الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

بهما بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) :

لما رواه الثقة الجليل احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في جملة ما كتبه الى صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) (١) : «انه كتب إليه يسأله عن الرجل يكون مع بعض هؤلاء ويكون متصلا بهم ، يحج ويأخذ عن الجادة ، ولا يحرم هؤلاء من المسلخ ، فهل يجوز لهذا الرجل ان يؤخر إحرامه إلى ذات عرق فيحرم معهم (٢) لما يخاف من الشهرة أم لا يجوز ان يحرم إلا من المسلخ؟ فكتب إليه في الجواب : يحرم من ميقاته ثم يلبس الثياب ويلبي في نفسه فإذا بلغ الى ميقاتهم أظهره». ورواه الشيخ في كتاب الغيبة بإسناده فيه اليه (٣).

والظاهر ان مستند الشيخ علي بن بابويه في ما نقل عنه انما هو كتاب الفقه الرضوي على عادته التي تقدم ذكرها في غير موضع ، فإنه عليه‌السلام في آخر كلامه الذي قدمنا نقله قد صرح بذلك ، إلا ان صدر الكلام صريح في ان آخر العقيق ذات عرق. وهو تناقض ظاهر.

وبهذه العبارة التي في آخر كتاب الفقه عبر الصدوق في الفقيه (٤) كما نقله في الذخيرة ، فقال : وإذا كان الرجل عليلا أو اتقى فلا بأس بأن يؤخر الإحرام إلى ذات عرق.

ويمكن ان يقال في دفع هذا التناقض بين الاخبار ، وكذا صدر عبارة كتاب الفقه وعجزها ان ذات عرق وان كانت من العقيق إلا انها لما كانت

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٢ من المواقيت.

(٢) ارجع الى الصفحة ٤٤٢ والتعليقة (١) فيها.

(٤) ج ٢ ص ١٩٩.

٤٤١

ميقات العامة (١) وكان الفضل انما هو في ما قبلها فالتأخير إليها وترك الفضل انما يكون لعذر من علة أو تقية.

والى ما ذكرناه يشير كلام ابن إدريس في سرائره ، حيث قال : ووقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل كل صقع ولمن حج على طريقهم ميقاتا ، فوقت لأهل العراق العقيق ، فمن اي جهاته وبقاعه أحرم ينعقد الإحرام منها ، إلا ان له ثلاثة أوقات : أولها المسلخ ، يقال بفتح الميم وبكسرها ، وهو اوله ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقية ، وأوسطها غمرة ، وهي تلي المسلخ في الفضل مع ارتفاع التقية وآخرها ذات عرق ، وهي أدونها في الفضل إلا عند التقية والشناعة والخوف ، فذات عرق هي أفضلها في هذه الحال. ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على حال. انتهى.

وحينئذ فتحمل الأخبار الدالة على تحديد العقيق إلى غمرة على الأفضل منه ، وكذا رواية الاحتجاج. وهذا التأويل وان كان لا يخلو من شي‌ء إلا انه في مقام الجمع لا بأس به.

بقي الإشكال في تحديد أول العقيق ، لما عرفت من الاخبار المتقدمة ، فإن بعضها دل على ان أوله المسلخ وبعضها دل على ان أوله بريد البعث الذي هو قيل من ما يلي العراق بستة أميال. ولا يحضرني الآن وجه يمكن جمعها عليه.

ثم اعلم ان صاحب التنقيح ضبط المسلح بالسين والحاء المهملتين ، قال : وهو واحد المسالح وهو المواضع العالية. ونقل شيخنا الشهيد الثاني عن بعض الفقهاء انه ضبطه بالخاء المعجمة من السلخ وهو النزع ، لانه تنزع فيه الثياب للإحرام.

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٢٣٣ مطبعة العاصمة ، وبلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص ٨٦.

٤٤٢

ومقتضى ذلك تأخر التسمية عن وضعه ميقاتا.

واما ذات عرق فقيل : انها كانت قرية فخربت. ونقل العلامة عن سعيد ابن جبير (١) انه رأى رجلا يريد ان يحرم بذات عرق فأخذ بيده حتى أخرجه من البيوت وقطع به الوادي فاتى به المقابر فقال : هذه ذات عرق الاولى.

