الحدائق الناضرة - ج ١٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

منك ، فقال ذاك إبراهيم (عليه‌السلام) فقالت : وا سوأتاه منه ، فقال : ولم نظر الى شي‌ء من محاسنك؟ فقالت : لا ولكن خفت ان أكون قد قصرت ، فقالت له المرأة وكانت عاقلة : فهلا تعلق على هذين البابين سترين سترا من هيهنا وسترا من هيهنا ، فقال لها : نعم فعملا لهما سترين طولهما اثنى عشر ذراعا ، فعلقاهما على البابين فأعجبهما ذلك فقالت : فهلا أحوك للكعبة ثيابا فتسترها كلها ، فان هذه الحجارة سمجة فقال إسماعيل : (عليه‌السلام) بلى فأسرعت في ذلك فبعثت الى قومها بصوف كثير تستغزلهم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : وانما وقع استغزال النساء بعضهن من بعض لذلك ، فأسرعت واستعانت في ذلك ، فكلما فرغت من شقة علقتها فجاء الموسم ، وقد بقي وجه من وجوه الكعبة ، فقالت لإسماعيل : كيف نصنع بهذا الوجه الذي لم تدركه الكسوة فكسوة خصفا فجاء الموسم وجاءته العرب على حال ما كانت تأتيه فنظروا إلى أمر أعجبهم فقالوا : ينبغي لعامل هذا البيت ان يهدى اليه فمن ثم وقع الهدي : فأتى كل فخذ من العرب بشي‌ء يحمله من ورق ومن أشياء غير ذلك حتى اجتمع شي‌ء كثير فنزعوا ذلك الخصف وأتموا كسوة البيت وعلقوا عليها بابين ، وكانت الكعبة ليست بمسقفة فوضع إسماعيل فيها أعمدة مثل هذه الأعمدة التي ترون من خشب ، فسقفها إسماعيل بالجرائد وسواها بالطين ، فجائت العرب من الحول ، فدخلوا الكعبة ورأوا عمارتها فقالوا : ينبغي لعامر هذا البيت ان يزاد فلما كان من قابل جاء الهدى ، فلم يدر إسماعيل كيف يصنع به ، فأوحى الله عزوجل ان انحره وأطعمه الحاج ، قال : وشكى إسماعيل (عليه‌السلام) الى إبراهيم صلى الله عليهما ، قلة الماء فأوحى الله عزوجل إلى إبراهيم ان احتفر بئرا يكون منها شراب الحاج ، فنزل جبرائيل (عليه‌السلام) فاحتفر قليبهم ، يعنى زمزم حتى ظهر ماؤها ، ثم قال جبرائيل : انزل يا إبراهيم فنزل بعد جبرائيل فقال يا إبراهيم : اضرب في أربعة زوايا البئر وقل : بسم الله قال : فضرب إبراهيم (ع) في زاوية التي تلي البيت ، وقال : بسم الله ، فانفجرت عين ، ثم ضرب في زاوية الثانية ، وقال : بسم الله ، فانفجرت عين ، ثم ضرب في الثالثة وقال : بسم الله فانفجرت عين ، ثم صرف في الرابعة وقال : بسم الله ، فانفجرت عين ، فقال له جبرائيل

٣٨١

اشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة ، فخرج إبراهيم وجبرائيل عليهما‌السلام جميعا من البئر ، فقال أفض عليك يا إبراهيم ، وطف حول البيت فهذه سقيا سقى الله عزوجل ولد إسماعيل (ع) فسار إبراهيم وشيعة إسماعيل حتى خرج من الحرم فذهب إبراهيم ورجع إسماعيل إلى الحرم».

أقول : قد تقدم في صدر الكتاب في المقدمة الاولى في الفصل الأول صحيح معاوية ابن عمار المنقول من العلل ، وفيه أن زمزم نبعت لما فحص الصبي برجله ، وظاهره أنه في أول نزول إسماعيل مع أمه ، وهذا الخبر قد اشتمل على حفر إبراهيم زمزم ، ويمكن الجمع بأن ما دل عليه ذلك الخبر صحيح ، الا أنه ربما قل الماء بعد ذلك فان هذا الخبر انما اشتمل على شكاية إسماعيل لأبيه قلة الماء لا عدمه بالكلية ، وظاهر الخبرين مضى مدة بين أول ظهورها وحفر إبراهيم (عليه‌السلام) لها فان ظاهر الخبر الأول انه حال طفولية إسماعيل ، وهذا الخبر بعد تزويجه ، فيمكن حصول القلة في الماء حتى احتيج الى حفر والله العالم.

وعن محمد بن مسلم (١) في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) أين أراد إبراهيم (عليه‌السلام) أن يذبح ابنه فقال : على الجمرة الوسطى ، وسألته عن كبش إبراهيم (عليه‌السلام) ما كان لونه وأين نزل ، فقال : أملح وكان أقرن ، ونزل من السماء على الجبل من مسجد منى ، وكان يمشي في سواد ويأكل في سواد ، وينظر ويبعر ويبول في سواد».

وروى في الفقيه مرسلا (٢) قال : «سئل الصادق (عليه‌السلام) أين أراد إبراهيم (عليه‌السلام) أن يذبح ابنه ، فقال : على الجمرة الوسطى» ولما أراد إبراهيم (عليه‌السلام) أن يذبح ابنه (صلى الله عليهما) قلب جبرائيل (عليه‌السلام) المدية واجتر الكبش من قبل ثبير ، واجتر الغلام من تحته ، ووضع الكبش مكان الغلام ، ونودي من ميسرة مسجد الخيف (٣) «أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٢٠٩.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ١٤٩.

