الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

المسألة الخامسة

في حفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقض

كذا صرح به جملة من الأصحاب ، بل ظاهر المنتهى : انه إجماع. ولم أقف في النصوص على ما يتعلق بهذا الباب.

قال في المسالك : المراد حفظها من التلف أو على ظهر القلب ، وكلاهما محرم لغير النقض والحجة على أهلها ، لمن له أهليتها لا مطلقا ، خوفا على ضعفاء البصيرة من الشبهة ، ومثله نسخها ، وكذا يجوز للتقية ، وبدونها يجب إتلافها إذا لم يمكن افراد موضع الضلال والا اقتصر عليها حذرا من إتلاف ما يعد مالا ، من الجلد والورق ، إذا كان لمسلم أو لمحترم المال. انتهى.

وعندي في الحكم من أصله توقف ، لعدم النص ، والتحريم والوجوب ونحوهما أحكام شرعية ، يتوقف القول بها على الدليل الشرعي ، ومجرد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم ، لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعية.

قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : لعل دليل التحريم ، انه قد يؤل الى ما هو المحرم ، وهو العمل به ، وان حفظها ونسخها ينبئ بالرضا بالعمل والاعتقاد بما فيه ، وانها مشتملة على البدعة ، ويجب دفعها من باب النهى عن المنكر. انتهى.

١٤١

ولا يخفى ما فيه.

قيل : ولعل المراد بها أعم من كتب الأديان المنسوخة وكتب المخالف للحق ، أصولا وفروعا ، والأحاديث المعلوم كونها موضوعة ، لا الأحاديث التي رواها الضعفاء ، لمذهبهم ولفقههم مع احتمال الصدور ، وحينئذ يجوز حفظ الصحاح الستة ، غير الموضوع المعلوم كالاحاديث التي في كتبنا مع ضعف رواتها ، لكونهم زيدية وفطحية وواقفية ، ولا ينبغي الاعراض عن الاخبار النبوية ، التي رواها العامة ، فإنها ليست الأمثل ما ذكرنا.

أقول : لو كان الحكم المذكور منصوصا عليه ، والعلة من النص ظاهرة ، لأمكن استنباط الأحكام من النص ، بما يناسب تلك العلة ، ويناسب سياق النص ، وأمكن التفريع على ذلك بما يقتضيه الحال من ذلك النص ، وحيث ان الأمر ليس كذلك ، فهذه التفريعات والتخريجات كلها انما هي من قبيل الرمي في الظلام.

وقال المحقق المتقدم ذكره : ثم ان الظاهر ان الممنوع منه هو كتب الضلال فقط ، لا مصنف المخالف في مذهبه مطلقا وان وافق الحق ، فتفاسير المخالفين ليست بممنوع منها الا المواضع المخصوصة المعلوم بطلانها وفسادها من الدين ، فان الظاهر لا قصور في أصول فقههم الا نادرا ، إذ الحق هنا ما ثبت بالدليل وليس شي‌ء هنا مقرر في الدين قد خولف ، بل كتبهم في ذلك مثل كتبنا في نقل الخلاف واختيار ما هو المبرهن ، وهو الحق. وكذلك بيعها وسائر التكسب بها ، على انه يجوز كله للأغراض الصحيحة ، بل قد يجب كالتقية والنقض والحجة واستنباط الفروع ونقلها ونقل أدلتها إلى كتبنا ، وتحصيل القوة وملكة البحث على أهلها. انتهى.

أقول : والكلام هنا يجرى على حسب حال ما قدمناه ، فان تخصيص المنع بالضلال فقط جيد لو كان ثمة دليل على حسب ما ذكروه ، ولكنهم هنا انما يبحثون على تقدير هذه العبارة التي قدمناها ، وهي التي يذكرونها في هذا المقام ، وقد عرفت انه لا مستند لهم ، من اخبارهم عليهم‌السلام.

١٤٢

هذا مع تطرق الإشكال إليها والاحتمال ، بان المراد من كتب الضلال يعنى كتب أهل الضلال ، وهو مجاز شائع في الكلام ، وبه ينتفي ما ذكروه من التخصيص بالضلال ، ويصير عاما لمصنفات أهل الضلال مطلقا. وهذا هو المناسب لما ورد من النهى عن الجلوس إليهم والاستماع منهم ولو للرد عليهم ، خوفا من شمول اللعنة والعذاب له كما يشير اليه بعض الاخبار (١).

واما قوله : فتفاسير المخالفين ليست بممنوع منها ، فإنه وان سلم انها ليست ممنوعا منها من هذه الجهة المذكورة ، الا انها ممنوع منها بما استفاض في الاخبار من النهى عن تفسير القرآن الا بما ورد عنهم عليهم‌السلام (٢) ، وان كان المشهور بينهم عدم العمل بهذه الاخبار ، كما يعطيه كلامه هنا ، نسأل الله سبحانه المسامحة لنا ولهم من عثرات الأقلام وزلات الاقدام.