والظاهر الاكتفاء في معرفة ذلك بسؤال الناس الخبيرين بذلك ، لما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «يجزئك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والاعراب عن ذلك».

الثانية ـ قد عرفت في ما تقدم من الاخبار ان ميقات أهل المدينة من ذي الحليفة ، وعلى ذلك اتفاق كلمة الأصحاب ، إلا انهم اختلفوا في ان ذا الحليفة هل هو عبارة عن ذلك الموضع أو عن المسجد الواقع فيه؟ وبالأول صرح الشهيد في اللمعة والدروس ، واختاره المحقق الشيخ علي ، قال : ان جواز الإحرام من الموضع المسمى بذي الحليفة وان كان خارجا من المسجد لا يكاد يدفع. وبالثاني صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في جملة من كتبه والمحقق وغيرهما.

ويدل على الأول إطلاق جملة من الروايات المتقدمة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة. لكن مقتضى جملة أخرى ـ كما تقدم ايضا ـ تفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة. وحينئذ فيجب تقييد إطلاق تلك الاخبار بهذه. وبذلك يظهر ضعف القول الأول.

وقد ذكر الأصحاب انه لو كان المحرم جنبا أو حائضا أحرما به مجتازين ،

__________________

(١) المنتهى ج ٢ ص ٦٧١ والمغني ج ٣ ص ٢٣٣ مطبعة العاصمة.

(٢) الوسائل الباب ٥ من المواقيت.

٤٤٣

فان تعذر الإحرام بالاجتياز أحرما من خارج.

الثالثة ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب ـ كما صرح به غير واحد منهم ـ في جواز تأخير الإحرام من مسجد الشجرة إلى الجحفة للضرورة ، وهي المشقة التي يعسر تحملها. وربما نقل عن ظاهر الجعفي جواز التأخير اختيارا.

والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من اين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال : من الجحفة ، ولا يجاور الجحفة إلا محرما».

وما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار (٢) «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة. فقال : لا بأس».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن إحرام أهل الكوفة وأهل خراسان وما يليهم ، وأهل الشام ومصر ، من اين هو؟ قال : اما أهل الكوفة وخراسان وما يليهم فمن العقيق ، وأهل المدينة من ذي الحليفة والجحفة ، وأهل الشام ومصر من الجحفة ، وأهل اليمن من يلملم ، وأهل السند من البصرة ، يعني : من ميقات أهل البصرة».

وظاهر هذه الاخبار جواز الإحرام اختيارا من الجحفة كما هو المنقول عن ظاهر الجعفي.

ومنها ـ ما رواه الشيخ عن ابي بصير (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : خصال عابها عليك أهل مكة. قال : وما هي؟ قلت : قالوا : أحرم من الجحفة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحرم من الشجرة. فقال : الجحفة أحد الوقتين فأخذت بأدناهما وكنت عليلا».

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٦ من المواقيت.

(٤) الوسائل الباب ٦ من المواقيت.

٤٤٤

وما رواه في الكافي في الصحيح الى ابي بكر الحضرمي (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اني خرجت بأهلي ماشيا فلم أهل حتى أتيت الجحفة وقد كنت شاكيا ، فجعل أهل المدينة يسألون عني فيقولون : لقيناه وعليه ثيابه. وهم لا يعلمون ، وقد رخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن كان مريضا أو ضعيفا ان يحرم من الجحفة».

وروى الصدوق في كتاب العلل في الصحيح عن معاوية (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان معي والدتي وهي وجعة؟ قال : قل لها فلتحرم من آخر الوقت ، فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل المغرب الجحفة. قال : فأحرمت من الجحفة».

قال : والظاهر ان المراد بآخر الوقت يعني : الوقت الآخر ، فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، كاخلاق ثياب ، أو بمعنى الوقت الأخير.