(٣) سورة الصافات الآية ـ ١٠٥.

٣٨٢

يعنى بكبش أملح يمشي في سواد ، ويأكل في سواد ، وينظر في سواد ، ويبول في سواد ، ويبول في سواد أقرن فحل ، وكان يرتع في رياض الجنة أربعين عاما» أقول : قد تقدم الكلام في تفسير كونه يمشي في سواد الى آخره في باب الهدى ، وعن عتيبة بن بشير (١) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : ان الله عزوجل أمر إبراهيم (عليه‌السلام) ببناء الكعبة وأن يرفع قواعدها ، ويرى الناس مناسكهم ، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت كل يوم سافا حتى انتهوا الى موضع الحجر الأسود ، وقال أبو جعفر (عليه‌السلام) فنادى أبو قبيس إبراهيم (عليه‌السلام) ان لك عندي وديعة فأعطاه الحجر الأسود ، فوضعه موضعه ، ثم ان إبراهيم أذن في الناس بالحج ، فقال : أيها الناس إني إبراهيم خليل الله ، وان الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت ، فحجوه فأجابه من يحج ، الى يوم القيامة ، وكان أول من أجابه من أهل اليمن ، قال : وحج إبراهيم هو وأهله وولده ، فمن زعم أن الذبيح هو إسحاق فمن كان هيهنا ذبحه.

وذكر عن أبى بصير (٢) أنه سمع أبا جعفر (عليه‌السلام) وأبا عبد الله (عليهما‌السلام) يزعمان أنه إسحاق ، وأما زرارة فزعم أنه إسماعيل».

قال في الوافي : الساف كل عرق من الحائط ويقال بالفارسية : چينه ، ولعل معنى قوله «فمن هيهنا كان ذبحه» أنه لما لم يكن هناك سوى إبراهيم وأهله وولده إسماعيل الذي كان يساعده في بناء البيت دون إسحاق ، فمن كان هيهنا ذبحه إبراهيم عليه‌السلام ، يعنى لم يكن هناك إسحاق ليذبحه ، قوله «فمن زعم الى آخره لعله من كلام بعض الرواة»

قال في الفقيه : اختلف الروايات في الذبيح ، فهنها ما ورد بأنه إسماعيل ، ومنها ما ورد بأنه إسحاق ولا سبيل الى رد الاخبار متى صح طرقها ، وكان الذبيح إسماعيل ، لكن إسحاق لما ولد بعد ذلك تمنى أن يكون هو الذي أمره أبوه بذبحه وكان يصبر لأمر الله ويسلم له كصبر أخيه وتسليمه فينال بذلك درجته في الثواب ،

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٢٠٥.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٢٠٥.

٣٨٣

فعلم الله ذلك من قلبه فسماه بين الملائكة ذبيحا لتمنيه ذلك قال : وقد ذكرت اسناد ذلك في كتاب النبوة متصلا بالصادق عليه‌السلام :

واعترضه في الوافي فقال : أقول : لا يخفى ان خبر أبى بصير الذي مضى في قصة الذبح من الكافي لا يتحمل هذا التأويل وحمله على التقية أيضا بعيد ، كأنهم (عليهم‌السلام) كانوا يرون المصلحة في إبهام الذبيح ، كما يظهر من بعض أدعيتهم ولذا جاء فيه الاختلاف عنهم ، وكانا جميعا ذبيحين أحدهما بمنى والأخر بالمني انتهى.

أقول بل الوجه في اختلاف الاخبار هو التقية ، فإن الذبيح عند العامة هو إسحاق كما صرحوا به ، واستبعاده الحمل على التقية لا أعرف له وجها.

وقد روى في الفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) مرسلا (١) قال : سئل الصادق (عليه‌السلام) عن الذبيح من كان ، فقال : إسماعيل لأن الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال (٢) «(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ).

وعن الحسين بن نعمان (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما زادوا في المسجد الحرام ، فقال : ان إبراهيم وإسماعيل (عليه‌السلام) حد المسجد الحرام ما بين الصفا والمروة» قال في الكافي بعد ذكر هذا الخبر : وفي رواية أخرى عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) خط إبراهيم عليه‌السلام بمكة ما بين الحزورة إلى المسعى فذلك الذي خط إبراهيم (عليه‌السلام) يعنى المسجد».

وقال في الفقيه (٤) «روى أن إبراهيم (عليه‌السلام) خط ما بين الحزورة إلى المسعى».

وعن جميل بن دراج (٥) في الصحيح أو الحسن قال : «قال له الطيار وأنا

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ١٤٨.

(٢) الصافات ـ ١١٢.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٢٠٩.

(٤) الفقيه ج ٢ ص ١٤٩.

(٥) الكافي ج ٤ ص ٥٢٦.

٣٨٤

حاضر : هذا الذي زيد هو من المسجد؟ فقال : نعم ، انهم لم يبلغوا بعد مسجد إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما». وروى في التهذيب عن الحسين بن نعيم (١) «قال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما زادوا في المسجد الحرام عن الصلاة فيه ، فقال ان إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام حدا المسجد الحرام ما بين الصفا والمروة ، فكان الناس يحجون من المسجد الى الصفا» وقال في الوافي «يحجون من مسجد الى الصفا». يحجون اما بمعنى يطوفون ، أو بمعنى يحرمون ، يعنى كان ذلك داخلا في سعة مطافهم ، أو محل إحرامهم

وروى في الكافي عن أبى بكر الحضرمي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ان إسماعيل دفن أمه في الحجر ، وحجر عليها لئلا يوطأ قبر أم إسماعيل في الحجر».

