الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

قال في المنتهى : ويحرم عمل الأصنام وغيرها من هياكل العبادة المبتدعة وآلات اللهو ، كالعود والزمر وآلات القمار كالنرد والشطرنج والأربعة عشر ، وغيرها من آلات اللعب ، بلا خلاف بين علمائنا في ذلك. انتهى.

أقول : وقد تقدمت جملة من الاخبار المتعلقة بآلات اللهو ، في المسألة الثانية من المقام المتقدم (١) ، دالة على الأحكام المذكورة.

وبالجملة فلا ريب في تحريم البيع بقصد تلك الأغراض المحرمة ، بل مطلقا ايضا ، حيث انه لا غرض يترتب على هذه الأشياء إلا ذلك.

اما لو أمكن الانتفاع بها في غير ذلك ، فيحتمل الجواز ، الا انه فرض نادر ، فيمكن التحريم مطلقا ، بناء على ان الغرض المتكرر المترتب على تلك الآلات انما هو ما ذكرنا ، فلا يلتفت الى الافراد النادرة الوقوع.

نعم لو كان الغرض من البيع كسرها مثلا وبيعت لأجل ذلك ، فالظاهر انه لا ريب في الجواز إذا كان المشترى ممن يوثق به في ذلك.

قال في المسالك : ولو كان لمكسورها قيمة ، وباعها صحيحة للكسر ، وكان المشترى ممن يوثق بديانته ، ففي جواز بيعها وجهان. وقوى في التذكرة جوازه مع زوال الصفة ، وهو حسن. والأكثر أطلقوا المنع. انتهى.

أقول : الظاهر ان إطلاق الأكثر المنع انما هو من حيث ندور هذا الفرض ، والا فمع وقوعه على الوجه المذكور فإنه لا مانع من صحة البيع شرعا كما لا يخفى.

قال في المسالك : وهل الحكم في أواني الذهب والفضة كذلك؟ يحتمل ، بناء على تحريم عملها والانتفاع بها في الأكل والشرب. وعدمه ، لجواز اقتنائها للادخار وتزيين المجالس والانتفاع بها في غير الأكل والشرب ، وهي منافع مقصودة. وفي تحريم عملها مطلقا نظر. انتهى.

أقول : وقد تقدم في آخر كتاب الطهارة : ان المشهور بين الأصحاب هو تحريم

__________________

(١) راجع صفحة ١٠١ فما بعد من هذا الجزء.

٢٠١

اتخاذها ، وان كان للقنية والادخار. وعليه تدل ظواهر جملة من الاخبار المذكورة ثمة (١) وبذلك يظهر كونها من قبيل ما نحن فيه.

الثاني : المشهور في كلام الأصحاب : تحريم اجارة السفن والدابة للمحرمات ، مثل حمل الخمر ، والبيت ليباع فيه الخمر ، والخشب ليعمل صلبانا ، أو شيئا من آلات اللهو ، والعنب ليعمل خمرا.

بمعنى ان البيع أو الإجارة وقع لهذا الغايات ، أعم من ان يكون قد وقع شرطها في متن العقد ، أو حصل الاتفاق عليها. صرح بذلك غير واحد من الأصحاب. بل في المنتهى : انه موضع وفاق.

اما لو كانت الإجارة أو البيع لمن يعمل ذلك ولم يعلم انه يعملها ، فإنه يجوز على كراهية. ومع العلم قولان. فقيل بالجواز على كراهية ، وقيل بالتحريم. واختاره في المسالك. قال : والظاهر ان غلبة الظن به كذلك. والى هذا القول ايضا مال المقدس الأردبيلي رحمه‌الله عليه.

والاخبار لا تخلو من اختلاف واضطراب في المقام ، فلا بد أو لا من نقلها ، ثم الكلام فيها :

ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة ، قال : كتبت الى ابى عبد الله عليه‌السلام : أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير؟ قال : لا بأس (٢).

وما رواه فيه ايضا ، وفي التهذيب عن صابر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال : حرام أجرته (٣).

وما رواه في الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن ، قال : كتبت الى ابى

__________________

(١) راجع الجزء الخامس ص ٥٠٩ ـ ٥١٠ من هذه الطبعة.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٦ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٢ حديث : ١.

٢٠٢

عبد الله عليه‌السلام : أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال : لا بأس به. وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال : لا (١).

وعن عمرو بن حريث ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب والصنم؟ قال : لا (٢).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن احمد بن محمد بن ابى نصر ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن بيع العصير فيصير خمرا قبل ان يقبض الثمن ، فقال : لو باع ثمرته ممن يعلم انه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس ، فاما إذا كان عصيرا فلا يباع الا بالنقد (٣).

وعن محمد الحلبي ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراما ، قال : لا بأس به ، تبيعه حلالا ليجعله حراما فأبعده الله وأسحقه (٤).