وما رواه الشيخ عن إبراهيم بن عبد الحميد عن ابى الحسن موسى عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيام ، يعني : الإحرام من الشجرة ، فأرادوا ان يأخذوا منها الى ذات عرق فيحرموا منها. فقال : لا ـ وهو مغضب ـ من دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من المدينة».

أقول : قوله عليه‌السلام : «إلا من المدينة» أي من ميقات أهل المدينة ، كقوله عزوجل «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» (٤).

وبهذه الأخبار أخذ الأصحاب وقيدوا بها الأخبار الأولة ، وهي وان

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٦ من المواقيت.

(٣) الوسائل الباب ٨ من المواقيت.

(٤) سورة يوسف ، الآية ٨٢.

٤٤٥

كانت غير صريحة في التخصيص إلا ان الاحتياط يقتضي المصير الى ما ذهبوا اليه.

قال في المدارك بعد نقل بعض اخبار الطرفين : وكيف كان فينبغي القطع بصحة الإحرام من الجحفة وان حصل الإثم بتأخيره عن ذي الحليفة.

أقول : وبذلك صرح الشهيد في الدروس ايضا. ولا يخلو من اشكال ، لأن المتبادر من الروايات الدالة على ان من مر على ميقات غير بلده جاز له الإحرام منه انما هو من لم يمر على ميقات بلده. وحينئذ فمتى قلنا بأن الجحفة ليست ميقاتا للمدني اختيارا وانما ميقاته مسجد ذي الحليفة ـ وقد مر على ميقاته ، مع استفاضة الأخبار بأنه يجب عليه الإحرام منه ولا يجوز تجاوزه إلا محرما ، وقد مر به ولم يحرم منه ـ فانعقاد إحرامه من الجحفة يحتاج الى دليل ، لعدم دخوله تحت الأخبار المشار إليها آنفا كما بيناه. ومن ما يؤيد ما ذكرناه

صحيحة الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل ترك الإحرام حتى دخل الحرم؟ فقال : يرجع الى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه فيحرم ، وان خشي ان يفوته الحج فليحرم من مكانه». ولا ريب في صدق الخبر المذكور على المدعى وانطباقه عليه.

ثم قال في المدارك ايضا : وانما يتوقف التأخير على الضرورة على القول به مع مروره على ذي الحليفة ، فلو عدل ابتداء عن ذلك الطريق جاز وكان الإحرام من الجحفة اختياريا.

وأورد عليه بان كلامه هذا لا ينطبق على شي‌ء من الاخبار المتقدمة ، لأن بعضها يقتضي المنع من العدول الاختياري مطلقا وبعضها يقتضي جواز العدول مطلقا ، فالتفصيل لا يوافق شيئا من النصوص.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من المواقيت.

٤٤٦

ويمكن الجواب عنه بان كلامه هذا مبني على تخصيص إطلاق أخبار جواز العدول مطلقا ـ اختيارا أو اضطرارا ـ بالأخبار الأخر الدالة على عدم جواز التأخير إلا مع الضرورة ، كما هو قول الأصحاب (رضوان الله عليهم). واما الرواية الدالة على المنع من العدول الاختياري مطلقا ـ وهي رواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة ـ فقد أجاب عنها بضعف السند أولا ، ثم بالحمل على الكراهة جمعا بينها وبين ما دل على جواز العدول مطلقا.

الرابعة ـ قد صرح أكثر الأصحاب بان من كان منزله أقرب الى مكة من المواقيت فميقاته منزله ، قال في المنتهى : انه قول أهل العلم كافة إلا مجاهد (١) ويدل على ذلك الأخبار المتكاثرة : منها ـ صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في أول البحث (٢) ونحوها ما تقدم ايضا من كتاب الفقه الرضوي (٣).

وقال الشيخ بعد إيراد صحيحة معاوية بن عمار المذكورة : وفي حديث آخر : إذا كان منزله دون الميقات إلى مكة فليحرم من دويرة اهله (٤).

وفي الحسن عن مسمع عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «إذا كان منزل الرجل دون ذات عرق إلى مكة فليحرم من منزله».

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسكان قال : حدثني أبو سعيد (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن من كان منزله دون الجحفة إلى مكة. قال : يحرم منه».