ولعل ذلك لعدم اطلاعهم عليها ، وإمعان النظر في تتبعها من مظانها ، والا فهي في الكثرة والدلالة على ما قلناه أشهر من ان ينكر ، كما بسطنا الكلام عليه في غير المقام من مؤلفاتنا ، وأشرنا الى ذلك في المقدمة الثالثة من مقدمات الكتاب وبينا ان جملة الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام متفقة الدلالة على المنع من تفسيره الا بما ورد عنهم عليهم‌السلام (٣).

ولذلك تصدى لذلك جملة من فضلاء المتأخرين المتبحرين ، منهم السيد العلامة السيد هاشم الكنكانى البحراني في تفسيره المسمى بالبرهان في تفسير القرآن ، فجمع تلك الأخبار الواردة بتفسير الآيات عنهم ـ عليهم‌السلام ـ ، ولقد أحاط بجملة من الاخبار في تفسير الآيات ، ولم يسبقه سابق الى وصول هذه المقامات.

ثم الشيخ عبد العلى الحويزاوي في كتاب نور الثقلين.

__________________

(١) راجع : الوسائل ج ٨ ص ٤٣٠.

(٢) راجع : تفسير البرهان ج ١ ص ١٨.

(٣) راجع : تفسير الصافي المقدمة الخامسة. والجزء الأول ص ٢٧ من هذا الكتاب.

١٤٣

ثم المحدث الكاشاني في تفسيره الصافي ، وهو الحق الحقيق بالاتباع.

واما قوله : فان الظاهر انه لا قصور في أصول فقههم. إلخ. ففيه انه لا ريب ان هذا العلم واختراع التصنيف فيه والتدوين لأصوله وقواعده ، انما وقع أولا من العامة ، فإن من جملة من صنف فيه الشافعي ، وهو في عصر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ مع انه لم يرد عنهم ـ عليهم‌السلام ـ ما يشير اليه ، فضلا عن ان يدل عليه ، ولو كان حقا (١) كما يدعونه ، بل هو الأصل في الأحكام الشرعية كما يزعمونه ، لما غفل عنه

__________________

(١) انا لنستغرب هكذا هجمات قاسية من مثل شيخنا المحدث في هذا الموضع ، بل ولهجته العنيفة التي تأباه المباحث العلمية في ثنايا الكتاب.

ولنتساءل الشيخ المصنف : ما هو علم الأصول الذي يستنكره بهذه الصورة الغريبة؟! اما مباحث الألفاظ فهي جملة من مباحث لغوية بحتة يجب على الفقيه تفهمها ليتمكن من استنباط الحكم الشرعي من نصوص الكتاب والسنة ، وهي جارية على أساليب اللغة المتعارفة ، فكما يجب عليه درس متن اللغة وقواعدها الأدبية ، كذلك يجب عليه درس هذه المباحث ، لنفس الغاية.

واما الأصول العملية فهي قواعد فقهية مأخوذة من جملة روايات صحت عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لا بد لكل فقيه ان يرجع إليها عند اعوزاز الدليل الاجتهادي على الحكم. فإذا لم يجد دليلا على حرمة شي‌ء أو دليلا على وجوب شي‌ء ، فلا بد حينئذ من اللجوء الى حديث الرفع المتواتر الذي يقبله الأصولي والاخبارى. وهكذا الاستصحاب وغيره.

نعم لا يرجع إليه الاخبارى في الشبهات التحريمية ، ويقتصر في الأخذ بحديث الرفع في الشبهات الوجوبية فحسب. وهذا المقدار لا يصلح فارقا لتكوين مذهبين ، وتبريرا لمثل هذا التشنيع القاسي. بل التشنيع موجه إلى الاخبارى نفسه الذي يترك العمل بعموم دستور صدر عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فيؤمن بالبعض ويترك البعض لا عن سبب معقول.!

عصمنا الله من طيش القلم وزلة العصبية في المقال. م. ه. معرفة.

١٤٤

الأئمة عليهم‌السلام ، مع حرصهم على هداية شيعتهم ، الى كل نقير وقطمير ، كما لا يخفى على من تتبع أخبارهم ، إذ ما من حالة من حالات الإنسان ، في مأكله ومشربه وملبسه ونومه ويقظته ونكاحه ونحو ذلك من أحواله ، الا وقد خرجت فيه السنن عنهم عليهم‌السلام حتى الخلاء ، ولو أراد إنسان أن يجمع ما ورد في باب الخلاء لكان كتابا على حده ، فكيف يغفلون عن هذا العلم الذي هو بزعمهم مشتمل على القواعد الكلية والأصول الجلية ، والأحكام الشرعية ، وكذلك أصحابهم في زمانهم عليهم‌السلام ، مع رؤيتهم العامة عاكفين على تلك القواعد والأصول ، يعملون به الى ان انتهت النوبة بعد الغيبة إلى الشيخ ـ رحمه‌الله ـ فصنف فيه استحسانا لما رآه في كتبهم ، وخالفهم فيما لا يوافقون أصول مذهبنا وقواعده ، ثم جرى على ذلك من بعده من أصحابنا ، كما هي قاعدتهم غالبا من متابعته في فتاويه وأحكامه وتصانيفه.