وعن المفضل بن عمر (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «قال الحجر بيت إسماعيل وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل».

وعن معاوية بن عمار (٤) في الصحيح قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي‌ء من البيت؟ فقال : لا ولا قلامة ظفر. ولكن إسماعيل دفن فيه أمه فكره أن توطأ فحجر عليه حجرا وفيه قبور الأنبياء».

وعن زرارة (٥) في الموثق عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الحجر هل فيه شي‌ء من البيت؟ قال : لا ولا قلامة ظفر».

وعن معاوية بن عمار (٦) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : دفن في الحجر مما يلي الركن الثالث عذارى بنات إسماعيل».

وعن سعيد الأعرج (٧) في الصحيح عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «ان العرب

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٥٣.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٤ ص ٢١٠.

(٥) التهذيب ج ٥ ص ٤٦٩.

(٦ و ٧) الكافي ج ٤ ص ٢١٠.

٣٨٥

لم يزالوا على شي‌ء من الحنيفية ، يصلون الرحم ، ويقرون الضيف ويحجون البيت ، ويقولون اتقوا مال اليتيم ، فان مال اليتيم عقال ، ويكفون عن أشياء من المحارم مخافة العقوبة ، وكانوا لا يملى لهم إذا انتهكوا المحارم ، وكانوا يأخذون من لحاء شجر الحرم فيعلقونه في أعناق الإبل ، فلا يجترئ أحد أن يأخذ من تلك الإبل حيثما ذهبت ولا يجترئ أحد أن يعلق من غير لحاء شجر الحرم ، أيهم فعل ذلك عوقب ، وأما اليوم فأملى لهم ، ولقد جاء أهل الشام فنصبوا المنجنيق على أبى قبيس ، فبعث الله عليهم سحابة كجناح الطير ، فأمطرت عليهم صاعقة فأحرقت سبعين رجلا حول المنجنيق».

الفصل التاسع : روى في الكافي عن على بن عبد الله (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كان على بن الحسين عليه‌السلام ، يقول : يا معشر من لم يحج استبشروا بالحاج إذا قدموا ، وصافحوهم وعظموهم ، فان ذلك يجب عليكم تشاركوهم في الأجر». وعن سليمان بن جعفر الجعفري (٢) عمن رواه عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال كان على ابن الحسين يقول بادروا بالسلام على الحاج والمعتمر ومصافحتهم قبل ان تخالطهم الذنوب.

وروى في الفقيه مرسلا (٣) قال «قال أبو جعفر عليه‌السلام ، وقروا الحاج والمعتمر فان ذلك واجب عليكم». وروى فيه أيضا مرسلا قال : «قال الصادق عليه‌السلام : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول للقادم من مكة قبل الله منك وأخلف عليك نفقتك وغفر ذنبك». وروى الشيخ في التهذيب عن عبد الوهاب بن صباح عن أبيه (٤) قال : «لقي مسلم مولى أبى عبد الله عليه‌السلام صدقة الاجدب وقد قدم من مكة فقال له مسلم : الحمد لله الذي يسر سبيلك وهدى دليلك ، وأقدمك بحال عافية وقد قضى الحج وأعان على السعة ، فقبل الله منك وأخلف عليك نفقتك ، وجعلها حجة مبرورة ولذنوبك طهورا ،

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٢٦٤.

(٢ و ٣) الفقيه ج ٢ ص ١٤٧.

(٤) التهذيب ج ٥ ص ٤٤٤.

٣٨٦

فبلغ ذلك أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : كيف قلت بصدقة؟ فأعاد عليه فقال : من علمك هذا؟ فقال : جعلت فداك مولاي أبو الحسن (عليه‌السلام) فقال له : نعم ما تعلمت ، إذا لقيت أخا من إخوانك فقل له هكذا : فإن الهدى بنا هدى ، وإذا لقيت هؤلاء فقل لهم ما يقولون». قوله (عليه‌السلام) «فإن الهدى بنا هدى» الظاهر أنه في الموضعين مصدر ويكون من قبيل قوله سبحانه (١) «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ»

الفصل العاشر : روى في الكافي عن على بن أبي حمزة (٢) قال : «قال أبو الحسن (عليه‌السلام) : ان سفينة نوح كانت مأمورة طافت بالبيت حيث غرقت الأرض ثم أتت منى في أيامها ثم رجعت السفينة ، وكانت مأمورة ، وطافت بالبيت طواف النساء». وعن الحسن بن صالح (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يحدث عطاء قال : كان طول سفينة نوح (عليه‌السلام) ألف ذراع ومأتي ذراع وعرضها ثمان مأة ذراع ، وطولها في السماء مائتين ذراعا ، وطافت بالبيت سبعة أشواط ، وسعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم استوت على الجودي».

«وعن أبى بصير (٤) «قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : مر موسى بن عمران في سبعين نبيا على فجاج الروحاء عليهم العباء القطوانية ، يقول : لبيك عبدك ، وابن عبديك لبيك». وقال في الفقيه (٥)

«روى أن موسى أحرم من رملة مصر وأنه في سبعين على صفائح الروحاء عليهم القبا القطوانية يقول : لبيك عبدك وابن عبديك لبيك». قيل : والروحاء بالمهملتين موضع بين الحرمين على ثلاثين أو أربعين ميلا من المدينة ، والفجاج بالجيمين : جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين الجبلين ، والصفائح حجارة عراض رقاق ، ويقال : أيضا صفاح كرمان ، والقطوان محركة موضع بالكوفة

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ١٢٠.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٢١٢.

