الحدائق الناضرة - ج ١٨

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

المسألة الثانية

(في الغناء ـ بالمد ككساء ـ)

قيل : هو مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، فلا يحرم بدون الوصفين ، اعنى الترجيع والاطراب ، كذا عرفه جماعة من الأصحاب ، والطرب : خفة تعتريه تسره أو تحزنه.

ورده بعضهم الى العرف ، فما سمى فيه غناء يحرم وان لم يطرب. واختاره في المسالك وغيره ، وهو المختار (١) ولا خلاف في تحريمه فيما اعلم.

ولا فرق في ظاهر كلام الأصحاب ، بل صريح جملة منهم ، في كون ذلك في قرآن أو دعاء أو شعر أو غيرها ، الى ان انتهت النوبة إلى المحدث الكاشاني فنسج في هذا

__________________

(١) أقول : وممن صرح بما اخترناه هنا الفاضل المولى محمد صالح المازندراني في شرح الأصول ، حيث قال ـ بعد الكلام في الغناء ـ : وعرفه جماعة من أصحابنا بالترجيع المطرب ، فلا تتحقق ماهيته بدون الترجيع والاطراب ، ولا يكفي أحدهما. ورده بعضهم الى العرف فما سماه أهل العرف غناء حرام ، أطرب أم لم يطرب ، ولا يخلو من قوة ، لأن الشائع في مثله مما لم يعلم معناه لغة ولم يظهر المقصود منه شرعا ، هو الرجوع الى العرف. منه قدس‌سره.

١٠١

المقام على منوال الغزالي ونحوه من علماء العامة ، فخص الحرام منه بما اشتمل على محرم من خارج ، مثل اللعب بآلات اللهو كالعيدان ، ودخول الرجال ، والكلام بالباطل ، والا فهو في نفسه غير محرم.

وما ذكره وان أوهمه بعض الاخبار ، الا ان الحق فيه ليس ما ذهب اليه واعتمد في هذا الباب عليه ، وان كان قد تبعه في ذلك ايضا صاحب الكفاية ، وهو ـ كما ستعرف ـ في الضعف والوهن الى أظهر غاية.

والواجب هنا ـ أولا ـ نقل جملة الأخبار :

فمنها : ما رواه في الكافي ـ في الصحيح ـ عن زيد الشحام قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام : بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب فيه الدعوة ولا يدخله الملك (١).

وعن زيد الشحام ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (٢) قال : الزور الغناء (٣). وعن ابى الصباح ـ في الصحيح ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» (٤). قال : الغناء (٥). وعن ابى الصباح الكناني ـ في الصحيح ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : هو الغناء (٦).

وعن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : الغناء مما وعد الله تعالى عليه النار. وتلا هذه الآية «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٥ حديث : ١ باب : ٩٩ أبواب ما يكتسب به.

(٢) سورة الحج : ٣٠.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٥ حديث : ٢.

(٤) سورة الفرقان : ٧٢.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٦ حديث : ٣.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٦ حديث : ٥.

١٠٢

بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١).

وعن عمران بن محمد عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : الغناء مما قال الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٢).

وعن ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الزور الغناء (٣).

وعن ابى بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الغناء (٤).

وعن أبي أسامة عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : الغناء غش النفاق (٥). وعن الوشاء قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يسأل عن الغناء ، فقال : هو قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٦).

وعن إبراهيم بن محمد المدني عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الغناء ، وانا حاضر ، فقال : لا تدخلوا بيوتا الله معرض عن أهلها (٧).

وعن يونس ، قال : سألت الخراساني ـ صلوات الله عليه ـ عن الغناء ، وقلت : ان العباسي ذكر عنك انك ترحض في الغناء ، فقال : كذب الزنديق ، ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء ، فقلت له : ان رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام فسأله عن الغناء ، فقال : يا فلان ، إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل. فقال :

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٦ حديث : ٦.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٦ حديث : ٧.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث «: ٨.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث : ٩.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث : ١٠.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث : ١١.

(٧) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث : ١٢.

١٠٣

قد حكمت (١).

