الحدائق الناضرة - ج ١٦

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

قبل طلوع الفجر فعليه دم شاة.

وبالجملة فإن الرواية المذكورة مخالفة لظاهر الروايات المتقدمة الكثيرة الصحيحة الصريحة في ان الوقوف الواجب الذي هو شرط في صحة الحج وإدراكه هو من طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، والاضطراري إلى الزوال وان من تركه وجب عليه الرجوع اليه متى أدركه قبل طلوع الشمس أو قبل الزوال على اختلاف الاخبار في المسألة ، واما ليلة النحر فهي وقت اضطراري لأصحاب الأعذار الآتي ذكرهم ان شاء الله تعالى ، وحينئذ فكيف يصح تعمد ترك هذا الوقوف والحكم بصحة الحج ، كما ذكروا (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم).

وكيف كان فان لم يكن ما ذكرناه هو الظاهر من الخبر فلا أقل من ان يكون محتملا فيه قريبا ، وبذلك يسقط الاستدلال به. على ان ظاهر الخبر صحة الحج بذلك وان لم يكن وقف بعرفة ، لأنه مطلق ، وغاية ما دل عليه انه وقف مع الناس بجمع وأفاض قبلهم ، وهو أعم من ان يكون وقف بعرفة أم لا ، وبه يشتد الاشكال فيه ، ولهذا ان بعض الأصحاب ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ قيد المسألة بكون ذلك بعد الوقوف بعرفات.

والظاهر انه من أجل هذا الإجمال في الرواية قال في المسالك : وعلى ما اخترناه من اجزاء اضطراري المشعر وحده يجزئ هنا بطريق أولى ، لأن الوقوف الليلي بالمشعر فيه شائبة الاختياري ، للاكتفاء به للمرأة اختيارا ، وللمضطر والمتعمد مطلقا مع جبره بشاة ، والاضطراري المحض ليس كذلك والظاهر انه أراد بالإطلاق في قوله : «والمتعمد مطلقا» : يعني أعم من ان يكون قد وقف بعرفات أم لا.

٤٤١

واعترضه سبطه في المدارك بأنه يمكن المناقشة فيه بان الاجتزاء باضطراري المشعر انما ثبت بقوله (عليه‌السلام) في صحيحة جميل بن دراج (١) «من أدرك المشعر الحرام يوم النحر من قبل زوال الشمس فقد أدرك الحج». ونحو ذلك. ولا يلزم من ذلك الاجتزاء بالوقوف الليلي مطلقا ورواية مسمع (٢) المتضمنة للاجتزاء بالوقوف الليلي لا تدل على العموم ، إذ المتبادر منها تعلق الحكم بمن أدرك عرفة.

أقول : أنت خبير بان هذه المناقشة واهية لا محصل لها ، فإن جده (قدس‌سره) لم يستدل على الاجتزاء بهذا الوقوف بصحيحة جميل ونحوها وانما استدل على هذا بأنه إذا قام الدليل على الاجتزاء بالامتداد الى وقت الظهر الذي هو بعيد من الوقت الاختياري غاية البعد ، فلان يكتفى بما قرب منه وداخله ـ وهو الوقوف الليلي المشوب بالاختياري باعتبار اكتفاء المرأة به اختيارا وجوازه للمتعمد مطلقا مع الجبر بشاة ـ بطريق اولى. هذا حاصل كلامه.

واما قوله : «ورواية مسمع لا تدل على العموم ، إذ المتبادر منها تعلق الحكم بمن أدرك عرفة» ـ فممنوع ، إذ لا وجه لهذا التبادر ، ولا اشعار به في الرواية إلا قوله : «وقف مع الناس بجمع» ووقوفه معهم بجمع لا يستلزم ان يكون قد شاركهم ووقف معهم بعرفة بل هو أعم من ذلك كما لا يخفى.

وبالجملة فالأقرب عندي في معنى الرواية هو ما قدمته ، وهو ان المتبادر

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من الوقوف بالمشعر.

(٢) ص ٤٣٧.

٤٤٢

من هذا الوقوف انما هو الوقوف الشرعي الذي هو بعد الفجر ، إذ مجرد البيات بالليل لا يسمى وقوفا شرعا ، ولهذا انهم اختلفوا في وجوبه وعدمه والمشهور وجوبه ، وقال في التذكرة : انه ليس بواجب. وغاية ما استدل به في المدارك على وجوبه التأسي ، وضعفه ظاهر. وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار (١) : «ولا تجاوز الحياض ليلة المزدلفة». وهو غير ظاهر في الوجوب ، لإمكان حمله على الفضل والاستحباب لشرف المكان وفضله. مع عدم استلزام مجرد النزول المبيت ، لجواز خروجه الى موضع آخر ليلا وان عاد اليه وقت الوقوف. وبالجملة فإن دلالته على الوجوب غير ظاهرة. وحينئذ فحاصل معنى الخبر انما هو السؤال عن من وقف بعد الفجر وأفاض قبل طلوع الشمس ، والتفصيل في الجواب انما وقع في حكم المفيض الجاهل في هذا الوقت. وبذلك تحصل السلامة من هذه الإشكالات ومخالفة صحاح الروايات وان خالف ذلك المشهور عندهم.

