الحدائق الناضرة - ج ١٧

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٨

يقال : ان أعلنت الصدقة فحسن ، وان أسررت فحسن ، وان كان الأسرار أحسن وأفضل عن الحسن.

ومنها أن معناه لا اثم عليه ، لأن سيئاته صارت مكفرة بما كان من حجه المبرور وهو معنى قول ابن مسعود ، وعلى هذا الوجه والذي قبله اقتصر في كتاب مجمع البيان ، وما قدمناه من الوجوه نقله السيد السند في المدارك.

ومنها وهو الأظهر في المقام أنه لما كان الظاهر من الاخبار كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب (١) وعليه محققو الأصوليين هو حجية مفهوم الشرط ، وحينئذ فمقتضى قوله عزوجل أولا «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ان من تأخر ولم يتعجل فعليه الإثم ، والحال أنه لا اثم عليه شرعا ، فرفع سبحانه هذا الحكم ببيان أن المفهوم هنا غير مراد ، فلا يتوهم أحد أن تخصيص التعجيل بنفي الإثم يستلزم حصول الإثم بالتأخير.

وعلى ذلك يدل صحيح أبي أيوب (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) انا نريد أن نتعجل المسير وكانت ليلة النفر حين سألته فأي ساعة ننفر؟ فقال لي : أما اليوم الثاني فلا تنفر حتى تزول الشمس وكانت ليلة النفر وأما اليوم الثالث فإذا ابيضت الشمس فانفر على بركة الله فان الله جل ثناؤه يقول (٣) «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ولو سكت لم يبق أحد إلا تعجل ، ولكنه قال «وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ».

قيل : لعل بناء هذا الحديث على الرد على أهل الجاهلية بناء على ما تقدم من النقل عنهم بأن منهم من أثم المتعجل بالنفر ، ومنهم من إثم المتأخر به

أقول : وهو جيد لو ثبت النقل المذكور عنهم ، على أن المتبادر من قوله (عليه‌السلام) «فلو سكت» الى آخره انما هو ما ذكرناه من أن مقتضى مفهوم المخالفة في الآية هو تحريم التأخير ، ولكنه لما لم يكن مرادا بين سبحانه ذلك برفع الإثم

__________________

(١) ج ١ ص ٥٧.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥١٩.

(٣) سورة البقرة الآية ـ ٢٠٣.

٣٢١

عمن تأخر ،

وأما قوله عزوجل (١) «لِمَنِ اتَّقى» فإنه قال في كتاب مجمع البيان فيه قولان : أحدهما ـ أنه يقع الحج مبرورا ومكفرا للسيئات إذا اتقى ما نهى الله عنه ، والأخر ما رواه أصحابنا أن قوله «لِمَنِ اتَّقى» متعلق بالتعجيل في اليومين ، وتقديره فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه لمن اتقى الصيد الى انقضاء النفر الأخير ، وما بقي من إحرامه ومن لم يتقها فلا يجوز له النفر في الأول ، وهو المروي عن ابن عباس واختيار القراء

أقول ويؤيد المعنى الأول قوله عزوجل (٢) «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» وروى الصدوق (قدس‌سره) في الصحيح عن معاوية بن عمار (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «قال وسمعته يقول : في قول الله تعالى «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) «قال يتقى الصيد حتى ينفر أهل منى في النفر الأخير ، والظاهر أن هذه هي الرواية التي أشار إليها في كتاب مجمع البيان في الوجه الثاني

أقول : ومن الاخبار في المسألة ما رواه الشيخ عن حماد بن عثمان (٤) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ... لِمَنِ اتَّقى» الصيد يعني في إحرامه ، فإن أصابه لم يكن له أن ينفر في النفر الأول.

وعن حماد (٥) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول ، ومن نفر في النفر الأول فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الناس وهو قول الله عزوجل «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ... لِمَنِ اتَّقى» قال اتقى الصيد.

وعن معاوية بن عمار (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : من نفر في النفر الأول متى يحل له الصيد؟ قال : إذا زالت الشمس من اليوم الثالث».

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٠٣.

(٢) سورة المائدة الآية ـ ٢٧.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٨.

(٤ و ٥ و ٦) التهذيب ج ٥ ص ٢٧٣ و ٤٩٠ و ٤٩١.

٣٢٢

وعن معاوية بن عمار (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ينبغي لمن تعجل في يومين أن يمسك عن الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث.

وعن جميل بن دراج (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) ، في حديث قال : «ومن أصاب الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول».

وروى في الكافي عن محمد بن المستنير (٣) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «من أتى النساء في إحرامه لم يكن له أن ينفر في النفر الأول» قال في الكافي وفي رواية أخرى الصيد أيضا.

وقال فيمن لا يحضره الفقيه بعد نقل صحيحة معاوية المتقدمة : وفي رواية ابن محبوب عن مؤمن الطاق عن سلام بن المستنير (٤) عن أبى جعفر (عليه‌السلام) «أنه قال :» «لِمَنِ اتَّقى» «الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله عليه في إحرامه».

وفي رواية على بن عطية عن أبيه (٥) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال «لمن اتقى الله» عزوجل. قال : وروى أنه يخرج من الذنوب كهيئة يوم ولدته أمه».

وروى «من وفى وفى الله له».

وفي رواية المنقري عن سفيان بن عيينة (٦) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) (في قول الله عزوجل «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» يعنى من مات فلا اثم عليه ومن تأخر أجله فلا اثم عليه لمن اتقى الكبائر».

