الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

قال في الكتاب المذكور : ونظيره «وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» (١).

وفي تفسير على بن إبراهيم ـ قدس‌سره ـ : وقوله تعالى «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ» اى لا يحب الله ان يجهر الرجل بالظلم والسوء ولا يظلم ، الا من ظلم ، فقد أطلق له ان يعارضه بالظلم (٢).

وفي المجمع ـ ايضا ـ عن الصادق عليه‌السلام : انه الضيف ينزل بالرجل فلا يتحسن ضيافته ، فلا جناح عليه ان يذكره بسوء ما فعله (٣).

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ عنه عليه‌السلام في هذه الآية : من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم ، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه. وعنه عليه‌السلام : الجهر بالسوء من القول ، ان يذكر الرجل بما فيه (٤).

أقول : الظاهر ان التفسير بالضيف من حيث دخوله في عموم الآية وإطلاقها ، فلا منافاة فيه للتفسير الأول. وظاهر ما نقلناه عنهم : تخصيص الحكم بالتظلم عند الحاكم الشرعي ونحوه ، يرجى به دفع الظلم عنه ، بان يقول : ان فلانا غصبني أو ضربني أو نحو ذلك. ومقتضى ظاهر الآية : العموم. وكذا ظاهر الاخبار المنقولة في تفسيرها.

(ومنها) الاستفتاء ، كما يقول المستفتي : ظلمني أبي أو أخي ، فكيف طريقي في الخلاص؟

قال في الكفاية : والأسلم هنا التعريض ، بان يقول : ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو اخوه؟ وقد روى : «ان هندا قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال : خذي ما يكفيك

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

(٢) البرهان ج ١ ص ٤٢٥ حديث : ٣.

(٣) مجمع البيان ج ٣ ص ١٣١.

(٤) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٨٣.

١٦١

وولدك بالمعروف» (١). فذكرت الشح والظلم لها وولدها ، ولم يزجرها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان قصدها الاستفتاء. وفي هذا الحكم إشكال ، إذا كان سبيل الى التعريض وعدم التصريح. انتهى.

أقول : ما ذكره من الاستدلال بهذه الرواية ، مع تسليم ورودها من طرقنا ، محل نظر. فإن أبا سفيان منافق كافر ، قد لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير مقام فلا غيبة له. ولكن الاستدلال بهذه الرواية هنا جرى على ما قدمنا ذكره عنه ثمة ، من نقله كلام المقدس الأردبيلي وجموده عليه ، وقد عرفت ما فيه مما أظهر ضعف باطنه وخافية.

نعم يمكن الاستدلال على ذلك بما رواه في الكافي والتهذيب ، عن حماد بن عثمان ، قال : دخل رجل على ابى عبد الله عليه‌السلام ، فشكى رجلا من أصحابه ، فلم يلبث ان جاء المشكو ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام ـ مغضبا ـ : ما لفلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت منه حقي ، قال : فجلس أبو عبد الله عليه‌السلام مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ! أرأيت ما حكى الله عزوجل في كتابه «يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» (٢) انهم خافوا الله ان يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا الا الاستقضاء ، فسماه الله عزوجل سوء الحساب ، فمن استقضى فقد أساء (٣).

الا انهم قد عنونوا هذا الموضع بالاستفتاء ، وما تضمنه الخبر ليس من قبيل الاستفتاء ، ويمكن جعل العنوان ما هو أعم ، أو يجعل هذا الخبر من أدلة الموضع الأول.

(ومنها) تحذير المؤمن من الوقوع في الخطر والشر ، ونصح المستشير. قالوا : إذا رأيت متفقها يتلبس بما ليس من اهله ، فلك ان تنبه الناس على نقصه وقصوره

__________________

(١) البخاري ج ٧ ص ٨٥. ومسلم ج ٥ ص ١٢٩. واللفظ للأول. ورواه في المستدرك عن غوالي اللئالي. ج ٢ ص ١٠٨.

(٢) سورة الرعد : ٢١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٠١ وقد تقدم الحديث في ص ٤٩ ولفظ «مغضبا» الأول في الموضعين ، ليس في نسخ المصدر.

١٦٢

مما أهل نفسه له ، وتنبههم على الخطر اللاحق لهم بالانقياد اليه ، وكذلك إذا رأيت رجلا يتردد الى فاسق يخفى امره ، وخفت عليه من الوقوع بسبب صحبته فيما لا يوافق الشرع ، فلك ان تنبهه على فسقه ، مهما كان الباعث الخوف من إنشاء البدعة وسراية الفسق. الا ان هذا الموضع محل الخديعة من الشيطان ، إذ ربما يكون الباعث انما هو الحسد على تلك المنزلة ، فيلتبس عليك الشيطان ، كما هو غالب فاش في أبناء الزمان ، فينبغي للداخل في ذلك ان يلاحظ نفسه فيما بينه وبين ربه.