هذا كله في ما لو أفاض قبل الفجر عامدا اما لو كان ناسيا فظاهرهم انه ليس عليه شي‌ء.

قال في المدارك بعد قول المصنف : «ولو أفاض ناسيا لم يكن عليه شي‌ء» : هذا من ما لا خلاف فيه بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولم أقف فيه على رواية تدل عليه صريحا. وربما أمكن الاستدلال عليه بفحوى ما دل على جواز ذلك للمضطر وما في معناه. وفي إلحاق الجاهل بالعامد أو الناسي وجهان. انتهى.

أقول : يمكن القول هنا بصحة حج الجاهل بناء على ما يأتي تحقيقه ـ ان شاء الله تعالى ـ من ان من ترك الوقوف بالمشعر جاهلا مع وقوفه

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ الرقم ٣ والباب ١٠ الرقم ١ من الوقوف بالمشعر.

٤٤٣

بعرفات ، فإن حجه صحيح ، كما تدل عليه روايتا محمد بن يحيى (١) فإنه متى ثبت صحة حجه بترك الوقوف مطلقا فأولى بالصحة لو أفاض قبل الفجر مع وقوفه ليلا. واما على ما هو المشهور بينهم من البطلان فيتجه ما ذكره هنا من التردد في المسألة.

وفي المسالك بعد ان ذكر هذا التردد رجح إلحاق الجاهل بالعامد ، بناء على ان الجاهل بالحكم عندهم كالعامد في جميع الأحكام. وهو خلاف ما استفاضت به اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) (٢).

الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) ـ وبه استفاضت الأخبار ـ بأنه يجوز الإفاضة ليلا لذوي الأعذار من الضعفاء والنساء والصبيان ومن يخاف على نفسه من غير جبران ، بل قال في المنتهى انه قول كافة من يحفظ عنه العلم.

ويدل على ذلك جملة من الاخبار : منها : قوله (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن عمار الواردة في صفة حج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٣) : «ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتى انتهى الى المزدلفة ، وهو المشعر الحرام فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ، ثم اقام حتى صلى فيها الفجر ، وعجل ضعفاء بني هاشم بالليل ، وأمرهم ان لا يرموا الجمرة ـ جمرة العقبة ـ حتى تطلع الشمس. الحديث».

__________________

(١) تقدمتا ص ٤٠٩.

(٢) ارجع الى الجزء الأول من الحدائق المقدمة الخامسة ـ ص ٧٧.

(٣) الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

٤٤٤

وما رواه ابن بابويه عن ابن مسكان في الصحيح عن أبي بصير (١) ـ وهو ليث المرادي بقرينة الراوي عنه ـ قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : لا بأس بأن تقدم النساء إذا زال الليل ، فيقفن عند المشعر ساعة ، ثم ينطلق بهن إلى منى فيرمين الجمرة ، ثم يصبرن ساعة ، ثم يقصرن وينطلقن إلى مكة فيطفن ، الا ان يكن يردن ان يذبح عنهن ، فإنهن يوكلن من يذبح عنهن».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن سعيد الأعرج (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : جعلت فداك معنا نساء فأفيض بهن بليل؟ قال : نعم تريد ان تصنع كما صنع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قلت : نعم. قال : أفض بهن بليل ، ولا تفض بهن حتى تقف بهن بجمع ثم أفض بهن حتى تأتي الجمرة العظمى ، فيرمين الجمرة فان لم يكن عليهن ذبح ، فليأخذن من شعورهن ، ويقصرن من أظفارهن ، ثم يمضين إلى مكة في وجوههن ، ويطفن بالبيت ، ويسعين بين الصفا والمروة ، ثم يرجعن الى البيت فيطفن أسبوعا ، ثم يرجعن إلى منى وقد فرغن من حجهن.».

وفي الحسن عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «رخص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للنساء

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٨٣ والوسائل الباب ١٧ من الوقوف بالمشعر.

(٢) الفروع ج ٤ ص ٤٧٤ و ٤٧٥ والتهذيب ج ٥ ص ١٩٥ والوسائل الباب ١٧ من الوقوف بالمشعر.

