الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

ثم انه في المنتهى صرح بأنه إنما يشترطان في حق المحتاج إليهما لبعد المسافة اما القريب فيكفيه اليسير من الأجرة بنسبة حاجته ، والمكي لا يعتبر في حقه وجود الراحلة إذا لم يكن محتاجا إليها. ثم قال في فروع المسألة : الثالث ـ لو فقدهما وتمكن من الحج ماشيا فقد بينا انه لا يجب عليه الحج ، فلو حج ماشيا لم يجزئه عن حجة الإسلام عندنا ووجب عليه الإعادة مع استكمال الشرائط ، ذهب إليه علماؤنا وبه قال الجمهور (١). انتهى.

وقال المحقق في المعتبر : الشرط الرابع والخامس ـ الزاد والراحلة وهما شرط لمن يحتاج إليهما لبعد مسافته. الى ان قال : ومن ليس له راحلة ولا زاد أو ليس له أحدهما لا يجب عليه الحج ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة واحمد ، وقال مالك من قدر على المشي وجب عليه (٢) لنا ـ ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسر السبيل بالزاد والراحلة (٣) ولانه صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل ما يوجب الحج؟ فقال : الزاد والراحلة (٤) فيقف الوجوب عليه. ولو حج ماشيا لم يجزئه عن حجة الإسلام ، وقال الباقون يجزئه (٥) لنا ـ ان الوجوب لم يتحقق لأنه مشروط بالاستطاعة فمع عدمها يكون مؤديا ما لم يجب عليه فلا يجزئه عن ما يجب عليه في ما بعد ، وينبه على ذلك روايات عن أهل البيت (عليهم‌السلام) : منها ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٦) قال : «لو ان رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة ، فان أيسر بعد ذلك كان عليه الحج». انتهى.

__________________

(١) عبارة المنتهى ج ٢ ص ٦٥٢ هكذا : وقال الجمهور يجزئه. انتهى. وفي المغني ج ٣ ص ٢٢١. والمهذب ج ١ ص ١٩٧ كذلك.

(٢) بداية المجتهد ج ١ ص ٢٩٣.

(٣) بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص ٨٤.

(٤) صحيح الترمذي باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة.

(٥) ارجع إلى التعليقة (١).

(٦) الوسائل الباب ٢١ من وجوب الحج وشرائطه.

٨١

أقول : وعلى هذه المقالة اتفقت كلمتهم (رضوان الله عليهم) كما سمعته من كلام العلامة ، ومقتضى ذلك ـ كما صرحوا به ـ انه لا يجزئ الحج ماشيا مع الإمكان لو لم يملك الراحلة وعندي فيه اشكال ، حيث ان الآية قد دلت على ان شرط الوجوب الاستطاعة ، والاستطاعة لغة وعرفا القدرة ، وتخصيصها بالزاد والراحلة يحتاج الى دليل واضح.

والروايات في المسألة متصادمة تحتاج الى الجمع على وجه يزول به الاختلاف بينها :

فمن ما يدل على ما ذكره الأصحاب من تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة صحيحة الخثعمي المتقدمة.

وما رواه في الكافي بسنده عن السكوني عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سأله رجل من أهل القدر فقال : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرني عن قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢) أليس قد جعل الله لهم الاستطاعة؟ فقال : ويحك إنما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة وليس استطاعة البدن. الحديث».

وما رواه الصدوق في كتاب عيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون (٣) قال : «وحج البيت فريضة على من استطاع اليه سبيلا ، والسبيل الزاد والراحلة مع الصحة».

وما رواه في كتاب التوحيد في الصحيح أو الحسن على المشهور عن هشام ابن الحكم عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٤) في قول الله (عزوجل): (وَلِلّهِ عَلَى

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٨ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) سورة آل عمران الآية ٩٧.

٨٢

النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (١) : ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة.

وما رواه في كتاب الخصال بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) في حديث شرائع الدين (٢) قال : «وحج البيت واجب على (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهو الزاد والراحلة مع صحة البدن. الحديث». وسيأتي بتمامه ان شاء الله تعالى

ومن ما يدل على ما دل عليه ظاهر الآية جملة من الأخبار ايضا :

منها ـ صحيحة معاوية بن عمار (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل عليه دين أعليه ان يحج؟ قال : نعم ان حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين ، ولقد كان أكثر من حج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مشاة ، ولقد مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكراع الغميم (٤) فشكوا اليه الجهد والعناء فقال : شدوا أزركم واستبطنوا. ففعلوا ذلك فذهب عنهم».

ورواية أبي بصير (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٦)؟ قال : يخرج ويمشي ان لم يكن عنده. قلت : لا يقدر على المشي؟ قال : يمشي ويركب. قلت : لا يقدر على ذلك ـ أعني المشي؟ ـ قال : يخدم القوم ويخرج معهم».