ورواه في عيون الاخبار عن الريان بن الصلت ، قال سألت الرضا يوما بخراسان وذكر نحوه (٢). ورواه الحميري في قرب الاسناد عن الريان بن الصلت. وعن عبد الأعلى قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الغناء ، وقلت : انهم يزعمون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخص في ان يقال : حيونا حيونا نحييكم! فقال : ان الله تعالى يقول «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ» ثم قال : ويل لفلان مما يصف. رجل لم يحضر المجلس (٣).

وعن الحسن بن هارون ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الغناء مجلس لا ينظر الله الى اهله ، وهو مما قال الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٤).

وروى في العيون بأسانيده عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن على ـ عليهم‌السلام ـ ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أخاف عليكم استخفافا بالدين وبيع الحكم وقطيعة الرحم ، وان تتخذوا القرآن من أمير ، وتقدمون أحدكم وليس بأفضلكم في الدين (٥).

وعن محمد بن ابى عباد ، وكان مستهترا بالسماع ، ويشرب النبيذ ، قال : سألت الرضا عن السماع ، فقال : لأهل الحجاز فيه رأى وهو في حيز الباطل واللهو ، اما سمعت الله يقول «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» (٦).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث : ١٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٧ حديث : ١٤.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٨ حديث : ١٥ والآية في سورة الأنبياء : ١٦.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٨ حديث : ١٦.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٩ حديث : ١٨.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٩ حديث : ١٩.

١٠٤

وروى في كتاب معاني الأخبار بسنده عن عبد الأعلى ، قال : سألت جعفر بن محمد عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الأوثان ، الشطرنج. وقول الزور : الغناء. قلت : قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» قال : منه الغناء (١).

وعن حماد بن عثمان عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل ، للذي يغني : أحسنت (٢).

وروى في المقنع مرسلا قال : قال الصادق عليه‌السلام : شر الأصوات : الغناء (٣).

وروى في كتاب الخصال بسنده المعتبر عن الحسن بن هارون ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، يقول : الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر (٤).

وروى في المجالس عن عبد الله بن ابى بكر عن محمد بن عمرو بن حزم ، في حديث ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام ، فقال : اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا قول الزور. فما زال يقول : اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا ، فضاق بي المجلس وعلمت أنه يعنيني (٥).

وفي رواية عبد الله بن سنان المروية في الكافي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقروا القرآن بألحان العرب وأصواتها : وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر ، فإنه سيجي‌ء بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم (٦).

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٩ حديث : ٢٠.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٩ حديث : ٢١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٢٩ حديث : ٢٢.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٠ حديث : ٢٣.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٠ حديث : ٢٤.

(٦) الوسائل ج ٤ ص ٨٥٨ حديث : ١.

١٠٥

وروى في مجمع البيان ، قال : روى عن ابى جعفر وابى عبد الله وابى الحسن الرضا ـ عليهم‌السلام ـ ، في قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» انهم قالوا : منه الغناء (١).

وروى على بن إبراهيم في تفسيره ـ في الصحيح أو الحسن ـ عن هشام عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال الرجس من الأوثان : الشطرنج ، وقول الزور : الغناء (٢).

وروى فيه عن أبيه بسنده الى عبد الله بن العباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث ـ قال : ان من أشراط الساعة إضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل إلى الأهواء. الى ان قال : فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله ، ويتخذونه مزامير ـ الى ان قال : ويتغنون بالقرآن. الى ان قال : فأولئك يدعون في ملكوت السماوات : الأرجاس الأنجاس (٣).

أقول : فهذه جملة من الاخبار الصريحة الدالة ، في تحريم الغناء مطلقا ، من غير تقييد بما قدمنا ذكره عن المجوز له في حد ذاته.

ويعضدها : الأخبار الدالة على تحريم الاستماع له (٤) والاخبار الدالة على تحريم ثمن المغنية (٥)

فروى في الكافي عن مسعدة بن زياد ، قال : كنت عند ابى عبد الله عليه‌السلام ، فقال له رجل : بأبي أنت وأمي ، انى ادخل كنيفا ، ولي جيران وعندهم جواز يتغنين ويضربن

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٠ حديث : ٢٥.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٠ حديث : ٢٦.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٠ حديث : ٢٧.

(٤) الوسائل باب ١٠١ من أبواب ما يكتسب به.

(٥) الكافي ج ٥ ص ١١٩.