(٣ و ٤) الكافي ج ٤ ص ٢١٢.

(٥) الفقيه ج ٢ ص ١٥١.

٣٨٧

منه الأكسية.

قال في الفقيه (١) مر موسى النبي عليه‌السلام بصفائح الروحاء على جمل أحمر خطامه من ليف عليه عباءتان قطوانيتان وهو يقول : لبيك يا كريم لبيك ، ومر يونس بن متى عليه‌السلام بصفائح الروحاء ، وهو يقول : لبيك كشاف الكرب العظام لبيك ، ومر عيسى بن مريم بصفائح الروحاء ، وهو يقول : لبيك عبدك ابن أمتك لبيك ، ومر محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، بصفائح الروحاء وهو يقول لبيك ذا المعارج لبيك».

وروى في الكافي عن جابر (٢) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) ، قال : أحرم موسى (عليه‌السلام) من رملة مصر قال : ومر بصفائح الروحاء محرما يقود ناقته بخطام من ليف عليه عباءتان قطوانيتان يلبى وتجيبه الجبال».

قال في الفقيه : «وكان موسى (عليه‌السلام) يلبى ويجيبه الجبال وسميت التلبية اجابة ، لأنه أجاب موسى ربه ، وقال : لبيك».

وروى في الكافي عن عبد الله بن مسكان (٣) عمن رواه عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ان داود (عليه‌السلام) لما وقف الموقف بعرفة نظر الى الناس وكثرتهم فصعد الجبل فأقبل يدعو فلما قضى نسكه أتاه جبرائيل (عليه‌السلام) فقال له : يا داود يقول لك ربك : لم صعدت الجبل ، ظننت أنه يخفى على صوت من صوت ، ثم مضى به الى البحر الى جدة فرسب به في الماء مسيرة أربعين صباحا في البحر فإذا صخرة ففلقها فإذا فيها دودة فقال له : يا داود يقول لك ربك : أنا أسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر ، فظننت أنه يخفى على صوت من صوت».

وعن على بن عقبة (٤) عن أبيه عمن رواه عن ابى جعفر (عليه‌السلام) «قال ان سليمان بن داود (عليه‌السلام) حج البيت في الجن والانس والطير والرياح وكسا البيت القباطي».

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ١٥٢.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٢١٣.

(٣ و ٤) الكافي ج ٤ ص ٢١٤.

٣٨٨

«وروى في الكافي والتهذيب عن غياث بن إبراهيم (١) عن جعفر (عليه‌السلام) «قال : لم يحج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد قدومه المدينة إلا واحدة ، وقد حج بمكة مع قومه حجات».

وعن عمر بن يزيد (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «حج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عشرين حجة».

وعنه (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أحج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غير حجة الوداع؟ قال : نعم عشرين حجة».

وعن ابن أبى يعفور (٤) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : حج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عشرين حجة مستسرا في كلها يمر بالمأزمين فينزل ويبول».

قيل : المأزمان ويقال : المأزم مضيق بين جمع وعرفة ، وآخر بين مكة ومنى ، ويقال : لكل مضيق بين الجبال ، قال في الوافي : وأما السبب في استتاره أو استسراره على اختلاف الروايتين ، فلعله ما قيل : انه كان لأجل النسي‌ء ، فان قريشا أخروا وقت الحج والقتال كما أشير إليه بقوله سبحانه (إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) ، فلم يمكن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أن يخالفهم فيستر حجه أو فيستسره.

أقول : فيه ان جميع حجه الذي حجه وهو عشرون سنة كان كله كذلك ، ومن البعيد أن يكون جميع ذلك في النسي‌ء ، ويمكن حمل الاستتار على أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يستتر ببعض الأفعال التي قد غيرها أهل الجاهلية من أحكام الحج الشرعية بعقولهم وأهواءهم ، لا أن الاستتار في أصل الحج فإنهم قد أحدثوا بعقولهم وأهوائهم في الأحكام والحلال والحرام ما هو مفصل في القرآن المجيد.

وأما البول في المأزمين فقد تقدم وجهه ، وانه لمكان الأصنام في ذلك المكان أقول : وقد تقدم حديث حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع بطوله فلا نعيده

الفصل الحادي عشر : روى في الكافي والفقيه عن عيسى بن يونس (٥) قال : «

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٤ ص ٢٤٤.

(٥) الكافي ج ٤ ص ١٩٧ الفقيه ج ٢ ص ١٦٢.

٣٨٩

كان ابن ابى العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد ، فقيل له : تركت مذهب صاحبك ودخلت في ما لا أصل له ولا حقيقة ، فقال : ان صاحبي كان مخلطا كان يقول طورا بالقدر ، وطورا بالجبر ، وما أعلمه اعتقد مذهبا دام فيه ، وقدم مكة متمردا وإنكارا على من يحج ، وكان يكره العلماء مجالسته ومسائلته لخبث لسانه وفساد ضميره ، فأتى أبا عبد الله عليه‌السلام وجلس إليه في جماعة من نظرائه ، فقال : يا أبا عبد الله ان المجالس أمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل أفتأذن لي أن أتكلم فقال : تكلم بما شئت.

فقال : الى كم تدوسون هذا البيداء وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ، من فكر في هذا أو قدر ، علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر.