وحملها الشيخ على الاستحباب المؤكد ، وقد عرفت في غير موضع من ما تقدم ما في الجمع بين الاخبار بالحمل على الاستحباب وان اشتهر ذلك بين الأصحاب.

__________________

(١ و ٦) سورة آل عمران الآية ٩٧.

(٢) الوسائل الباب ٩ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣ و ٥) الوسائل الباب ١١ من وجوب الحج وشرائطه.

(٤) موضع بين مكة والمدينة.

٨٣

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم (١) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢)؟ قال : يكون له ما يحج به. قلت : فان عرض عليه الحج فاستحى؟ قال : هو ممن يستطيع الحج ، ولم يستحي؟ ولو على حمار أجدع أبتر ، قال : فان كان يستطيع ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل».

وصحيحة الحلبي أو حسنته على المشهور عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) في قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٤) ما السبيل؟ قال : ان يكون له ما يحج به. قال : قلت : من عرض عليه ما يحج به فاستحى من ذلك أهو ممن يستطيع اليه سبيلا؟ قال : نعم ما شأنه أن يستحي ولو يحج على حمار أجدع أبتر ، فإن كان يطيق ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج».

والتقريب في هاتين الصحيحتين انه عليه‌السلام فسر الاستطاعة بأن يكون له ما يحج به وهو أعم من الزاد والراحلة ، ومرجعه الى ما يحصل به القدرة والتمكن من الحج ، ويؤيده قوله عليه‌السلام في آخر الروايتين المذكورتين : «وان كان يستطيع ان يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج». ومن الظاهر البين ان هذا لا يلائم التخصيص بالزاد والراحلة.

ومقتضى هذه الاخبار انه لو أمكنه المشي فحج ماشيا أو الركوب بعضا والمشي بعضا ادى به حج الإسلام ، مع تصريحهم بعدم الاجزاء لعدم حصول شرط الاستطاعة الذي هو الزاد والراحلة.

ولم أقف لهم على جواب شاف عن هذه الاخبار. هذا. ومن المحتمل

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٨ و ١٠ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢ و ٤) سورة آل عمران الآية ٩٧.

٨٤

قريبا خروج الأخبار المتقدمة مخرج التقية فإن ذلك مذهب الجمهور (١) كما قدمنا نقله عن المعتبر والمنتهى. ومن ذلك يظهر ان هذه الاخبار ترجح بمطابقة ظاهر الآية ومخالفة الجمهور ، وهذان الطريقان من أظهر طرق الترجيح المنصوصة في مقام اختلاف الاخبار. ولا اعرف لذلك معارضا سوى ما يدعونه من الإجماع على ما ذكروه.

وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الإشكال ، فإن الخروج عن ما ظاهرهم الإجماع عليه مشكل وموافقتهم مع ما عرفت أشكل.

واما ما استند اليه المحقق (رضي‌الله‌عنه) من رواية أبي بصير فسيجي‌ء ـ ان شاء الله تعالى ـ تحقيق القول فيها.

وفي هذا المقام مسائل :

الأولى ـ قال العلامة (قدس‌سره) في المنتهى : الخامس ـ لو كان وحيدا اعتبر نفقة لذهابه وعودته ، وللشافعي في اعتبار نفقة العود هنا وجهان : اعتبارها للمشقة الحاصلة بالمقام في غير وطنه وهو الذي اخترناه ، والثاني عدمه لتساوي البلاد بالنسبة اليه (٢). والأول أصح. انتهى.

وظاهره اعتبار نفقة الإياب وان كان وحيدا ليس له أهل ولا عشيرة يأوي إليها. وعلى هذا النحو إطلاق كلام جملة من الأصحاب. وعلله بعضهم بما علله به الشافعي هنا في أحد قوليه من المشقة الحاصلة بالمقام في غير وطنه.

__________________

(١) تقدم في التعليقة (١ (ص) ٨١) ان مذهب الجمهور هو الاجزاء.

(٢) المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ١٩٧.

٨٥

وظاهر السيد السند في المدارك ـ ومثله الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ المناقشة في ذلك بان الحجة المذكورة مقصورة على صورة المشقة ، فعند عدمها ـ كما إذا كان وحيدا غير متعلق ببعض البلاد دون بعض أو كان له وطن لا يريد العود اليه ـ ولم يبعد عدم اعتبار العود في حقه ، نظرا الى عموم الآية والأخبار ، فلا تعتبر نفقة العود في حقه حينئذ.