١٠٦

بالعود ، فربما أطلت الجلوس استماعا منى لهن! فقال : لا تفعل. فقال الرجل : والله ما اتيتهن وانما هو سماع أسمعه بأذني. فقال : بالله أنت ، أما سمعت الله تعالى يقول «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً»؟ فقال : بلى والله كأني لم اسمع بهذه الآية من كتاب الله تعالى من عجمي ولا عربي. لا جرم انى لا أعود إنشاء الله تعالى ، وانى استغفر الله. فقال له : فاغتسل فصل ما بدا لك ، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك. احمد الله وسله التوبة من كل ما يكره ، فإنه لا يكره الأكل قبيح ، والقبيح دعه لأهله ، فإن لكل أهلا (١).

وعن عنبسة عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع (٢).

وعن الحسين بن على بن يقطين عن ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق يؤدى عن الله عزوجل فقد عبد الله وان كان الناطق يؤدى عن الشيطان فقد عبد الشيطان (٣).

وروى في الكافي والتهذيب عن الحسن بن على الوشاء قال سئل أبو الحسن الرضا عليه‌السلام عن شراء المغنية. فقال : قد تكون للرجل الجارية تلهيه وما ثمنها الا ثمن الكلب ، وثمن الكلب سحت ، والسحت في النار (٤).

وما رواه في الكافي عن سعيد بن محمد الطاطري عن أبيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام. قال : سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات. فقال : شراؤهن وبيعهن حرام ، وتعليمهن

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ص ٩٥٧ باب ١٨ حديث : ١ من أبواب الأغسال المندوبة. ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٥٩ باب ٨٠ حديث : ٣.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٦ حديث : ١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٦ حديث : ٥.

(٤) الكافي ج ٥ ص ١٢٠ حديث : ٤.

١٠٧

واستماعهن نفاق (١).

وعن نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : المغنية ملعونة. ملعون من أكل كسبها (٢).

وروى في الفقيه مرسلا ، قال : روى «ان أجر المغني والمغنية سحت» (٣).

وعن إبراهيم بن ابى البلاد قال اوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنيات ان نبيعهن ونحمل ثمنهن الى ابى الحسن عليه‌السلام قال إبراهيم : فبعت الجواري بثلاثمائة الف درهم وحملت الثمن اليه. فقلت له. ان مولى لك يقال له : إسحاق بن عمر ، قد اوصى عند موته ببيع جوار له مغنيات ، وحمل الثمن إليك ، وقد فعلت وبعتهن وهذا الثمن ثلاثمأة الف درهم. فقال : لا حاجة لي فيه ، ان هذا سحت ، تعليمهن كفر ، والاستماع منهن نفاق ، وثمنهن سحت (٤).

والتقريب في هذه الاخبار ، انه لو كان الغناء جائزا وحلالا ، بل مستحبا ـ كما هو ظاهر كلامهم في نحو القرآن والأدعية والمناجاة ، وانما يحرم بسبب ما يعرض له من المحرمات الخارجة ، كما ادعوه ـ فكيف يتم الحكم بتحريم سماعه وتحريم ثمن المغنية ، وان تعليمه كفر. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ذي عقل وروية ، لا ينكره الأمن قابل بالصدود أو الاستكبار عن الحق بالكلية.

هذا واما الاخبار التي استند إليها الخصم في المقام ، فمنها : ما رواه في الكافي عن ابى بصير ـ وهو يحيى بن القاسم ، بقرينة رواية على عنه ـ قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جائني الشيطان ، فقال : إنما ترائي بهذا

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٢٠ حديث : ٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٢٠ حديث : ٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ١٠٥ حديث : ٤٣٦.

(٤) الكافي ج ٥ ص ١٢٠ حديث : ٧.

١٠٨

أهلك والناس ، فقال : يا أبا محمد ، اقرأ قراءة بين القرائتين ، تسمع أهلك ، ورجع بالقرآن صوتك ، فان الله تعالى يحب الصوت الحسن ، يرجع به ترجيعا (١).

وعن ابى بصير ـ وهو المرادي بقرينة عبد الله بن مسكان ـ عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان من أجمل الجمال الشعر الحسن ، ونغمة الصوت الحسن (٢).

وعن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل شي‌ء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن (٣).

وبهذا الاسناد عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يعط أمتي أقل من ثلاث : الجمال ، والصوت الحسن ، والحفظ (٤).