وبالجملة فإن الأمر فيما ذكرنا أظهر من ان يخفى عند الخبير المنصف.

فكتبهم فيه لا تخرج عن كتب أهل الضلال ، ان عممنا الحكم في المقام ، إلا انك قد عرفت ان أصل البناء كان على غير أساس ، فصار معرضا لحصول الشك والشبهة والالتباس.

وكيف كان فالظاهر على تقدير ثبوت التحريم ، انه ان كان الغرض من إبقائها الاطلاع على المذاهب والأقوال ليكون على بصيرة في تمييز الحق من الباطل وعرض ما اختلف من الاخبار عليها والأخذ بخلافه ، حيث انه مأمور بذلك عنهم عليهم‌السلام ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة ، فلا إشكال في الجواز. واليه يشير قوله ـ قدس‌سره ـ أخيرا : على انه يجوز للأغراض الصحيحة. إلخ. والله العالم وأولياؤه.

١٤٥

المسألة السادسة

في هجاء المؤمن والغيبة

والمراد بالأول : ذكر معايبه في الاشعار. والثاني : القول بما يكرهه ويغيظه ، وان كان حقا.

قال في المسالك : وخرج بالمؤمنين غيرهم ، فيجوز هجاؤهم كما يجوز لعنهم.

ولا فرق هنا بين المؤمن الفاسق وغيره ، اللهم الا ان يدخل هجاء الفاسق في مراتب النهى عن المنكر ، بحيث يتوقف ردعه عليه ، فيمكن جوازه حينئذ ان فرض انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : والظاهر ان عموم أدلة الغيبة من الكتاب والسنة يشمل المؤمنين وغيرهم ، فان قوله تعالى «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» اما للمكلفين كلهم أو المسلمين فقط ، لجواز غيبة الكافر. ولقوله بعده «لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» وكذا الأخبار ، فإن أكثرها بلفظ «الناس» أو «المسلم» مثل ما روى في الفقيه «من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه ، ونقض وضوؤه ، وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة ، يتأذى به أهل الموقف ، وان مات قبل ان يتوب مات مستحلا

١٤٦

لما حرم الله تعالى» (١). «ألا ومن سمع فاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها» (٢) ،. «ومن اصطنع إلى أخيه معروفا فامتن به أحبط الله تعالى عمله ، واثبت وزره ولم يشكر له سعيه» (٣).

وقال الشيخ زين الدين في رسالة الغيبة : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه. والغيبة : تناول العرض ، وقد جمع بينه وبين المال والدم. وقال عليه‌السلام : لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا ، وكونوا ـ عباد الله ـ إخوانا. وعن انس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مررت ليلة اسرى بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم. فقلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في اعراضهم. وقال البراء : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى اسمع العواتق في بيوتهن. قال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فان من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» (٤). الى غير ذلك ، وبالجملة عموم أدلة الغيبة. وخصوص ذكر المسلم يدل على التحريم مطلقا ، وان عرض المسلم كدمه وماله ، فكما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله ، لا يجوز تناول عرضه الذي هو الغيبة ، وذلك لا يدل على كونه مقبولا عند الله تعالى ، لعدم جواز أخذ ماله وقتله ، كما في الكافر. ولا يدل جواز لعنه في النص على جواز الغيبة ، مع تلك الأدلة ، بأن يقول : انه قصير أو طويل أو أعمى أو أجذم أو أبرص وغير ذلك ، وهو ظاهر. وأظن انى رأيت في قواعد الشهيد رحمه‌الله انه يجوز غيبة المخالف ، من حيث مذهبه ودينه الباطل وكونه فاسقا من تلك الجهة لا غير ، مثل ان يقال أعمى ونحوه والله اعلم ، ولا شك ان الاجتناب أحوط.

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٨.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ٩.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ١٠.

(٤) كشف الريبة ص ٦ ـ ٧.

١٤٧

انتهى (١).

وصاحب الكفاية قد نقل صدر هذا الكلام ، فقال : وقال بعض المتأخرين ، إلى قوله : ألا من سمع الفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها ، ثم قال : ونقل عن رسالة الشهيد الثاني اخبار ، بعضها بلفظ الناس ، وبعضها بلفظ المسلم. وظاهره : الجمود عليه وموافقته فيما ذكره ، حيث لم يتعرض لرده ولا قدح فيه.

أقول : وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور ، وان كان مبنيا على ما هو المعروف المشهور من الحكم بإسلام المخالفين ، الا ان اخبار أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ظاهرة في رده ، متكاثرة مستفيضة على وجه لا يعتريها الفتور.

وقد بسطنا الكلام في الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ، وقد قدمنا نبذة في ذلك في كتاب الطهارة في باب نجاسة الكافر ، وأوضحنا كفر المخالفين غير المستضعفين ، ونصبهم وشركهم بالاخبار المتكاثرة ، التي لا معارض لها في البين ، وانه ليس إطلاق المسلم عليهم ، الا من قبيل إطلاقه على الخوارج وأمثالهم ، من منتحلي الإسلام ، وتوجه الطعن الى كلام هذا المحقق أكثر من ان يأتي عليه قلم البيان.