وعن رباح بن ابي نصر (٧) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام):

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٢٣٦ مطبعة العاصمة.

(٢) ص ٤٣٤.

(٣) ص ٤٣٧.

(٤) الوسائل الباب ١٧ من المواقيت. وارجع الى الاستدراكات.

(٥ و ٦ و ٧) الوسائل الباب ١٧ من المواقيت.

٤٤٧

يروون ان عليا (صلوات الله عليه) قال : ان من تمام حجك إحرامك من دويرة أهلك (١) فقال : سبحان الله لو كان كما يقولون لم يتمتع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بثيابه إلى الشجرة ، وانما معنى دويرة أهله من كان اهله وراء الميقات إلى مكة».

وروى الكليني عن رباح (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام): انا نروى بالكوفة ان عليا عليه‌السلام قال : ان من تمام الحج والعمرة ان يحرم الرجل من دويرة أهله (٣) فهل قال هذا علي (عليه‌السلام)؟ فقال : قد قال ذلك أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لمن كان منزله خلف المواقيت ، ولو كان كما يقولون ما كان يمنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان لا يخرج بثيابه إلى الشجرة».

وروى الصدوق عن ابى بصير (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انا نروى بالكوفة ان عليا (عليه‌السلام) قال : ان من تمام حجك إحرامك من دويرة أهلك (٥) فقال : سبحان الله ، لو كان كما يقولون لما تمتع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بثيابه إلى الشجرة».

قال الصدوق (قدس‌سره) (٦) : «وسئل الصادق عليه‌السلام عن رجل منزله خلف الجحفة من اين يحرم؟ قال : من منزله».

وفي خبر آخر (٧) : «من كان منزله دون المواقيت ما بينها وبين مكة فعليه ان يحرم من منزله».

__________________

(١ و ٣ و ٥) المغني ج ٣ ص ٢٣٩ مطبعة العاصمة.

(٢ و ٤) الوسائل الباب ١١ و ١٧ من المواقيت.

(٦ و ٧) الوسائل الباب ١٧ من المواقيت.

٤٤٨

وروى الصدوق في معاني الأخبار (١) بإسناده عن عبد الله بن عطاء قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ان الناس يقولون : ان علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) قال : ان أفضل الإحرام ان تحرم من دويرة أهلك (٢) قال : فأنكر ذلك أبو جعفر (عليه‌السلام) فقال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من أهل المدينة ووقته من ذي الحليفة وانما كان بينهما ستة أميال ، ولو كان فضلا لأحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ، ولكن عليا عليه‌السلام كان يقول : تمتعوا من ثيابكم الى وقتكم».

وهذا الخبر وان لم يكن من اخبار المسألة إلا أنا ذكرناه في سياق تكذيب خبر أهل الكوفة المفتري عليه عليه‌السلام.

قال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل جملة من هذه الاخبار : واعلم ان المشهور بين الأصحاب شمول الحكم المذكور لأهل مكة فيكون إحرامهم بالحج من منازلهم ، والاخبار المذكورة غير شاملة لهم ، وفي حديثين صحيحين ما يخالف ذلك : أحدهما ـ ما رواه الكليني عن ابي الفضل سالم الحناط في الصحيح (٣) قال : «كنت مجاورا بمكة فسألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) من أين أحرم بالحج؟ فقال : من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجعرانة ، أتاه في ذلك المكان فتوح : فتح الطائف وفتح حنين والفتح. فقلت : متى اخرج؟ فقال : ان كنت صرورة فإذا مضى من ذي الحجة يوم ، وان كنت حججت قبل ذلك فإذا مضى من الشهر خمس». وثانيهما ـ ما رواه الكليني عن عبد الرحمن

__________________

(١) نوادر المعاني ص ٣٨٢ وفي الوسائل الباب ٩ من المواقيت.

(٢) المغني ج ٣ ص ٢٣٩ مطبعة العاصمة.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أقسام الحج.