وما رواه في الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن ، قال : كتبت الى ابى عبد الله عليه‌السلام : أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم انه يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال : انما باعه حلالا في الإبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه (٥).

وعن ابى كهمس ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ الى ان قال ـ : ثم قال عليه‌السلام : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم انه يصنعه خمرا (٦).

وما رواه في التهذيب عن رفاعة بن موسى في الصحيح ، قال : سئل الصادق عليه‌السلام ـ وانا حاضر ـ عن بيع العصير ممن يخمره ، قال : حلال. ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٧ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٧ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٦٩ حديث : ١.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٦٩ حديث : ٤.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١٦٩ حديث : ٥.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ١٧٠ حديث : ٦.

٢٠٣

شرابا خبيثا!؟ (١) ،.

وعن الحلبي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : انه سئل عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا ، فقال : بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب الى ، ولا أرى بالأول بأسا (٢).

وعن يزيد بن خليفة الحارثي ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سأله رجل ـ وانا حاضر ـ قال : ان لي الكرم. قال تبيعه عنبا! قال : فإنه يشتريه من يجعله خمرا ، قال فبعه إذا عصيرا. قال : فإنه يشتريه منى عصيرا فيجعله خمرا في قربتي ، قال : بعته حلالا ، فجعله حراما فأبعده الله (٣) الحديث.

هذه جملة ما وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام.

والشيخ قد حمل الخبر الثاني على من يعلم انه يباع فيه الخمر ، ولهذا حرم الأجرة. والأول على من لا يعلم ما يحمل عليها.

وفيه : ان اخبار العصير كلها متفقة على جواز البيع مع العلم بأنه يعمله خمرا.

ومقتضى كلام أصحاب الذي قدمنا نقله عنهم : حمل الخبر الثاني على ان يكون الإجارة لهذه الغاية ، بحيث ذكرت وشرطت في أصل العقد أو وقع الاتفاق عليها. والخبر الثاني على ما لم يكن كذلك.

وجمع في الوافي بين الخبرين المذكورين ، فقال : لا منافاة بين الخبرين ، لان البيع غير الحمل ، والبيع حرام مطلقا ، والحمل يجوز ان يكون للتخليل.

وفيه ـ أولا ـ : ما عرفت من عدم تحريم البيع مطلقا ، لاخبار العصير المذكورة ، الا ان يقيد بما ذكره الأصحاب.

وثانيا : ان الحمل للتخليل ، وان احتمل في الخمر ، لكن لا مجال لهذا الاحتمال في الخنزير الذي ذكر معه في الخبر.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٧٠ حديث : ٨.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٧٠ حديث : ٩.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٧٠ حديث : ١٠.

٢٠٤

فالأولى انما هو حمل الخبر الثاني على ما ذكره الأصحاب من الاشتراط أو الاتفاق.

وعلى هذا ايضا تحمل اخبار بيع الخشب ليعمل صلبانا أو أصناما.

ويمكن ان تحمل اخبار المنع على الكراهة ، جمعا بينها وبين ما دل على الجواز.

ويشير الى ذلك صحيحة ابن أذينة أو حسنته الثانية ، حيث نفى البأس فيها عن بيع الخشب ليعمل برابط ، ومنع من البيع ليعمل صلبانا ، مع ان الأمرين من باب واحد. بان يقال بشدة الكراهة في عملها صلبانا فنهى عنه وان كان جائزا.

والمقدس الأردبيلي ـ هنا ـ قد استدل ـ على تحريم البيع والإجارة ممن يعلم بترتب تلك الغاية المحرمة على البيع أو الإجارة ، وان لم يحصل الاشتراط ، على الوجه الذي ذكره الأصحاب ـ بأن فيه معاونة على الإثم والعدوان ، مع وجوب النهى عن المنكر ، وإيجاب كسر الهياكل ، وعدم جواز الحفظ ، وكسر آلات اللهو ، ومنع الشرب ، والحديث الدال على لعن حامل الخمر وعاصرها ، المذكور في الكافي ، ومنع بيع السلاح لأعداء الدين ، فإنه يحرم للإعانة ، وهو ظاهر.

وفيه : ان ما ذكره جيد في حد ذاته ، لو سلم من المعارضة بأخبار العصير المذكورة ، فإنها ما بين صريح وظاهر في صحة البيع في الصورة المذكورة ، مع كثرتها وصحة كثير منها.

واما قوله ـ رحمه‌الله ـ : ويمكن حملها على وهم البائع ان المشترى يعمل هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا ، أو يكون الضمير راجعا الى مطلق العصير والتمر لا المبيع ، ولا صراحة في الاخبار ببيعه ممن يعلم بجعل هذا المبيع خمرا ، بل لا نعلم فتوى المجوز بذلك. وبالجملة فالظاهر : التحريم مع علمه بجعل هذا المبيع خمرا بل ظنه أيضا فتأمل. انتهى.