ولكن لا بد من التعرض لما لا بد منه مما يندفع به الاشكال ، عن الناظر في هذا المقال ، فنقول :

فيه ـ أولا ـ : ان ما ادعاه من الحكم بإسلامهم مردود ، للأخبار المستفيضة والآيات الطويلة العريضة ، الدالة على الكفر. ولأجل إزاحة ثقل المراجعة على النظار في الرجوع الى ما قدمناه في كتاب الطهارة من الاخبار ، نشير الى نبذة منها على جهة الاختصار.

ففي الكافي عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : ان الله عزوجل نصب عليا علما بينه وبين خلقه ، فمن عرفه كان مؤمنا ، ومن أنكره كان كافرا ، ومن جهله كان ضالا (٢).

__________________

(١) انتهى كلام المحقق الأردبيلي.

(٢) الكافي ج ١ ص ٤٣٨ حديث : ٧.

١٤٨

وقال : ان عليا عليه‌السلام باب فتحه الله فمن دخله كان مؤمنا ، ومن خرج منه كان كافرا ، ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تبارك وتعالى : لي فيهم المشية (١).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : من عرفنا كان مؤمنا ، ومن أنكرنا كان كافرا ، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا ، حتى يرجع الى الهدي الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة ، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء (٢).

وبهذا المضمون أخبار عديدة.

وروى فيه بسنده الى الصادق عليه‌السلام ، قال : أهل الشام شر من أهل الروم ، وأهل المدينة شر من أهل مكة ، وأهل مكة يكفرون بالله جهرة (٣).

وبسنده فيه عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : ان أهل مكة ليكفرون بالله جهرة وان أهل المدينة أخبث من أهل مكة ، أخبث منهم سبعين ضعفا (٤).

وقد روى في الكافي جملة من الاخبار في تفسير الكفر ، في جملة من الآيات القرآنية ، بترك الولاية.

منها : ما رواه بسنده الى الصحاف قال : سألت الصادق عليه‌السلام ، عن قوله تعالى «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٥) قال : عرف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بها ، يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم وهم ذر (٦). ونحوه غيره فليرجع الى الكتاب

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٤٣٧ حديث : ٨.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٨٧ حديث : ١١.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٤٠٩ حديث : ٣.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٤١٠ حديث : ٤.

(٥) سورة التغابن : ٣.

(٦) الكافي ج ١ ص ٤١٣ حديث : ٤ وص ٤٢٦ حديث : ٧٤ ولفظ الحديث في الموضع الثاني : «بموالاتنا» بدل «بولايتنا».

١٤٩

المذكور من أحب الاطلاع عليه فأين ثبوت الإسلام لأولئك الطغام ، مع هذه الآيات والاخبار الواضحة لكل ناظر من ذوي الأفهام!! وأظهر من ذلك ما رواه

في الخصال بسنده عن مالك الجهني ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب اليم ، من ادعى اماما ليست إمامته من الله تعالى ، ومن جحد إماما إمامته من عند الله تعالى ، ومن زعم ان لهما في الإسلام نصيبا (١).

ورواه النعماني في كتاب الغيبة في الصحيح عن عمران الأشعري ، عن جعفر ابن محمد مثله. نعوذ بالله من زيغ الافهام وطغيان الأقلام ، ونسأله سبحانه المسامحة لنا ولهم في أمثال هذا المقام.

وثانيا : ان ما ذكره بقوله «والظاهر ان عموم أدلة تحريم الغيبة من الكتاب والسنة يشمل المؤمنين وغيرهم ، فان قوله تعالى ، (لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، اما للمكلفين أو المسلمين. إلخ» من العجب العجاب عند ذوي العقول والألباب. فان صدر الاية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فالخطاب للمؤمنين خاصة ، فكيف يقول : ان الخطاب للمكلفين أو المسلمين؟! وكأنه غفل عن صدر الآية حتى بنى عليها هذا الكلام الواهي البالغ غاية الضعف.

وبالجملة ، فإن الآية انما هي عليه ، لا له ، لما سيأتيك أيضا زيادة على ما ذكرناه.

وثالثا : ان الآية التي دلت على تحريم الغيبة ، وان كان صدرها مجملا ، الا ان قوله فيها «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» مما يعين الحمل على المؤمنين ، فإن إثبات الاخوة بين المؤمن والمخالف له في دينه ، لا يكاد يدعيه من شم رائحة الايمان ، ولا من أحاط خبرا باخبار السادة الأعيان ، لاستفاضتها بوجوب معاداتهم ، والبراءة منهم.

ومنها : ما رواه الصدوق في معاني الاخبار ، والعيون والمجالس ، وصفات

__________________

(١) رواه في الكافي ج ١ ص ٣٧٣ حديث : ٤ وفي الخصال باب الثلاثة رقم : ٢ ـ ٦١.