ومن ذلك ـ ايضا ـ : بيان الاغلاط الواقعة من العلماء. والظاهر : ان من هذا القبيل طعن العلماء بعضهم على بعض في المسائل الفقهية حتى انجر الى التجهيل ، كما لا يخفى على من وقف على الرسالة المنسوبة إلى المفيد والسيد المرتضى ، في الرد على الصدوق في تجويزه السهو على المعصوم ، فإنها اشتملت على قدح عظيم في حق الصدوق ، لا يليق بمثله ان ينسب اليه ذلك ، وكما وقع من المحقق والعلامة في الطعن على ابن إدريس في مواضع لا تحصى ، مما يؤذن بتجهيله ، مع ما هو عليه من الفضل وعلو الشأن ونحو ذلك.

وقد وقع بين جملة من مشايخنا المعاصرين ممن عليهم الاعتماد بين العباد في البلاد ما يؤدى الى أعظم الإشكال في هذا المجال ، حتى ان رجلين منهم كانا يصليان الجمعة في أقل من مسافة الفرسخ. والناس يقتدون بكل منهما. وكان بعض من عاصرناه من المشايخ ينقل حديثا ـ ان صح هان الأمر في ذلك ـ والا فالمقام مقام خطر واشكال.

وصورة الخبر الذي ينقله في حق العلماء : انه عليه‌السلام قال : خذوا بما يفتون ولا تنظروا الى ما يقول بعضهم في بعض ، فإنهم يتغايرون كما تتغاير النساء. هذا حاصل معناه.

ومما يؤيد ذلك : دلالة جملة من الاخبار على حصول الحسد بين العلماء ، خصوصا زيادة على ما بين سائر الناس.

وبالجملة فالفداء عضال ، لا يكاد ينفك منه الا من عصمه الله تعالى بالتوفيق في

١٦٣

جملة الأحوال.

نعم قد ورد في جملة من الاخبار جواز الوقيعة في أصحاب البدع ، ومنهم الصوفية ، كما رواه في الكافي في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي ، فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ، ولا يتعلموا من بدعهم ، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة (١).

وبمضمونه أخبار عديدة.

وكذلك إذا رأيت رجلا يشترى مملوكا ، وقد عرفت ان في ذلك المملوك عيوبا منقصة ، فلك ان تذكرها للمشتري ، فان في سكوتك ضررا للمشتري ، وفي ذكرك ضررا للعبد ، ولكن المشتري أولى بالمراعاة.

ومن اللازم : ان يقتصر على العيب المنوط بذلك ، فلا يذكر في عيب التزويج ما يخل بالشركة والمضاربة مثلا ، بل انما يذكر ما يتعلق بذلك ، من غير تجاوز عنه.

أقول : ويمكن ان يستدل على ذلك بالأخبار الدالة على وجوب نصح المؤمن ، لا سيما مع الاستشارة ، كما رواه في الكافي عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة في المشهد والمغيب (٢).

وعن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه (٣).

وعن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان أعظم الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة ، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه (٤).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٥٠٨ حديث : ١.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٠٨ حديث : ٢.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٢٠٨ حديث : ٤.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٢٠٨ حديث : ٥.

١٦٤

وعنه عليه‌السلام قال : من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي ، سلبه الله عزوجل رأيه (١).

(ومنها) الجرح للشاهد والراوي للاخبار ، صيانة لحقوق المسلمين ، وحفظا للاحكام والسنن الشرعية.

ومن ثم وضع العلماء كتب الجرح والتعديل للرواة ، وقسموهم الى الثقات والمجروحين ، وذكروا الأسباب الموجبة للقدح والجرح ، وكونه كذابا وضاعا للحديث ، لكن لا ينبغي ان يذكر الا ما يخل بالشهادة والرواية ، ولا يتعرض لشي‌ء من عيوبه التي لا تعلق لها بذلك ، وقوفا على القدر الذي يمكن تخصيص عموم أخبار النهي عن الغيبة به.

وكيف كان ، فينبغي التحفظ والإخلاص في ذلك ، بان لا يكون الباعث امرا آخر غير قصد الأمر الذي قدمنا ذكره.

أقول : ولا اعلم لهم حجة على ذلك زيادة على ما ذكرناه.

وربما يستند لذلك بالأخبار التي وردت عنهم ـ عليهم‌السلام ـ في ذم بعض الرواة ، وانهم من الكذابين والغالين ، الا ان مورد هذا الاخبار انما هو غير الشيعة ، ممن يظهر التلبس بهم ، فلا حجة فيها.

ويمكن ان يستدل بما ورد في الاخبار من ذمهم ـ ع ـ لجملة من الرواة ، كزرارة وهشام ابن الحكم ، ويونس بن عبد الرحمن ، وغيرهم. بان يكون الوجه في ذلك التحذير عن العمل بأخبارهم ، الا أن الأمر بالنسبة الى من ذكرناه انما هو العكس مما دلت عليه هذه الاخبار ، لاستفاضة الأخبار بجلالة شأنهم وعلو قدرهم ، وانما الغرض من هذه الاخبار معان أخر ، مثل الذب عنهم والتقية عليهم ، كما يفصح عنه حديث الكشي بالنسبة إلى زرارة وعذر الصادق عليه‌السلام له بأنه ذمه دفاعا عنه وعن أمثاله.

وحينئذ فيكون في هذه الاخبار دلالة على موضع آخر لم يذكره الأصحاب ـ فيما

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٦٣ حديث : ٥.