فلا يخفى ما فيه من التعسف والتكلف ، والخروج عن ظاهر الاخبار بل صريحها ،

٢٠٥

فإنها مطابقة المقالة ، واضحة الدلالة على ان البائع يعلم ان المشترى يصنع ذلك المبيع من العنب والتمر خمرا ، ولا سيما قوله في خبري محمد الحلبي ويزيد بن خليفة ـ : بعته حلالا فجعله حراما. فان ظاهره ينادي بأن المدار في التحريم والتحليل انما هو بالنسبة الى حال المبيع ، فان كان المبيع مما يحل بيعه في ذلك الوقت وتلك الحال صح البيع ، والا فلا ، ولا تعلق لصحة البيع بما يؤل اليه حال المبيع بعد البيع ، علمه أم لم يعلمه. وما ذكره من الحمل على توهم البائع أو رجوع الضمير الى مطلق العصير والتمر لا المبيع ، عجيب من مثله! وكيف لا وهو عليه‌السلام يقول : انا نبيع تمرنا ممن نعلم انه يصنعه خمرا وشرابا خبيثا. اى يصنع ذلك التمر الذي نبيعه إياه ، كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم والفهم القويم. وبالجملة فإنه لو قامت هذه الاحتمالات البعيدة لانغلق باب الاستدلال.

وقد تلخص من ذلك : ان الظاهر من هذه الاخبار ـ بعد ضم بعضها الى بعض ـ هو : قصر التحريم على ما إذا وقع الاشتراط في العقد أو الاتفاق على البيع أو الإجارة لتلك الغاية المحرمة ، وحل ما سوى ذلك. وما ذكره الأصحاب من الكراهة في موضع التحليل ، وان كان جيدا في حد ذاته ، الا ان ظواهر الاخبار لا تساعده ، لا سيما اخبار بيع التمر والعنب ليعمل خمرا. والله العالم.

الثالث : المشهور بين الأصحاب بل الظاهر انه لا خلاف فيه : تحريم بيع السلاح على أعداء الدين

والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام : ما رواه في الكافي والتهذيب عن ابى بكر الحضرمي ، في الحسن قال : دخلنا على ابى عبد الله عليه‌السلام ، فقال له حكم السراج : ما تقول فيمن يحمل الى الشام السروج وأداتها؟ فقال : لا بأس ، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، انكم في هدنة ، فإذا كانت المبانية حرم عليكم ان تحملوا إليهم السروج والسلاح (١).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٦٩ حديث : ١.

٢٠٦

والظاهر : ان المراد بقوله «بمنزلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» اى الباقين على صحبته ودينه بعد موته ، كما يشير اليه قوله «انكم في هدنة» أي سكون من الفتن بالصلح مع أعداء الدين.

وما رواه المشايخ الثلاثة عن هند السراج ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أصلحك الله ، انى كنت أحمل السلاح الى أهل الشام فأبيعه منهم ، فلما عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك ، وقلت : لا أحمل إلى أعداء الله. فقال لي : احمل إليهم وبعهم ، فان الله يدفع بهم عدونا وعدوكم ، يعنى الروم ، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا ، فمن حمل الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك (١).

وما رواه في الكافي عن محمد بن قيس في الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال : بعهما ما يكنهما ، الدرع والخفين ونحو هذا (٢) ،.

وعن السراد عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : انى أبيع السلاح ، قال : لا تبعه في فتنة (٣).

وفي التهذيب رواه عن السراد عن رجل عنه. وهو الظاهر ، حيث ان السراد المذكور انما يروى عن ابى عبد الله عليه‌السلام بالواسطة (٤) ، هذا ان حمل انه الحسن بن محبوب المشهور بهذا اللقب (٥) والا فلا ، ويكون الرجل مهملا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧٠ حديث : ٢.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٧٠ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٧٠ حديث : ٤ والحديث في الوسائل : «عن السراج». لكنه في الكافي والتهذيب «عن السراد» كما في المتن.

(٤) لانه ولد بعد وفاة الامام الصادق ـ ع ـ (١٤٨) بسنة. (١٤٩ ـ ٢٢٤).

(٥) وهو : «السراد» ويقال له : «الزراد» ايضا. وهما بمعنى واحد ، وهو صانع الزرد والسرد وهما بمعنى الدرع.

٢٠٧

وما رواه في التهذيب عن ابى القاسم الصيقل ، قال : كتبت اليه انى رجل صيقل اشترى السيوف وأبيعها من السلطان ، أجائز لي بيعها؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ لا بأس به (١).

وما في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر ، ورواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن حمل المسلمين الى المشركين التجارة ، قال : إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس (٢).

