة فيه ذلك.

وفي التهذيب : زين أمتي ـ بالزاي ـ والمراد : انه يلهيهم بذلك عن الآخرة فيكون ذلك وجه الكراهة في هذه الصناعة.

ونقل بعض مشايخنا في حواشيه على التهذيب : انه بالمهملة بخط الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وانه كتب في الحاشية «والرين : الذنب». وفي اللغة : الرين : الطبع والختم ، كما قال تعالى «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» اى غلب على قلوبهم حب الدنيا بحيث لا يستطيعون الخروج منها.

ثم قال شيخنا المشار اليه : وأكثر النسخ بالزاي ، كما في العلل ، وهو انسب. انتهى.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابى بصير عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن كسب الحجام؟ فقال : لا بأس به إذا لم يشارط (١).

وما رواه في الكافي عن حنان بن سدير ، قال : دخلنا على ابى عبد الله عليه‌السلام ، ومعنا فرقد الحجام ، فقال له : جعلت فداك انى اعمل عملا وقد سألت عنه غير واحد ولا اثنين. فزعموا انه عمل مكروه ، وانا أحب ان أسألك عنه فان كان مكروها انتهيت عنه وعملت غيره من الأعمال ، فإني منته في ذلك الى قولك. قال : وما هو؟ قال : حجام. قال : كل من كسبك يا ابن أخي ، وتصدق به ، وحج ، وتزوج ،

__________________

إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام «فان صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان». الوسائل ج ١٢ ص ٩٧ حديث : ١ ، فالسباء ، بالباء الموحدة المشددة ، هو الذي يتوقع ابادة الناس بكثرة الموت وتفشيه بين الأنام ، لان حرفته الخاصة تدعوه ـ لا شعوريا ـ الى هذا الأمل الذميم ومن ثم كانت مكروهة شرعا ، والله العالم. م ـ ه ـ معرفة.

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧١ حديث : ١.

٢٢٦

فإن نبي الله تعالى قد احتجم واعطى الأجر ، ولو كان حراما ما أعطاه. قال : جعلني الله فداك ان لي تيسا (١) أكريه ، ما تقول في كسبه؟ قال : كل كسبه ، فإنه لك حلال ، والناس يكرهونه ، قال حنان : لأي شي‌ء يكرهونه وهو حلال؟ قال : لتعيير الناس بعضهم بعضا (٢).

وما رواه في الكافي والفقيه عن جابر عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : احتجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجمه مولى لبني بياضة وأعطاه. ولو كان حراما ما أعطاه ، فلما فرغ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اين الدم؟ قال : شربته يا رسول الله : فقال : ما كان ينبغي لك ان تفعل وقد جعله الله عزوجل لك حجابا من النار فلا تعد (٣).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة ـ في الموثق ـ قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن كسب الحجام ، فقال : مكروه له ان يشارط ، ولا بأس عليك ان تشارطه وتماكسه ، وانما يكره له ولا بأس عليك (٤).

وما رواه المشايخ الثلاثة ـ في الصحيح من بعض طرقه ـ عن معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن كسب الحجام ، فقال : لا بأس به (٥).

وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، ان رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسب الحجام ، فقال : لك ناضح (٦)؟ قال : نعم. قال : اعلفه إياه ولا تأكله (٧).

__________________

(١) التيس : الذكر من المعز. وجمعه : تيوس. وكان يكريه للضراب.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٧٢ حديث : ٥ وص ٧٧ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٧٢ حديث : ٧.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٧٣ حديث : ٩.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٧٢ حديث : ٦.

(٦) الناضح : البعير الذي يستقى عليه الماء من البئر.

(٧) الوسائل ج ١٢ ص ٧١ حديث : ٢.

٢٢٧

وما رواه في التهذيب عن رفاعة ، قال ، سألته عن كسب الحجام ، فقال : ان رجلا من الأنصار كان له غلام حجام ، فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : هل لك ناضح قال : نعم ، قال : فاعلفه ناضحك (١).