١٦٥

اعلم ـ وهو جواز الغيبة والذم لدفع الضرر عن ذلك المستغاب.

(ومنها) ان يكون القول فيه بما يكون متظاهرا به كالفاسق المتظاهر بفسقه ، بحيث لا يستنكف ان يذكر بذلك الفعل.

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بذلك : ما رواه الصدوق في المجالس عن هارون بن الجهم ، في الصحيح ـ على الأقوى ـ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة (١).

ورواية أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوى مبتدع ، والامام الجائر ، والفاسق المعلن بالفسق (٢).

وروى شيخنا الشهيد الثاني ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له (٣).

وما ورد في صحيحة عبد الله ابن ابى يعفور الطويلة ، الواردة في عدالة الشاهد ، عن الصادق عليه‌السلام :

حيث قال عليه‌السلام : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا غيبة إلا لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته ، وسقطت بينهم عدالته ، ووجب هجرانه ، وإذا رفع الى امام المسلمين أنذره وحذره ، فان حضر جماعة المسلمين والا أحرق عليه بيته ، ومن لزم جماعتهم حرمت غيبته وثبتت بينهم عدالته (٤).

وأنت خبير بان ظاهر الاخبار الثلاثة الأول ، هو جواز غيبته وان استنكف عن ذلك ، وانه لا يختص الجواز بالذنب الذي يتظاهر به ، كما هو ظاهر كلام جملة من

__________________

(١) الوسائل ج ٨ ص ٦٠٥ حديث : ٤.

(٢) الوسائل ج ٧ ص ٦٠٥ حديث : ٥.

(٣) ورواها الشيخ المفيد في الاختصاص عن الامام الرضا ـ ع ـ المستدرك ج ٢ ص ١٠٨.

(٤) الوسائل ج ١٨ ص ٢٨٩ حديث : ٢ ـ ٣٤٠١٠.

١٦٦

الأصحاب ، وان كان الاقتصار على ما ذكروه أحوط ، الا ان يكون لذكر ما زاد على ذلك تأثير في ارتداعه عما هو عليه من الفسق والتظاهر به. ولعل الاخبار المشار إليها انما خرجت بناء على ذلك.

وكيف كان ، فالظاهر ان حكام الجور والظلمة واتباعهم المتظاهرين بالظلم والفسق ، وأخذ أموال الناس ، واللعب بالباطل ، كما هو معروف الان في جميع الأصقاع والبلدان بين الشيعة وغيرهم ، من هذا القبيل بل من أظهر أفراد هذه الاخبار.

وظاهر الخبر الرابع : جواز الغيبة بمجرد ظهور الفسق وان لم يكن متظاهرا به ، وان ترك الجماعة فسق وان لم يقل به الأصحاب فيما اعلم ، حيث انهم صرحوا بان ترك المستحبات لا يمنع من العدالة ، الا ان ظاهر الاخبار خلافه لتظافرها بجواز حرق بيته عليه.

وبالجملة فالخبر المذكور ظاهر في حصول الفسق بذلك ، وانه يجوز غيبته وان لم يتظاهر به ، الا ان يخص ذلك بمورد الخبر المذكور من صلاة الجماعة ، تنويها بشأنها وعلو مكانها.

ويؤيد العموم ما في بعض الاخبار ، من قوله عليه‌السلام : لا غيبة لفاسق. الا انه يشكل ذلك بان الغيبة التي هي عبارة عن ذكر الرجل بالعيب الذي فعله وستره الله تعالى عليه ، انما مورده الفاسق ، لأنه إنما اغتابه بما فعله من الذنب الموجب لفسقه ، مع ان الله تعالى قد حرم ذكره بذلك وجعله من قبيل أكل لحم أخيه ميتا. وحينئذ فإذا كان الفسق حاصلا مع تحريم الله سبحانه غيبته وذكره به ، فكيف يتم نفى الغيبة عن الفاسق مطلقا؟ بل الظاهر هو تقييد إطلاق الخبر المذكور بما إذا كان متظاهرا به ، كما دلت عليه الاخبار الأولة.

وحينئذ فالظاهر قصر الصحيحة المذكورة على موردها والله العالم.

(ومنها) ما أشرنا إليه ـ آنفا ـ من جواز غيبته لدفع الضرر عنه ، وان لم يتعرض له أحد من الأصحاب فيما اعلم.