١٥٠

الشيعة ، والعلل ، عن محمد بن القاسم الأسترآبادي ، عن يونس بن محمد بن زياد ، وعلى بن محمد بن سيار ، عن أبويهما عن الحسن بن على العسكري عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ ، ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبعض أصحابه ذات يوم : يا عبد الله أحب في الله وأبغض في الله ، ووال في الله وعاد في الله ، فإنه لن تنال ولاية الله الا بذلك ولا يجد الرجل طعم الايمان ، وان كثرت صلاته وصيامه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا ، عليها يتواددون وعليها يتباغضون ، وذلك لا يغني من الله شيئا. فقال الرجل : يا رسول الله ، فكيف لي ان اعلم انى قد واليت في الله وعاديت في الله؟ ومن ولى الله حتى أواليه؟ ومن عدوه حتى أعاديه؟ فأشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى على عليه‌السلام فقال : أترى هذا؟ قال : بلى. قال : ولى الله هذا فواله ، وعدو هذا عدو الله فعاده. ثم قال : وال ولى هذا ، ولو انه قاتل أبيك وولدك ، وعاد عدو هذا ولو أنه أبوك وولدك (١).

أقول : فليختر هذا القائل ، ان المخالف هل هو من أولياء على عليه‌السلام فتجب موالاته وتثبت اخوته ويجب الحكم بدخوله الجنة لذلك؟ أو انه عدو له عليه‌السلام فتجب معاداته وبغضه بنص هذا الخبر الصحيح الصريح عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ ولو لم يكن الا هذا الخبر لكفى به حجة ، فكيف والاخبار بهذا المضمون مستفيضة متكاثرة.

ومنها : ما رواه أيضا في الكافي عن عمرو بن مدرك عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا : الله ورسوله اعلم. وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام. وقال بعضهم : الحج والعمرة. وقال بعضهم : الجهاد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله ، وتوالى أولياء الله ، والتبري من أعداء الله (٢).

__________________

(١) علل الشرائع ص ١٤١ باب : ١١٩ الحديث : ١.

(٢) الكافي ج ٢ ص ١٢٥ حديث : ٦.

١٥١

ومنها : ما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : كل من لم يحب على الدين ، ولم يبغض على الدين فلا دين له (١).

وبالإسناد عن ابى عبد الله عليه‌السلام في رسالته الى أصحابه ، قال : أحبوا في الله من وصف صفتكم ، وأبغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم ، ولا تبذلوها لمن رغب عن صفتكم (٢).

وروى في كتاب صفات الشيعة للصدوق بسنده عن ابن فضال ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : من والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله ، ومن عادى أولياء الله فقد عاد الله ، وحق على الله ان يدخله نار جهنم (٣).

وروى في كتاب ثواب الأعمال وكتاب صفات الشيعة. عن صالح بن سهل عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : من أحبنا وأبغض عدونا في الله ، من غير ترة وترها إياه في شي‌ء من أمر الدنيا ، ثم مات على ذلك فلقي الله وعليه من الذنوب مثل زبد البحر غفرها الله له (٤). الى غير ذلك من الاخبار التي يضيق عن نقلها المقام.

ويعضد هذه الاخبار العلية المنار الساطعة الأنوار قوله عزوجل «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» (٥) وقوله عزوجل «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ» (٦).

وإذا كان الله عزوجل نهى أهل الإيمان عن ولايتهم ومحبتهم ، فكيف يجوز الحكم في الآية المشار إليها بأخوتهم!؟ ما هذا الا سهو واضح من هذا النحرير ، وبذلك

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ١٢٧ حديث : ١٦.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٢.

(٣) كتاب صفات الشيعة رقم : ١١ ص ٤٩ ط طهران.

(٤) ثواب الأعمال : ١٦٥. بحار الأنوار ج ٢٧ ص ٥٥ حديث : ١٠.

(٥) سورة الممتحنة : ١.

(٦) سورة المجادلة : ٢٢.

١٥٢

يظهر لك ايضا حمل خبر البراء الذي نقله ، على المؤمن أيضا ، لقوله فيه «من تتبع عورة أخيه» إذ لا اخوة بين المؤمن والمخالف ، كما عرفت.

وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه تعالى ورسوله ، وبين من كفر بالأئمة ـ عليهم‌السلام ـ؟ مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين بنص الآيات والاخبار الواضحة الدلالة كعين اليقين.

ورابعا : ان ما استند اليه من ورود الأخبار الدالة على تحريم الغيبة بلفظ «المسلم» ففيه :

أولا : انك قد عرفت ان المخالف كافر ، لاحظ له في الإسلام بوجه من الوجوه ، كما حققناه في كتابنا «الشهاب الثاقب».

وثانيا : مع تسليم صحة إطلاق الإسلام عليه ، فالمراد به : انما هو منتحل الإسلام ، كما تقدمت الإشارة اليه ، والمراد هنا : انما هو الإسلام بالمعنى الأخص ، وهو المؤمن الموالي لأهل البيت ـ عليهم‌السلام.