قال : وسئل الصادق (٧) (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» قال : ليس هو على أن ذلك واسع ، ان شاء صنع ذا وان شاء صنع ذا لكنه يرجع مغفورا له لا اثم عليه ولا ذنب له».

وروى في الكافي عن سفيان بن عينة (٨) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال :

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٩.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٥٢٢.

(٤ و ٥) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٨.

(٦ و ٧) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩.

(٨) الكافي ج ٤ ص ٥٢١.

٣٢٣

سأل رجل أبى بعد منصرفه من الموقف فقال : أترى يخيب الله هذا الخلق كله؟ فقال : أبى ما وقف بهذا الموقف أحد إلا غفر الله له مؤمنا كان أو كافرا ألا انهم في مغفرتهم على ثلاث منازل مؤمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخروا عتقه من النار ، وذلك قوله عزوجل (١) «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذابَ النّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» ومنهم من غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وقيل له : أحسن فيما بقي من عمرك وذلك قوله تعالى «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» يعنى من مات قبل أن يمضي فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه ـ لمن اتقى الكبائر ، وأما العامة فيقولون : فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ، يعني في النفر الأول ومن تأخر فلا اثم عليه يعنى لمن اتقى الصيد ، أفترى أن الصيد ، يحرمه الله بعد ما أحله في قوله عزوجل (٢) «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» وفي تفسير العامة معناه وإذا حللتم فاتقوا الصيد ، وكافر وقف هذا الموقف زينة الحياة الدنيا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ان تاب من الشرك فيما بقي من عمره ، وان لم يتب وفاه أجره ، ولم يحرمه أجر هذا الموقف ، وذلك قوله عزوجل (٣) «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».

إذا عرفت ذلك فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع : أحدها من المقطوع به كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا يجوز النفر في النفر الأول الا لمن اتقى الصيد والنساء في إحرامه ، فلو جامع في إحرامه أو قتل صيدا وان كفر عنه لم يجز له أن ينفر في النفر الأول ، ووجب عليه المقام بمنى الى النفر الثاني.

وعلى ذلك تدل جملة من الاخبار المتقدمة منها صحيحة معاوية بن عمار

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٠٠ و ٢٠١.

(٢) سورة المائدة الآية ـ ٣.

(٣) سورة الهود الآية ١٥ و ١٦.

٣٢٤

ورواية حماد بن عثمان الاولى وروايته الثانية ، ورواية جميل بن دراج ، ورواية محمد بن المستنير ، والعجب ، من السيد السند (قدس‌سره) في المدارك أنه انما استدل هذا الحكم برواية محمد بن المستنير ورواية حماد بن عثمان الاولى ، وطعن فيهما بضعف الاسناد ، ثم قال : والآية الشريفة محتملة لمعان متعددة ، بل مقتضى رواية معاوية بن عمار الصحيحة أن المراد بالاتقاء خلاف هذا المعنى ، والمسألة محل إشكال.

أقول : ليت شعري أي فرق بين مدلول رواية حماد بن عثمان التي ذكرها ، وصحيحة معاوية التي أشار إليها ، فان كلا منهما قد فسر الاتقاء في الآية باتقاء الصيد في إحرامه ، فكيف يتم ما ذكره من أن الصحيحة المذكورة تدل على ان الاتقاء خلاف هذا المعنى ، يعنى اتقاء الصيد

نعم ذلك مدلول روايات آخر كما عرفت ، وأعجب منه انه قد قدم الصحيحة المشار إليها بنحو ما نقلناه ، فكيف اتفقت له هذه الغفلة عن مراجعتها.

وبالجملة فالحكم المذكور عار عن وصمة الإشكال كما لا يخفى على من أعطى التأمل حقه في هذا المقام ، وثانيها قد تقدم أن المشهور في معنى المتقى الذي يجوز له النفر في النفر الأول هو من اتقى الصيد أو النساء في إحرامه.

وقال ابن إدريس : أنه من لم يكن عليه كفارة بالكلية ، يعنى من اتقى جميع محرمات الإحرام الموجبة للكفارة.

ويدل على القول المشهور من الاخبار المتقدمة صحيحة معاوية ابن عمار ، ورواية حماد بن عثمان الاولى والثانية وغيرها ، ويدل على ما ذهب اليه ابن إدريس رواية سلام بن المستنير المتقدمة ، الا أنها غير صريحة بل ولا ظاهرة في المنافاة ، لما عرفت من اختلاف الاخبار في تفسير التعجيل والتأخير وتفسير الاتقاء ، وهذه الرواية إنما اشتملت على تفسير الاتقاء خاصة فلعل ذلك مبنى على معنى آخر للتعجيل والتأخير غير ما هو المشهور في الاخبار وكلام الأصحاب ، ولا يحضرني الان مذهب العامة في المسألة فلعل الرواية المذكورة خرجت مخرج التقية.

٣٢٥

وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه الاخبار الكثيرة المعتضدة بكلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) سلفا وخلفا.

وثالثها : الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أن النفر الأول لا يكون الا بعد الزوال ، وأنه لا يجوز قبل الزوال الا لعذر من ضرورة أو حاجة ،

وأما النفر الثاني فيجوز له أن ينفر قبل الزوال وبعده أي ساعة شاء وأن النفر الأول بعد الزوال مشروط بأن لا تغرب عليه الشمس بمنى ، والا وجب عليه المبيت بها والتأخير إلى النفر الثاني.