وبهذا الاسناد عن الصادق عليه‌السلام ، قال : ان الله تعالى اوحى الى موسى بن عمران «إذا وقفت بين يدي ، فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين» (٥).

وعن على الميثمي عن رجل عن الصادق عليه‌السلام ، قال : ما بعث الله عزوجل نبيا الأحسن الصوت (٦).

وعن على بن عقبة عن رجل عن الصادق عليه‌السلام ، قال : كان على بن الحسين عليه‌السلام أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يستمعون

__________________

(١) الوسائل ج ٤ ص ٨٥٩ حديث : ٥ والكافي ج ٢ ص ٦١٦ حديث : ١٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ حديث : ٨.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ حديث : ٩.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ حديث : ٧.

(٥) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ حديث : ٦.

(٦) الكافي ج ٢ ص ٦١٦ حديث : ١٠.

١٠٩

قراءته ، وكان أبو جعفر عليه‌السلام أحسن الناس صوتا (١).

وعن على بن محمد النوفلي ، عن ابى الحسن عليه‌السلام ، قال : ذكرت الصوت عنده ، فقال : ان على بن الحسين عليه‌السلام كان يقرأ القرآن ، فربما مر به المار فصعق من حسن صوته ، وان الامام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه. قلت : ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلى بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون (٢).

وما رواه في قرب الاسناد عن على بن جعفر عن أخيه ، قال : سألته عن الغناء ، هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال لا بأس ما لم يعص به (٣).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابى بصير ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن كسب المغنيات ، فقال : التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٤).

وعن ابى بصير عن الصادق عليه‌السلام ، قال : المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها (٥).

وعن ابى بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس ، وليست التي يدخل عليها الرجال (٦).

وروى في الفقيه ، قال : سأل رجل على بن الحسين عليه‌السلام عن شراء جارية لها

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦١٦ حديث : ١١.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ حديث : ٤.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٥٨ حديث : ٥.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ٨٤ حديث : ١.

(٥) الوسائل ج ١٢ ص ٨٥ حديث : ٢.

(٦) الوسائل ج ١٢ ص ٨٥ حديث : ٣.

١١٠

صوت؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة ، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل ، التي ليست بغناء ، واما الغناء فمحظور (١).

قال في الوافي ـ بعد نقل الخبر ـ : الظاهر ان هذا التفسير من كلام الصدوق ـ عليه الرحمة ـ ويستفاد منه ان من مد الصوت وترجيعه بأمثال ذلك ليس بغناء ، أو بمحظور ، وفي الأحاديث التي مضت في أبواب قراءة القرآن ، من كتاب الصلاة دلالة على ذلك ، والذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة فيه ، اختصاص حرمة الغناء وما يتعلق به من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلها ، بما كان على النحو المتعارف في زمن بنى أمية وبنى العباس ، من دخول الرجال عليهن وتكلمهن بالأباطيل ، ولعبهن الملاهي ، من العيدان والقصب وغيرها ، دون ما سوى ذلك من أنواعه ، كما يشعر به قوله «ليست بالتي يدخل عليها الرجال» ـ الى ان قال :

وعلى هذا فلا بأس بسماع التغني بالاشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار ، والتشويق الى دار القرار ، ووصف نعم الملك الجبار ، وذكر العبادات والترغيب في الخيرات والزهد في الفانيات ونحو ذلك ، كما أشير إليه في حديث الفقيه بقوله «فذكرتك الجنة» وذلك لان هذا كله ذكر الله تعالى ، وربما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله تعالى.

وبالجملة لا يخفى على ذوي الحجى ، بعد سماع هذه الاخبار تمييز حق الغناء من باطله وان أكثر ما يتغنى به المتصوفة في محافلهم من قبيل الباطل انتهى.

وعلى هذا النحو حذى الخراساني في الكفاية.

وفيه : ـ أولا ـ أنهم وان زعموا الجمع بين أخبار المسألة بما ذكروه ، الا ان جل اخبار التحريم ، التي قدمناها ، لا يقبل ذلك ، فإنها ظاهرة ، بل بعضها صريح في تحريم الغناء ، من حيث هو ، لا باعتبار انضمام بعض المحرمات ، من خارج اليه. ولا سيما اخبار استماع الغناء وبيع المغنية وشرائها ، بالتقريب الذي قدمناه في ذيل تلك

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٨٦ حديث : ٢.