(٣) الفروع ج ٤ ص ٤٧٤ والتهذيب ج ٥ ص ١٩٤ والوسائل الباب ١٧ من الوقوف بالمشعر الرقم (٣) والراوي هو أبو بصير عن أبي عبد الله (ع)

٤٤٥

والصبيان ان يفيضوا بالليل ، وان يرموا الجمار بالليل ، وان يصلوا الغداة في منازلهم.».

وفي الكافي عن جميل بن دراج في الصحيح أو الحسن عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «لا بأس ان يفيض الرجل بالليل إذا كان خائفا».

وعن علي بن أبي حمزة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «اي امرأة أو رجل خائف أفاض من المشعر الحرام ليلا فلا بأس ، فليرم الجمرة ثم ليمض ، وليأمر من يذبح عنه ، وتقصر المرأة ويحلق الرجل ، ثم ليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم يرجع الى منى. فإن اتى منى ولم يذبح عنه فلا بأس ان يذبح هو. وليحمل الشعر إذا حلق بمكة إلى منى. وان شاء قصر ان كان قد حج قبل ذلك».

الى غير ذلك من الاخبار أقول : وعلى ما دلت عليه هذه الاخبار يحمل إطلاق ما رواه الشيخ في التهذيب عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «ينبغي للإمام ان يقف بجمع حتى تطلع الشمس ، وسائر الناس ان شاءوا عجلوا وان شاءوا أخروا».

__________________

والظاهر ان منشأ الاشتباه هو الانتقال من سند الحديث (٦٤٥) في التهذيب الى متن هذا الحديث (٦٤٦). ولفظ الحديث (٦٤٥) سيذكره بعد هذا الحديث مباشرة بهذا السند منسوبا إلى الكافي.

(١ و ٢) الفروع ج ٤ ص ٤٧٤ والتهذيب ج ٥ ص ١٩٤ والوسائل الباب ١٧ من الوقوف بالمشعر.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من الوقوف بالمشعر.

٤٤٦

وما رواه في الصحيح عن هشام بن سالم وغيره عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) انه قال : «في التقدم من منى الى عرفات قبل طلوع الشمس لا بأس به ، والتقدم من المزدلفة إلى منى يرمون الجمار ويصلون الفجر في منازلهم بمنى لا بأس».

وعلى ذلك حملهما الشيخ (رحمه‌الله). ويمكن حملهما على التقية أيضا لما صرح به في المنتهى ، حيث قال : قد بينا ان الوقوف بالمشعر يجب ان يكون بعد طلوع الفجر ، فلا يجوز الإفاضة منه قبل طلوعه اختيارا ، بل يجب الكون به بعد طلوع الفجر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال باقي الفقهاء يجوز الدفع بعد نصف الليل (٢) ثم أورد الأخبار الدالة على ما اختاره.

والمفهوم من صحيحتي أبي بصير وسعيد الأعرج ان أصحاب الاعذار لا يفيضون حتى ينووا الوقوف الواجب ليلا. وفيه دلالة على ان مجرد الكون بها ليلا والمبيت لا يكفي عن الوقوف ما لم ينوه.

الرابعة ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ حيث صرحوا بأن الوقوف الواجب بالمشعر من طلوع الفجر ـ هو انه تجب فيه نية الوقوف من ذلك الوقت ولا يجوز تأخيرها. وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال بعد قول المصنف : «وان يكون الوقوف بعد طلوع الفجر» ما لفظه : اي الوقوف الواجب ، فيجب كون النية عند تحقق الطلوع. وقال في موضع آخر : واما الوقوف المتعارف بمعنى الكون فهو واجب من أول الفجر ، فلا يجوز تأخير نيته الى ان يصلي.

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ١٩٣ و ١٩٤ والوسائل الباب ١٧ من الوقوف بالمشعر.

(٢) المغني ج ٣ ص ٤٢٢ طبع عام ١٣٦٨.

٤٤٧

والمفهوم من صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (١) وقوله (عليه‌السلام) فيها : «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر ، فقف إن شئت قريبا من الجبل وان شئت حيث شئت ، فإذا وقفت فاحمد الله (عزوجل) وأثن عليه. الحديث». وقوله (عليه‌السلام) (٢) في كتاب الفقه الرضوي : «فإذا أصبحت فصل الغداة ، وقف بها كوقوفك بعرفة ، وادع الله. الى أخره». هو جواز تأخير نية الوقوف عن الصلاة وانها بعدها.

وقوله في المدارك ـ : وليس في هذه الرواية ذكر للنية ـ مبنى على ما يتعاطونه من النية المصطلحة بينهم ، وقد عرفت انه لا اثر لها في الاخبار لا في هذا الموضع ولا في غيره ، والا فمعنى قوله (عليه‌السلام) : «فقف إن شئت قريبا من الجبل» هو الإشارة إلى النية اي اقصد الوقوف ، فان مجرد الكون ـ من غير قصد التقرب به الى الله (سبحانه وتعالى) وانه هو الواجب المأمور به ، وانه يقصد الإتيان به متقربا ـ لا يوجب حصول الوقوف المأمور به الا في صورة النسيان ، كما يفهم من بعض الاخبار الآتية في المقام ان شاء الله تعالى.