وما رواه في الفقيه بإسناده عن حماد بن انس وانس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلى عليه‌السلام ، : يا على كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة ـ الى ان قال : ـ وبايع السلاح من أهل الحرب (٣).

* * *

والكلام في هذه الاخبار يقع في مواضع :

(الأول): ان المستفاد من الخبر الأول والثاني : تخصيص تحريم حمل السلاح إلى الأعداء بوقت المباينة دون وقت الصلح والهدنة. وكلام الأصحاب ـ كما قدمنا نقله عنهم ـ مطلق. فالواجب تقييده بما ذكرنا من الخبرين. والى ذلك أشار في المسالك ـ بعد ذكر عبارة المصنف الدالة بإطلاقها على العموم ـ فقال : وانما يحرم مع قصد المساعدة أو في حال الحرب أو التهيؤ له.

(الثاني): لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مشركين أو مسلمين كالمخالفين.

ويدل عليه الخبران الأولان ، لاشتراكهما في الوصف وهو العداوة للدين ، بل

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧٠ حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٧٠ ـ ٧١ حديث : ٦.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٧١ حديث : ٧.

٢٠٨

لا يبعد ـ كما ذكره جملة من المتأخرين ـ دخول مثل قطاع الطريق ونحوهم من الظالمين ، لما تقدم من تحريم اعانة الظالمين ولو بالمباحات ، بل الطاعات ، فضلا عما في الإعانة على الظلم. ويعضده ظاهر الآية من النهى عن الإعانة على الإثم والعدوان. وحديث السراد المتقدم (١)

(الثالث): محل البحث في كلام الأصحاب وكذا في اخبار تحريم السلاح هو السيف والرمح ونحوهما. أما ما يتخذ جنة كالدرع والبيضة ولباس الفرس المسمى بالتجفاف ـ بكسر التاء ـ فالظاهر عدم دخوله في الحكم المذكور. وبذلك صرح في المسالك ايضا.

ويدل عليه صحيحة محمد بن قيس المتقدمة ، الا ان ظاهر رواية أبي بكر الحضرمي : دخول السروج فيما يحرم بيعه ، وهي ليست من السلاح. فلو قيل بالعموم لما يحصل به المساعدة ، من سلاح وغيره ، لكان أوجه ، فإنه لا شك ان الإعانة بالدرع والبيضة التي تقي لابسها عن القتل أشد وأعظم من الإعانة بالسرج الذي قد صرحت الرواية المشار إليها بتحريمه.

ويمكن الجواب عن الصحيحة المذكورة بأنها لم تتضمن المعونة لأعداء الدين على المسلمين ، وانما دلت على المعونة على مثلهم من أهل الباطل ، والظاهر ان الفرقتين من أعداء الدين. الا انه يشكل ذلك بتخصيص التجويز بالجنة دون السلاح وبالجملة فإدخال نحو السرج في الحكم المتقدم وإخراج نحو الدرع لا يخلو عن اشكال.

(الرابع): لو باع على تقدير التحريم ، هل يصح البيع ويملك الثمن وان أثم ، أم يبطل؟ قولان ، استظهر في المسالك الثاني ، قال : لرجوع النهي إلى نفس المعوض. واليه مال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، قال : لان الظاهر ان الغرض من النهى هنا عدم التملك وعدم صلاحية المبيع لكونه مبيعا ، لا مجرد الإثم ،

__________________

(١) في ص ٢٠٧ رقم : ٣.

٢٠٩

فكان المبيع لا يصلح لان يكون مبيعا لهم كما في بيع الغرر انتهى. ولا يخلو من قرب ، وان كان للمناقشة فيه مجال ، لإمكان رجوع النهي إلى المعونة ، والا فالعوض من حيث هو صالح للنقل ، فيكون توجه النهى انما هو لأمر خارج كالبيع وقت النداء في يوم الجمعة ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في بعض مجلدات هذا الكتاب (١) بما يكشف عن وجهها نقاب الشك والارتياب.

(الخامس): ظاهر خبر هند السراج (٢) : جواز حمل السلاح إلى أعداء الدين وقت الهدنة لأجل الاستعانة به على دفع الكفار ، وعليه يحمل خبر القاسم الصيقل ، مع انك قد عرفت في الموضع الأول جواز الحمل في حال الهدنة مطلقا.

__________________

(١) في الجزء العاشر ص ١٧٧ من هذه الطبعة.

(٢) تقدم في ص ٢٠٧ رقم : ١.

٢١٠

المقام الخامس

في حكم أخذ الأجرة على ما يجب على الإنسان فعله ، كتغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم.

ويلحق بذلك أخذ الأجرة على الأذان ، وبيع القرآن ، وكذا أخذ الأجرة على الصلاة بالناس ، والقضاء والحكم بين الناس.