وما رواه في الكافي عن سماعة ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : السحت أنواع كثيرة ، منها : كسب الحجام إذا شارط (٢).

وما رواه في التهذيب عن سماعة ، قال ، السحت أنواع كثيرة ، منها كسب الحجام (٣).

تنبيهات

(أحدها): ينبغي ان يعلم : ان كراهة هذه الأشياء التي قدمنا ذكرها ، مخصوصة بما إذا كانت صناعة للعامل بها ، كما هو المستفاد من ظاهر هذه الاخبار ، وقد صرح به الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أيضا. فإما المرة والمرتان والثلاث ونحوها ، فالظاهر : انه ليس كذلك.

(ثانيها): قد اختلفت الاخبار ـ كما ترى ـ في الحجامة. والمفهوم من كلام الأصحاب : الكراهة مع الاشتراط ، وعدمها مع عدمه.

قال في المنتهى : كسب الحجام إذا لم يشترط حلال طلق ، واما إذا اشترط فإنه يكون مكروها ، وليس بمحظور ، عملا بأصل الإباحة انتهى وهو جيد وعليه يمكن جمع الأخبار المتقدمة بعد تقييد مطلقها بمقيدها ، فان منها ما هو مطلق في الحل ونفى البأس.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧١ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٦٢ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٦٢ حديث : ٢.

٢٢٨

ومنها : ما قيد فيه النهى بالشرط ، وعلق نفى البأس على عدم الشرط.

واما ما دل على ان يعلفه ناضحة ولا يأكله ، فهو مع معارضته بما هو أكثر عددا وأصرح دلالة على جواز الأكل منه ، يجب حمله على تغليظ الكراهة مع الشرط وهو ظاهر في الحل ، لانه لو كان حراما لم يجز أخذه لعلف دابته أو غيره.

واما أمره بالتنزه عن أكله ، فيحمل على وقوع الشرط فيه الذي دلت تلك الاخبار على المنع منه على جهة الكراهة.

وبالجملة فإنه لا إشكال في عدم التحريم ، وانما الكلام في الكراهة وعدمها ، وقضية الجمع بين الاخبار ثبوت الكراهة مع الشرط ، واما ما تضمنه موثق زرارة من كراهة اشتراط الحجام وجواز المماسكة والاشتراط ، فلعل المراد به : انه يجوز لك المماسكة والاشتراط بأجرة مخصوصة. وينبغي له الرضا بذلك ولا يماكس ولا يشترط.

(ثالثها): ان ما تضمنه خبر فرقد الحجام من كسب التيس ، بمعنى انه يواجره للضراب ، مما يدل على جواز ذلك من غير كراهة ، والأصحاب قد عدوا ذلك في جملة المكروهات من هذا الباب ، مع انه عليه‌السلام نسب الكراهة إلى الناس ، بعد حكمه بالحل.

وفي المسالك نسب المنع منه الى العامة.

ومثل هذه الرواية ، ما رواه في الكافي والتهذيب في تتمة صحيحة معاوية ابن عمار المتقدمة ـ بعد ذكر ما تقدم منها ـ قال : فقلت : أجر التيوس ، قال : ان كانت العرب لتعاير به ، ولا بأس به (١). وهي ـ ايضا ـ ظاهرة في الجواز بلا كراهة ، الا انه روى في الفقيه مرسلا ، قال ، نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن عسيب الفحل ، وهي

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧٧ حديث : ٢.

٢٢٩

اجرة الضراب (١). والظاهر ان هذا التفسير من كلام الصدوق ، الذي يدخله غالبا في الاخبار.

لكن بعض متأخري مشايخنا المحققين ، وهو المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أسند هذا الخبر الى الجمهور ، قال : ويدل عليها ـ ايضا ـ خبر مروي من طريق الجمهور : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن عسيب الفحل ، وحينئذ فيضعف الاعتماد عليه في تخصيص الخبرين المتقدمين.

والمحقق المتقدم ذكره ، قال ـ بعد ذكر الخبرين المشار إليهما ـ : كأنه يفهم منهما كراهة أجر الضراب ، فان التيس قيل فحل العنز. انتهى.