١٦٧

ويدل على ذلك ما رواه الكشي في كتاب الرجال ، في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن زرارة ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : اقرأ مني على والدك السلام ، وقل له : انى إنما أعيبك دفاعا منى عنك ، فان الناس والعدو يسارعون الى كل من قربناه وحمدنا مكانه. لإدخال الأذى فيمن نحبه ونقربه ، ويذمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا ، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ، ويحمدون كل من عبناه نحن فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا بميلك إلينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر ، لمودتك لنا ولميلك إلينا ، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ، ويكون ذلك منا دافع شرهم عنك ـ يقول الله عزوجل (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. هذا التنزيل من عند الله سبحانه صالحة ، لا والله ما عابها الا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه ، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ ، والحمد لله فافهم المثل يرحمك الله تعالى ، فإنك والله أحب الناس الى ، وأحب أصحاب أبي إلى ، حيا وميتا ، فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ، وان من ورائك لملكا ظلوما غصوبا ، يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ، ليأخذها غصبا فيغصبها وأهلها ، فرحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا ، ولقد ادى الى ابناك الحسن والحسين رسالتك ، أحاطهما الله وكلاهما ورعاهما وحفظهما ، بصلاح أبيهما ، كما حفظ الغلامين ، فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك ابى عليه‌السلام وأمرتك به ، وأتاك أبو بصير بخلاف الذي أمرناك به ، لا والله ما أمرناك ولا أمرناه إلا بأمر وسعنا ووسعكم الأخذ به ، ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق ، فلو اذن لنا لعلمتم ان الحق في الذي أمرناكم به ، فردوا إلينا الأمر وسلموا لنا ، واصبروا لأحكامنا وارضوا بها ، والذي فرق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله أمر خلقه ، وهو أعرف بمصلحة غنمه ، في فساد أمرها. الحديث (١).

__________________

(١) رجال الكشي ص ١٢٥ ـ ص ١٢٧ طبعة النجف.

١٦٨

أقول : والظاهر انه لهذا كان زرارة ربما قدح في الإمام عليه‌السلام وعابه ، كما هو مروي في اخبار ذمه ، بان يكونوا ـ عليهم‌السلام ـ رخصوا له ذلك للعلة المذكورة في هذا الخبر.

وبهذا الخبر ايضا يجاب عما ورد في الهشامين ـ رضى الله عنهما ـ لا سيما ما نقل عنهما من القول بالجسم والصورة ، وتقرير الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ على ذلك وذمهم لهما ، مع ما ورد من الاخبار الدالة على منزلتهما ، ولا سيما هشام بن الحكم.

ونسبة هذين القولين الشنيعين لهما ـ رضى الله عنهما ـ اما ان يكون مع عدم معرفتهما بذلك عن الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وهو بعيد ، أو مع معرفتهما بذلك ، وانهما قصدا الى خلاف ما عليه الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وهو أشد بعدا. فلم يبق الا ما قلنا من الرخصة لهما في إظهار ذلك دفاعا عنهما بالتقريب المتقدم.

وروى في الكتاب المتقدم في الصحيح أو الموثق عن الحسين بن زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان ابى يقرأ عليك السلام ويقول : جعلت فداك ، انه لا يزال الرجل والرجلان يقدمان فيذكران انك ذكرتني ، وقلت في. فقال : اقرأ أباك السلام ، وقل له : انا والله أحب لك الخير في الدنيا وأحب لك الخير في الآخرة ، وانا والله عنك راض ، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا (١).

(ومنها) ان يكون الإنسان معروفا باسم يعرب عن غيبته كالأعرج والأعمش والأشتر ونحوها.

قالوا : فلا اثم على من يقول ذلك ، فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف.

وقال الشهيد الثاني : والحق ان ما ذكره العلماء المعتمدون من ذلك ، يجوز التعويل فيه على حكايتهم ، واما ذكره عن الأحياء فمشروط بعلم رضاء المنسوب اليه به ، لعموم النهى. وحينئذ يخرج عن كونه غيبة. وكيف كان فلو وجد عنه معدلا وامكنه التعريف بعبارة أخرى فهو اولى. انتهى. وهو جيد.

__________________

(١) الكشي ص ١٢٨.

١٦٩

والذي حضرني من الاخبار في هذا المقام ، ما رواه في الكافي ، عن الحسن بن زيد الهاشمي ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : جاءت زينب العطارة الحولاء الى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث (١).

وسيأتي قريبا ـ ان شاء الله تعالى ـ في تحريم الغش.

(ومنها) ما إذا علم اثنان أو ثلاثة مثلا معصية من آخر ، فذكرها بعضهم للآخر في غيبة صاحب المعصية ، فإنه يجوز ذلك ، لأنها لا تؤثر عند السامع شيئا ، زيادة على علمه سابقا.

أقول : وهو من حيث الاعتبار جيد الا ان أدلة النهي عن الغيبة من آية أو رواية أعم من ذلك. والتخصيص بمثل هذا الوجه الاعتباري مشكل.

__________________

(١) الكافي ج ٨ (الروضة) ص ١٥٣ حديث : ١٤٣.

١٧٠

المسألة السابعة

في السحر ، ونحوه القيافة ، والكهانة ، والشعبدة

ولا خلاف في تحريم تعليم الجميع وأخذ الأجرة عليه. ولا بد من بسط الكلام هنا في مقامات :

(الأول) في السحر.

قال في المنتهى : السحر عقد ورقي وكلام يتكلم به ، أو يكتبه ، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور ، أو قلبه ، أو عقله ، من غير مباشرة له.