إذ لا يخفى وقوع إطلاق الإسلام على هذا المعنى في الآيات والروايات ، ومنه : قوله تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ» (١) وقوله عزوجل ـ في حق الأئمة ـ : «هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» (٢) وقوله «فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (٣).

كما ان الايمان يطلق أيضا تارة على الإسلام بالمعنى الأعم ، كقوله عزوجل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا» (٤) فان المخاطبين هم المقرون بمجرد اللسان ، أمرهم بالايمان بمعنى التصديق. وإطلاق المسلم بالمعنى الذي ذكرنا في الاخبار أكثر كثير ، كما لا يخفى على من له أنس بالاخبار.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) سورة الذاريات : ٣٦.

(٤) سورة النساء : ١٣٦.

١٥٣

وثالثا ان الموجود في أكثر الأخبار الواردة من طرقنا ، انما هو بلفظ «المؤمن» ونحوه ، مثل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابى عمير ، عن بعض أصحابه ، عن الصادق عليه‌السلام : من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزوجل «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١).

وعن عبد الرحمن بن سيابة ، قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : الغيبة : ان تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، واما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا. والبهتان : ان تقول فيه ما ليس فيه (٢).

وعن داود بن سرحان ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن الغيبة ، فقال : هو ان تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبث عليه امرا قد ستره الله عليه ، لم يقم عليه فيه حد (٣).

وما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : قال الصادق عليه‌السلام في حديث : ومن اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو شرك شيطان (٤). الحديث ،. الى غير ذلك من الاخبار.

وحينئذ فيجب حمل «المسلم» على ما ورد في هذه الاخبار المتضمنة للفظ المؤمن والأخ. على ان أكثر ما نقله من الاخبار انما هو من روايات العامة ، التي لا يقوم بها حجة ، لا سيما على ما هو المعهود من قاعدته وقاعدة أمثاله من أصحاب هذا الاصطلاح ، في رد الأخبار المروية في الأصول المشهورة بضعف السند باصطلاحهم المحدث ، فكيف بالأخبار العامة.

__________________

(١) الوسائل ج ٨ ص ٥٩٨ حديث : ٦ والآية في سورة النور : ١٩.

(٢) الوسائل ج ٨ ص ٦٠٤ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ٨ ص ٦٠٤ حديث : ١.

(٤) الفقيه ج ٤ ص ٢٩٩ من حديث : ٨٥. يقال : وتره وترا وترة اى ظلمه وأبغضه. والمراد : العداء والتباغض.

١٥٤

وخامسا : ان قوله : «انه كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه» فان فيه ـ زيادة على ما عرفت ـ (١) : ان الاخبار قد جوزت قتله وأخذ ماله مع الأمن وعدم التقية ، ردا عليه وعلى أمثاله ممن حكم بإسلامه ، وهي جارية على مقتضى الأخبار الدالة على كفره.

فروى الشيخ في الصحيح عن حفص بن البختري عن الصادق عليه‌السلام ، قال : خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس (٢).

وعن إسحاق بن عمار ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : مال الناصب وكل شي‌ء يملكه حلال لك ، إلا امرأته فإن نكاح أهل الشرك جائز ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا تسبوا أهل الشرك فان لكل قوم نكاحا ، ولولا انا نخاف عليكم ان يقتل رجل

__________________

(١) أقول : من أوضح الواضحات في جواز غيبة المخالفين طعن الأئمة ـ ع ـ بأنهم أولاد زنا ، فمن ذلك ما رواه الكافي ج ٨ ص ٢٨٥ عن أبي حمزة عن ابى جعفر ـ ع ـ قال : قلت له : ان بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم ، فقال : الكف عنهم أجمل. ثم قال : والله يا أبا حمزة ، ان الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا. ثم قال : فنحن أصحاب الخمس والفي‌ء وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا. وما رواه في التهذيب ج ٤ ص ١٣٦ عن ضريس الكناسي ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أتدري من اين دخل على الناس الزنا؟ فقلت : لا أدرى. فقال : من قبل خمسنا ـ أهل البيت ـ الا لشيعتنا الاطيبين ، فإنه محلل لهم لميلادهم. ونحوهما في اخبار الخمس كثير. فإذا كان الأئمة ـ ع ـ قد طعنوا فيهم بهذا الطعن واغتابوهم بهذه الغيبة التي لا أعظم منها في الدين بالنسبة إلى المؤمنين والمسلمين فكيف يتم ما ذكروه من المنع من غيبتهم. وبالجملة فالأمر فيما ذكرناه أشهر من ان ينكر. وحينئذ فيحمل قوله في الخبر الأول «الكف عنهم أجمل» على رعاية التقية ، حيث انه بعد هذا الكلام عقبه بتصديق ما نقله عن بعض أصحابنا. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر. منه قدس‌سره.

(٢) الوسائل ج ٦ ص ٣٤٠ حديث : ٦.