أقول : لعل هذا التشبيه بالنظر الى قوله عليه‌السلام ، ان الناس أو العرب لتعاير به. ولا يخفى ما فيه من الغموض وعدم الظهور ، بل ظهوره في العدم أقرب.

وبالجملة فإني لا أعرف للكراهة وجها وجيها.

نعم لو ثبت الحديث النبوي المذكور من طرقنا لتم ما ذكروه والله العالم.

الثالث : المشهور بين الأصحاب كراهية أخذ الأجرة على تعليم القرآن. قال في المنتهى : ويكره الأجر على تعليم القرآن وليس بمحظور ، عملا بالأصل الدال على الإباحة ، وبأنها طاعة فيكره أخذ الأجرة عليها.

وظاهره : انه لا فرق بين الاشتراط وعدمه.

وقال الشيخ في النهاية : يكره أخذ الأجرة على تعليم شي‌ء من القرآن ونسخ المصاحف وليس بمحظور ، وانما يكره إذا كان هناك شرط فان لم يكن هناك شرط فلا بأس. وكذا قال ابن البراج.

وقال المفيد : لا بأس بالأجرة على تعليم القرآن والحكم كلها ، والتنزه أفضل.

وقال أبو الصلاح : يحرم اجرة تعليم المعارف والشرائع وكيفية العبادة ـ الى ان قال ـ وتلقين القرآن.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧٧ حديث : ٣.

٢٣٠

وقال في الاستبصار : يحرم مع الشرط ويكره بدونه.

وقال ابن إدريس : يكره مع الشرط ولا بأس بدونه.

وقال في المختلف ـ : الأقرب إباحته على كراهية ، لنا الأصل الإباحة ، ولان فيه منفعة تعليم القرآن وتعميم إشاعة معجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولانه يجوز جعله مهرا فجاز أخذ الأجرة عليه ، ولو حرمت الأجرة لحرم جعله مهرا. انتهى.

أقول : والاخبار الواردة في هذه المسألة ظاهرة التنافي.

فمنها : ما رواه المشايخ الثلاثة عن الفضل بن أبي قرة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان هؤلاء يقولون : ان كسب المعلم سحت. فقال : كذبوا ـ أعداء الله ـ انما أرادوا ان لا يعلموا أولادهم القرآن ، ولو ان المعلم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلم مباحا (١).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن حسان المعلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التعليم ، قال : لا تأخذ على التعليم اجرا. قلت : الشعر والرسائل وما أشبه ذلك ، أشارط عليه ، قال : نعم ، بعد ان يكون الصبيان عندك سواء في التعليم ، لا تفضل بعضهم على بعض (٢).

وما رواه في التهذيب عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن على ، عن أبيه عن آبائه عن على عليه‌السلام ـ ورواه في الفقيه مرسلا عن على عليه‌السلام ـ انه أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين والله انى لأحبك لله : فقال له : والله انى لأبغضك لله. قال : ولم؟ قال : لأنك تبغي على الأذان كسبا ، وتأخذ على تعليم القرآن اجرا (٣).

وزاد في التهذيب : وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من أخذ على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم القيامة (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١١٢ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١١٢ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١١٤ حديث : ١.

(٤) نفس المصدر.

٢٣١

وفي الفقيه : وقال على عليه‌السلام : من أخذ على تعليم القرآن. الحديث.

وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح ، قال : قلت له : ان لي جارا يكتب ، وقد سألني أن أسألك عن عمله ، قال : مره إذا دفع اليه الغلام ان يقول لأهله : إني إنما أعلمه الكتاب والحساب واتجر عليه بتعليم القرآن حتى يطيب له كسبه (١).

وعن جراح المدائني عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : المعلم لا يعلم بالأجر ، ويقبل الهدية إذا اهدى اليه (٢).

وعن قتيبة الأعشى ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انى أقرئ القرآن فيهدى إلي الهدية فأقبلها؟ قال : لا قلت : انى لم أشارطه ، قال : أرأيت لو لم تقرئ كان يهدى إليك؟ قال : قلت : لا. قال : فلا تقبله (٣).