وزاد الشهيدان شيئا آخر من جملة السحر ، قال في المسالك : وهو كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام أو عزائم ونحوها ، يحدث بسببها ضرر على الغير ، ومنه عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطئها ، وإلقاء البغضاء بينهما ، ومنه استخدام الملائكة والجن ، واستنزال الشياطين ، في كشف الغائبات وعلاج المصاب ، واستحضارهم ، وتلبسهم ببدن صبي أو امرأة ، وكشف الغائب على لسانه ، فتعلم ذلك وشبهه ، وعلمه وتعليمه كله حرام ، والتكسب به سحت ، ولو تعلمه ليتوفى به ، وليدفع به المتنبي بالسحر ، فالظاهر جوازه ، وربما وجب على الكفاية ، كما

١٧١

اختاره في الدروس. ويجوز حله بالأقسام والقرآن ، كما ورد في رواية العلاء. انتهى.

وقال في الدروس نحو ما في المسالك ثم انه قد وقع الخلاف بين كافة العلماء في السحر ، هل له حقيقة أو انه تخيل؟

قال في المسالك : الأكثر على انه لا حقيقة له بل هو تخيل. ثم قال : ويشكل بوجدان أثره في كثير من الناس ، والتأثر بالتوهم انما يتم لو سبق للقابل علم بوقوعه ، ونحن نجد أثره فيمن لا يشعر به أصلا حتى يضربه انتهى.

وقيل : أكثره تخيل ، وبعضه حقيقي ، لأنه تعالى وصفه بالعظمة في سحرة فرعون. أقول : وصفه بالعظمة لا يدل على كونه حقيقة ، بل ظاهر الآية خلاف ذلك ، كما ذكره الطبرسي في تفسيره ، وغيره حيث قال : فلما ألقوا ، اى فلما القى السحرة ما عندهم من السحر ، احتالوا في تحريك العصي والحبال ، بما جعلوه فيها من الزيبق ، حتى تحركت بحرارة الشمس ، وغير ذلك من الحيل وأنواع التمويه والتلبيس ، وخيل الى الناس انها تتحرك على ما تتحرك الحية ، وانما سحروا أعين الناس ، لأنهم اروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته ، وخفي ذلك عليهم ، لبعده منهم ، لأنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم. وفي هذا دلالة على ان السحر لا حقيقة له ، لأنها لو صارت حيات حقيقة ، لم يقل الله سبحانه (سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ) ، بل كان يقول : فلما ألقوا صارت حيات. انتهى.

وقال الرازي : احتج القائلون بأن السحر محض تمويه ، بهذه الآية.

وقال القاضي البيضاوي : لو كان السحر حقا لكانوا. قد سحروا في قلوبهم وأعينهم ، فثبت ان المراد انهم تخيلوا أحوالا عجيبة. مع ان الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه.

وقال الواحدي : قيل ان المراد ، سحروا أعين الناس ، اى قلبوها عن صحة إدراكها ، بسبب تلك التمويهات.

١٧٢

أقول : لا يخفى ان الذي حصل من فعل السحرة يومئذ ، هو كون تلك الحبال والعصي التي ألقوها حيات تتحرك ، ومن الظاهر ان الحركة الثابتة لها ناشئة من الزيبق بعد طلوع الشمس عليها ، واما كونها حيات في نظر الناظر إليها يومئذ بهذا ، هو الذي حصل به السحر في أعين الناس حيث انهم بعد رؤيتها حبالا أولا وعصيا ، صارت حيات في نظرهم ثانيا ، وأكد ذلك حركتها ، فكونها حيات في نظرهم لا بد من حمله على مجرد التخيل والتوهم ، الذي نشأ من سحرهم ولذلك قال سبحانه : «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» (١). ولانه لو أمكن الساحر ان يقلب حقيقة من الحقائق إلى حقيقة أخرى ، لزم مشاركته لله تعالى في الخلق ، وهو باطل عقلا ونقلا ، ولأمكن أن يعيد نفسه من الهرم الى الصغر ، ويدفع عن نفسه الأسقام والالام ، والكل مما يقطع ببطلانه عند جملة الأنام.

وقد ورد في حديث الزنديق الذي سأل الإمام الصادق عليه‌السلام المروي في الاحتجاج (٢) ، قال : أفيقدر الساحر ان يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب والحمار أو غير ذلك؟ قال : هو أعجز من ذلك وأضعف من ان يغير خلق الله سبحانه ، ان من أبطل ما ركبه الله تعالى وصوره فهو شريك الله تعالى في خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لو قدر الساحر على ما وصفت ، لدفع عن نفسه الهرم والآفة والمرض ، ونفى البياض عن رأسه ، والفقر عن ساحته. وقال عليه‌السلام في الحديث المذكور لما سأله الزنديق فيما سأله ، فقال : أخبرني عن السحر ما أصله ، وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟ قال عليه‌السلام : ان السحر على وجوه شتى ، وجه منها بمنزلة الطب ، كما ان الأطباء وضعوا لكل داء دواء فكذلك علم السحر ، احتالوا لكل صحة آفة ، ولكل عافية عاهة ، ولكل معنى حيلة ، ومنه نوع آخر : خطفة وسرعة ومخاريق وخفة ونوع منه ما يأخذ أولياء الشياطين منهم. قال : من اين علم الشياطين السحر؟ قال : من حيث عرف الأطباء الطب ،

__________________

(١) سورة طه : ٦٦.