١٥٥

منكم برجل منهم ، ورجل منكم خير من الف رجل منهم ، لأمرناكم بالقتل لهم ، ولكن ذلك الى الامام (١).

وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن بريد بن معاوية العجلي ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن مؤمن قتل ناصبيا معروفا بالنصب على دينه ، غضبا لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيقتل به؟ قال : اما هؤلاء فيقتلونه به ولو رفع الى امام عادل ظاهر لم يقتله به. قلت : فيبطل دمه؟ قال : لا ولكن إذا كان له ورثة كان على الامام ان يعطيهم الدية من بيت المال ، لان قاتله انما قتله غضبا لله عزوجل وللإمام ولدين المسلمين (٢).

وروى في العلل في الصحيح عن داود بن فرقد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

ما تقول في قتل الناصب؟ قال : حلال الدم ، ولكن اتقى عليك ، فان قدرت ان تقلب عليه حائطا أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل. قلت : فما ترى في ماله؟ قال :

أتوه ما قدرت عليه (٣).

وروى في العيون بإسناده عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام فيما كتبه للمأمون ، قال عليه‌السلام : فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية ، إلا قاتل أو ساع في فساد ، وذلك إذا لم تخف على نفسك وأصحابك (٤).

وروى في الفقيه عن محمد بن مسلم في الصحيح ، عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : أرأيت من جحد الامام منكم ما حاله؟ فقال : من جحد اماما من الله وبري‌ء منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام ، لأن الإمام من الله ، ودينه من دين الله ، ومن بري‌ء من دين الله فهو كافر ، ودمه مباح في تلك الحال ، الا ان يرجع ويتوب الى الله

__________________

(١) الوسائل ج ١١ ص ٦٠ حديث : ٢.

(٢) التهذيب ج ١٠ ص ٢١٣ حديث : ٤٨ ـ ٨٤٣.

(٣) الوسائل ج ١٨ ص ٤٦٣ حديث : ٥. واتواء المال : تضييعه وإفساده.

(٤) الوسائل ج ١١ ص ٦٢ حديث : ٩.

١٥٦

مما قال (١).

وروى الكشي في كتاب الرجال بسنده فيه الى على بن حديد ، قال : سمعت من سأل أبا الحسن عليه‌السلام ، فقال : انى سمعت محمد بن بشير يقول : انك لست موسى ابن جعفر ، الذي أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله. فقال : لعنه الله ـ ثلاثا ـ وأذاقه الله حر الحديد ، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة. فقلت : جعلت فداك ، إذا أنا سمعت ذلك منه أو ليس حلال لي دمه ، مباح ، كما أبيح دم الساب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامام؟ فقال : نعم ، بلى والله حل دمه ، واباحه لك ولمن يسمع ذلك منه ، الى ان قال : فقلت أرأيت إن انا لم أخف أن ارم به بريئا ثم لم افعله ولم اقتله ، ما على من الوزر؟ فقال : يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير ان ينتقص من وزره شي‌ء اما علمت ان أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله تعالى ورسوله بظهر الغيب ، ورد عن الله وعن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

فان قيل : ان أكثر هذه الاخبار ، انما تضمن الناصب ، وهو ـ على المشهور ـ : أخص من مطلق المخالف ، فلا تقوم الأخبار حجة على ما ذكرتم!

قلنا : ان هذا التخصيص قد وقع اصطلاحا من هؤلاء المتأخرين ، فرارا من الوقوع في مضيق الإلزام ، كما في هذا الموضع وأمثاله ، والا فالناصب حيثما أطلق في الاخبار وكلام القدماء ، فإنما يراد به المخالف ، عد المستضعف. وإيثار هذه العبارة للدلالة على بعض المخالفين للأئمة الطاهرين.

ويدلك على ذلك ما رواه في مستطرفات السرائر من كتاب «مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا على بن محمد الهادي عليه‌السلام» في جملة مسائل محمد بن على بن عيسى ، قال : كتبت إليه : أسأله عن الناصب ، هل احتاج في امتحانه الى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت ، واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب : من كان على هذا فهو

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٥٤٤ حديث : ١.

(٢) رجال الكشي ـ طبع النجف ـ ص ٤٠٨.

١٥٧

ناصب (١).

وهو صريح في ان مظهر النصب والعداوة ، هو القول بإمامة الأولين.

وروى في العلل عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : ليس الناصب من نصب لنا ـ أهل البيت ـ لأنك لا تجد أحدا يقول انى أبغض محمدا وآل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولكن الناصب من نصب لكم ، وهو يعلم انكم تتولونا وانكم من شيعتنا (٢).

ونحوه رواية معلى بن خنيس ، وفيها «ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم انكم تتولونا وتتبرؤون من أعدائنا» (٣).