أقول : والمسألة لا تخلو من توقف ، فإنه وان كان الظاهر من إطلاق الآية والاخبار هو حصول ما يوجب الوصول من الزاد والراحلة ، إلا ان الإطلاق إنما يحمل على الافراد الغالبة المتكثرة ، ولا ريب ان الغالب على الناس في جميع الأدوار والأمصار أنهم متى سافروا لغرض من الأغراض رجعوا بعد قضائه إلى أوطانهم أو غيرها لأغراض تتجدد ، سواء كان لهم أهل وعشيرة أم لا أو مسكن أم لا ، وحينئذ فمجرد كونه وحيدا لا عشيرة له ولا أهل لا يوجب خروجه من هذا الحكم ، بان يجب عليه الحج بمجرد حصول نفقة الذهاب خاصة وكذا راحلة الذهاب خاصة ، ويكلف الإقامة بمكة ان لم يكن عليه مشقة. نعم لو كان في نيته وقصده من خروجه هو التوطن في تلك البلاد فما ذكروه من عدم اعتبار نفقة الإياب متجه وإلا فلا جريا على ما هو الغالب الشائع المتكرر. وقد صرح غير واحد منهم بأن الأحكام المودعة في الاخبار إنما تحمل على ما هو المتكرر الشائع الغالب الوقوع. على ان ما ذكروه لو تم لم يختص بالوحيد الذي لا أهل له ولا عشيرة ولا مسكن بل يشمل ذلك من له عشيرة ومسكن ، فان مجرد وجود هذه الأشياء لا يكون موجبا لتخصيص إطلاق الأدلة المشار إليها. نعم لو كان له عيال يجب الإنفاق عليهم أو أبوان أو أحدهما لا يرضون بانقطاعه عنهما فإنه من حيث قيام الأدلة على وجوب هذه الأشياء يجب ان يخص بها إطلاق الأدلة المذكورة واما غيرها فلا دليل عليه ، مع انهم لا يقولون بذلك في غير الوحيد من صاحب المسكن

٨٦

ومن له عشيرة وأهل.

وبالجملة فإن الظاهر هو القول المشهور وان هذه المناقشة لا مجال لها في هذا المقام.

الثانية ـ الظاهر انه يكفي في الاستطاعة حصولها حيثما اتفق ، فلو كان المكلف في غير بلده وحصلت له الاستطاعة على وجه يسافر للحج ويرجع الى بلده وجب عليه ، ولا يشترط حصولها من البلد.

وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) ـ من ان من اقام في غير بلده إنما يجب عليه الحج إذا كان مستطيعا من بلده ، إلا ان تكون إقامته في الثانية على وجه الدوام أو مع انتقال الفرض كالمجاور بمكة بعد السنتين ـ من ما لم نقف له على دليل.

بل ظاهر ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار ـ (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يمر مجتازا يريد اليمن أو غيرها من البلدان وطريقه بمكة فيدرك الناس وهم يخرجون الى الحج فيخرج معهم الى المشاهد أيجزئه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : نعم». ـ ينافي ما ذكره.

ويؤيده عموم النصوص وصدق الاستطاعة بذلك.

الثالثة ـ المشهور في كلام الأصحاب انه لو لم يكن له زاد ولا راحلة لكنه واجد للثمن فإنه يجب عليه شراؤهما وان زاد عن ثمن المثل ، وقيل انه متى زادت قيمة الزاد والراحلة عن ثمن المثل لم يجب الحج ، ونقله في المدارك ـ وكذا الفاضل الخراساني ـ عن الشيخ في المبسوط.

أقول : لا ريب ان الشيخ في المبسوط وان صرح بذلك لكنه إنما صرح به

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٢ من وجوب الحج وشرائطه.

٨٧

بالنسبة إلى الزاد خاصة دون الراحلة ولكن حيث كان ذلك لازما له في الراحلة أيضا ألزموه به فنقلوا خلافه فيهما.

قال في المبسوط : واما الزاد فهو عبارة عن المأكول والمشروب ، فالمأكول هو الزاد فان لم يجده بحال أو وجده بثمن يضر به وهو ان يكون في الرخص بأكثر من ثمن مثله وفي الغلاء مثل ذلك لم يجب عليه ، وهكذا حكم المشروب. واما المكان الذي يعتبر وجوده فيه فإنه يختلف ، اما الزاد ان وجده في أقرب البلدان الى البر فهو واجد ، وكذلك ان لم يجده إلا في بلده فيجب عليه حمله معه ما يكفيه لطول طريقه إذا كان معه ما يحمل عليه. واما الماء فان كان يجده في كل منزل أو في كل منزلين فهو واجد ، وان لم يجده إلا في أقرب البلدان الى البر أو في بلده فهو غير واجد. والمعتبر في جميع ذلك العادة فما جرت العادة بحمل مثله وجب حمله وما لم تجر سقط وجوب حمله. واما علف البهائم ومشروبها فهو كما للرجل سواء ان وجده في كل منزل أو منزلين لزمه وان لم يجد إلا في أقرب البلاد الى البر أو في بلده سقط الفرض لاعتبار العادة. وهذا كله إذا كانت المسافة بعيدة. الى آخر كلامه زيد في مقامه.