(٢) احتجاج الطبرسي ج ٢ ص ٨١ ـ ٨٢ طبعة النجف الأشرف.

١٧٣

بعضه تجربة وبعضه علاج. قال : فما تقول في الملكين هاروت وماروت ، وما يقول الناس بأنهما يعلمان الناس السحر؟ فقال : انهما موضع ابتلاء وموقف فتنة ، تسبيحهما اليوم «لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو يعالج بكذا أو كذا صار كذا ـ أصناف السحر» فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما ، فيقولان لهم : انما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم ، الى ان قال عليه‌السلام : وان من أكبر السحر النميمة ، يفرق بها بين المتحابين ، ويجلب العداوة بين المتصافين ، ويسفك بها الدماء وتهدم بها الدور ، ويكشف بها الستور ، والنمام أشد من وطأ على ارض بقدم ، وأقرب أقاويل السحر من الصواب : انه بمنزلة الطب ، ان الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء ، فجاء الطبيب فعالجه فأبرأه (١).

أقول : ومن الاخبار الواردة في المقام ، ما رواه في الكافي عن على بن إبراهيم عن أبيه عن شيخ من أصحابنا الكوفيين ، قال : دخل عيسى بن سيفي (٢) على ابى عبد الله عليه‌السلام ، وكان ساحرا يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر ، فقال له : جعلت فداك : انا رجل كانت صناعتي السحر ، وكنت آخذ عليها الأجر ، وكان معاشي منه ، وقد حججت منه ومن الله على بلقائك ، وقد تبت الى الله عزوجل ، فهل لي في شي‌ء من ذلك مخرج؟ قال : فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : حل ولا تعقد (٣). ورواه الصدوق بإسناد عن عيسى المذكور نحوه.

ورواه الحميري في قرب الاسناد ـ بإسناده ـ عن عيسى بن سيفي مثله.

قال في الوسائل بعد نقل الخبر المذكور : أقول : خصه بعض علمائنا بالحل

__________________

(١) الاحتجاج ، ج ٢ ص ٨٢.

(٢) اختلف نسخ الكافي والتهذيب والفقيه وقرب الاسناد وغيرها في هذا اللفظ ، ففي بعضها : «شقفي». وفي بعضها : «سقفى». وفي بعضها : «سعفى». وفي بعضها : «سيفي». والأخير هو الصحيح. نظرا الى نسخة أصل التفسير ورواية جامع الرواية ومن ثم أثبتناه.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١١٥ حديث : ٧.

١٧٤

بغير السحر كالقرآن والذكر والتعويذ ونحوها ، وهو حسن ، إذ لا تصريح بجواز الحل بالسحر (١).

أقول : لا يبعد العمل به على ظاهره من جواز الحل (٢) ، كما يظهر من الاخبار الاتية. ويؤيده ما تقدم في كلام الشهيد من جواز تعلمه للتوقي به ودفع المتنبي بالسحر ، بل وجوبه كفاية.

* * *

ومنها ما رواه الصدوق بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه ـ عليهما‌السلام ـ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفار لا يقتل. قيل : يا رسول الله ، لم لا يقتل ساحر الكفار؟ قال : لان الشرك أعظم من السحر ، ولان السحر والشرك مقرونان (٣).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زيد الشحام عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال :

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٠٦.

(٢) أقول : وبما ذكرناه صرح المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال : ويمكن ان يكون تعلم السحر للحل جائزا ، بل قد يجب لغاية معرفة المتنبي ودفعه ودفع الضرر عن نفسه وعن المسلمين. وقد أشار إليه في شرح الشرائع عن الدروس. ويدل على الجواز ما في رواية إبراهيم بن هاشم ، قال : حدثني شيخ من أصحابنا الكوفيين ، قال : دخل عيسى بن سيفي ، ثم ساق الخبر ـ كما في الأصل ـ وقال : العلامة في التحرير : والذي يحل السحر بشي‌ء من القرآن والذكر أو الأقسام فلا بأس به ، وان كان بالسحر حرم على اشكال : وظاهره في المنتهى : التحريم من حيث انه سحر من غير اشكال. واستدل بحديث عيسى على الحل بالقرآن ونحوه. وفيه ما عرفت في المتن. وبالجملة فما ذكروه هو الأحوط ، وما ذكرناه هو الظاهر من الأدلة والله العالم. منه قدس‌سره.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٠٦ حديث : ٢ وج ١٨ ص ٥٧٥ حديث : ١.

١٧٥

الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه (١).

وما رواه في التهذيب عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن على ، عن أبيه عن آبائه عن على عليه‌السلام ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فشهدا عليه فقد حل دمه (٢).

وعن السكوني عن جعفر بن محمد عليه‌السلام عن أبيه ان عليا عليه‌السلام كان يقول : من تعلم شيئا من السحر كان آخر عهده بربه وحده القتل الا ان يتوب (٣).

ورواه في قرب الاسناد بسنده عن أبي البختري عنه عليه‌السلام مثله.

أقول : قد حمل هذه الاخبار بعض مشايخنا على من يستحل ذلك (٤) ، وهو كذلك كما يظهر من الخبر الأخير ، ويعضده غيره من الاخبار المذكورة في المقام.