٤٤٩

ابن الحجاج في الصحيح (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام): انى أريد الجوار فكيف اصنع؟ فقال : إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج الى الجعرانة فأحرم منها بالحج. ثم ساق الخبر». وقد تقدم الجميع قريبا في التنبيه الرابع من البحث السابع (٢) ثم نقل رواية إبراهيم بن ميمون ، وقد تقدمت في البحث الرابع (٣).

وأنت خبير بان مورد هذه الروايات انما هو المجاور بمكة ، أعم من ان يكون انتقل حكمه إليهم بمضي المدة المعلومة أو لم ينتقل وأراد الحج مستحبا ، فإنه يخرج الى المواضع المذكورة ، وهذا لا يستلزم ان يكون أهل مكة كذلك وانتقال حكمه الى أهل مكة بعد مضي المدة المعلومة انما هو باعتبار وجوب حج الافراد والقران دون التمتع ، وهو لا يستلزم اشتراكهما في ميقات الإحرام ، فيجوز ان يكون هذا حكما مختصا بالمجاورين دون أهل البلد.

ويمكن ان يكون بناء كلام الأصحاب في الاستدلال بالأخبار المتقدمة على ان ظواهرها تعطى إلحاق من كان منزله دون الميقات إلى مكة بأهل مكة ، فهو يدل على كون أهل مكة كذلك ، فان التخصيص بجهة مكة انما هو من حيث كونه من توابعها وإلا فدخوله في الأقربية لا يخلو من الإشكال ، لاقتضائها المغايرة بينهما ، وبالجملة فإن ما ذكره من الاستدلال بالأخبار المذكورة على ان أهل مكة يخرجون الى المواضع المشار إليها لا تدل عليه الاخبار التي ذكرها بوجه.

وكيف كان فالتحقيق انه لا مستند لهم في هذا الحكم سوى الإجماع على الحكم المذكور ، لاتفاق كلمتهم عليه قديما وحديثا من غير نقل الخلاف ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم ومؤلفاتهم.

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٣٠٠ وفي الوسائل الباب ٧ و ٩ و ١٦ و ١٧ من أقسام الحج.

(٢) ص ٤٣١.

(٣) ص ٣٨٦.

٤٥٠

ثم انه لا يخفى ان كلام الأصحاب هنا لا يخلو من اختلاف ، فان منهم من أطلق القرب كالشهيد في الدروس ، والمحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد والتذكرة ، ومنهم من أطلق القرب واستدل ببعض الأخبار المتقدمة ، وهو ظاهر في كون مراده القرب إلى مكة ، ومنهم من اعتبر القرب إلى مكة ، ومنهم من اعتبر القرب الى عرفات ، وبه صرح الشهيد في اللمعة ونقله في المدارك عن المحقق في المعتبر ايضا ، ولم أجده فيه ، بل الظاهر من كلامه انما هو القرب إلى مكة فإنه وان أطلق في صدر كلامه لكنه استدل ببعض الأخبار المتقدمة المصرحة بالقرب إلى مكة. نعم عبارة شيخنا الشهيد في اللمعة صريحة في ذلك ، حيث قال : ويشترط في حج الإفراد النية ، وإحرامه به من الميقات أو من دويرة اهله ان كانت أقرب الى عرفات. والاخبار المتقدمة صريحة في دفعه كما عرفت.

الخامسة ـ قد صرح جملة من الأصحاب بان من حج على طريق لا يفضى الى أحد المواقيت المتقدمة فإنه يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة. وصرح آخرون بأنه يحرم عند محاذاة أحد المواقيت. وهو ظاهر في التخيير بين الإحرام من محاذاة أيها شاء. وظاهر العلامة في المنتهى اعتبار الميقات الذي هو أقرب الى طريقه. ثم قال : والاولى ان يكون إحرامه بحذو الأبعد من المواقيت من مكة ، وحكم بأنه إذا كان بين ميقاتين متساويين في القرب اليه تخير في الإحرام من أيهما شاء. ونحو ذلك في التذكرة أيضا.