والمفهوم من هذا الكلام ظاهرا ان حكمه بسقوط الحج مع زيادة قيمة الزاد إنما هو من حيث التضرر بالزيادة. وربما يفهم ايضا من سياق الكلام الى آخره التعليل بالرجوع إلى العادة ، وان إطلاق الشراء إنما ينصرف إلى القيمة المعتادة.

والأول منهما هو الذي فهمه العلامة في المختلف ، حيث قال بعد نقل صدر العبارة : وهذا التفسير يشعر بأنه إذا زاد الثمن عن ثمن المثل في المأكول والمشروب لا يجب شراؤهما ، والوجه وجوب ذلك مع القدرة ، لنا ـ انه مستطيع فوجب عليه الحج. احتج بأنه قد زاد الثمن عن ثمن المثل فلا يجب لاشتماله على الضرر. والجواب المنع من الضرر مع القدرة. انتهى.

٨٨

والثاني منهما ذكره شيخنا الشهيد في نكت الإرشاد فقال ـ بعد نقل القول بذلك عنه في الزاد وان ذلك لازم له في الراحلة ـ ما لفظه : لانه احتج بأن إطلاق الشراء ينصرف الى المعتاد كالتوكيل في الشراء حتى قال : لا يجب حمل الماء من بلده ولا من أقرب مكان الى البر بل ان كان في كل منزل أو منزلين وجب الحج وإلا فلا ، وكذا علف الدواب ، حوالة على العرف ، ولان الحج يسقط لو خاف على المال التلف فلا يناسبه إضاعته هنا. ورد بما مر في شراء الماء من وجوب الثواب هنا على الله تعالى الذي هو أعظم من العوض الواجب على الآدمي. ثم قال : ويمكن انه ان كثر الثمن كثرة فاحشة بحيث يستوعب المال العظيم قرب قول الشيخ للإضرار المنفي (١) وإلا فهو بعيد لصدق الاستطاعة التي هي مناط الوجوب. انتهى.

والأصح ما عليه جمهور الأصحاب من وجوب الشراء وان زاد عن ثمن المثل ، إلا ان يبلغ الى الحال التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره في آخر كلامه فإشكال. وبمثل ذلك صرح العلامة في التذكرة فقال ـ على ما نقله عنه في الذخيرة ـ : وان كانت القيمة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه وان تمكن ، على اشكال.

وسيجي‌ء ان شاء الله تعالى ما فيه مزيد بيان لهذا المقام.

وأنت خبير بان ما نقلناه عن المبسوط بالنسبة الى عدم وجوب حمل الماء وعلف الدواب هو عين ما نقلوه عن العلامة (قدس‌سره) في التذكرة والمنتهى ، كما قدمنا ذكره في المسألة الاولى ، مع انهم لم ينقلوا الخلاف ثمة إلا عن العلامة ، وكلام المبسوط ـ كما ترى ـ أصرح من كلام العلامة في ذلك.

__________________

(١) وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار». وقد أورده في الوسائل في الباب ٥ من الشفعة ، والباب ١٢ من احياء الموات.

٨٩

الرابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو كان له مال وعليه دين فإنه لا يجب عليه الحج ، إلا ان يزيد على دينه ما يحصل به الاستطاعة. وإطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين ان يكون الدين حالا أو مؤجلا.

وبهذا التعميم صرح في المنتهى فقال : لو كان له مال وعليه دين بقدره لم يجب عليه الحج سواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، لأنه غير مستطيع مع الحلول والضرر متوجه عليه مع التأجيل ، فسقط فرض الحج. انتهى.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : ولمانع ان يمنع توجبه الضرر في بعض الموارد ، كما إذا كان مؤجلا أو حالا غير مطالب به وكان للمديون وجه للوفاء بعد الحج ، ومتى انتفى الضرر وحصل التمكن من الحج تحققت الاستطاعة المقتضية للوجوب.

أقول : يمكن ان يقال عليه ان مراد العلامة (رضوان الله عليه) ان في صورة الحلول فالواجب أداء الدين ، وعدم المطالبة به في ذلك الوقت لا يوجب حصول الاستطاعة به والفرض انه لا مال له سواه ، لجواز رجوعه عليه بعد ذلك ومطالبته وقد فات من يده ، والمتبادر من مال الاستطاعة ما يكون لصاحبه التصرف فيه بلا معارض في ذلك. واما في صورة التأجيل فمع فرض انه لا مال له لا معنى لقوله في الإيراد : «وكان للمديون وجه للوفاء بعد الحج» فإنه خلاف المفروض في كلام العلامة.