وقال في المنتهى : ويستحب ان يقف بعد ان يصلي الفجر ، ولو وقف قبل الصلاة إذا كان قد طلع الفجر أجزأه.

ثم انه على تقدير المبيت والنية له ليلا هل يكتفى بها عن النية بعد طلوع الفجر أم لا؟ قال في المسالك : والأقوى وجوب المبيت ليلا ، والنية له عند الوصول ، والمراد به الكون بالمشعر ليلا. ثم ان لم نقل

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من الوقوف بالمشعر.

(٢) ص ٢٨.

٤٤٨

بوجوبه فلا إشكال في وجوب النية للكون عند الفجر. وان أوجبنا المبيت فقدم النية عنده ، ففي وجوب تجديدها عند الفجر نظر ، ويظهر من الدروس عدم الوجوب. وينبغي ان يكون موضع النزاع ما لو كانت النية للكون به مطلقا ، اما لو نواه ليلا أو نوى المبيت كما هو الشائع في كتب النيات المعدة لذلك بعد الاجتزاء بها عن نية الوقوف نهارا ، لأن الكون ليلا والمبيت مطلقا لا يتضمنان النهار ، فلا بد له من نية أخرى. والظاهر ان نية الكون به عند الوصول كافية عن النية نهارا ، لانه فعل واحد الى طلوع الشمس كالوقوف بعرفة ، وليس في النصوص ما يدل على خلاف ذلك. انتهى.

أقول : ان كلامه (قدس‌سره) هنا كله يدور على النية المصطلحة التي هي عبارة عن الحديث النفسي والتصوير الفكري ، وقد عرفت ما فيه في غير موضع ، والا فمن المعلوم انه إذا كان الوقوف الواجب الذي عليه مدار الحج صحة وبطلانا في حال التعمد والاختيار انما هو الوقوف بعد طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، وان غير هذا الوقت من المتأخر عنه والمتقدم عليه انما هو وقت لذوي الأعذار ، فنية الوقوف انما هي في هذا الوقت خاصة ، ولا معنى لنية الوقوف ليلا ، الا ان يكون من قبيل العزم عليه وهو غير النية الشرعية عندهم. والمستفاد من الخبرين المتقدمين ان الوقوف الشرعي الذي يجب على المكلف الإتيان به ـ وعليه مدار صحة حجه وبطلانه ـ انما هو الذي بعد الفجر ، والاكتفاء بغيره يحتاج الى دليل ، فقوله ـ بعد اختياره ان نية الكون عند الوصول كافية عن النية نهارا : وليس في النصوص ما يدل على خلافه ـ ليس في محله ، بل هذه

٤٤٩

النصوص دالة على خلافه. على ان مجرد عدم دلالة النصوص على خلافه لا يكفي في ثبوته ، بل لا بد من دلالة النصوص عليه ليتم الحكم به ، والا كان قولا من غير دليل. وهو غير سديد النهج ولا واضح السبيل ، لأن حكم العبادات صحة وبطلانا مبنية على التوقيف والثبوت عن صاحب الشريعة ، فلا بد في كل حكم من أحكامها من دليل واضح وبرهان لائح.

وبالجملة فإن القدر المستفاد من الاخبار والذي يدور عليه كلامهم هو ان الوقوف الواجب الذي يدور عليه الحج صحة وبطلانا مع الاختيار هو هذا الوقت المذكور ، فيجب قصد التقرب به الى الله (عزوجل) والنية به وأداء الواجب به ، ومجرد الكون قبله غير كاف.

واما ما رواه الشيخ والصدوق عن محمد بن حكيم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أصلحك الله ، الرجل الأعجمي والمرأة الضعيفة يكونان مع الجمال الأعرابي فإذا أفاض بهم من عرفات مر بهم كما هم إلى منى ولم ينزل بهم جمعا. فقال : أليس قد صلوا بها؟ فقد أجزأهم. قلت : فان لم يصلوا بها؟ قال : ذكروا الله تعالى فيها؟ فان كانوا ذكروا الله فيها فقد أجزأهم» ،.

وما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له : جعلت فداك ان صاحبي هذين جهلا أن يقفا بالمزدلفة؟

__________________

(١) الفروع ج ٤ ص ٤٧٢ والتهذيب ج ٥ ص ٢٩٣ و ٢٩٤ والفقيه ج ٢ ص ٢٨٣ والوسائل الباب ٢٥ من الوقوف بالمشعر.