١١١

الاخبار.

وقوله ـ في رواية المقنع ـ : شر الأصوات الغناء. وقوله ـ في رواية عبد الله ابن سنان ـ يرجعون القرآن ترجيع الغناء. وحديث يونس المروي بعدة طرق كما تقدم ، وأمثال ذلك مما تقدم. فإنها ما بين صريح وظاهر ، في قصر الحكم على الغناء من حيث هو ، وكذلك الآيات ، فان قوله عزوجل «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» المفسر في تلك الاخبار بالغناء ، صريح في المنع من القول المفسر بالغناء ، من حيث هو.

وثانيا ـ انه من القواعد المقررة عن أصحاب العصمة ـ عليهم‌السلام ـ في مقام اختلاف الاخبار ، هو العرض على كتاب الله تعالى ، والأخذ بما وافقه ، وأن ما خالفه يضرب به عرض الحائط ، والعرض على مذهب العامة ، والأخذ بخلافه.

ولا ريب في ان مقتضى الترجيح بهاتين القاعدتين ، المتفق عليهما نصا وفتوى ، هو القول بالتحريم مطلقا ، وان ما دل على الجواز يرمى به ، لمخالفته لظاهر القرآن ، وموافقته للعامة.

هذا فيما كان صريحا في الجواز ، وهو أقل قليل في أخبارهم ، لا يبلغ قوة المعارضة لما قدمناه من اخبار التحريم.

فاما تمسكهم باخبار قراءة القرآن بالصوت الحسن والتحزن ، فهو لا يستلزم الغناء ، إذ ليس كل صوت حسن أو حزين يسمى غناء ، وهذا ـ بحمد الله سبحانه ـ ظاهر.

واما ما يوهمه بعض تلك الاخبار ، من التغني بالقرآن ، مثل ما نقله في مجمع البيان عن عبد الرحمن بن السائب ، قال : قدم علينا سعد بن ابى وقاص ، فأتيته مسلما عليه ، فقال : مرحبا بابن أخي. بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن؟ قلت : نعم والحمد لله. قال : فانى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ان القرآن نزل بالحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فان لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به ، فان من لم يتغن بالقرآن فليس منا.

١١٢

قال في مجمع البيان : تأوله بعضهم بمعنى استغنوا به ، وأكثر العلماء على انه تزيين الصوت وتحزينه. انتهى (١).

قال في الكفاية ـ بعد نقل ذلك ـ : وهذا يدل على ان تحسين الصوت بالقرآن والتغني به مستحب عنده ، وان خلاف ذلك لم يكن معروفا بين القدماء انتهى.

أقول : ـ أولا ـ ان الخبر المذكور عامي ، فلا ينهض حجة. وثانيا : انه معارض بجملة من الاخبار المتقدمة ، الدالة على المنع من قراءة القرآن بالغناء ، وانما يقرؤه بالصوت الحسن على جهة الحزن ، ما لم يبلغ حد الغناء ، فإنه محرم في قرآن أو غيره.

ومنها : خبر الفقيه الأخير من الاخبار المتقدمة ، بناء على كون التفسير الذي في آخره من الخبر ، كما فهمه صاحب الوافي.

ورواية العيون المتقدمة ، ورواية تفسير على بن إبراهيم الثانية.

ومنها : رواية عبد الله بن سنان ، وهي أصرح صريح في ذلك.

واما ما ذكره في الكفاية ، من حمل الأخبار الدالة على المنع من التغني بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو ، كما يصنعه الفساق في غنائهم ، قال : وتؤيده رواية عبد الله بن سنان المذكورة ، فان في صدر الخبر الأمر بقراءة القرآن بألحان العرب ، واللحن هو الغناء ، ثم بعد ذلك المنع من القراءة بلحن أهل الفسق ، ثم قوله : سيجي‌ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء. انتهى. فهو مما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا يعرج في مقام التحقيق عليه.

اما أولا ، فإن الغناء الممنوع منه في القرآن ، على ما يكون على سبيل اللهو ، كما يصنعه الفساق في غنائهم ، لا محصل له. فإنه ان أراد به القراءة مع مصاحبة آلات اللهو كالعود ونحوه ، فإن أحدا لا يصنع ذلك.