ويدل على هذه الأحكام جملة من الاخبار ، ومنها صحيحة أبي أيوب المتقدمة

وما رواه ثقة الإسلام والصدوق (عطر الله مرقديهما) في الصحيح عن معاوية بن عمار (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن تنفر حتى تزول الشمس. فإن تأخرت الى أيام التشريق وهو يوم النفر الأخير فلا عليك أي ساعة نفرت ، ورميت قبل الزوال أو بعده».

وزاد في الكافي «فإذا نفرت وانتهيت إلى الحصبة وهي البطحاء فشئت أن تنزل قليلا فإن أبا عبد الله (عليه‌السلام) قال : انه كان أبى ينزلها ثم يحمل فيدخل مكة من غير أن ينام بها».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال من تعجل في يومين فلا ينفر حتى تزول الشمس ، فإن أدركه المساء بات ولم ينفر».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن الحلبي (٣) أن أبا عبد الله (عليه‌السلام) «سئل عن الرجل ينفر في النفر الأول قبل ان تزول الشمس؟ فقال : لا ، ولكن يخرج ثقله ان شاء ، ولا يخرج هو حتى تزول الشمس».

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٩٧.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٢٠.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٨.

٣٢٦

وما رواه الشيخ عن أبى بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل ينفر في النفر الأول؟ قال : له أن ينفر ما بينه وبين أن تصفر الشمس ، فان هو لم ينفر حتى يكون عند غروبها فلا ينفر ، وليبت بمنى حتى إذا أصبح وطلعت الشمس فلينفر متى شاء».

واما ما رواه الشيخ عن زرارة (٢) عن ابى جعفر (عليه‌السلام) قال : «لا بأس ان ينفر الرجل في النفر الأول قبل الزوال». فحمله الشيخ في التهذيبين على الضرورة.

وما ذكرنا من انه في النفر الثاني يجوز له النفر أي ساعة شاء قبل الزوال أو بعده وان كان هو مدلول جملة من الاخبار ، الا أن الأفضل كونه قبل الزوال.

لما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن أيوب بن نوح (٣) قال : «كتبت اليه : ان أصحابنا قد اختلفوا علينا فقال بعضهم : ان النفر يوم الأخير بعد الزوال أفضل ، وقال بعضهم : قبل الزوال فكتب : أما علمت ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى الظهر والعصر بمكة ، ولا يكون ذلك الا وقد نفر قبل الزوال».

ويؤكد ما ورد من ان الأفضل والاوكد للإمام النفر قبل الزوال لما في صحيحة الحلبي (٤) أو حسنته عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ويصلى الامام الظهر يوم النفر بمكة».

ورابعها ـ لا يخفى ان ما دلت عليه جملة من الروايات المتقدمة كصحيحة معاوية بن عمار ، ورواية الأخرى أيضا ، ورواية حماد بن عثمان من تحريم الصيد على من نفر في النفر الأول الى ان ينفر الثاني لا يخلو من الإشكال ، لأنه محل ، وقد قال الله تعالى (٥) «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» وحينئذ فكيف يتوقف وحل الصيد له على النفر الثاني ، ولا وجه لحمل الصيد هنا على الصيد الحرمي ، لأنه حرم ما دام في الحرم لا تعلق له بالنفر الثاني ولا عدمه.

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٥ ص ٤٧٢.

(٣ و ٤) الكافي ج ٤ ص ٥٢١.

(٥) سورة المائدة الآية ـ ٣.

٣٢٧

ونقل عن ابن الجنيد أنه صرح بتحريم الصيد أيام منى ، وان أحل ، وهذه ظاهرة فيما ذكره ، ونحوها ما تقدم في المسألة الرابعة من الفصل الثالث في الحلق والتقصير من صحيحة معاوية بن عمار ، ورواية كتاب الفقه الدالتين على تحريم الصيد الى بعد طواف النساء.

والتحقيق ان كلام الأصحاب في هذا الباب وكذا الاخبار لا تخلو من تشويش واضطراب ، اما كلام الأصحاب فإنهم ذكروا انه بالحلق والتقصير يحل له كل شي‌ء إلا الطيب والنساء والصيد ، وبطواف الزيارة يحل له الطيب ، وبطواف النساء تحل له النساء ، ولم يذكروا للصيد محللا.

قال في المنتهى ما ملخصه بعد ان عد محرمات الإحرام إذا عرفت هذا : فإنه إذا حلق أو قصر حل له كل شي‌ء ان كان الإحرام للعمرة ، وان كان للحج فقد حل له كل شي‌ء إلا الطيب والنساء والصيد ، ثم ساق الكلام الى ان قال : وإذا طاف طواف النساء حل له النساء الى ان قال : فحينئذ مواطن التحليل ثلاثة : الأول إذا حلق أو قصر حل له كل شي‌ء أحرم منه الا النساء والطيب والصيد ، الثاني إذا طاف طواف الزيارة حل له الطيب ، الثالث إذا طاف طواف النساء حل له النساء ، هذا كلامه رحمه‌الله.

وهو مع تكراره خال من التعرض لمحل الصيد ، وقد تقدم في المسألة المشار إليها نقل مذهب الشيخ على بن بابويه ببقاء تحريم الصيد الى بعد طواف النساء ، وهو الظاهر من كلامهم هنا بالتقريب الذي ذكرناه ، حيث ذكروا تحريمه بعد الحلق أو التقصير ، ولم يذكروا له محللا.