فقل : فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسسه وتمامه ، فقال. أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ان من أضله الله وأعمى قلبه ، استوخم الحق فلم يستعذ به ، وصار الشيطان وليه وربه وقرينه ، يورده مناهل الهلكة ، ثم لا يصدره ، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ، ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله محل أنبياءه وقبلة للمصلين اليه ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدى الى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام ، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهى عنه ، وزجر الله المنشئ للأرواح والصور» وزاد في الفقيه فقال : ابن أبى العوجاء ذكرت الله يا أبا عبد الله فأحلت على غائب ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم ، ويعلم أسرارهم وانما المخلوق الذي إذا انتقل من مكان اشتغل به مكان ، وخلا منه مكان ، فلا يدرى في المكان الذي صار اليه ما حدث في المكان الذي كان فيه ، فاما الله العظيم الشأن الملك الديان فإنه لا يخلو منه مكان ، ولا يشتغل به مكان ولا يكون الى مكان

٣٩٠

أقرب منه الى مكان ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة ، وأيده بنصره واختاره لتبليغ رسالاته صدقنا قوله بأن ربه بعثه وكلمه ، فقال ابن ابى العوجاء فقال لأصحابه : من ألقانى في بحر هذا سألتكم أن تلتمسوا الى خمرة ، فألقيتموني على جمرة ، قالوا له : ما كنت في مجلسه الا حقيرا فقال : انه ابن من حلق رؤس من ترون».

أقول : في كتاب الاحتجاج للطبرسي بعد قوله «ويعلم أسرارهم» فقال ابن ابى العوجاء : فهو في كل مكان إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض ، وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) «انما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل من مكان» الى آخره وهو الصواب ، ولعل ما بينهما سقط من قلم صاحب الفقيه.

وفي كتاب اعلام الورى بعد قوله «أقرب منه الى مكان ، يشهد له بذلك آثاره ويدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جاءنا بهذه العبادة» ، وهو الأنسب أيضا قيل : لعل المراد بالتماس الخمرة بالخاء المعجمة تحصيل الظل للاستراحة فيه ، قال في النهاية : انطلقت أنا وفلان نلتمس الخمر ، الخمر بالتحريك : كل ما سترك من شجر وبناء أو غيره ، انتهى

وأما الإلقاء على الجمرة فهو بالجيم ويحتمل ان يكون التماس الجمرة أيضا بالجيم بمعنى اتخاذ قبس من النار ، للانتفاع بها ، ويكون الإلقاء على الجمرة كناية عن الاحتراق بها وحلق الرأس كناية عن التذليل والرمي بالهوان والصغار ، لان العرب كانوا يعدونه عارا لتكبرهم ونخوتهم من أن يعلى رؤسهم ، وأشار به الى النبي أو الى أمير المؤمنين صلى الله عليهما وعلى آلهما

وروى في الكافي (١) قال : وروى أن أمير المؤمنين قال في خطبة له : ولو أراد الله عزوجل ثناءه بأنبياءه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ، ومعادن العقيان ومغارس الجنان ، وأن يحشر طير السماء ووحوش الأرض معهم لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء ، واضمحل الابتلاء ، ولما وجب للقائلين أجور المبتلين

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١٩٨.

٣٩١

ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين ، ولذلك لو أنزل الله من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ، ولكن الله جل ثناءه جعل رسله أولي قوة في عزائم نياتهم ، وضعفة في ما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه ، وخصاصة تملأ الأسماع والأبصار أذاؤه ، ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك يمد نحوه أعناق الرجال ، ويشد إليه عقد الرحال ، لكان أهون على الخلق في الاختبار ، وأبعد لهم من الاستكبار ، ولأمنوا من رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم فكانت النيات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته أمورا له خاصة ، لا تشوبها من غيرها شائبة ، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل ، ألا ترون أن الله جل ثناؤه اختبر الأولين من لدن آدم الى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع.

فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما ثم جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا وأقل نتائق الدنيا مدرا ، وأضيق بطون الأودية معاشا ، وأغلظ مجال المسلمين مياها ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، وأثر من مواضع قطر السماء داثر ، ليس يزكو به خف ولا ظلف ولا حاضر ، ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم تهوى اليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار متصلة ، وجزائر بحار منقطعة ، ومهاوي فجاج عميقة ، حتى يهزوا مناكبهم ذللا يهللون الله حوله ، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له ، قد نبذوا القنع والسراويل وراء ظهورهم ، وحسروا بالشعور حلقا من رؤوسهم ابتلاء عظيما واختبارا كبيرا وامتحانا شديدا وتمحيصا بليغا وفتونا مبينا جعله الله سببا لرحمته ووصلة وسيلة إلى جنته ، وعلة لمغفرته ، وابتلاء للخلق برحمته ، ولو كان الله تبارك وتعالى وضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار وسهل وقرار ، جم الأشجار ، داني الثمار ، ملتف النبات ، متصل القرى ، من برة سمراء ، وروضة خضراء

٣٩٢

وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وزروع ناضرة ، وطرق عامرة ، وحدائق كثيرة لكان قد صغر الجزاء ، على حسب ضعف البلاء ، ثم لو كان الأساس المحمول عليها أو الأحجار المرفوع بها ما بين زمردة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب من الناس ،

ولكن الله عزوجل يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بألوان المجاهدة ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلل في أنفسهم ، وليجعل ذلك أبوابا إلى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه وفتنة ، كما قال (١) «الم أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ».