وبالجملة فإنه لا اعتماد على هذه التعليلات إبراما أو نقضا بل الواجب الرجوع الى النصوص.

والذي وقفت عليه من الاخبار في المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل عليه دين أعليه

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من وجوب الحج وشرائطه.

٩٠

أن يحج؟ قال : نعم ان حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين».

وما رواه عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله البصري (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الحج واجب على الرجل وان كان عليه دين».

وظاهر الخبرين المذكورين وجوب الحج عليه وان كان عليه دين مستوعب للاستطاعة ، وهو على إطلاقه لا يخلو من الإشكال ، فإنه متى كان حالا مطالبا به لا يجوز صرفه في الحج إجماعا.

والذي يقرب من الرواية الأولى بقرينة التعليل ان المراد ان حج الإسلام ـ بناء على ما قدمناه في معنى الاستطاعة ـ يجب ولو بالمشي لمن أطاقه ، فمجرد وجود الدين لا يكون مانعا منه في جميع الحالات وان منع في بعض الأوقات.

وبالجملة فإنه يجب تقييد الخبرين المذكورين بما إذا لم تحصل المطالبة بالدين اما بان يكون حالا ولكن صاحبه يسمح بتأخيره أو يكون مؤجلا.

وفي المقام أيضا أخبار أخر عديدة إلا انها غير ظاهرة في حج الإسلام ، والظاهر ـ كما استظهره جملة من الأصحاب ـ حملها على الحج المندوب إلا انها ايضا لا تخلو من معارض :

ومنها ـ ما رواه الشيخ عن موسى بن بكر الواسطي (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يستقرض ويحج؟ فقال : ان كان خلف ظهره ما ان حدث به حدث ادى عنه فلا بأس». ورواه الكليني أيضا عن موسى بن بكر

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ٤٤٢ ، وفي الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه.

٩١

قريبا منه (١) وكذا الصدوق (٢).

وما رواه المشايخ الثلاثة عن عبد الملك بن عتبة (٣) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل عليه دين يستقرض ويحج؟ قال : ان كان له وجه في مال فلا بأس».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن غير واحد (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اني رجل ذو دين أفأتدين وأحج؟ فقال : نعم هو اقضى للدين».

وعن محمد بن ابي عمير في الصحيح عن عقبة (٥) قال : «جاءني سدير الصيرفي فقال : ان أبا عبد الله عليه‌السلام يقرأ عليك السلام ويقول لك : ما لك لا تحج؟ استقرض وحج».

وما رواه الكليني في الحسن عن معاوية بن وهب عن غير واحد (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يكون على الدين فتقع في يدي الدراهم فان وزعتها بينهم لم يبق شي‌ء ، أفأحج بها أو أوزعها بين الغرام؟ فقال : تحج بها ، وادع الله (عزوجل) ان يقضي عنك دينك».

وعن يعقوب بن شعيب (٧) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يحج بدين وقد حج حجة الإسلام؟ قال : نعم ان الله سيقضي عنه ان شاء الله». ورواه الصدوق عن يعقوب في الحسن (٨).

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه رقم ٧ و ٩.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٢٦٧ ، وفي الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨) الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه.

٩٢

وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحسن بن زياد العطار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يكون علي الدين فتقع في يدي الدراهم فان وزعتها بينهم لم يبق شي‌ء ، أفأحج بها أو أوزعها بين الغرماء؟ قال : حج بها وادع الله ان يقضي عنك دينك».

وروى عن الصادق عليه‌السلام مرسلا (٢) انه «سأله رجل فقال : اني رجل ذو دين فأتدين وأحج؟ قال : نعم هو اقضى للدين».

والشيخ (قدس‌سره) بعد ان ذكر بعض هذه الأخبار حملها على ما إذا كان له وجه يقضي به دينه مستندا الى الخبرين الأولين. والظاهر بعده ، ولعل الأقرب في الجمع هو الحمل على تفاوت درجات الناس في قوة التوكل وعدمها.

الخامسة ـ ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على انه يستثني من مال الاستطاعة دار سكناه وخادمه وثياب بدنه.

قال في المنتهى : وعليه اتفاق العلماء ، لان ذلك مما تمس الحاجة اليه وتدعو إليه الضرورة فلا يكلف بيعه. ونحوه في المعتبر والتذكرة.

وقال في المسالك : لا خلاف في استثناء هذه الأربعة كما ذكره العلامة في التذكرة وان كانت النصوص غير مصرحة بها. وزاد في التذكرة استثناء فرس الركوب.