(٢) الفروع ج ٤ ص ٤٧٢ والوسائل الباب ٢٥ من الوقوف بالمشعر. واللفظ هكذا : «عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (ع).».

٤٥٠

فقال : يرجعان مكانهما فيقفان بالمشعر ساعة. قلت : فإنه لم يخبرهما أحد حتى كان اليوم وقد نفر الناس؟ قال : فنكس رأسه ساعة ثم قال : أليسا قد صليا الغداة بالمزدلفة؟ قلت : بلى. قال : أليس قد قنتا في صلاتهما؟ قلت : بلى. فقال : تم حجهما. ثم قال : المشعر من المزدلفة والمزدلفة من المشعر ، وانما يكفيهما اليسير من الدعاء».

فهو محمول على حال الجهل وعدم إمكان الرجوع مع إتيانهم بما تضمنه الخبران من الذكر والدعاء ، وان ذلك قائم مقام نية الوقوف في الصورة المذكورة.

قال في من لا يحضره الفقيه (١) : وروى في من جهل الوقوف بالمشعر : ان القنوت في صلاة الغداة بها يجزئه وان اليسير من الدعاء يكفى. انتهى

الخامسة ـ من المستحب في الوقوف ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر ، فقف إن شئت قريبا من الجبل وأن شئت حيث شئت ، فإذا وقفت فاحمد الله (عزوجل) وأثن عليه ، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه ، وصل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم ليكن من قولك : اللهم رب المشعر الحرام فك رقبتي من النار ، وأوسع على من رزقك الحلال ، وادرأ عني شر فسقة الجن والانس ، اللهم أنت خير مطلوب اليه وخير مدعو وخير مسؤول ، ولكل وافد جائزة ، فاجعل جائزتي في موطني هذا ان تقيلني عثرتي وتقبل معذرتي وان تتجاوز عن خطيئتي ،

__________________

(١) ج ٢ ص ٢٨٣ والوسائل الباب ٢٥ من الوقوف بالمشعر.

(٢) الفروع ج ٤ ص ٤٦٩ والوسائل الباب ١١ من الوقوف بالمشعر.

٤٥١

ثم اجعل التقوى من الدنيا زادي. ثم أفض حيث يشرق لك ثبير وترى الإبل مواضع أخفافها».

وقد تقدم (١) في المقام الأول في صحيحة الحلبي ومعاوية بن عمار دعاء آخر ، لكن ظاهر ذلك الخبر انه وقت النزول وهذا الدعاء بعد الوقوف.

ونقل العلامة في المختلف عن ابن البراج انه عد في أقسام الواجب الذكر لله تعالى والصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلى آله في الموقفين ثم قال بعد نقل ذلك عنه : والمشهور الاستحباب. وقد تقدم ما يدل على ذلك في الوقوف بعرفة من الخبرين المنقولين ثمة.

وقال الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه (٢) : وليكن وقوفك وأنت على غسل ، وقل : اللهم رب المشعر الحرام ورب الركن والمقام ورب الحجر الأسود وزمزم ورب الأيام المعلومات ، فك رقبتي من النار ، وأوسع علي من رزقك الحلال ، وادرأ عني شر فسقة الجن والانس وشر فسقة العرب والعجم ، اللهم أنت خير مطلوب اليه وخير مدعو وخير مسؤول ، ولكل وافد جائزة ، فاجعل جائزتي في موطني هذا ان تقيلني عثرتي وتقبل معذرتي وتتجاوز عن خطيئتي ، وتجعل التقوى من الدنيا زادي ، وتقلبني مفلحا منجحا مستجابا لي بأفضل ما يرجع به أحد من وفدك وحجاج بيتك الحرام. وادع الله (عزوجل) كثيرا. الى ان قال : فإذا طلعت الشمس فاعترف لله (عزوجل) بذنوبك سبع مرات ، واسأله التوبة سبع مرات.

__________________

(١) ص ٤٢٨ و ٤٢٩.

(٢) ج ٢ ص ٣٢٦.

٤٥٢

المقام الثالث في الأحكام

وفيه أيضا مسائل الأولى ـ قد عرفت من ما تقدم ان المشهور انه لو أفاض قبل الفجر عامدا بعد ان كان به ليلا صح حجه وجبره بشاة.

اما لو لم يقف بالمشعر ليلا ولا بعد الفجر عامدا ، فالظاهر انه لا خلاف بينهم في بطلان حجة.

الا انه قد نقل العلامة في المنتهى عن الشيخ انه قال : من ترك الوقوف بالمشعر متعمدا فعليه بدنة.

لما رواه حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «من أفاض من عرفات مع الناس ، ولم يلبث معهم بجمع ومضى إلى منى متعمدا أو مستخفا ، فعليه بدنة».