وعن جراح المدائني قال : نهى أبو عبد الله عليه‌السلام عن أجر القاري الذي لا يقرء إلا بأجرة مشروطة. ورواه في الفقيه مرسلا عنه عليه‌السلام قال نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أجر القاري. الحديث (٤).

وفي الفقه الرضوي : واعلم ان اجرة المعلم حرام إذا شارط في تعليم القرآن. أو معلم لا يعلم الا قرآنا فقط ، فحرام أجرته إن شارط أم لم يشترط. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى «أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ» قال : اجرة المعلمين الذين يشارطون في تعليم القرآن. وروى ان عبد الله بن مسعود جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، أعطاني فلان الأعرابي ناقة بولدها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم يا بن مسعود؟ فقال : انى كنت علمته اربع سور من كتاب الله. فقال : رد عليه يا ابن مسعود ، فإن الأجرة على القرآن

__________________

(١) نفس المصدر ص ١١٢ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١١٣ حديث : ٥.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١١٢ حديث : ٤.

(٤) الوسائل ج ١١٢ ص ١١٣ حديث : ٦ و ٧.

٢٣٢

حرام. انتهى ما ذكره في الرضوي (١).

والشيخ جمع بين الاخبار بحمل الرواية الأولى على عدم الاشتراط ، والروايات المطلقة في المنع على الاشتراط.

قال : لا تنافي بين هذا الحديث وبين الخبر الدال على إباحة أخذ الأجرة ، لأن الدال على التحريم محمول على انه لا يجوز له ان يشارط في تعليم القرآن اجرا معلوما ، والخبر الأخر محمول على انه إذا أهدي إليه فإنه يكون مباحا ، لما رواه جراح المدائني ـ ثم ذكر الرواية المتقدمة ـ ثم نقل ما عارضها من رواية قتيبة الأعشى ، وحملها على الكراهة.

وهذا الكلام منه مؤذن بالتحريم مع الشرط ، والكراهة مع عدمه.

قال في المنتهى ـ بعد نقل مجمل كلام الشيخ ـ : وهذا التأويل من الشيخ يعطي انه يرى التحريم مع الشرط. ونحن نتوقف في ذلك.

وأنت خبير بان توقفه هنا مؤذن بالعدول عما صرح به في صدر المسألة ، مما قدمنا نقله عنه.

والمفهوم من كلام الأصحاب : هو العمل بالخبر الأول الدال على الجواز ، وحمل الأخبار الأخر على الكراهة ، اشترط أو لم يشترط.

ولا يبعد عندي حمل جملة الأخبار الناهية عن الأجرة ، والمبالغة في تحريمها ، وانها سحت ، على التقية. كما هو ظاهر الخبر الأول ، بل صريحه.

ويؤيده ما ذكره الأصحاب هنا من أصالة الحل ، وإشاعة معجزته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فان القرآن هو أظهر معاجزه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولزوم اندراسه ، فإنك لا تجد أحدا ينصب نفسه ويترك معاشه ، وتحصيل الرزق له ولعياله ، ويجلس لتعليم القرآن لأولاد الناس بغير اجرة تعود اليه.

والى ما ذكرنا يشير قوله ـ عليه‌السلام ـ في الخبر الأول «انما أرادوا ان لا يعلموا

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٣٥ باب : ٢٦.

٢٣٣

أولادهم القرآن».

ومما يعضد ما ذكرنا كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه ، واستدلاله على ما ذكره ، وتأييده بما نقله عن ابن عباس وابن مسعود ، مما يدل على التحريم ، فإنه عليه‌السلام في الكتاب المذكور كثيرا ما يجرى على ذلك ، حيث ان أكثر من يحضره كان من المخالفين ، كما نبه عليه بعض مشايخنا المتأخرين. وهذان المذكوران من المعتمدين عند العامة ، والا فهو عليه‌السلام لا يرجع الى غير آبائه ـ عليهم‌السلام.

وبالجملة فإن ظواهر الأدلة المانعة هو التحريم ، والحمل على الكراهة ، وان كان احدى القواعد التي جرى عليها الأصحاب في الجمع بين الاخبار.