وظاهر عبارة الشرائع تخصيص الثياب المستثناة بثياب الخدمة دون ثياب

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٦٨ ، وفي الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه رقم ١٠.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٢٦٧ ، وفي الوسائل الباب ٥٠ من وجوب الحج وشرائطه رقم (١).

٩٣

التجمل ، وفي كلام الأكثر مطلق الثياب.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك استثناء حلي المرأة المعتاد لها بحسب حالها وزمانها ومكانها وان ذلك في حكم الثياب.

وجزم شيخنا المشار إليه بان من لم يكن له هذه المستثنيات يستثني له أثمانها.

وألحق بعض الأصحاب كتب العلم مع عدم الغنى عنها ، ولو كان للكتاب نسختان بيع الزائد.

ونقل ايضا استثناء أثاث البيت من بساط وفراش وآنية ونحو ذلك.

أقول : ان مقتضى الآية والأخبار الكثيرة هو وجوب الحج على كل من استطاع ، بمعنى : قدر على الإتيان به ، واستثناء هذه الأشياء أو بعضها يحتاج الى دليل متى حصلت الاستطاعة بها. نعم قام الدليل العام على نفي الحرج في الدين (١) وعدم تحمل الضرر (٢) وسهولة الحنيفية (٣) والتوسعة في التكليف (٤) فيجب بمقتضى ذلك الاقتصار من هذه الأشياء على ما يلزم من التكليف بصرفها وفقدها ذلك عينا أو قيمة.

__________________

(١) ارجع الى الحدائق ج ١ ص ١٥١.

(٢) الوسائل الباب ٥٠ من الشفعة والباب ١٢ من احياء الموات ، والحدائق ج ١ ص ١٥٣.

(٣) الوسائل الباب ٤٨ من مقدمات النكاح وآدابه ، والجامع الصغير للسيوطي ج ١ ص ١٢٥ باب الباء ، والمقاصد الحسنة للسخاوي ص ١٠٩ حرف الهمزة رقم ٢١٤ وتاريخ بغداد للخطيب ج ٧ ص ٢٠٩.

(٤) ارجع الى الحدائق ج ١ ص ٤٣ ، والشهاب في الحكم والآداب حرف الالف : «الناس في سعة ما لم يعلموا».

٩٤

وقال السيد السند في المدارك بعد الكلام في المسألة ـ ونعم ما قال ـ : وبالجملة فمقتضى الآية الشريفة والأخبار المستفيضة وجوب الحج على كل من تمكن من تحصيل الزاد والراحلة ، بل قد عرفت ان مقتضى كثير من الاخبار الوجوب على من أطاق المشي ، فيجب الاقتصار في تخصيصها أو تقييدها على قدر الضرورة.

السادسة ـ قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك : المعتبر في القوت والمشروب تمكنه من تحصيلهما اما بالشراء في المنازل أو بالقدرة على حملهما من بلده أو غيره. وقال العلامة في التذكرة والمنتهى : ان الزاد إذا لم يجده في كل منزل وجب حمله ، بخلاف الماء وعلف البهائم فإنهما إذا فقدا من الموضع المعتاد لهما لم يجب حملهما من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ، ويسقط إذا توقف على ذلك. وهو مشكل. والمتجه عدم الفرق في وجوب حمل الجميع مع الإمكان وسقوطه مع المشقة الشديدة. انتهى.

أقول : الظاهر من كلام العلامة في الكتابين المذكورين هو الفرق بين الزاد وبين الماء ، ومثله علف الدواب ، فيجب حمل الأول دون الأخيرين باعتبار عدم المشقة في الأول ووجود المشقة في الأخيرين ، فهو راجع في الحقيقة الى ما استوجهه (قدس‌سره) بقوله : «والمتجه. الى آخره».

وها أنا أسوق كلامه (قدس‌سره) في الكتابين : اما في التذكرة فإنه قال : وان كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله ، وان لم يجده كذلك لزمه حمله. واما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة فلا كلام ، وان لم يوجد لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها ، لما فيه من عظم المشقة وعدم جريان

٩٥

العادة به ، ولا يتمكن من حمل الماء لدوابه في جميع الطريق ، والطعام بخلاف ذلك. انتهى.

وهو ـ كما ترى ـ صريح في ان عدم وجوب حمل الماء له ولدوابه وكذا العلف إنما هو من حيث لزوم المشقة العظيمة. وهو كذلك ، فإنه متى كان الطريق ـ مثلا ـ عشرين يوما أو شهرا أو نحو ذلك والحال انه ليس فيها ماء فحمل الماء له ولدوابه في تلك المدة في غاية الإشكال كما هو ظاهر ، ومثله علف الدواب. واما في المنتهى فإنه ذكر هذه المسألة في موضعين : أحدهما صريح في ما ذكره هنا ، وثانيهما ظاهر في ذلك ، قال في الكتاب المذكور : الرابع ـ الزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج اليه من مأكول ومشروب وكسوة ، فإن كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله ، وان لم يجده كذلك لزمه حمله. واما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة لم يجب حملهما ، وإلا وجب مع المكنة ومع عدمها يسقط الفرض. انتهى وهو ـ كما ترى ـ موافق لما استوجهه.