فهذا تفسير الناصب في أخبارهم ، الذي تعلقت به الأحكام ، من النجاسة ، وعدم جواز المناكحة ، وحل المال والدم ونحوه ، وهو عبارة عن المخالف مطلقا عدا المستضعف ، كما دل عليه استثناؤه في الاخبار. وما ذكروا ، من التخصيص بفرد خاص من المخالفين مجرد اصطلاح منهم ، لم يدل عليه دليل من الاخبار ، بل الاخبار في رده واضحة السبيل (٤).

__________________

(١) مستطرفات السرائر ص ٤٧٩ والوسائل ج ٦ ص ٣٤١ حديث ١٤.

(٢) الوسائل ج ٦ ص ٣٣٩ حديث : ٣.

(٣) معاني الأخبار ص ١٠٤ والبحار ج ٢٧ ص ٢٣٣.

(٤) أقول : وفي بعض الأجوبة المنسوبة الى ابن إدريس ، وقد سئل عن الناصب والمستضعف : من هما ، وما الفرق بينهما؟ فأجاب بجواب طويل ، يتضمن ان الناصب هو المخالف غير المستضعف ، وأكثر من الاخبار الدالة على ذلك ، وكلام المتقدمين من الأصحاب وغيرهم ، ومنها : قول المتنبي :

إذا علوي لم يكن نسل طاهر

فما هو الأحجة للنواصب

وقول المعرى ـ على ما شاع عنه ـ :

اضرب بعاد قفا ثمود

وبالنصارى قفا اليهود

وبالروافض قفا النواصب

١٥٨

ومن أراد تحقيق الحال وتفصيل هذا الإجمال ، فليرجع الى كتابنا المتقدم ذكره ، فإنه واف وشاف ، محيط بأطراف الكلام ، وإبرام النقض ونقض الإبرام.

وقد خرجنا بما ذكرنا من تطويل الكلام في المقام ، عما هو المقصود والمرام ، لمزيد الإيضاح ، لما في كلام هذا المحقق من الوهن والقصور الظاهر لمن وفق للاطلاع على اخبارهم ـ عليهم‌السلام.

* * *

إذا ثبت هذا فاعلم : انه كما تحرم الغيبة فإنه يحرم استماعها ايضا ، لما رواه الصدوق في الفقيه في حديث المناهي ، عن الحسين بن زيد ، عن الصادق ، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الغيبة والاستماع إليها ـ الى ان قال ـ : ألا ومن تطول على أخيه في غيبة سمعها فيها في مجلس فردها عنه ، رد الله عنه الف باب من شر الدنيا والآخرة ، فان هو لم يردها وهو قادر على ردها ، كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة (١).

* * *

وذكر بعض الأصحاب : ان كفارة الغيبة هو التحلل ممن اغتابه ان كان حيا ، والاستغفار له ان كان ميتا.

والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك. ما رواه في الكافي والفقيه عن حفص ابن عمير عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كفارة الاغتياب؟ قال : تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته (٢).

__________________

وغيرها. وكلها صريحة في ان الناصب عبارة عن المخالف غير المستضعف. وبه يظهر ان ما اشتهر بين المتأخرين من تخصيصهم الناصب بمعنى أخص من المخالف لا وجه له ولا دليل عليه ، بل الدلالة على خلافه ظاهرة كما عرفت والله العالم. منه قدس‌سره.

(١) من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٨ ـ ٩.

(٢) الوسائل ج ٨ ص ٦٠٦.

١٥٩

وظاهر الخبر المذكور : ان كفارة الغيبة : الاستغفار مطلقا ، حيا كان من اغتابه أو ميتا. ويعضده : ان اخباره بذلك ربما أثار فتنة أو زيادة حقد وبغض في القلوب ، كما هو ظاهر من أحوال أكثر الناس.

تتمة مهمة

قد استثنى الأصحاب جملة من المواضع ، فجوزوا الغيبة فيها :

منها التظلم عند من يرجو زوال ظلمه ، إذا نسب من ظلمه الى الاثام.

قال في الكفاية ـ بعد نقل ذلك ـ : ولعل الأحوط الاقتصار على أقل الحاجة. انتهى.

ولم أقف على من استند هنا الى دليل.

ويمكن الاستدلال على ذلك بما رواه

في الكافي عن ثعلبة بن ميمون عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : كان قوم عنده يتحدثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا ، فوقع فيه وشكاه ، فقال له أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : وأنى لك بأخيك كله ، واى الرجال المهذب (١).

ويمكن الاستدلال على ذلك ايضا بقوله عزوجل «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ» (٢) ففي مجمع البيان : عن الباقر عليه‌السلام «لا يحب الله الشتم في الانتصار (إِلّا مَنْ ظُلِمَ) فلا بأس له ان ينتصر ممن ظلمه ، بما يجوز الانتصار به في الدين» (٣).

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦٥١ حديث : ١ باب الإغضاء. وقوله : بأخيك كله اى هو الأخ الكامل التام. وقوله : اى الرجال المهذب ، أيضا إشارة إلى الكمال ، كما في قول الشاعر :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث ، اى الرجال المهذب

(٢) سورة النساء : ١٤٨.

(٣) مجمع البيان ج ٣ ص ١٣١.

١٦٠