أقول : هذه الخطبة التي أشار إليها في الكافي قد نقلها بتمامها السيد الرضى (قدس‌سره) في كتاب نهج البلاغة ، بيان لا بأس بإيضاح بعض ألفاظها المغلقة ، الذهبان : جمع ذهب كخرب بالتحريك لذكر الحبارى ، وخربان والعقبان ، قال في القاموس : ذهب ينبت وقيل خالص الذهب ، والقائلين : قيل من القيلولة ، يعني لو لم يكن ابتلاء لكانوا مسترحين ، فلا ينالون أجور المبتلين ، ولم يكن هناك إحسان فلا يلحقهم ثواب المحسنين ، ولا يكون مطيع ولا عاص ، ولا محسن ولا مسيى‌ء ، بل ترتفع هذه الأسماء ، ولا يستبين لها معنى.

وفي كتاب نهج البلاغة واضمحل الأبناء أى تلاشت وفنيت الأخبار يعني الوعد والوعيد ، وفيه غنى وادى مكان غناه وأذاه والخصاصة الفقر ، والحاجة ، والروم الطلب ، والضيم الظلم. ومد الأعناق نحو الملك ، كناية عن تعظيمه يعنى يؤمله المؤملون ويرجوه الراجون وشد الرحال كناية عن مسافرة أرباب الرغبات اليه ، بمعنى أنه لو كان الأنبياء ملوكا ذوي بأس وشوكة وقهر ، لم يكن ايمان الخلق لهم لله سبحانه ، بل كان لرهبة لهم ، وخوف منهم ، أو لرغبة وطمع فيهم ، فتكون النيات

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ١.

٣٩٣

مشتركة ، والوعر : ضد السهل ، والنتايق : جمع نتيقة بالنون ثم التاء المثناة من فوق ، فعلية بمعنى مفعولة ، والنتق : الجذب.

وسميت المدن والبلدان والأماكن المرتفعة نتائق ، لارتفاع نباتها وشهرتها وعلوها عن غيرها من الأرض كأنها جذبت ورفعت ، والدمث : اللين ، والوشل : القليل الماء ، والأثر : بقية رسم الشي‌ء ، والداثر : الدارس ، ليس يزكو به : أى ينمو ، لان الزكاء النماء ، والخف : كناية عن الإبل ، والظلف عن البقر : والغنم ، والحافر عن الدابة ، بمعنى أنها لا تسمن فيه ، لانه ليس فيه مرعى ترعاه فتسمن ، وعطفا الرجل : جانباه وناحيتا عنقه ، والثني : العطف ، وهو كناية عن قصده للحج ، يقال : ثنى عطفه نحوه ، أى توجه اليه ، والمثابة : المرجع ، والمنتجع : اسم مفعول من الانتجاع ، وهو طلب الكلاء ، والماء والمراد محل الكلاء ، وانتجع فلان فلانا : أتاه طالبا معروفه وفي قوله تهوى اليه ثمار الأفئدة استعارة لطيفة ، ونظر الى قوله عزوجل حكاية عن خليله عليه‌السلام (١) (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ)» والقفر : من المفاوز ما لا ماء فيه ، ولا كلاء ، والفجاج : جمع فج ، وهي الطريق الواسع بين الجبلين ، وفي قوله «ومهاوي فجاج عميقة» إشارة إلى دفعته وعلوه ، ونظر الى قوله سبحانه (٢) «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» وفي النهج من مفاوز قفار سحيقة ، ومهاوى فجاج عميقة ، وجزائر بحار منقطعة ، والنهز بالتحريك : وهو كناية عن الشوق نحوه ، والتوجه والسفر اليه ، وفي النهج يهلون لله من الإهلال وهو الأقرب ، والرمل محركة : الهرولة ، والشعث : انتثار الأمر واغبرار الرأس وتلبد الشعر ، والنبذ : الإلقاء. والمراد بالقنع والسراويل ما يستر أعالي البدن وأسافله.

وفي النهج قد نبذوا السراويل : وهي القمصان ، والحسر : الكشف ، وبه يتعلق

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ـ ٣٧.

(٢) سورة الحج الآية ـ ٣٧.

٣٩٤

قوله «عن رؤسهم» والمصادر الأربعة متقاربة المعاني ، والقنوت : الخضوع ، والجم : الكثير ، والدنو : القرب ، والتفاف النبات : اشتباكه.

وفي النهج «ملتف البناء» أى مشتبك العمارة ، والبرة : الواحدة من البر ، وهو الحنطة أو بالفتح اسم جمع ، والريف بالكسر : أرض ذات ذرع وخصب ، وما قارب الماء من أرض العرب ، والمحدقة : المحيطة ، وعراص : جمع عرصة ، وهي الساحة ، والمغدقة كثيرة الماء ، وفي قوله «مصارعة الشك» استعارة لطيفة ، وكذا في قوله «معتلج الريب» ومعناهما متقاربان ، والمعتلج : اسم مفعول من الاعتلاج ، وهو التغالب والاضطراب ، يقال : اعتلجت الأمواج ، أى تلاطمت واضطربت.

ومرجع الكلام إلى أنه كلما كان الابتلاء والامتحان أشد كان الثواب أجزل وأعظم ، ولو أنه سبحانه جعل العبادة سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها الا يسيرا من الجزاء ، وهذا هو وجه الحكمة في ابتلاء خلقه بإبليس وجنوده ، والنفس الامارة بالسوء والأمر بالجهاد ونحو ذلك ، والا فهو قادر على دفع إبليس عنهم ، وخلق نفوسهم مطيعة ، وجمع الناس على طاعته ، ولكنه لا يظهر حينئذ وجه استحقاقهم الثواب والجزاء ، كما لا يخفى ، والله العالم.

الفصل الثاني عشر : روى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أقوم أصلي بمكة والمرأة بين يدي جالسة أو مارة؟ فقال : لا بأس إنما سميت بمكة لانه تبك فيه الرجال والنساء». أقول : أي يزدحم من بكة إذا زحمه.