واما الاخبار فقد تقدمت في المسألة المشار إليها أيضا ، وأكثرها دال على انه بالحلق أو التقصير حل له كل شي‌ء إلا الطيب والنساء وإذا طاف طواف الزيارة حل له الطيب ، وإذا طاف طواف النساء حلت له النساء ، وظاهرها أن : الصيد يحل بالحلق أو التقصير ، ولا قائل به ، بل ظاهر الآية يرده وهي قوله عزوجل (١) «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» ولا ريب في صدق العنوان عليه ما دام يحرم عليه الطيب والنساء

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ٩٥.

٣٢٨

أو أحدهما ، فكيف يحل له الصيد.

وصحيحة معاوية بن عمار ورواية كتاب الفقه قد تضمنت إبقاء تحريم الصيد كما عرفت الى بعد طواف النساء ، والأصحاب قد حملوا الصحيحة المذكورة على الصيد الحرمي ، وكذا حملوا عليه كلام ابن بابويه وهو وان احتمل بالنسبة إليها ، الا أن هذه الاخبار المذكورة هنا لا تقبل ذلك ، لما عرفت آنفا ، والحق أن الروايتين المذكورتين انما خرجتا مخرج هذه الاخبار من الصيد الإحرامي ، وان كانت هذه الاخبار أصرح وأوضح دلالة في ذلك.

وبالجملة فالأخبار المتعلقة بهذه المسألة منها ما دل على تحليل الصيد بعد الحلق أو التقصير كالأخبار المتقدمة في تلك المسألة ، وهو مردود بظاهر آية (١) «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» بالتقريب الذي قدمناه مع عدم القائل بذلك ، ومنها وهو أخبار هذه المسألة ما دل على بقاء تحريم الصيد الى أن ينفر الناس من النفر الثاني ، وهو مردود أيضا بظاهر قوله سبحانه (٢) «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» وظاهر الاخبار التعارض في الصيد الإحرامي ، ولم أقف على مذهب العامة في هذا المقام ولا على كلام الأحد من أصحابنا يرفع هذا الإبهام. والله العالم.

وخامسها ـ لا يخفى أن ما قدمناه صدر المسألة من الاخبار أكثرها دال على أن المراد بالتعجيل والتأخير في الآية يعني بالنسبة إلى النفر الأول والثاني ، فإن المراد بالاتقاء فيها على هذا التقدير اتقاء الصيد والرفث ، وأما ما ورد من تفسير التعجيل بالموت بعد الحج ، والتأخير من تأخر أجله فان الاتقاء حينئذ بمعنى التقوى والورع عن الكبائر ، كما في روايتي صفوان بن عيينة وسفيان بن عيينة وما ورد في المرسلة المروية في الفقيه عن الصادق (عليه‌السلام) وقوله «ليس هو على أن ذلك واسع ان شاء صنع ذا وان شاء صنع ذا لكنه يرجع مغفورا له لا اثم عليه». بمعنى انه ليس المراد من الاية التخيير في فعل أي الأمرين شاء بل المراد منها ان المتعجل والمتأخر سواء

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٩٥.

(٢) المائدة الآية ـ ٣.

٣٢٩

في كونهما مغفورا لهما الذنوب كلها لا يختص الغفران بواحد منها.

وما رواه في الكافي عن إسماعيل بن نجيح (١) قال : «كنا عند أبى عبد الله عليه‌السلام بمنى ليلة من الليالي. فقال : ما يقول هؤلاء فيمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ، ومن تأخر فلا اثم عليه؟ قلنا : ما ندري قال : بلى يقولون : من تعجل من أهل البادية فلا اثم عليه ، ومن تأخر من أهل الحضر فلا اثم عليه ، وليس كما يقولون قال الله جل ثنائه (٢) «فَمَنْ تَعَجَّلَ ... فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» ألا لا اثم عليه ، ومن تأخر فلا اثم عليه ، ألا لا اثم عليه لمن اتقى ، انما هي لكم والناس سواد وأنتم الحاج». يعنى أن المراد «بالمتقين» في الآية انما هم الشيعة ، والآية انما هي فيهم ، والمغفرة لمن تعجل أو تأخر انما هي مخصوصة بهم.

وروى نحوه في تفسير العياشي عن الباقر (عليه‌السلام) أنه سئل عن تفسير هذه الآية «فقال : أنتم والله أنتم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : لا يثبت على ولاية على (عليه‌السلام) الا المتقون». فلا منافاة فيه للأخبار المتقدمة ، لأن القرآن له ظهر وبطن ، ولكل منهما ظهر وبطن ، فعلى أيهما حمل وبها فسر فلا منافاة فيه ، كما ورد عن أصحاب البيت الذي نزل القرآن فيهم ، وهم أعرف الناس بباطنه وظاهره ، وليس هذا من قبيل اختلاف تفسير المفسرين الاخذين بالعقول ، والآراء ، فإنه مردود عندنا بلا اختلاف ولا امتراء.

فائدة : قال ابن إدريس في السرائر : قال الثوري : سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ما كانت العرب تسميه؟ فقال : ليس عندي من ذلك علم ، فلقيت ابن مناذر فأخبرته بذلك فتعجب وقال أسقط مثل هذا على أبى عبيدة ، وهي أربعة أيام متواليات كلها على الراء ، يوم النحر ، والثاني يوم المقر ، والثالث يوم النفر ، والرابع يوم الصدر ، فحدثت أبا عبيدة فكتبه عنى عن ابن مناذر ، قال ابن إدريس : وابن

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٢٣.