الا انك عرفت في غير مقام مما قدمناه في مجلدات كتاب الطهارة والصلاة ، انه لا دليل عليه.

فاللازم اما القول بالتحريم ، كما هو ظاهر هذه الاخبار ، ورد الخبر الأول وطرحه مع تأيده بفتوى الأصحاب قديما وحديثا ، وهذا مما لا يلزمه محصل.

واما العمل بذلك الخبر المؤيد بفتوى الأصحاب ، وطرح هذه الاخبار ، أو حملها على ما ذكرناه من التقية. وهو الظاهر الذي عليه العمل.

ولا بأس بالقول بالكراهة كما ذكروه (رضوان الله عليهم).

واليه يشير قوله عليه‌السلام ـ في رواية عمرو بن خالد ـ «وسمعت رسول الله. إلخ» فإنه لو كان الأجر محرما لم يقتصر على كونه حظه يوم القيامة ، الذي هو عبارة عن عدم إيصال الثواب اليه ، بل يكون مستحقا للعقاب لارتكابه فعلا محرما.

فوائد

الأولى : ما تضمنه خبر قتيبة الأعشى (١) ، من النهى عن الأجرة للقرآن ، ولو مع عدم الشرط ، المؤذن بالتحريم ، لم أقف على قائل به من الأصحاب. والموجود

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١١٢ حديث : ٤.

٢٣٤

في كلامهم هو الكراهة مع الشرط ، كما صرح به الشيخ وغيره.

وقال في الدروس : فلو استأجره لقراءة ما يهدى الى ميت أو حي لم يحرم ، وان كان تركها أفضل. ولو صرفه اليه بغير شرط فلا كراهة. انتهى. وهو ظاهر خبر جراح المدائني الأخير.

والظاهر : انهم بنوا في الصحة على العمومات الدالة على جواز الإجارة ، لا سيما في العبادات ، مثل الصوم والصلاة ونحوهما ، كما مر تحقيقه في كتاب الصلاة في باب القضاء. وهو قوى.

وحينئذ فالواجب حمل خبر الأعشى على تأكد الكراهة مع الشرط ، والكراهة في الجملة مع عدمه ، ولا ينافي ذلك خبر جراح المدائني المذكور ، ولان غايته الجواز مع عدم الشرط ، ولا ينافيه كون ذلك على كراهية ، مما دل عليه خبر قتيبة المذكور.

وبه يظهر ان ما ذكروه من نفى الكراهة بالكلية مع عدم الشرط ليس في محله.

والظاهر انهم بنوا ما ذكروه على خبر جراح المدائني المذكور وغفلوا عما دل عليه خبر قتيبة من النهى ، ولو مع عدم الشرط.

الثانية : ما تضمنه خبر حسان المعلم ، من جواز أخذ الأجرة على تعليم الشعر والرسائل ونحوها من الآداب والحكم ، كالعلوم الأدبية من النحو والصرف والمنطق وعلم المعاني والبيان ونحوها ، فالظاهر : انه لا اشكال ولا خلاف في جواز أخذ الأجرة عليه ، مع الشرط وعدمه ، عملا بالعمومات. ويخرج هذا الخبر شاهدا.

واما العلوم الفقهية ففيها تفصيل بين الواجب منها وغيره ، فتحرم الأجرة في الواجب من حيث الوجوب كما تقدم ، للأخبار الدالة على وجوب التعليم (١) ، ومنها : ما أخذ الله العهد على الجهال بان يتعلموا حتى أخذ على العلماء بان يعلموا.

الثالثة : ما تضمنه الخبر المذكور من انه ينبغي مع الشرط ان يكون الصبيان عند المعلم سواء في التعليم ، لا يفضل بعضهم على بعض ، فينبغي تقييده بما إذا استوجر على تعليمهم على الإطلاق ، اما لو تفاوتت الأجرة بالزيادة في التعليم و

__________________

(١) راجع : الكافي ج ١ ص ٤١.