وان أراد قراءة القرآن التي تقع على سبيل اللهو ، فإنه لا يعقل له معنى ، لأنها إن

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ١٦ الفن السابع من المقدمة.

١١٣

وقعت بطريق الغناء الذي هو محل البحث ، فهذا هو الذي ندعي تحريمه ، سواء كان من الفساق أو الزهاد ، وان كان كذلك فإنه لم يعهد هنا نوع ممنوع منه ، غير ما ذكرناه ، حتى انه يخصه بالفساق ، لان مجرد الترجيع وتحسين الصوت والتحزن به لا يستلزم الغناء ، كما أشرنا إليه آنفا فهو ان بلغ الى حد الغناء وصدق عليه عرفا انه غناء ، كان ممنوعا ومحرما ، والا فلا.

واما ثانيا ، فان قوله : «فان اللحن في أول الخبر هو الغناء» ممنوع ، فإنه وان كان لفظ اللحن مما ورد بمعنى الغناء ، لكنه ورد أيضا في اللغة لمعان أخر ، منها : اللغة ، وترجيع الصوت ، وتحسين القراءة ، والشعر ، الا ان الأنسب به هنا : هو الحمل على اللغة ، بمعنى لغات العرب وأصواتها ، وهو الذي حمل عليه الخبر في مجمع البحرين فقال : اللحن واحد الالحان. واللحون : اللغات ، ومنه الخبر «أقروا القرآن بلحون العرب».

أقول : وحاصل معنى الخبر : أقروا القرآن بلغات العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر ، والمراد به هنا : الغناء كما يفسره قوله «فإنه سيجي‌ء بعدي أقوام. إلخ» هذا هو المعنى الظاهر من الخبر ، وما تكلفه في معنى الخبر فإنه بعيد عن سياقه.

واما خبر على بن الحسين عليه‌السلام. فحاشا ان يكون ذلك من حيث كونه غناء ، كما توهموه ، وانما هذه حالات مختصة بهم ، بالنسبة إلى الأصوات والألوان والحلي ونحوها ، كما يدل عليه حديث دخول الجواد عليه‌السلام على زوجته بنت المأمون ، لما التمست أمها دخوله لتسر برؤيته مع ابنتها ، مع انه عليه‌السلام معها في سائر الأوقات والأيام والليالي ولم تستنكر منه (١). وحديث السراج في أصابع الرضا عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) مشارق الأنوار للحافظ البرسي ص ٩٨ ـ ٩٩ الفصل : ١١.

(٢) مدينة المعاجز ص ٤٧٣ حديث : ٣ ونقل المصنف ـ هنا في الهامش ـ حديث عسكر مولى ابن جعفر ـ ع ـ وما شاهده من غريب حاله ـ ع. فراجع : مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

١١٤

وحديث الشيخين في حق أمير المؤمنين عليه‌السلام ونحو ذلك. ويشير الى ما ذكرناه قوله في الحديث المذكور : «وان الامام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس» (١).

وقال في الكفاية ـ أيضا ـ : وكثير من الاخبار المعتمدة وغيرها تدل على تحريم بيع الجواري المغنيات وشرائهن وتعليمهن الغناء ، وبإزائها الرواية السابقة المنقولة عن على بن الحسين عليه‌السلام (٢) ورواية عبد الله بن الحسن الدينوري عن ابى الحسن عليه‌السلام ، في جملة حديث ، قال : قلت : جعلت فداك ، فاشترى المغنية والجارية تحسن أن تغني ، أريد به الرزق ، لا سوى ذلك؟ قال : اشتر وبع (٣). انتهى.

وفيه : ان الرواية الأولى قد نقلها كما قدمناه بالتفسير الذي في آخرها ، وهي على تقديره غير منافية لتلك الاخبار ، بل صريحة في الانطباق عليها ولهذا ان المحدث الكاشاني استظهر ان هذا التفسير من كلام الصدوق كما قدمنا نقله عنه ، ليتم له التعلق بالرواية.

واما الرواية الثانية فهي ظاهرة في ان شراء المغنية انما هو لأجل التجارة وطلب الربح والفائدة ، وهو مما لا اشكال فيه ، كما صرح به الأصحاب ، والمحرم إنما شراؤها وبيعها لأجل الغناء.