(٢) سورة البقرة الآية ـ ٢٠٣.

٣٣٠

مناذر هذا شاعر لغوي بصري صاحب القصيدة الدالية «كل حي لاقى الحمام فهو دمي» انتهى.

بقي الكلام فيما اشتمل عليه خبر سفيان بن عيينة حيث أنه (عليه‌السلام) بعد ان فسر التعجيل والتأخير بمن مات قبل أن يمضي ، ومن تأخر موته ، نفى التفسير المشهور في الاخبار ، وكلام الأصحاب ونسبه الى عامة الناس وجهالهم ، ونفى حمل الاتقاء على اتقاء الصيد معللا له بأنه كيف يحرمه الله تعالى بعد ما أحله ، بقوله (١) «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» والكل ظاهر في منافاة الأخبار المتقدمة واتفاق كلمة الأصحاب ، والأظهر عندي أن الخبر انما خرج بذلك مخرج التقية وأن سفيان المذكور من رؤساء المخالفين وشياطينهم ، وله أحاديث مع الصادق (عليه‌السلام) في الاعتراض عليه في لباسه ومأكله ، ويحتمل ولعله الأقرب ان التقية كانت في أصل الخبر من الباقر (عليه‌السلام) مع ذلك السائل كما يؤذن به سياق الخبر المذكور ، وأما ما تكلف صاحب الوافي هنا في دفع المنافاة فلا معنى له كما لا يخفى على المتأمل في الخبر المذكور ،

وسادسها ـ يستحب للحاج أن يصلى في مسجد الخيف بمنى صلاة فرضها ونفلها ، وأفضله في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو من المنارة التي في وسط المسجد على نحو من ثلاثين ذراعا إلى جهة القبلة ، وعن يمينها ، وعن يسارها وخلفها كذلك

ويدل على ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن معاوية بن عمار (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «صل في مسجد الخيف وهو مسجد بمنى وكان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عهده عند المنارة التي في وسط المسجد ، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا وعن يمينها وعن يسارها وعن خلفها نحوا من ذلك ، قال : فتحر ذلك فان استطعت أن يكون مصلاك فيه فافعل ، فإنه قد صلى فيه ألف بنى».

وروى فيمن لا يحضره الفقيه عن الثمالي (٣) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال :

__________________

(١) سورة المائدة الآية ـ ٣.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥١٩.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ١٣٦.

٣٣١

من صلى في مسجد الخيف بمنى مأة ركعة قبل أن يخرج منه عدلت عبادة سبعين عاما ، ومن سبح لله فيه مأة تسبيحة كتب الله له كأجر عتق رقبة ، ومن هلل الله فيه مأة تهليلة عدلت أجر إحياء نسمة ، ومن حمد الله فيه مأة تحميدة عدلت أجر خراج العراقين ينفقه في سبيل الله عزوجل».

وروى الكليني (١) عن على بن أبي حمزة ، والشيخ عنه عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : صل ست ركعات في مسجد منى في أصل الصومعة». ولعل المراد بأصل الصومعة يعني عند المنارة ، لا في الجهات الممتدة إلى نحو ثلاثين ذراعا ، كما تقدم.

وسابعها ـ من المستحبات ايضا التحصيب وهو انما يكون في النفر الثاني دون الأول ، كما صرح به الأصحاب والاخبار والمراد به النزول بالمحصب ، وهو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح على ما نقل عن الجوهري وغيره ، وقال في القاموس : والتحصيب النوم بالمحصب الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح ساعة من الليل ، والمحصب موضع رمى الجمار بمنى ، ونقل عن الشيخ في المصباح وغيره أن التحصيب النزول في مسجد الحصبة.

وقال الصدوق في الفقيه (٢) فإذا بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مسجد الحصباء دخلته واستلقيت فيه على قفاك بقدر ما تستريح ، ومن نفر في النفر الأول فليس عليه أن يحصب». وربما أشعر هذا الكلام بوجود المسجد المذكور في زمانه (رحمه‌الله) وأما الآن فلا أثر له.

وقال ابن إدريس : في السرائر وليس لهذا المسجد المذكور في الكتب أثر اليوم ، وانما المستحب التحصيب ، وهو نزول الموضع والاستراحة فيه اقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انتهى.

ونقل في الدروس عن ابن إدريس أنه قال : ليس للمسجد أثر الان ، فتتأدى

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥١٩.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٣٣٢.

٣٣٢

هذه السنة بالنزول بالمحصب من الأبطح ، قال : وهو ما بين العقبة وبين مكة ، وقيل : ما بين الجبل الذي عند مقابر مكة ، والجبل الذي يقابله مصعدا في الشق الأيمن للقاصد مكة ، وليس المقبرة منه واشتقاقه من الحصباء ، وهو الحصى المحمول بالسيل.

أقول : لم أقف على هذا الكلام في السرائر ، ولعله في غيره أو مكان آخر غير الموضع المعهود ، والذي وجدته فيه هو ما قدمت نقله.

ثم قال في الدروس : ونقل عن السيد ضياء الدين بن الفاخر شارح الرسالة أنه قال : ما شاهدت أحدا يعلمني به في زماني وانما وقفني واحد على أثر مسجد بقرب من منى على يمنى قاصد مكة على مسيل واد ، قال : وذكر آخرون أنه عند مخرج الأبطح إلى مكة.