ومنها ما رواه في العلل ـ بعد نقل رواية السكوني الأولى ـ قال : وروى ان توبة الساحر ان يحل ولا يعقد (٥).

وما رواه في عيون الأخبار بإسناده عن الحسن العسكري عليه‌السلام ، عن آبائه في حديث ، في قوله عزوجل «وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ» قال : كان بعد نوح عليه‌السلام قد كثرت السحرة والمموهون ، فبعث الله عزوجل ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم ، فتلقاه النبي من الملكين ، واداه إلى عباد الله تعالى ان يقفوا به على السحر وان يبطلوه ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٥٧٦ حديث : ٢ وفي نسخة : «على أم رأسه».

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ٥٧٦ حديث : ١ باب : ٣.

(٣) الوسائل ج ١٨ ص ٥٧٦ حديث : ٢ باب : ٣.

(٤) قال العلامة في المنتهى : لا خلاف بين علمائنا في تحريم تعلم السحر وتعليمه ، وهل يكفر أم لا؟ الحق انه ان استحل ذلك فقد كفر ، والا فلا ، وسيأتي البحث في ذلك. انتهى ، منه قدس‌سره.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ١٠٦ حديث : ٣.

١٧٦

ونهاهم ان يسحروا به الناس ، وهذا كما يدل على السم ما هو وما يدفع به غائلة السم ، الى ان قال : وما يعلمان من أحد ذلك السحر وإبطاله حتى يقولا للمتعلم : انما نحن فتنة وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلمون من هذا ويبطلون به كيد السحرة ولا يسحروهم ، فلا تكفر باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به ، ودعاء الناس الى ان يعتقدوا انك به تحيي وتميت وتفعل مالا يقدر عليه الا الله عزوجل ، فان ذلك كفر. الى ان قال «وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» ، لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا به ويضروا به ، فقد تعلموا ما يضرهم في دينهم ولا ينفعهم فيه. الحديث. (١).

قال في الوسائل ـ بناء على ما قدمنا نقله عنه ، بعد ذكر هذا الخبر في جملة الأخبار التي نقلها ـ : لا يخفى انه يحتمل كون ما مر من جواز الحل بالسحر مخصوصا بتلك الشريعة المنسوخة. انتهى.

وفيه : ان الظاهر من نقل الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ حكايات الأحكام الشرعية ، عن الأمم المتقدمة ، انما هو لأجل الاستدلال بها على ثبوت تلك الأحكام في هذه الشريعة أيضا ، كما يظهر من كثير من الاخبار التي اشتملت على ذلك ، والا فمجرد حكايتها من غير غرض شرعي يترتب عليها ، يكون من قبيل اللغو العاري عن الفائدة ، إذ كل أحد يعلم ان تلك الشرائع صارت منسوخة بهذه الشريعة ، فلا معنى لنقل أحكامها إذا لم يكن المراد منها ما ذكرنا.

ويؤيد ما ذكرناه الرواية المرسلة المتقدم نقلها عن العلل ، مضافا الى ذلك رواية عيسى المتقدمة.

* * *

ومنها : ما رواه في العيون ايضا بسنده عن على بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليحترزوا به من سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم ، وما علما أحدا من ذلك شيئا حتى قالا : انما نحن فتنة فلا تكفر ، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرقون بما

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٠٦ ـ ١٠٧ حديث : ٤.

١٧٧

تعلموه بين المرء وزوجه. قال الله عزوجل «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللهِ» يعنى بعلمه. (١).

وقال على بن إبراهيم في تفسيره في حديث هجرة جعفر بن ابى طالب ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأصحابه إلى الحبشة : وبعث قريش عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص إلى النجاشي ليردوهم ـ وساق الحديث الطويل ـ الى ان قال : وكان على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه فنظرت إلى عمارة وكان فتى جميلا فاحبته ، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله ، قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك ، فراسلها فأجابته فقال عمرو : قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا. فقال لها ، فبعثت إليه. فأخذ عمرو من ذلك الطيب وادخله على النجاشي وأخبره بما جرى بين عمارة وبين الوصيفة ووضع الطيب بين يديه ، فغضب النجاشي وهم بقتل عمارة. ثم قال : لا يجوز قتله ، لانه دخل بلادي بأمان ، فدعى السحرة وقال : اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل. فأخذوه ونفخوا في إحليله الزيبق ، فصار مع الوحش يغدو ويروح. وكان لا يأنس بالناس ، فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش ، فأخذوه ، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات. الخبر (٢).

وقد ورد في بعض أخبارنا ـ وفاقا لروايات العامة ـ وقوع السحر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانه سحره لبيد بن اعصم اليهودي (٣).

وقد أنكره جملة من أصحابنا ، منهم العلامة في المنتهى. قال : وهذا القول م. ه. معرفة.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٠٧ حديث : ٥.

(٢) بحار الأنوار ـ ج ١٨ ص ٤١٤ ـ ٤١٦. وفي نقل المصنف هنا تلخيص واختصار.