٢٣٥

عدمها ، فالظاهر : انه لا إشكال في جواز الزيادة لبعضهم على بعض ، باعتبار ما زاده من الأجرة.

وكذا لو وقعت الإجارة على تعليم مخصوص لهذا ، وتعليم مخصوص للآخر ، وهكذا. فإنه لا بأس بزيادة بعضهم على بعض ، عملا بما وقع عليه التراضي في الإجارة.

هذا ، وقد تقدم جملة من المكروهات ، ويأتي منها أنشأ الله تعالى في مواضعها.

* * *

وما عدا ما ذكر من المحرمات والمكروهات المتقدمة والمشار إليها ، يكون من المباحات. وحيث كانت غير منحصرة في العد طوينا البحث (١) عنها ، اكتفاء بما ذكرناه مما عداها ، فإن الشي‌ء يعرف بمعرفة ما عداه وضبط ما نافاه. والله العالم.

__________________

(١) وهو البحث الثالث من البحوث التي وعد التكلم فيها في صدر المقال في ص ٧١. فقد تكلم عن المكاسب المحرمة. وعن المكاسب المكروهة. وطوى الكلام عن المكاسب المباحة ، لعدم الحاجة إليه ، بعد معرفة البحثين ، فما عداهما هو من المباح ، وهذا المقدار كاف من التكلم في شأنه. لأن الشي‌ء يعرف بضده.

٢٣٦

المقدمة الرابعة

في تحقيق مسائل تدخل في حيز هذا المقام ، وتنتظم في سلك هذا النظام :

الأولى : لو دفع إنسان إلى غيره مالا ليصرفه في قبيل ، وكان المدفوع اليه منهم ، فان علم عدم دخوله فيهم ، ولو بقرينة مقامية ، كأن يعين له حصة على حدة من ذلك ، فلا إشكال في عدم جواز أخذه منه.

وان علم دخوله فيهم ، ولو بقرينة حالية ، بأن يصرح له بان الغرض وصوله الى هذا الصنف ـ مثلا ـ أيا كان ، وكان هو منهم ، فإنه يجوز له الأخذ.

ولا خلاف بين أصحابنا في الحالتين المذكورتين ، وانما الخلاف مع عدم العلم بأحد الأمرين المذكورين.

وقد اختلف كلامهم ، بل كلام الواحد منهم في ذلك. والمشهور هو الجواز. ذهب اليه الشيخ في النهاية ، الا انه قيده بقدر ما يعطى غيره ، وهكذا شرط من جوز له الأخذ.

وفي المبسوط : منع من ذلك. وتبعه العلامة في المختلف. وفي المنتهى : اختار الجواز بقدر ما يعطى غيره.

وبالجواز قال ابن إدريس في كتاب المكاسب ، ومنع في كتاب

٢٣٧

الزكاة.

والمحقق في كتاب المكاسب من الشرائع جوز ذلك ، ومنع في كتاب النافع.

ولكل من القائلين علل اعتبارية زيادة على ما استند اليه من الاخبار.

فمن قال بالجواز كالعلامة ، علل ذلك بأصالة الجواز ، وكون الوكيل متصفا بما عين له من أوصاف المدفوع إليهم ، لأنه المفروض.

قال في المنتهى : لأنه بإطلاق الأمر ، وعدم التعيين قد وكل اليه وفوض اليه التعيين ، ولا فرق بينه وبين غيره في الاستحقاق ، إذ التقدير ذلك ، فيجوز له التناول.

ومن قال بالمنع ، علل بان المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إياه في أمر غيره ، فان الله تعالى إذا أمر نبيه أن يأمر أمته ان يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر.

وأنت خبير بما قدمناه في غير مقام ، من عدم صلوح أمثال هذه التعليلات لتأسيس الأحكام الشرعية ، المبنية على الأدلة الواضحة الجلية ، بل القطعية.

* * *

واما الروايات الواردة في المسألة ، فمنها : ما رواه في الكافي في الصحيح عن سعد بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعطى الزكاة يقسمها في أصحابه أيأخذ شيئا منها؟ قال : نعم (١).