وتفصيل هذه الجملة يقع في موارد : ـ

الأول : المشهور في كلام الأصحاب ـ من غير خلاف يعرف ـ ان تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم ، من الواجبات الكفائية ، على من علم بالموت من المسلمين ، فلا يجوز أخذ الأجرة على شي‌ء من ذلك.

قال في المنتهى : يحرم أخذ الأجرة على تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم ، لان ذلك واجب عليهم ، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة على فعله ، كالفرائض انتهى.

ونحن قدمنا البحث معهم في هذه المسألة في فصل غسل الأموات من كتاب الطهارة (١) وكذا في كتاب الصلاة (٢) في باب الصلاة على الأموات. وذكرنا

__________________

(١) في الجزء الثالث ص ٣٥٩ من هذه الطبعة.

(٢) في الجزء العاشر ص ٣٨٢ فما بعد.

٢١١

ان الخطابات الواردة من الشارع في هذه المواضع انما توجهت إلى الولي بأن يفعل ذلك أو يأمر من يفعله ، الا ان لا يكون للميت ولى ، وعلى ما ذكرنا لا يتجه تحريم أخذ الأجرة على الإطلاق كما ذكروه ، وان كان ظاهرهم الاتفاق على ما نقلناه عنهم.

الا ان يقال : انه إذا أذن الولي وجب عليه حينئذ وهو بعيد ، لعدم الدليل عليه فانا لم نقف لهم في دعوى الوجوب الكفائي في هذا المقام على دليل يعتمد عليه من الاخبار ، وليس الا ظاهر اتفاقهم عليه.

والأصحاب قد نقلوا في هذا المقام عن المرتضى جواز أخذ الأجرة بالتقريب الذي ذكرناه.

قال في المسالك ـ بعد ذكر المصنف لأصل الحكم ـ : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وعليه الفتوى ، وذهب المرتضى الى جواز أخذ الأجرة على ذلك لغير الولي بناء على اختصاص الوجوب به ، وهو ممنوع ، فان الوجوب الكفائي لا يختص به ، وانما فائدة الولاية توقف الفعل على اذنه ، فيبطل منه ما وقع بغيره ، مما يتوقف على النية. انتهى.

وفيه : ان ما ادعاه ـ رحمه‌الله ـ وغيره من الوجوب الكفائي عار عن الدليل كما عرفت.

واما قوله : ان فائدة الولاية توقف الفعل على اذنه ، فان فيه : ان النصوص الدالة على ذلك ظاهرة بل صريحة في توجه الأمر بالإتيان بتلك الأفعال إلى الولي ، كقول أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ فيما رواه في الفقيه ـ : يغسل الميت اولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك (١). وبمضمونه خبر آخر في الغسل (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١ ص ٧١٨ باب : ٢٦ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ٢ ص ٧١٨ باب : ٢٦ حديث : ٢.

٢١٢

وقول الصادق عليه‌السلام : يصلى على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب (١). ونحوه أخبار ولاية الزوج لزوجته ، وانه اولى الناس بالصلاة عليها والغسل بها (٢). وهكذا في سائر ما يتعلق بالميت ، فان الخطاب بإيقاع ذلك الفعل انما توجه إلى الولي خاصة ، اما بان يوقعه بنفسه أو يأذن لغيره. وأين هذا من الوجوب الكفائي ، الذي يدعونه؟!

وبذلك يظهر : ان فائدة الولاية هو اختصاص الفعل به ، بان يغسله ويصلى عليه ويكفنه ونحو ذلك ، أو يأذن لغيره في هذه الأمور.

وحينئذ فلو فرضنا ان الغير امتنع من امتثال أمر الولي إلا بالأجرة جاز له ذلك ، لانه غير مخاطب بهذه الأمور ، ولا مكلف بها حتى يحرم عليه أخذ الأجرة كما ادعوه.

نعم لو سلمنا صحة ما ادعوه من الوجوب الكفائي ، صح ما رتبوه عليه من تحريم أخذ الأجرة.

ثم ان مقتضى تخصيص الأصحاب الحكم بالواجب من هذه الأمور ، جواز أخذ الأجرة على المستحب ، مثل زيادة الحفر على ما يستر ريحه عن الشياع ، ويكن جثته عن السباع ، بمقدار الترقوة ، ونقله الى المشاهد المشرفة ، وتثليث الغسلات في التغسيل ، ووضوء الميت على تقدير القول باستحبابه ، وتكفينه بالقطع المندوبة ونحو ذلك.