وعن معاوية بن وهب (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحطيم؟

قال : هو ما بين الحجر الأسود وبين الباب ، وسألته لم سمى الحطيم؟ قال : لان الناس يحطم بعضهم بعضا هناك».

وعن أبان (٣) عمن أخبره عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : «قلت له : لم سمي

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٤ ص ٥٢٦.

(٣) الكافي ج ٤ ص ١٩٨.

٣٩٥

البيت العتيق؟ قال : هو بيت حر ، عتيق من الناس ، لم يملكه أحد.

أقول : وفي خبر آخر ، انه أعتق من الغرق ، وروى في الفقيه عن سليمان بن مهران (١) قال : «قلت لجعفر بن محمد (عليهما‌السلام). كم حج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : عشرين حجة مستسرا ، في كل حجة يمر بالمأزمين فينزل فيبول فقلت له : يا بن رسول الله ولم كان ينزل هناك فيبول؟ قال : لانه موضع عبد فيه الأصنام ، ومنه أخذ الحجر الذي نحت منه هبل الذي رمى به على (عليه‌السلام) من ظهر الكعبة ، لما علا ظهر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأمر به ودفن عند باب بني شيبة ، فصار الدخول الى المسجد من باب بني شيبة سنة لأجل ذلك ، قال سليمان : فقلت : فكيف صار التكبير يذهب بالضغاط هناك؟ قال : لان قول العبد الله أكبر معناه أكبر من أن يكون مثل الأصنام المنحوتة ، والالهة المعبودة دونه ، وأن إبليس في شياطينه يضيق على الحاج مسلكهم في ذلك الموضع ، فإذا سمع التكبير طار مع شياطينه وتبعهم الملائكة حتى يقفوا في اللجة الخضراء ، قلت : وكيف صار الصرورة يستحب له دخول الكعبة دون من قد حج؟ فقال : لأن الصرورة قاضي فرض مدعو الى حج بيت الله فيجب أن يدخل البيت الذي دعى اليه ، ليكرم فيه ، فقلت : وكيف صار الحلق عليه واجبا دون من قد حج؟ فقال : ليصير بذلك موسما بسمة الآمنين ، الا تسمع قول الله تعالى (٢) «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ» فقلت : وكيف صار وطء المشعر عليه فريضة؟ قال : ليستوجب بذلك وطء بحبوحة الجنة».

وروى في الكافي عن السكوني (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : سئل أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عن إساف ونائلة وعبادة قريش لهما فقال : نعم كانا شابين صبيحين وكان بأحدهما تأنيث فكانا يطوفان بالبيت فصادفا من البيت

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ١٨٩.

(٢) سورة الآية.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٥٤٦.

٣٩٦

خلوة فأراد أحدهما صاحبه ففعل فمسخهما الله تعالى فقالت قريش : لولا أن الله رضي أن يعبد هذان معه ما حولهما من حالهما». قال في الوافي : إساف بالكسر والفتح صنم لقريش ، وكذا نائلة وضعهما عمرو بن لحى على الصفا والمروة ، وكان يذبح عليهما تجاه القبلة ، قيل : كانا من حزبهم إساف بن عمرو نائلة بنت سهل ففجرا في الكعبة فمسخا حجرين ثم عبدتهما قريش.

وعن على بن أسباط (١) عن رجل من أصحابنا عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا كان أيام الموسم بعث الله عزوجل ملائكة في صورة الآدميين يشترون متاع الحاج والتجار ، قلت : فما يصنعون به؟ قال : يلقونه في البحر». ورواه في الفقيه مرسلا عن أبى عبد الله (عليه‌السلام).

وروى في التهذيب عن سليمان بن الحسن عن كاتب على بن يقطين (٢) قال : «أحصيت لعلي بن يقطين من وافى عنه في عام واحد خمسمائة وخمسين رجلا ، أقل من أعطاه سبعمائة ، وأكثر من أعطاه عشرة آلاف».

أقول : لا يبعد انه لما كان على بن يقطين من وزراء الخليفة الرشيد المقربين فكان يلي أمر الخراج فتوصل الى دفعه للشيعة ورفدهم به بهذه الحيلة.

وعن عبد الله بن حماد الأنصاري (٣) عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : يأتي زمان يكون فيه حج الملوك نزهة ، وحج الأغنياء تجارة ، وحج المساكين مسألة.

وروى في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار (٤) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل (٥) «لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» قال : ما تناله الأيدي البيض والفراخ ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل الأيدي».

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٣٠٧ الفقيه ج ٢ ص ١٤٨.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٥ ص ٤٦١.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٣٩٧ لكن عن احمد بن محمد رفعه.

(٥) المائدة ـ ٩٤.

٣٩٧

وعن الشحام (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل (٢) «وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ» قال : ان رجلا انطلق وهو محرم فأخذ ثعلبا فجعل يقرب النار الى وجهه ، وجعل الثعلب يصيح ، ويحدث من استه ، وجعل أصحابه ينهونه عما يصنع ، ثم أرسله بعد ذلك ، فبينما الرجل نائم إذ جائته حية فدخلت في فيه فلم تدعه حتى جعل يحدث كما أحدث الثعلب ثم خلت عنه».

وعن الحلبي (٣) في الصحيح أو الحسن قال : «سئلت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل لبى بحجة أو عمرة وليس يريد الحج قال ليس بشي‌ء ، ولا ينبغي له أن يفعل».