وقال في موضع آخر : قد بينا ان الزاد من شرط وجوب الحج ، فإذا كانت سنة جدب لا يقدر فيها على الزاد في البلدان التي جرت العادة بحمل الزاد منها كبغداد والبصرة لم يجب الحج ، وان كان يقدر عليه في البلدان التي جرت العادة بحمل الزاد منها لم يعتبر وجوده في المراحل التي بين ذلك ، لان الزاد من ما جرت العادة بحمله وهو ممكن وتقل الحاجة اليه. واما الماء فان كان موجودا في المواضع التي جرت العادة بكونه فيها ـ كعبد (١) وعلبية (٢) وغيرهما ـ وجب

__________________

(١) في القاموس : العبد : عين ببلاد طي.

(٢) في مراصد الاطلاع ج ٢ ص ٩٥٦ : علبية بكسر اوله وسكون ثانيه على وزن فعلية : مويهة بالدآث. وكذا في القاموس : والدآث ـ كما في مراصد الاطلاع ج ٢ ص ٥٠٣ ـ موضع بتهامة. هذا. وما ورد في الطبعة الاولى من الحدائق ـ وكذا في المنتهى ـ الظاهر انه تحريف من النساخ.

٩٦

الحج مع باقي الشرائط ، وان كان لا يوجد في مواضعه لم يجب الحج وان وجد في البلدان التي يوجد فيها الزاد ، والفرق بينهما قلة الحاجة في الزاد وكثرتها في الماء ، وحصول المشقة بحمل الماء دون الزاد. انتهى.

وهو ظاهر ـ كما ترى ـ في ان عدم وجوب حمل الماء وسقوط الحج بذلك إنما هو من حيث المشقة في حمله بخلاف الزاد. وهو متجه فان الزاد يكفيه منه قليل لا يحتاج الى مزيد مؤنة في حمله ، بخلاف الماء له ولدوابه فإنه يحتاج اليه كثيرا لشربه وطهارته وازالة نجاساته وسقي دوابه ونحو ذلك ، فالمشقة في حمله من مثل بغداد والبصرة إلى مكة ظاهر لا خفاء فيه.

نعم ظاهر كلام الشيخ في المبسوط الذي قدمنا نقله في المسألة الثالثة ـ حيث ناط وجوب الحمل وعدمه بالعادة دون المشقة ـ المنافاة لما ذكروه ، ولهذا ان شيخنا الشهيد في الدروس إنما أسند الخلاف في المسألة إلى الشيخ دون العلامة ، قال : ويجب حمل الزاد والعلف ولو كان طويل الطريق ، ولم يوجب الشيخ حمل الماء زيادة عن مناهله المعتادة.

بقي الكلام في صدر عبارة العلامة الأخيرة فإنه لا يخلو من مناقشة ، فإن ظاهرها انه إذا لم يقدر على تحصيل الزاد من البلد من حيث الجدب سقط الحج. وظاهره ان ذلك أعم من ان يمكن وجوده في الطريق أم لا ، بل يجب تقييده بعدم وجوده في الطريق وإلا لوجب شراؤه.

السابعة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يشترط في الراحلة أن تكون مناسبة لحاله في القوة والضعف ، فمن كان يمكنه الركوب

٩٧

على القتب لا يعتبر في حقه أزيد من ذلك ، ومن شق عليه ذلك بحيث يحتاج الى محمل توقف حصول الاستطاعة عليه ، وهكذا لو شق عليه المحمل واحتاج الى الكنيسة.

قال العلامة في التذكرة : ويعتبر راحلة مثله ، فان كان يستمسك على الراحلة من غير محمل ولا يلحقه ضرر ولا مشقة شديدة فلا يعتبر في حقه إلا وجدان الراحلة لحصول الاستطاعة معها ، وان كان لا يستمسك على الراحلة بدون المحمل أو يجد مشقة عظيمة اعتبر مع وجود الراحلة وجود المحمل ، ولو كان يجد مشقة عظيمة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة. ولا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك. انتهى. وعلى هذا النحو كلامهم وان تفاوت إجمالا وتفصيلا.