وقيل بالمنع. نقله في المسالك عن بعض الأصحاب ، محتجا بإطلاق النهى! وأنت خبير بانا لم نقف على نهى في هذا الباب ، ولا ذكره أحد من الأصحاب ، بل ذكر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ايضا ، انه لم يقف عليه ، قال ـ بعد نقل القول المذكور ـ : ووجهه غير ظاهر ، ولعله انها عبادة وهي تنافي الأجرة ومنعه ظاهر ، الا ترى جواز أخذ الأجرة على الحج وسائر العبادات بالإجماع والأدلة. قيل : لإطلاق النهى ، وما رأيت النهى. انتهى.

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ص ٨٠١ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ٢ ص ٨٠٢ باب : ٢٤.

٢١٣

الثاني : المشهور بين الأصحاب تحريم أخذ الأجرة على الأذان.

واستدل عليه بما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن عبد الله المنبه عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن على عن أبيه عن آبائه عن على عليه‌السلام ، انه أتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين والله انى أحبك لله ، فقال له : لكني أبغضك لله. قال : ولم؟ قال : لأنك تبغي في الأذان أجرا ، وتأخذ على تعليم القرآن اجرا ، وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من أخذ على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم القيامة (١).

وذهب المرتضى الى جواز أخذ الأجرة عليه ، تسوية بينها وبين الارتزاق.

والى هذا القول يميل كلام المقدس الأردبيلي ، استضعافا للخبر المذكور ، لان رجاله من العامة الزيدية. قال : والشهرة ليست بحجة ، وأيد ذلك باشتمال الخبر على النهى عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، مع كون ذلك على الكراهة عند الأصحاب. قال : ويبعد كون أحدهما مكروها والأخر حراما. والأصل ، وجواز أخذ الأجرة في المندوبات ، يؤيد عدم التحريم. انتهى.

أقول : ما ذكره وان أمكن تطرق المناقشة اليه (٢) الا ان الخبر المذكور مع الإغماض عن المناقشة في سنده لا ظهور له في التحريم ، فإنهم كثيرا ما يزجرون عن المكروهات بما يكاد يدخلها في حيز المحرمات ، ويحثون على المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات ، وهذا ظاهر لمن تتبع موارد الأحكام الواردة في أخبارهم

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١١٤ باب : ٣٠ حديث : ١.

(٢) بان يقال : ان من قواعدهم جبر الخبر الضعيف بالشهرة بين الأصحاب ، بمعنى انه بانضمام أحدهما إلى الأخر يصير كالدليل الواحد ، وهو لا يقصر عن خبر صحيح.

واشتمال الخبر على النهى عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، يمكن إبقاؤه على ظاهره من التحريم ايضا.

وكون المشهور بينهم حمله على الكراهة لا يوجب ثبوت ذلك ولا يعين حمله على الكراهة هنا كما لا يخفى منه قدس‌سره.

٢١٤

ـ عليهم‌السلام.

وعلى تقدير القول بالتحريم ، هل يحرم الأذان أيضا بذلك أم لا؟

قال ابن البراج : يحرم ورجحه العلامة في المختلف ، قال : الأذان على هذا الوجه غير مشروع ، فيكون بدعة.

والظاهر : بعده ، لأن النهي هنا انما توجه إلى أخذ الأجرة ، لا إلى الأذان ، فالقول بعدم مشروعيته وانه بدعة مع دخوله تحت الأخبار العامة الدالة على صحة الأذان ومشروعيته مشكل.

نعم يكون ما فعله من أخذ الأجرة عليه محرما ، هذا مقتضى قواعدهم وأصولهم.

* * *

ثم ان الظاهر من كلام الأصحاب : انه لا خلاف في جواز الارتزاق من بيت المال ، وهو ما أعد لمصالح المسلمين من مال الخراج والمقاسمة.

وهل يشترط ان يكون ذلك بإذن الإمام عليه‌السلام أو نائبه ، أم يجوز ولو كان من الجائر؟ قولان. المشهور : الثاني. وسيأتي تحقيق المسألة إنشاء الله تعالى في محلها.

* * *

والظاهر ايضا : جواز أخذ ما وقف للمؤذنين أو نذر لهم ، لان للمالك ان يفعل في ماله ما يشاء ، ويعينه لمن يشاء ، والظاهر انه لا يحرم وان قصد بالأذان ذلك.

قال في المسالك : والفرق بين الأجرة والارتزاق ان الأجرة تفتقر الى تقدير العمل والعوض ، وضبط المدة والصيغة الخاصة ، واما الارتزاق فمنوط بنظر الحاكم ، لا يتقدر بقدر. انتهى.

وهو يشعر بان ما يأخذه من الأجرة بغير القيود المذكورة لا تسمى اجرة ولا تكون محرمة وانه لا يكون الأمن بيت المال ، لانه من قبيل الارتزاق دون الأجرة. والظاهر : بعده ، فان الظاهر من الأجرة في هذا المقام : انما هو ما يعطى لأجل الأذان ، بحيث

٢١٥

لو لم يعط لم يؤذن ، بأن يقال له : أذن ونعطيك كذا وكذا ، فيؤذن لذلك ، سواء عينت مدة الأذان أم لا ، وقعت بالصيغة المخصوصة أم لا ، وسواء كان ما يعطى من بيت المال أو من شخص معين أو من أهل البلد كملا.