وعن إسحاق بن عمار (٤) عن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) أن عليا (عليه‌السلام) كان يكره الحج والعمرة على الإبل الجلالات».

وفي الصحيح أو الحسن عن إسماعيل الخثعمي (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ، انا إذا قدمنا مكة ذهب بعض أصحابنا يطوفون ، ويتركوني أحفظ متاعهم ، قال : أنت أعظم أجرا».

وعن مرازم بن حكيم ـ (٦) قال : «زاملت محمد بن مصادف فلما دخلنا مكة اعتللت فكان يمضي الى المسجد ويدعني وحدي فشكوت ذلك الى مصادف فأخبر به أبا عبد الله (عليه‌السلام) فأرسل إليه قعودك عنده أفضل من صلاتك في المسجد».

وعن ابان بن تغلب (٧) في الصحيح أو الحسن قال : «كنت مع أبى جعفر (عليه‌السلام) في ناحية عن المسجد الحرام ، وقوم يلبون حول الكعبة ، فقال أما ترى هؤلاء الذين يلبون ، والله لأصواتهم أبغض الى الله من أصوات الحمير». وعن عبد الرحمن بن الأشل بياع الأنماط (٨) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «كانت

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٣٩٧.

(٢) سورة المائدة الآية ٩٥.

(٣ و ٤) الكافي ج ٤ ص ٥٤١.

(٥ و ٦) الكافي ج ٤ ص ٥٤٥.

(٧ و ٨) الكافي ج ٤ ص ٥٤١.

٣٩٨

قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر وكان يغوث قبال الباب ، وكان يعوق عن يمين الكعبة وكان نسر عن يسارها ، وكانوا إذا دخلوا أخروا سجدا ليغوث ، ولا ينحنون ، ثم يستديرون بحيالهم الى يعوق ثم يستديرون بحيالهم الى نسر ثم يلبون فيقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك الا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ، قال فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك والعنبر شيئا إلا أكله ، وانزل الله عزوجل (١) «يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

وعن عمر بن يزيد (٢) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال لا يلي الموسم مكي».

وعن معاوية بن عمار (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا ينبغي لأهل مكة أن يلبسوا القميص ، وأن يتشبهوا بالمحرمين شعثا غبرا ، وقال : ينبغي للسلطان أن يأخذهم بذلك».

قيل : وأن يتشبهوا يعنى ، وينبغي أن يتشبهوا ، ويحتمل أن يكون في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره ينبغي لأهل مكة أن لا يلبسوا القميص ، وأن يتشبهوا بالحرمين

وعن هارون بن خارجة (٤) قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من دفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر ، فقلت : من بر الناس وفاجرهم ، فقال : من بر الناس وفاجرهم». ورواه الصدوق مرسلا ، ورواه البرقي في المحاسن ، بسنده عن هارون بن خارجة مثله

وعن على بن سليمان (٥) قال : «كتبت إليه أسأله عن الميت يموت بعرفات

__________________

(١) سورة الحج الآية ـ ٣٧.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٤٣.

(٣) التهذيب ج ٥ ص ٤٤٧.

(٤) الفقيه ج ٢ ص ١٤٧ الكافي ج ٤ ص ٢٥٨.

(٥) التهذيب ج ٥ ص ٤٦٥.

٣٩٩

بدفن بعرفات أو ينقل الى الحرم ، فأيهما أفضل ، فكتب : يحمل الى الحرم ويدفن فهو أفضل».

وعن حفص وهشام بن الحكم (١) أنهما سألا أبا عبد الله (عليه‌السلام) أيما أفضل الحرم أو عرفة ، فقال الحرم» الحديث.

وعن عبد الملك بن عتبة (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما يصل إلينا من ثياب الكعبة هل يصلح ان نلبس منها شيئا قال يصلح للصبيان والمصاحف والمخدة تبتغي بذلك البركة إنشاء الله».

وعن مروان بن عبد الملك (٣) قال : «سألت أبا الحسن عن رجل اشترى من كسوة الكعبة شيئا فاقتضى ببعضه حاجته وبقي بعضه في يده هل يصلح بيعه؟ قال يبيع ما أراد ويهب ما لم يرد ويستنقع به ويطلب بركته قلت : أيكفن به الميت قال : لا. «ورواه الصدوق مرسلا عن أبى الحسن موسى عليه‌السلام

وروى في الفقيه عن مسمع بن عبد الملك (٤) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : لا بأس أن تأخذ من ديباج الكعبة فتجعله غلاف مصحف أو مصلى ، تصلى عليه وروى شيخنا الشهيد في الدروس قال : روى البزنطي عن ثعلبة بن ميسرة قال : كنا عند أبى جعفر (عليه‌السلام) في الفسطاط نحوا من خمسين رجلا فقال : أتدرون أى البقاع أفضل عند الله منزلة؟ فلم يتكلم أحد فكان هو الراد على نفسه ، فقال تلك مكة الحرام الذي وضعها الله لنفسه حرما وجعل نبيه فيها ثم قال : أتدرون أي بقعة في مكة أفضل حرمة؟ فلم يتكلم أحد فكان هو الراد على نفسه فقال : ذلك المسجد الحرام ، ثم قال : أتدرون أي بقعة في المسجد أعظم عند الله حرمة؟ فلم يتكلم أحد فكان هو الراد على نفسه فقال : ذلك بين الحجر الأسود الى باب الكعبة ، ذلك حطيم

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٤٦٢ التهذيب ج ٥ ص ٤٧٨.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٢٢٩.

(٣) الكافي ج ٤ ص ١٤٨.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٦ من أبواب مقدمات الطواف.

٤٠٠