وظاهره الحكم بصحة حجه ووجوب البدنة عليه جبرا لنقصانه بترك الوقوف.

قال في المنتهى بعد نقل ذلك عنه : والوجه انه إذا ترك الوقوف بالمشعر عمدا بطل حجه ، لما تقدم من انه ركن يبطل الحج بالإخلال به عمدا. انتهى.

ونقل هذا القول في الدروس عن ابن الجنيد ايضا ، حيث قال : الوقوف بالمشعر ركن أعظم من عرفة عندنا ، فلو تعمد تركه بطل حجه. وقول ابن الجنيد بوجوب البدنة لا غير ضعيف. ورواية حريز ـ بوجوب البدنة على متعمد تركه أو المستخف به ـ متروكة محمولة على من وقف به ليلا قليلا ثم مضى. انتهى

__________________

(١) الفروع ج ٤ ص ٤٧٣ والتهذيب ج ٥ ص ٢٩٤ والوسائل الباب ٢٦ من الوقوف بالمشعر. وارجع الى التعليقة (١) ص ٤٣٥.

٤٥٣

وظاهره (قدس‌سره) حمل هذه الرواية على ما دلت عليه حسنة مسمع المتقدمة ، وان تفاوتا باعتبار دلالة تلك على الجبر بشاة وهذه على الجبر ببدنة. وهو قريب في مقام الجمع.

ولو قيل بحملها على بطلان الحج ووجوب البدنة لم يكن بعيدا ، كما في المجامع قبل أحد الموقفين من الحكم بفساد حجه مع وجوب البدنة ، وان اختلفا من حيثية أخرى أيضا.

والعجب انه نقل عن الشيخ (رحمه‌الله) في المنتهى قبيل هذا الكلام انه قال : من فاته الوقوف بالمشعر فلا حج له على كل حال.

واستدل عليه بما رواه عن عبيد الله وعمران ابني علي الحلبيين عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا فاتتك المزدلفة فقد فاتك الحج». قال : وهذا خبر عام في من فاته ذلك عامدا أو جاهلا أو على كل حال

وهذا الكلام ظاهر في ان فوت الوقوف بالمشعر عنده موجب لبطلان الحج عمدا أو جهلا أو نسيانا. وهو ـ كما ترى ـ ظاهر المنافاة لما ذكره من الكلام الأول.

وما ذكره (قدس‌سره) ـ من بطلان الحج بترك الوقوف وان كان جهلا أو نسيانا ـ هو ظاهر جملة من الأصحاب أيضا.

الا ان الظاهر عندي من الاخبار والمفهوم منها ان التارك للوقوف جاهلا عليه الرجوع وان لم يدرك إلا الاضطراري ، وان استمر به الجهل حتى فات وقت التدارك صح حجه.

فاما ما يدل على الحكم الأول فصحيحة معاوية بن عمار وموثقة

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ و ٢٥ من الوقوف بالمشعر.

٤٥٤

يونس بن يعقوب المتقدمتان (١) في المسألة الاولى من مسائل المقام الثاني.

واما ما يدل على الثاني فروايتا محمد بن يحيى المتقدمتان (٢) في المسألة الثالثة من مسائل الفصل الثالث من المقصد الأول ، لدلالتهما على ان من جهل ولم يقف بالمزدلفة ولم يبت حتى اتى منى وفاته التدارك فإنه لا بأس به.

والشيخ (رحمه‌الله) ـ بعد ان استدل بخبر الحلبيين المتقدم على بطلان الحج بترك الوقوف بالمشعر وقال : ان هذا الخبر عام في من فاته ذلك عامدا أو جاهلا أو على كل حال ـ قال : ولا ينافيه ما رواه محمد بن يحيى الخثعمي ، ثم أورد الخبرين المشار إليهما ، وحملهما ـ بعد الطعن في الراوي ـ على الوقوف بالمشعر ولو قليلا. وفيه ما قد بيناه في الموضع الذي نقلنا فيه الخبرين.

وممن وافقنا على دلالة الخبرين على ما ذكرنا من صحة حج الجاهل في الصورة المذكورة ـ السيد السند في المدارك حيث قال : وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على عدم بطلان حج الجاهل بذلك ، كرواية محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) ثم ساق الخبر كما ذكرناه. ثم ذكر جواب الشيخ (رحمه‌الله) وحمله الخبرين على ما ذكرناه. ثم قال بعده : ولا يخفى ما في هذا الحمل من البعد.

وبذلك يشعر كلام الدروس ايضا حيث قال : ولو ترك الوقوف بالمشعر جهلا بطل حجه عند الشيخ في التهذيب ، ورواية محمد بن يحيى بخلافه. وتأولها الشيخ على تارك كمال الوقوف جهلا وقد اتى باليسير منه. انتهى.

__________________

(١) ص ٤٣٣.