أقول : لم أقف في الاخبار على ذكر لهذا المسجد إلا في عبارة كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام : إذا رميت الجمار يوم الرابع ارتفاع النهار فأفض منها إلى مكة فإذا بلغت مسجد الحصباء ، دخلته واستلقيت فيه على قفاك على قدر ما تستريح.

وما يوجد في بعض كتب أصحابنا أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى فيه الظهرين والعشاءين ، وهجع هجعة ، ثم دخل مكة ، فالظاهر أنه من روايات العامة ومما يدل على استحباب التحصيب من الاخبار مضافا الى اتفاق الأصحاب ما تقدم قريبا من صحيحة معاوية بن عمار.

ورواه الشيخ عن معاوية بن عمار (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا نفرت وانتهيت إلى الحصبة وهي البطحاء فشئت أن تنزل قليلا فإن أبا عبد الله عليه‌السلام قال : ان أبى كان ينزلها ثم يرتحل فيدخل مكة من غير ان ينام بها ، وقال ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنما أنزلها حيث بعث بعائشة مع أخيها عبد الرحمن الى التنعيم فاعتمرت لمكان العلة التي أصابتها فطافت بالبيت ثم سعت ثم رجعت فارتحل من يومه».

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٢٧٥.

٣٣٣

وما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن أبان وهو ابن عثمان عن أبى مريم (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام أنه سأل عن الحصبة فقال : كان أبى ينزل الأبطح قليلا ثم يدخل البيوت من غير أن ينام بالأبطح فقلت له : أرأيت من تعجل في يومين عليه أن يحصب؟ قال : لا وقال : كان أبى ينزل الحصبة قليلا ثم يرتحل وهو دون خبط وحرمان».

قال في المدارك بعد ذكر الخبر المذكور ويستفاد من هذه الرواية أن التحصيب النزول بالحصبة ، وأنه دون خبط وحرمان ، لكن لم أقف في كلام أهل اللغة على شي‌ء يعتد به في ضبط هذين اللفظين ، وتفسيرهما.

أقول : قال في الوافي في ذيل الخبر المذكور لعل المراد بما دون خبط وحرمان أن لا ينام فيه مطمئنا ولا يجاوزه محروما من الاستراحة فيه ، فان الخبط بالمعجمة والموحدة طرح النفس حيث كان للنوم وفي بعض النسخ ذو خبط : يعنى يرتحل ، وهو طارح نفسه للنوم ومحروم من النوم انتهى.

ونقل شيخنا المولى محمد تقي المجلسي في بعض الحواشي المنسوبة إليه بعد أن ذكر احتمال ما قدمنا ذكره عن الوافي أن في بعض كتب العامة دون حائط حرمان وذكر أنه كان هناك بستان ومسجد الحصباء كان قريبا منه ثم قال شيخنا المشار اليه وهو أظهر.

الفصل الثالث في وداع البيت الشريف

والخروج ، ومستحبات ذلك ، وفيه مسائل الأولى لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان من قضى مناسكه بمنى جاز له أن ينصرف حيث شاء ، وان استحب له العود إلى مكة لوداع البيت.

روى الشيخ عن الحسين بن على السري (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٩.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ٢٧٣.

٣٣٤

ما ترى في المقام بمنى بعد ما ينصرف الناس؟ فقال : ان كان قد قضى نسكه فليقم ما شاء ، وليذهب حيث شاء».

وحينئذ فمتى أراد الرجوع للوداع فقد ذكر بعض الأصحاب انه يستحب امام العود إلى مكة صلاة ست ركعات بمسجد الخيف واستدل على ذلك بما تقدم في الموضع الخامس من رواية على بن أبي حمزة ، أو أبي بصير من قوله عليه‌السلام «صل ست ركعات في مسجد منى في أصل الصومعة ، وهذه الرواية لا اشعار فيها باستحباب الصلاة امام العود كما ذكروه ، بل ظاهرها استحباب هذه الصلاة في هذا الموضع ، أى وقت كان ثم انه بعد العود إلى مكة يستحب له دخول الكعبة ، ويتأكد في حق الصرورة.

روى في الكافي عن على بن خالد (١) عمن حدثه عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : كان يقول : الداخل الكعبة يدخل والله راض عنه ، ويخرج عطلا من الذنوب».

وعن ابن القداح (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : سألته عن دخول الكعبة قال : الدخول فيها دخول في رحمة الله ، والخروج منها خروج من الذنوب ، معصوم فيما بقي من عمره ، مغفور له ما سلف من ذنوبه».

وروى في الفقيه (٣) مرسلا قال : «وقال عليه‌السلام من دخل الكعبة بسكينة وهو ان يدخلها غير متكبر ولا متجبر غفر له».

واما ما يدل على تأكده في حق الصرورة فهو ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن سعيد الأعرج (٤) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بد للصرورة أن يدخل الكعبة قبل ان يرجع» الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٢٧.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٢٧.

(٣) الفقيه ج ٢ ص ١٣٣.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٥٢٩.

٣٣٥

وعن ابان بن عثمان عن رجل (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «يستحب للصرورة أن يطأ المشعر الحرام ، وان يدخل البيت».

وروى الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان (٢) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دخول البيت؟ فقال : اما الصرورة فيدخله ، واما من قد حج فلا». وحمل على ان المنفي تأكد الاستحباب الثابت في حق الصرورة.