والسيد السند في المدارك وتبعه الفاضل الخراساني في الذخيرة قد نسبا إلى العلامة في التذكرة الخلاف في هذه المسألة ، فنقلا عنه ان المراد بكون الراحلة مناسبة لحاله ان المراد المناسبة باعتبار الشرف والعزة ، فيعتبر في استطاعته المحمل أو الكنيسة عند علو منصبه. ثم رداه بالأخبار الدالة على الحج على حمار أجدع أبتر (١) واعتضدا بما ذكره الشهيد في الدروس حيث قال : والمعتبر في الراحلة ما يناسبه ولو محملا إذا عجز عن القتب ، ولا يكفي علو منصبه في اعتبار المحمل والكنيسة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة (عليهم‌السلام) حجوا على الزوامل.

والعجب منهما في هذه الغفلة وعبارة التذكرة ـ كما تلوناها عليك ـ صريحة في كون المراد بمناسبة حاله إنما هو في القوة والضعف لا في الشرف والضعة ، فينبغي التأمل في ذلك وعدم الاعتماد على مثل هذه النقول ولو من مثل هؤلاء الفحول ، فان المعصوم من عصمه الله ، والجواد قد يكبو ، والسيف قد ينبو.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من وجوب الحج وشرائطه.

٩٨

ثم انه لا يخفى ان في حكم الزاد والراحلة ما يحتاج اليه من الخدم واحدا أو أكثر ، وما يحتاج اليه من الفراش وأوعية الماء من القرب وغيرها ، ونحو ذلك.

الثامنة ـ ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الإجماع على انه لو بذل له باذل الزاد والراحلة ونفقة له ولعياله وجب عليه الحج وكان بذلك مستطيعا.

وتدل عليه جملة من الاخبار المتقدمة في صدر البحث مثل صحيحة محمد بن مسلم وحسنة الحلبي أو صحيحته (١).

وموثقة أبي بصير أو صحيحته (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من عرض عليه الحج ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحج».

وصحيحة معاوية بن عمار (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل لم يكن له مال فحج به رجل من إخوانه هل يجزئ ذلك عنه من حجة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال : بل هي حجة تامة».

وبهذا الاسناد عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٤) في حديث قال : «وان كان دعاه قوم ان يحجوه فاستحى فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا الخروج ولو على حمار أجدع أبتر».

وروى شيخنا المفيد في المقنعة مرسلا (٥) قال : «قال عليه‌السلام : من عرضت عليه نفقة الحج فاستحى فهو ممن ترك الحج مستطيعا اليه السبيل».

وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن ابي بصير (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل كان له مال فذهب ثم عرض عليه الحج فاستحى؟ فقال :

من عرض عليه الحج فاستحى ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فهو ممن يستطيع الحج».

__________________

(١) ص ٨٤.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١٠ من وجوب الحج وشرائطه.

٩٩

وإطلاق هذه الروايات يقتضي عدم الفرق بين ان يكون البذل على وجه التمليك أم لا ، ولا بين ان يكون واجبا بنذر أو شبهه أم لا ، ولا بين ان يكون الباذل موثوقا به أم لا ، ولا بين بذل عين الزاد والراحلة أو أثمانهما.

ونقل عن ابن إدريس انه اعتبر في وجوب الحج بالبذل تمليك المبذول ، ونقله في الدروس عن العلامة أيضا. وفرق العلامة في التذكرة ـ ومثله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ بين العين والثمن فحكما بالاستطاعة ببذل الأول دون الثاني. واشترط في الدروس التمليك أو الوثوق به ، ونقل عن جمع من الأصحاب اشتراط التمليك أو الوجوب بنذر أو شبهه.

وقال العلامة في التذكرة : هل يجب على الباذل بالبذل الشي‌ء المبذول أم لا؟ فان قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحج على المبذول له ، لكن في إيجاب المبذول بالبذل اشكال أقربه عدم الوجوب ، وان قلنا بعدم وجوبه ففي إيجاب الحج اشكال أقربه العدم ، لما فيه من تعليق الواجب بغير الواجب. انتهى.

أقول : لا يخفى ان هذا الكلام مخالف لما صرح (قدس‌سره) به في صدر المسألة حيث قال : مسألة : لو لم يكن له زاد وراحلة أو كان ولا مؤنة لسفره أو لعياله وبذل له باذل الزاد والراحلة ومؤنته ذاهبا وعائدا ومؤنة عياله مدة غيبته وجب عليه الحج عند علمائنا سواء كان الباذل قريبا أو بعيدا ، لانه مستطيع للحج ، ولان الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (١) سئلا عن من عرض عليه الحج فاستحى من ذلك أهو ممن يستطيع الى ذلك سبيلا؟ قالا : نعم. وهو ظاهر ـ كما ترى ـ في حكمه بالوجوب بمجرد البذل ودعواه الإجماع عليه ،

__________________

(١) هذا مضمون الأخبار الواردة في الوسائل الباب ١٠ من وجوب الحج وشرائطه.

١٠٠