(٣) جاءت القصة في البخاري ج ٤ ص ١٤٨ وج ٧ ص ١٧٦. وفي مسلم ج ٧ ص ١٤. وجاءت في كتبنا ، لكن لا بالصورة التي جاءت في كتب العامة. راجع : بحار الأنوار ج ١٨ ص ٧٠ نقلا عن طب الأئمة ومجمع البيان وغيرهما. وقد أوضحنا بطلان الحديث بالشكل الذي ترويه العامة في كتابنا «التمهيد» الى علوم القرآن ج ١ ص ١٣٢ ـ ١٣٧.

١٧٨

عندي ضعيف ، والروايات ضعيفة ، خصوصا رواية عائشة ، لاستحالة تطرق السحر إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام.

وأنكره الشيخ في الخلاف ايضا ، وقال ـ بعد ذكر بعض الاخبار عن عائشة ـ : وهذه الأحبار آحاد لا يعمل عليها في هذا المعنى. وقد روى عن عائشة انها قالت : سحر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فما عمل فيه السحر. وهذا يعارض ذلك. انتهى.

وقال شيخنا في البحار : «واما تأثير السحر في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام عليه‌السلام فالظاهر عدم وقوعه ، وان لم يقم برهان على امتناعه ، إذا لم ينته الى حد يخل بغرض البعثة ، كالتخبيط والتخليط ، فإذا كان الله تعالى اقدر الكفار لمصالح التكليف ، على حبس الأنبياء والأوصياء وضربهم وجرحهم وقتلهم بأشنع الوجوه ، فأي استحالة على ان يقدروا على فعل يؤثر فيهم هما أو مرضا».

«لكن لما عرفت ان السحر يندفع بالعوذة والآيات والتوكل ، وهم ـ عليهم‌السلام ـ معادن جميع ذلك ، فتأثيره فيهم ـ عليهم‌السلام ـ مستبعد ، والاخبار الواردة في ذلك أكثرها عامية ، أو ضعيفة ومعارضة بمثلها ، فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك».

أقول : لا يخفى ان محل الاشكال انما هو باعتبار ما دلت عليه تلك الاخبار ، من تأثير السحر فيهم ـ عليهم‌السلام ـ كغيرهم من الناس ، بحيث يوجب ذهاب العقل أو المرض أو نحو ذلك ، هذا هو الذي أنكره أصحابنا. ولو صح لصدق ما حكى الله سبحانه عن الكفار بقولهم «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلّا رَجُلاً مَسْحُوراً». على ان ما ذكره من القياس على تسليط الله عزوجل الكفار على إنزال القتل والحبس بهم ـ عليهم‌السلام ـ لمصالح ، مردود ، بان الوجه في ذلك هو انه عزوجل أمرهم بالانقياد لأمراء الجور ، مدة هذه الدنيا الدنيئة ، ومنعهم من الدعاء عليهم وحثهم على الانقياد إليهم.

واليه يشير قوله عزوجل «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ

١٧٩

لِيَجْزِيَ قَوْماً). الاية ، فقد ورد في تفسيرها ما يدل على ما ذكرناه (١). بخلاف ما ذكره من تأثير السحر فيهم ، وان كان بمجرد الهم أو المرض ، فإنه لم يرد دليل على أمرهم بقبول ذلك ، مع وجوب دفع الضرر عن النفس مع القدرة والإمكان ، ولا ريب في إمكان ذلك بالنسبة إليهم ـ عليهم‌السلام.

الا ترى الى ما ورد في جملة من الاخبار في دفعهم كيد السحرة الفجار ، مثل ما رواه في العيون بسنده عن على بن يقطين ، قال استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام ويقطعه ويخجله في المجلس ، فانتدب له رجل مغرم ، فلما أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز ، فكان كلما رام أبو الحسن عليه‌السلام تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه ، واستفز هارون الفرح والضحك لذلك ، فلم يلبث أبو الحسن ان رفع رأسه الى أسد مصور على بعض الستور ، فقال له : يا أسد الله ، خذ عدو الله : فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع. فافترست ذلك المغرم ، فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم. وطارت عقولهم خوفا من هول ما رأوا. فلما أفاقوا من ذلك بعد حين قال هارون لأبي الحسن عليه‌السلام : سألتك بحقي عليك لما سألت الصورة ان ترد الرجل. فقال : ان كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم ، فان هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل : فكان ذلك اعمل الأشياء في اماتة نفسه (٢) :. ونحو ذلك روى في كتاب الخرائج والجرائح عن الإمام الهادي عليه‌السلام مع المتوكل لعنه الله تعالى. وفي كتاب الثاقب في المناقب عن الصادق عليه‌السلام مع المنصور (٣).

__________________

(١) قال الثقة الجليل على بن إبراهيم القمي (قدس‌سره) في تفسيره لهذه الآية : قال : يقول لأئمة الحق : لا يدعون على ائمة الجور ، حتى يكون الله هو الذي يعاقبهم في قوله : ليجزي قوما بما كانوا يكسبون. انتهى. منه قدس‌سره.

(٢) مدينة المعاجز ص ٤٤٦ حديث : ٦٧.

(٣) وملخص الأول : انه وقع رجل مشعبذ من ناحية الهند الى المتوكل فأمره

١٨٠