وبما ذكرنا صرح المحقق الأردبيلي أيضا. ويؤيده خلو أخبار البيوع والإجارات ونحوهما من أكثر هذه القيود والشروط المذكورة في كلامهم في هذه الأبواب ، وانما العمدة وقوع التراضي بالألفاظ ، مع معلومية ما يقع عليه العقد ، ولو في الجملة.

الثالث : اختلف الأصحاب في جواز أخذ الأجرة على القضاء والحكم بين الناس.

فقال الشيخ في النهاية : لا بأس بأخذ الأجرة والرزق على الحكم والقضاء بين الناس من جهة السلطان العادل.

وقال المفيد : لا بأس بالأجرة في الحكم والقضاء بين الناس. والتبرع بذلك أفضل ، وأقرب الى الله سبحانه.

وقال أبو الصلاح : يحرم الأجر على تنفيذ الأحكام من قبل الامام العادل.

وقال ابن إدريس : يحرم الأجر على القضاء ، ولا بأس بالرزق من جهة السلطان العادل ، ويكون ذلك من بيت المال ، دون الأجرة ، على كراهية فيه.

وقال في المختلف : الأقرب ان نقول : ان تعين القضاء عليه اما بتعيين الامام عليه‌السلام أو بفقد غيره أو بكونه الأفضل وكان متمكنا ، لم يجز الأجر عليه ، وان لم يتعين أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة. قلنا : الأصل الإباحة على التقدير الثاني ، وانه فعل لا يجب عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات الواجبة.

وقال في المنتهى : يحرم الأجر على القضاء ، ويجوز الرزق فيه من بيت المال. واستدل على الأول بصحيحة عبد الله بن سنان الاتية. وقال المحقق في الشرائع ـ على ما نقله في المسالك ـ : ان تعين عليه بتعيين الإمام ، أو بعدم قيام أحد غيره ، حرم

٢١٦

عليه أخذ الأجرة مطلقا ، لأنه حينئذ يكون واجبا عليه ، والواجب لا يصح أخذ الأجرة عليه ، وان لم يتعين عليه ، فان كان له غنى عنه لم يجز ايضا ، والا جاز.

قال في المسالك ـ بعد نقل كلام المحقق المذكور ـ : وقيل : يجوز مع عدم التعيين مطلقا. وقيل : يجوز مع الحاجة مطلقا ومن الأصحاب من جوز أخذ الأجرة عليه مطلقا. والأصح المنع مطلقا ، الا من بيت المال على جهة الارتزاق ، ويتقدر بنظر الامام. ولا فرق في ذلك بين أخذ الأجرة من السلطان ومن أهل البلد والمتحاكمين ، بل الأخير هو الرشوة التي ورد في الخبر «انها كفر بالله ورسوله». انتهى.

والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام : ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال : ذلك السحت. (١). وما تقدم في صدر هذا البحث من الاخبار الدالة على ان الرشا في الحكم هو الكفر بالله العظيم.

ونحوها : ما رواه في الكافي عن سماعة ـ في الموثق ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : الرشا في الحكم هو الكفر بالله. (٢).

وما رواه الشيخ عن جابر ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من نظر الى فرج امرأة لا تحل له ، ورجلا خان أخاه في امرأته ، ورجلا احتاج الناس اليه لتفقهه فسألهم الرشوة. (٣).

وظاهر الأصحاب ـ حيث جوزوا الارتزاق ـ : حمل الخبر الأول على الأجر. ولا يخلو من اشكال ، لعدم المعارض ، مع ظهور اللفظ في الارتزاق.

نعم يمكن ان يقال : ان الارتزاق لما كان جائزا لجملة المسلمين المحتاجين من بيت

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ١٦٢ حديث : ١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ١٦٢ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٨ ص ١٦٣ حديث : ٥.

٢١٧

المال ، فلا وجه للفرق فيه بين القاضي وغيره ، الا انه يمكن دفعه بأنه لما كان أخذه هنا انما هو في مقابلة القضاء ، كما يدل عليه ظاهر الخبر الأول ، كان حراما لهذه الجهة ، ولا ينافي لما حله له من حيث كونه من جملة المسلمين أو المحتاجين.

والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد اختار القول بالتحريم مطلقا ، استنادا الى اخبار تحريم الرشا ، والى انه مع تعينه عليه بأحد الوجوه المتقدمة يكون واجبا ، والواجب لا يجوز أخذ الأجرة عليه.