قال في المنتهى ـ بعد نقل خبر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النهي عن بيع المغنيات وتحريم أثمانهن وكسبهن ـ : وهذا يحمل على بيعهن للغناء ، كما ان العصير لا يحرم بيعه لغير الخمر لصاحب الخمر.

* * *

ثم ان المشهور بين الأصحاب استثناء مواضع من تحريم الغناء.

ونقل في المسالك عن جماعة من الأصحاب ، منهم العلامة في التذكرة ، تحريم

__________________

(١) راجع : قضاياه ـ ع ـ مع الشيخين في مدينة المعاجز ص ٧٧ ـ ص ٨٧.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٨٦ حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ٨٦ حديث : ١.

١١٥

الغناء مطلقا ، ونقله في المختلف عن ابى الصلاح ، وهو المنقول عن ابن إدريس أيضا استنادا الى الاخبار المطلقة في تحريمه.

ومن تلك المواضع المستثنيات ـ على تقدير القول المشهور ـ : غناء المرأة التي تزف العرائس ، بشرط ان لا يدخل عليها الرجال ، ولا يسمع صوتها الأجانب من الرجال ولا تتكلم بالباطل ، ولا تعمل بالملاهي.

ومرجعه الى ان لا يكون مستلزما لمحرم آخر ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك.

وما توهمه من استدل بهذه الاخبار على جواز الغناء ـ وانما تحريمه من حيث أمر آخر ، كدخول الرجال لقوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : لأنها ليست بالتي يدخل عليها الرجال ، وان فيه إشارة الى ان التحريم انما هو من هذه الجهة ـ فليس بشي‌ء ، لقصر التعليل على مورد النص ، بمعنى ان التي تزف العرائس يباح لها الغناء ، لعدم دخول الرجال عليها المستلزم لتحريمه.

نعم قوله في رواية أبي بصير الاولى ، لما سأله عن كسب المغنيات التي يدخل عليها الرجال : حرام ، ظاهر فيما ذكره ، الا انه يجب حمله على التقية وهكذا كل خبر ظاهر في ذلك.

وبالجملة فإن الأخبار المذكورة ظاهرة في جوازه في هذه الصورة ، فيجب تخصيص الاخبار المطلقة بها. وبه يظهر ضعف قول من ذهب الى عموم التحريم.

ومنها : الحداء ، وهو سوق الإبل بالغناء لها.

ولم أقف في الاخبار له على دليل. قال المحقق الأردبيلي ـ رحمه‌الله ـ قد استثنى الحداء بالمد ، وهو سوق الإبل بالغناء لها ، وعلى تقدير صحة استثنائه ، يمكن اختصاصه بكونه للإبل فقط ، كما هو مقتضى الدليل ، ويمكن التعدي ايضا الى البغال والحمير انتهى.

ولا أدرى أي دليل أراد ، فإن المسألة خالية عن النص ، وكأنه ظن ان ذكر

١١٦

الأصحاب له ، لا يكون الا عن دليل ، والا فالدليل لم نقف عليه ، ولم يذكره هو ولا أحد غيره.

وبعضهم استثنى مراثي الحسين عليه‌السلام ـ ايضا ـ قال في الكفاية : وهو غير بعيد.

أقول : بل هو بعيد غاية البعد ، لما عرفت مما قدمناه من الاخبار المتكاثرة ، الا ان ما ذكره جيد على مذهبه في المسألة مما قدمنا نقله عنه.

وبالجملة فإنه لم يقم دليل على استثناء شي‌ء من إطلاق الاخبار المتقدمة ، سوى التي تزف العرائس. وعليها اقتصر في المنتهى في الاستثناء ولم يستثن سواها. والله العالم.

١١٧

المسألة الثالثة

في معونة الظالمين

والدخول في ولاية الظلمة والمشهور في كلام الأصحاب ، تقييدها بما يحرم ، واما مالا يحرم كالخياطة لهم والبناء ونحو ذلك فإنه لا بأس به.

قال في الكفاية : ومن ذلك معونة الظالمين بما يحرم ، اما مالا يحرم كالخياطة وغيرها فالظاهر جوازه.