(٢) ص ٤٠٩.

(٣) تقدمت ص ٤٠٩.

٤٥٥

الثانية ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) في وقت الإفاضة من المشعر ، فقال الشيخ : فإذا كان قبل طلوع الشمس بقليل رجع الى منى ، ولا يجوز وادي خسر الا بعد طلوع الشمس ، ولا يجوز للإمام أن يخرج من المشعر إلا بعد طلوع الشمس ، وان أخر غير الامام الخروج الى بعد طلوع الشمس لم يكن به بأس. وقال ابن أبي عقيل : فإذا أشرق الفجر وتبين ورأت الإبل مواضع أخفافها أفاض بالسكينة والوقار والدعاء والاستغفار.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عنهما : وهذا الكلام من الشيخين (رحمهما‌الله) يدل على أولوية الإفاضة قبل طلوع الشمس وكذا قال ابن الجنيد وابن حمزة ثم نقل عن علي بن بابويه انه قال : وإياك ان تفيض منها قبل طلوع الشمس ولا من عرفات قبل غروبها ، فيلزمك دم شاة. ونقل عن الصدوق انه قال : ولا يجوز للرجل الإفاضة قبل طلوع الشمس ولا من عرفات قبل غروبها ، فيلزمه دم شاة. قال : وهذا الكلام يشعر بوجوب اللبث الى طلوع الشمس ثم نقل عن المفيد (رحمه‌الله) انه قال : فإذا طلعت الشمس فليفض منها إلى منى ، ولا يفض قبل طلوع الشمس الا مضطرا وكذا قال السيد المرتضى وسلار. ثم نقل عن أبي الصلاح انه قال : وليقف داعيا الى ان تطلع الشمس ، ولا يجوز للمختار ان يفيض منه حتى تطلع الشمس. وعد ابن حمزة في الواجبات الإقامة بالمشعر للإمام الى ان تطلع الشمس. وقال ابن إدريس : وملازمة الموضع الى ان تطلع الشمس مندوب غير واجب. هذا كلامه في المختلف.

والعجب انه مع ذلك قال في المنتهى بعد الكلام في المسألة : إذا ثبت هذا فلو دفع قبل الاسفار بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس لم يكن

٤٥٦

مأثوما ، ولا نعلم فيه خلافا. انتهى. والاختلاف بين الكلامين أظهر من ان يخفى.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه في الكافي عن إسحاق بن عمار في الموثق (١) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام). اي ساعة أحب إليك ان أفيض من جمع؟ قال : قبل ان تطلع الشمس بقليل فهو أحب الساعات الى. قلت : فان مكثنا حتى تطلع الشمس؟ قال : لا بأس».

وعن هشام بن الحكم في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢). قال «لا تجاوز وادي محسر حتى تطلع الشمس».

وروى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن حكيم (٣) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) : اي ساعة أحب إليك ان تفيض من جمع؟». وذكر مثل الحديث الأول.

وعن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «ينبغي للإمام ان يقف بجمع حتى تطلع الشمس ، وسائر الناس إن شاءوا عجلوا وان شاءوا أخروا».

وعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «ثم أفض حيث يشرق لك ثبير وترى الإبل مواضع أخفافها ، قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : كان أهل الجاهلية يقولون : «أشرق ثبير ـ يعنون

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ١٥ من الوقوف بالمشعر.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من الوقوف بالمشعر. وفي المخطوطة هكذا : «في الصحيح أو الموثق عن معاوية بن حكيم».

(٥) التهذيب ج ٥ ص ١٩٢ والوسائل الباب ١٥ من الوقوف بالمشعر.

٤٥٧

الشمس ـ كيما نغير» وانما أفاض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خلاف أهل الجاهلية ، كانوا يفيضون بإيجاف الخيل وإيضاع الإبل ، فأفاض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خلاف ذلك بالسكينة والوقار والدعة ، فأفض بذكر الله تعالى والاستغفار وحرك به لسانك. الحديث».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (١) : «وإياك ان تفيض منها قبل طلوع الشمس ، ولا من عرفات قبل غروبها ، فيلزمك الدم. وروى انه يفيض من المشعر إذا انفجر الصبح وبان في الأرض أخفاف البعير وآثار الحوافر».