وفيه : ان اخبار الرشا أخص من المدعى ، لان الرشوة ما يؤخذ من المتحاكمين على الحكم لصاحب الرشوة ، فتكون الرشوة في مقابلة الحكم له ، والمدعى : تحريم الأجر بقول مطلق.

والأظهر هو الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان المذكورة ، بحمل الرزق فيها على ما هو أعم من الارتزاق من بيت المال أو الأجرة.

* * *

وظاهر جملة من الأصحاب : عد الصلاة بالناس فيما تحرم الأجرة عليه ، ونقل في المختلف عن ابن البراج : انه عد في أقسام المحرمات ، الأذان والإقامة والصلاة بالناس ، وتغسيل الموتى وحملهم والصلاة عليهم ودفنهم ، فإنه لا يحل أخذ الأجرة عليها.

ولم يحضرني الان خبر في هذا الحكم.

ومن جملة من صرح بذلك صاحب الوسائل ، مع انه لم يورد في الباب ما يدل عليه ، وانما أحال على ما قدمه من أحاديث التظاهر بالمنكرات ، واختتال الدنيا بالدين ، وجهاد النفس ، وفي استفادة الدلالة على ذلك منها نظر ، لا سيما مع ورود الاستيجار على العبادات ومشروعيته ، وكيف كان فالاحتياط : فيما ذكروه.

الرابع : صرح جملة من الأصحاب بأنه لا يجوز بيع المصحف ، وانما يباع الورق والجلد ونحوهما من الآلات التي اشتمل عليها ذلك الكتاب.

٢١٨

وعليه تدل الأخبار المتكاثرة : فروى في الكافي عن عبد الرحمن بن سليمان عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : ان المصاحف لن تشترى ، فإذا اشتريت فقل : انما اشترى منك الورق وما فيه من الأديم وحليته ، وما فيه من عمل يدك ، بكذا وكذا (١).

وعن عثمان بن سعيد عن الصادق عليه‌السلام ، قال سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ قال : لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفتر ، وقل : اشتريت منك هذا بكذا وكذا ، (٢).

وعن عنبسة الوراق ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقلت له : انا رجل أبيع المصاحف ، فإن نهيتني لم أبعها ، فقال : ألست تشترى ورقا وتكتب فيه؟ قلت : بلى ، وأعالجها ، قال : لا بأس بها (٣).

وروى في التهذيب عن عثمان بن عيسى عمن سمعه (٤) ، قال : سألته عن بيع المصاحف وشرائها. فقال : لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والجلود والدفتين ، وقل : اشترى منك هذا بكذا وكذا (٥).

وعن عبد الله بن سليمان ، قال : سألته عن شراء المصاحف ، فقال : إذا أردت ان تشترى فقل : اشترى منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا (٦).

وعن سماعة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تبيعوا المصاحف ، فان بيعها حرام. قلت : فما تقول في شرائها؟ قال : اشتر منه الدفتين والحديد و

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١١٤ حديث : ١ باب : ٣١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١١٤ حديث : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١١٥ حديث : ٥.

(٤) وفي الكافي : «عن سماعة» ج ٥ ص ١٢١.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١١٤ حديث : ٢.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ١١٥ حديث : ٦.

٢١٩

الغلاف ، وإياك ان تشترى منه الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراما ، وعلى من باعه حراما (١).

أقول : «قوله : وإياك ان تشترى الورق وفيه القرآن». يعنى : تجعله المقصود بالشراء فيلزمه التحريم.

فوائد

الأولى : قد صرح الأصحاب بكراهة تعشيره بالذهب ، واستدلوا على ذلك بما رواه في التهذيب عن سماعة ـ في الموثق ـ قال : سألته عن رجل يعشر المصاحف بالذهب ، فقال : لا يصلح. فقال : إنها معيشتي : فقال : انك ان تركته لله جعل الله تعالى لك مخرجا (٢).

وروى في الكافي ـ ومثله في التهذيب ـ عن محمد الوراق ، قال : عرضت على ابي عبد الله عليه‌السلام كتابا فيه قرآن مختم معشر بالذهب ، وكتب في آخره سورة بالذهب ، فأريته إياه فلم يعب فيه شيئا إلا كتابة القرآن بالذهب ، فإنه قال : لا يعجبني أن يكتب القرآن الا بالسواد كما كتب أول مرة (٣).

وفي هذا الخبر : ما يدل على حمل الخبر الأول على الكراهة ، وفيه أيضا دلالة على كراهة كتابة القرآن بغير السواد.

الثانية : جواز أخذ الأجرة على كتابته.

والظاهر : انه لا خلاف فيه. ويدل عليه ايضا : ما رواه الشيخ عن روح بن عبد الرحيم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : قلت : ما ترى ان اعطى على

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١١٦ حديث : ١١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١١٧ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١١٧ حديث : ٢.

٢٢٠