لكن الأحوط الاحتراز عنه لبعض الأخبار الدالة على المنع ، وقوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (١) قال في مجمع البيان : فقيل معناه : ولا تميلوا الى المشركين في شي‌ء من دينكم ، عن ابن عباس. وقيل : لا تداهنوا الظلمة ، عن السدي وابن زيد. قيل : ان الركون الى الظالمين المنهي عنه ، هو الدخول معهم في ظلمهم ، وإظهار موالاتهم ، واما الدخول عليهم ومعاشرتهم دفعا لشرهم فجائز. عن القاضي. وقريب منه ما روى عنهم ـ عليهم‌السلام ـ : ان الركون هو المودة والنصيحة والطاعة لهم. انتهى.

__________________

(١) سورة هود : ١١٣.

١١٨

أقول : الظاهر من الاخبار الواردة في هذا المقام ، هو عموم تحريم معونتهم. بما لا يحرم وما لا يحرم.

منها : ما رواه في الكافي في الصحيح عن هشام بن سالم ، عن ابى بصير قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن أعمالهم ، فقال لي : يا أبا محمد ، لا ولا مدة قلم ، ان أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله (١) أو قال : حتى تصيبوا من دينه مثله ، الوهم من ابن ابي عمير (٢).

وعن ابن ابى يعفور قال : كنت عند الصادق عليه‌السلام ، فدخل عليه رجل من أصحابنا ، فقال له : أصلحك الله تعالى ، انه ربما أصاب الرجل منا الضيق والشدة ، فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسناة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أحب أني عقدت لهم عقدة ، أو وكيت لهم وكاء ، وان لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدة بقلم. إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من النار حتى يحكم الله عزوجل بين العباد (٣).

وما رواه في التهذيب عن يونس بن يعقوب في الموثق ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تعنهم على بناء مسجد (٤).

وعن صفوان بن مهران الجمال قال : دخلت على ابى الحسن الأول عليه‌السلام ، فقال لي : يا صفوان ، كل شي‌ء منك حسن جميل ، ما خلا شيئا واحدا ، فقلت : جعلت فداك ، أي شي‌ء؟ قال : إكراؤك جمالك هذا الرجل ـ يعنى هارون ـ قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا لصيد ولا للهو ، ولكني أكريته لهذا الطريق ، يعنى طريق مكة ، ولا أتولاه بنفسي ، ولكني ابعث معه غلماني. فقال لي : يا صفوان ، أيقع

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٩ حديث : ٥.

(٢) الراوي عن هشام بن سالم.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٢٩ حديث : ٦.

(٤) المصدر حديث : ٨.

١١٩

كراؤك عليهم؟ قلت : نعم ، جعلت فداك. فقال لي : أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قلت : نعم. قال : فمن أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان وروده في النار. قال صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها. فبلغ ذلك الى هارون ، فدعاني فقال لي : يا صفوان ، بلغني أنك بعت جمالك ، قلت : نعم. قال : ولم؟ قلت : انا شيخ كبير وان الغلمان لا يفون بالأعمال. فقال : هيهات هيهات ، انى لا علم من أشار عليك بهذا ، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر عليه‌السلام. فقلت : مالي ولموسى بن جعفر عليه‌السلام! فقال : دع هذا عنك ، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك (١).

وما رواه في عقاب الأعمال ، بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عليه‌السلام ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين أعوان الظلمة ، ومن لاق لهم دواة ، أو ربط كيسا ، أو مد لهم مدة قلم ، فاحشروه معهم (٢). وروى الثقة الجليل ، ورام بن أبي فراس ، في كتابه ، قال : قال عليه‌السلام : من مشى الى ظالم ليعينه وهو يعلم انه ظالم فقد خرج عن الإسلام. قال : وقال عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة ، وأشباه الظلمة حتى من بري لهم قلما ولاق لهم دواة! قال : فيجتمعون في تابوت من حديد ، ثم يرمى به في جهنم (٣).

ويعضد ذلك ما رواه في الكافي ، عن سهل بن زياد ، رفعه عن الصادق عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» قال : هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه الى ان يدخل يده في كيسه فيعطيه (٤).

وعن فضيل بن عياض ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : ومن أحب بقاء الظالمين

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ١٣١ ـ ١٣٢ حديث : ١٧.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ١٣٠ حديث : ١١.

(٣) الوسائل ج ١٢ ص ١٣١ حديث : ١٥ و ١٦.

(٤) الوسائل ج ١٢ ص ١٣٤ حديث : ١ باب : ٤٤ أبواب ما يكتسب به.

١٢٠