وروى الصدوق (قدس‌سره) بسنده عن سليمان بن مهران (٣) عن جعفر بن محمد عليه‌السلام في حديث قال : «قلت له : وكيف صار الصرورة يستحب له دخول الكعبة دون من قد حج؟ قال : لأن الصرورة قاضي فرض مدعوا الى بيت الله فيجب ان يدخل البيت الذي دعى اليه ، ليكرم فيه».

وروى الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر (٤) قال : «سألت أخي موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن دخول الكعبة أواجب هو على كل من حج : قال : هو واجب أول حجة ، ثم إنشاء فعل وان شاء ترك».

ثم انه يستحب لمن أراد الدخول ان يغتسل ثم تدخلها بسكينة ووقار بغير حذاء ولا يبزق ولا يمتخط وان يدعو بالمأثور ويصلى بين الأسطوانتين على الرخامة الحمراء ركعتين ، وفي كل زاوية ركعتين ، ويكبر مستقبلا لكل ركن.

ويدل على مجموع هذه الأحكام جملة من الاخبار منها ما رواه ثقة الإسلام عطر الله مرقده في الكافي عن معاوية بن عمار (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أردت الكعبة فاغتسل قبل أن تدخلها ، ولا تدخلها بحذاء ، وتقول ، إذا دخلت : انك قلت : ومن دخله كان آمنا فآمني من عذاب النار ، ثم تصلى ركعتين بين الأسطوانتين على الرخامة الحمراء ، تقرء في الركعة الأولى حم السجدة ، وفي الثانية

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٥ ص ١٩١ و ٢٧٧.

(٣) العلل ص ٤٥٠ ط النجف الأشرف.

(٤) قرب الاسناد ص ١٠٤.

(٥) الكافي ج ٤ ص ٥٢٨.

٣٣٦

عدد آياتها من القرآن وتصلى في زواياه ، وتقول : اللهم من تهيأ أو تعبأ أو أعد واستعد لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده وجائزته ونوافله وفواضله ، فإليك يا سيدي تهيئتي وتعبئتي وإعدادي واستعدادي رجاء رفدك ونوافلك وجائزتك ، فلا تخيب اليوم رجائي يا من لا يخيب عليه سائل ، ولا ينقصه نائل ، فإني لم آتك اليوم بعمل صالح قدمته ، ولا شفاعة مخلوق رجوته ، ولكن أتيتك مقرا بالظلم والاسائة على نفسي فإنه لا حجة لي ولا عذر ، فأسألك يا من هو كذلك أن تعطيني مسألتي وتقيلني عثرتي ، وتقبلني برغبتي ، ولا تردني مجبوها ممنوعا ولا خائبا ، يا عظيم يا عظيم يا عظيم ، أرجوك للعظيم ، أسألك يا عظيم أن تغفر لي الذنب العظيم ، لا إله إلا أنت» قال : ولا تدخلنها بحذاء ولا تبزق فيها ولا تمتخط فيها ، ولم يدخلها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا يوم فتح مكة».

وعن إسماعيل بن همام (١) قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : دخل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الكعبة فصلى في زواياها الأربع وصلى في كل زاوية ركعتين».

وعن الحسين بن أبى العلاء (٢) في الحسن قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وذكرت الصلاة في الكعبة قال : بين العمودين تقوم على البلاطة الحمراء فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صلى عليها ، ثم أقبل على أركان البيت وكبر الى كل ركن منه.

أقول : لا يبعد حمل التكبير هنا على ما دل عليه صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة من صلاة ركعتين في كل زاوية ، لقوله : «ويكبر مستقبلا لكل ركن ، فالتكبير هنا كناية عن صلاة ركعتين في كل زاوية ، وهي الأركان ، لا أن المراد التكبير منفردا كما فهمه الأصحاب.

وعن معاوية (٣) في الصحيح قال : «رأيت العبد الصالح دخل الكعبة فصلى ركعتين على الرخامة الحمراء ثم قام فاستقبل الحائط بين الركن اليماني والغربي فوقع يده عليه ولزق به ودعا ، ثم تحول الى الركن اليماني فلصق به ودعا ، ثم أتى

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٤ ص ٥٢٩ ـ ٥٢٨ ـ ٥٣٠.

٣٣٧

الركن الغربي ثم خرج». وعن معاوية بن عمار (١) في الصحيح في دعاء الولد قال : أفض عليك دلوا من ماء زمزم ثم ادخل البيت فإذا قمت على باب البيت فخذ بحلقة الباب ثم قل : اللهم ان البيت بيتك والعبد عبدك وقد قلت : من دخله كان آمنا فآمني من عذابك وأجرني من سخطك ، ثم ادخل البيت فصل على الرخامة الحمراء ركعتين ، ثم قم إلى الأسطوانة التي بحذاء الحجر وألصق بها صدرك ثم قل : يا واحد يا أحد يا ماجد يا قريب يا بعيد يا عزيز يا حكيم لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ، هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ثم در بالأسطوانة فألصق بها ظهرك وبطنك وتدعو بهذا الدعاء فان يرد الله شيئا كان».

وروى الصدوق في كتاب العلل والأحكام في الصحيح عن عبيد الله بن على الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يغتسلن النساء إذا أتين البيت؟ قال : نعم ان الله عزوجل يقول (٣) «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» فينبغي للعبد أن لا يدخل الا وهو طاهر ، قد غسل عنه العرق والأذى ، وتطهر.