وعن الحسين بن عثمان في الصحيح أو الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، في رجل اعطى مالا يفرقه فيمن يحل له ، أله أن يأخذ منه شيئا لنفسه ، وان لم يسم له؟ قال : يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطى غيره (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ١٩٩ حديث : ١ باب : ٤٠.

(٢) الوسائل ج ٦ ص ٢٠٠ حديث : ٢.

٢٣٨

وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، عن الرجل يعطى الرجل الدراهم يقسمها ويضعها في مواضعها ، وهو ممن تحل له الصدقة ، قال : لا بأس ان يأخذ لنفسه كما يعطى غيره. قال : ولا يجوز له ان يأخذ إذا أمره أن يضعها في مواضع مسماة إلا باذنه (١).

وانما وصفنا هذه الرواية بالصحة وان كان في طريقها محمد بن عيسى عن يونس ، وقد نقل عن القميين الطعن فيما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس ، تبعا لجملة من مشايخنا المحققين المتأخرين ، لعدم ثبوت ما ذكره القميون. وقد وصفها العلامة في المنتهى أيضا بالصحة ، وهو ظاهر في عدم العمل بما نقل عنهم من الطعن المذكور.

وأنت خبير بما في هذه الروايات ـ مع صحتها ـ من وضوح الدلالة على القول المشهور ، وهو المؤيد المنصور.

ويؤيده أيضا ما رواه في التهذيب في الصحيح ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، في رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في المساكين ، وله عيال محتاجون أيعطيهم منه من غير ان يستأمر صاحبه؟ قال : نعم (٢).

واما ما يدل على القول الثاني ، فهو ما رواه الشيخ بالإسناد الأخير عن عبد الرحمن المذكور ، قال : سألته عن رجل أعطاه رجل مالا يقسمه في محاويج أو مساكين ، وهو محتاج ، أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه؟ قال : لا يأخذ منه شيئا ، حتى يأذن له صاحبه (٣).

وربما طعن بعضهم في هذه الرواية بالإضمار. والظاهر ضعفه ، لما تقدم تحقيقه في غير مقام ، من ان مثل هؤلاء الأجلاء لا يعتمدون في أحكام دينهم على

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ٢٠٠ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٦ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٠٦ حديث : ٣.

٢٣٩

غير الامام ، ولما ذكره غير واحد من الأصحاب ، في سبب الإضمار الواقع في الاخبار. على ان العلامة في التحرير أسندها إلى الصادق عليه‌السلام ، كما نقله في المسالك ، قال : وهو شهادة الاتصال. ولعله رحمه‌الله اطلع على المسئول من محل آخر غير المشهور في كتب المحدثين. انتهى.

وأنت خبير بأن الرواية المذكورة وان كانت ظاهرة فيما ذكروه ، الا انها معارضة بما هو أكثر عددا ، من الروايات المتقدمة. ولهذا حملها الشيخ على الكراهة ، ونفى عنه البأس في المسالك.

واحتمل بعض مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ ايضا الحمل على ما إذا علم ان مورده غيره ، أو الأخذ زيادة على غيره. ولا بأس بالجميع في مقام الجمع ، وان بعد كل واحد منها في حد ذاته عن ظاهر الخبر.

ولا يحضرني الان مذهب العامة في المسألة ، فلعل هذه الرواية إنما خرجت مخرج التقية.

وظاهر شيخنا الشهيد في الدروس التوقف في المسألة ، حيث اقتصر على نقل أدلة القولين ، فقال : وفي جواز أخذه لنفسه رواية صحيحة ، وعليها الأكثر ، وربما جعله الشيخ مكروها ، لرواية أحرى صحيحة بالمنع انتهى.

والظاهر ان مراده بالرواية الأولى الجنس ، والا فهي كما عرفت ثلاث روايات.

فروع :

الأول : ظاهر الشرط المذكور في روايتي حسين وعبد الرحمن ـ وهو عدم الزيادة على غيره ـ وجوب التسوية في القسمة على غيره من أصحاب ذلك القبيل ، وانه لا يجوز له تفضيل بعضهم على بعض ، لانه من جملتهم.

٢٤٠