والمفهوم من ما عدا عبارة كتاب الفقه من الاخبار المذكورة هو انه يجوز التعجيل في الإفاضة قبل طلوع الشمس والتأخير. الا أن الأول أفضل وهذه الاخبار مستند الشيخ ومن تبعه. وعبارة كتاب الفقه صريحة في مذهب الصدوقين بل عبارتاهما انما أخذتا من هذه العبارة كما عرفت في غير موضع من ما تقدم ، وان غير الأسلوب في عبارة الفقيه. واما عبارة أبيه في الرسالة فهي حذو عبارة الكتاب الا في تفسيره الدم بدم شاة (٢) وهو (عليه‌السلام) بعد ان افتى بهذه العبارة نسب القول الآخر الذي دلت عليه الاخبار المذكورة إلى الرواية. وربما أشعر ذلك بكون الرواية بذلك انما خرجت مخرج التقية ، حيث انه (عليه‌السلام) اعترف بأن ذلك مروي عن آبائه (عليهم‌السلام) ومع ذلك عدل عنه وأوجب التأخير إلى طلوع الشمس ، والدم على من خالف ذلك ، وجعل الحكم هنا كالحكم في عرفات لو أفاض منها قبل الغروب.

__________________

(١) ص ٢٨.

(٢) كلمة «بدم شاة» في المخطوطة.

٤٥٨

ويعضد ذلك ما ذكره العلامة في المنتهى حيث قال بعد البحث في المسألة وذكر خبري إسحاق ومعاوية بن حكيم : إذا عرفت هذا فإنه يستحب الإفاضة بعد الاسفار قبل طلوع الشمس بقليل ، على ما تضمنه الحديثان الأولان ، وبه قال الشافعي واحمد وأصحاب الرأي ، وكان مالك يرى الدفع قبل الاسفار (١).

وهو ظاهر في ان ما دلت عليه هذه الاخبار مذهب الجمهور ، الا ان متأخري أصحابنا (رضوان الله ـ تعالى ـ عليهم) حيث لم يصل إليهم ما يخالفها جمدوا عليها ، فالعذر لهم واضح ، والمتقدمون سيما الصدوقان لما عثروا على ما خالفها أطرحوها وتمسكوا بغيرها ، فان القول بوجوب اللبث الى طلوع الشمس مذهب جمع منهم كما تقدم. والظاهر انهم لم يصيروا الى ذلك مع وصول هذه الاخبار إليهم الا من حيث الوقوف على دليل سواها ، والدليل من عبارة كتاب الفقه واضح كما عرفت.

وبالجملة فالاحتياط يقتضي التأخير إلى طلوع الشمس ، والخروج قبله لا يخلو من الاشكال ، كما عرفت من عبارته (عليه‌السلام) في كتاب الفقه ، والكتاب عندنا ـ كما عرفت في غير موضع ـ معتمد كما اعتمده الصدوقان (نور الله ـ تعالى ـ مرقديهما). والله العالم.

الثالثة ـ قد عرفت من ما تقدم ان الواجب في الوقوف النية كغيره من العبادات من غير خلاف يعرف ، وعلى هذا لو نوى الوقوف ثم نام أو جن أو أغمي عليه صح وقوفه ، وهو المعروف من مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) لأن الركن من الوقوف مسماه ، وهو يحصل بآن يسير بعد النية

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٤٢٣ طبع عام ١٣٦٨.

٤٥٩

وقال الشيخ في المبسوط : المواضع التي يجب ان يكون الإنسان فيها مفيقا حتى تجزئه أربعة : الإحرام والوقوف بالموقفين والطواف والسعي وصلاة الطواف حكمها حكم الأربعة سواء ، وكذلك طواف النساء ، وكذلك حكم النوم سواء ، والاولى ان نقول يصح منه الوقوف بالموقفين وان كان نائما ، لأن الفرض الكون فيه لا الذكر. وقال ابن إدريس بعد نقل ذلك عنه : هذا غير واضح ، ولا بد من نية الوقوف بغير خلاف ، والإجماع عليه. الا انه قال في نهايته : ومن حضر المناسك كلها ورتبها في موضعها الا انه كان سكران ، فلا حج له ، وكان عليه الحج من قابل. وهذا هو الواضح الصحيح الذي تقتضيه الأصول. قال : والأولى عندي انه لا يصح منه شي‌ء من العبادات إذا كان مجنونا ، لان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال «الأعمال بالنيات» (١). و «انما لا لامرئ ما نوى» (٢). والنية لا تصح منه. وقال تعالى «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى» (٣) فنفى (تعالى) ان يجزي أحد بعمله الا ما أريد وطلب به وجه ربه الأعلى والمجنون لا ارادة له.

وقال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : واعلم ان الشيخ شرط العقل في المواضع التي يفوت الحج بتركها ، وما عداها يجب عليه فعلها ولكن يجزئه الحج ، فقوله ـ : «المواضع التي يجب ان يكون الإنسان فيها مفيقا حتى يجزئه أربعة» ـ يشير بذاك الى إجزاء الحج ، وحينئذ يتم

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥ من مقدمة العبادات والباب ١ من النية في الصلاة والباب ٢ من وجوب الصوم.

(٣) سورة الليل الآية ١٩ و ٢٠.

٤٦٠