ويستحب التكبير ثلاثا عند الخروج من الكعبة والدعاء بالمأثور وصلاة ركعتين عن يسار الدرجة ، ويمين الخارج لما رواه في الكافي في الصحيح عن عبيد الله بن سنان (٤) قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وهو خارج من الكعبة وهو يقول : الله أكبر الله أكبر حتى قالها ثلاثا ، ثم قال اللهم لا تجهد بلاءنا ربنا ولا تشمت بنا أعداءنا فإنك أنت الضار النافع ، ثم هبط فصلى الى جانب الدرجة جعل الدرجة عن يساره مستقبل الكعبة ليس بينه وبينها أحد ثم خرج الى منزله».

المسألة الثانية : لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استحباب

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٣٠.

(٢) العلل ص ٤١١ ط النجف الأشرف.

(٣) سورة الحج الآية ـ ٢٦.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٥٢٩.

٣٣٨

طواف الوداع ، والمعتمد في كيفية الوداع ما رواه ثقة الإسلام وشيخ الطائفة (نور الله تعالى مرقديهما) في الصحيح عن معاوية بن عمار (١) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «قال إذا أردت أن تخرج من مكة فتأتي أهلك فودع البيت وطف بالبيت أسبوعا وان استطعت أن تستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل شوط فافعل ، والا فافتتح به واختم به ، وان لم تستطع ذلك فموسع عليك ، ثم تأتى المستجار فتصنع عنده كما صنعت يوم قدمت مكة وتخير لنفسك من الدعاء ثم استلم الحجر الأسود ثم ألصق بطنك بالبيت تضع يدك على الحجر والأخرى مما يلي الباب واحمد الله وأثن عليه وصل على النبي وآله ثم قل : اللهم صل على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك وحبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك اللهم كما بلغ رسالاتك وجاهد في سبيلك وصدع بأمرك وأوذي في جنبك وعبدك حتى أتاه اليقين ، اللهم اقلبني مفلحا منجحا مستجابا لي بأفضل ما يرجع به أحد من وفدك من المغفرة والبركة والرحمة والرضوان والعافية (٢) «مما يسعني أن أطلب أن تعطيني مثل الذي أعطيته أفضل من عندك وتزيدني عليه» اللهم ان أمتني فاغفر لي وان أحييتني فارزقنيه من قابل ، اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك ، اللهم انى عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على دوابك وسيرتني في بلادك حتى أقدمتنى حرمك وأمنك وقد كان في حسن ظني بك ان تغفر لي ذنوبي فإن كنت قد غفرت لي ذنوبي فازدد عنى رضا ، وقربني إليك زلفى ، ولا تباعدني ، وان كنت لم تغفر لي فمن الان فاغفر لي قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن كنت قد أذنت لي غير راغب عنك ولا عن بيتك ولا مستبدل بك ولا به ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي حتى تبلغني أهلي ، فإذا بلغتني أهلي فاكفني مؤنة عبادك وعيالي ، فإنك ولي ذلك من خلقك ومنى» ثم ائت زمزم واشرب من مائها ثم اخرج وقل «آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون الى ربنا راغبون الى الله

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٣٠ التهذيب ج ٥ ص ٢٨٠.

(٢) بين القوسين في التهذيب وليس في الكافي.

٣٣٩

راجعون إنشاء الله قال : وان أبا عبد الله عليه‌السلام لما ودعها وأراد ان يخرج من المسجد الحرام خر ساجدا عند باب المسجد طويلا ثم قام وخرج».

وعن إبراهيم بن أبى محمود (١) في الصحيح قال رأيت أبا الحسن عليه‌السلام ودع البيت فلما أراد أن يخرج من باب المسجد خر ساجدا ثم قام واستقبل القبلة فقال : اللهم انى انقلب على أن لا إله إلا أنت».

وعن على بن مهزيار (٢) في الصحيح قال : رأيت أبا جعفر الثاني عليه‌السلام في سنة خمس عشرة ومأتين ودع البيت بعد ارتفاع الشمس ، فطاف بالبيت يستلم الركن اليماني في كل شوط ، فلما كان في الشوط السابع استلمه ، واستلم الحجر ومسح بيده ثم مسح وجهه بيده ، ثم أتى المقام وصلى خلفه ركعتين ، ثم خرج الى دبر الكعبة إلى الملتزم فالتزم البيت وكشف الثوب عن بطنه ، ثم وقف عليه طويلا يدعو ، ثم خرج من باب الحناطين وتوجه قال : فرأيته سنة سبع عشرة ومأتين ودع البيت ليلا يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل شوط فلما كان في الشوط السابع التزم البيت في دبر الكعبة قريبا من الركن اليماني وفوق الحجر المستطيل وكشف الثوب عن بطنه ثم أتى الحجر الأسود فقبله ومسحه وخرج الى المقام ، فصلى خلفه ثم مضى ولم يعد الى البيت وكان وقوفه على الملتزم بقدر ما طاف بعض أصحابنا سبعة أشواط وبعضهم ثمانية».

وعن أبي إسماعيل (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام هو ذا أخرج جعلت فداك فمن أين أودع البيت ، قال : تأتى المستجار بين الحجر والباب فتودعه من ثم ، ثم تخرج فتشرب من زمزم ثم تمضى ، فقلت : أصب على رأسي ، فقال : لا تقرب الصب».

وعن قثم بن كعب (٤) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : انك لتدمن الحج قلت :

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٣١.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٣٢.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٥٣٢.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٥٣٢.

٣٤٠