وكيف كان فاعلم اني لم أقف في هذه المسألة إلا على صحيحة عبد الله بن سنان المشار إليها آنفا عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «من اقام بالمدينة شهرا وهو يريد الحج ، ثم بدا له ان يخرج في غير طريق أهل المدينة التي يأخذونه

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من المواقيت.

٤٥١

فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء». وفي التهذيب (١) أسقط قوله : «فيكون حذاء الشجرة من البيداء» وقال في الكافي (٢) بعد نقل الرواية : وفي رواية : «يحرم من الشجرة ثم يأخذ أي طريق شاء».

ورواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «من اقام بالمدينة وهو يريد الحج شهرا أو نحوه ، ثم بدا له ان يخرج في غير طريق المدينة ، فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستة أميال فليحرم منها».

وأنت خبير بان مورد الرواية مسجد الشجرة فحمل سائر المواقيت عليها لا يخلو من الاشكال ، سيما مع معارضتها برواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة (٤) الدالة على ان من دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من ميقات أهل المدينة ، المتأيدة بمرسلة الكليني المذكورة. وكأنهم بنوا على عدم ظهور الخصوصية لهذا الميقات ، الذي هو عبارة عن تنقيح المناط. وهو محتمل ، إلا ان الاحتياط يقتضي المرور على الميقات وعدم التجاوز عنه على حال.

ثم انهم (رضوان الله عليهم) ذكروا ايضا انه لو سلك طريقا لا يفضى الى محاذاة شي‌ء من المواقيت ، فقيل انه يحرم من مساواة أقرب المواقيت إلى مكة ، أي من محل يكون بينه وبين مكة بقدر ما بين مكة وبين أقرب المواقيت

__________________

(١) ج ٥ ص ٥٧.

(٢) ج ٤ ص ٣٢١ وفي الوسائل الباب ٧ من المواقيت.

(٣) الوسائل الباب ٧ من المواقيت.

(٤) ص ٤٤٥.

٤٥٢

إليها ، وهو مرحلتان كما تقدم ، عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا (١). قالوا : لأن هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلا محرما من أي جهة دخل وانما الاختلاف في ما زاد عليها. ورد بان ذلك انما ثبت مع المرور على الميقات لا مطلقا. وقيل بأنه يحرم من ادنى الحل ، ونقله في المدارك عن العلامة في القواعد وولده في الشرح ، ثم قال : وهو حسن ، لأصالة البراءة من وجوب الزائد. ورد بان ثبوت التكليف يقتضي اليقين بتحصيل البراءة. والمسألة عندي محل توقف لعدم النص الكاشف عن حكمها.

فروع

الأول ـ قال العلامة في المنتهى : لو لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقة احتاط وأحرم من بعد ، بحيث يتيقن انه لم يجاوز الميقات إلا محرما.

واستشكله في المدارك بأنه كما يمتنع تأخير الإحرام عن الميقات كذا يمتنع تقديمه عليه. وتجديد الإحرام في كل موضع يحتمل فيه المحاذاة مشكل ، لأنه تكليف شاق لا يمكن إيجابه بغير دليل.

أقول : لا ريب ان ما ذكره من تجديد الإحرام في كل موضع يحتمل المحاذاة جيد لو ثبت أصل الحكم ، فان يقين البراءة متوقف عليه ، والاحتياط بالإتيان بما يتوقف عليه يقين البراءة في مقام اشتباه الحكم واجب ، كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب. ودعوى المشقة غير مسلم ولا مسموع.

__________________

(١) العبارة الواردة هنا مطابقة للنسخة الخطية. وفي المطبوعة استظهر الناسخ ان تكون العبارة هكذا : «وهو مرحلتان كما تقدم ، والمرحلتان كما تقدم أيضا عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا».

٤٥٣

الثاني ـ قال في المنتهى ايضا : لا يلزمه الإحرام حتى يعلم انه قد حاذاه أو يغلب على ظنه ذلك ، لان الأصل عدم وجوبه ، فلا يجب بالشك.

أقول : لا يخفى ان ظاهر هذا الكلام لا يلائم ما ذهبوا اليه من وجوب الإحرام بظن المحاذاة ، لأن أصالة عدم الوجوب كما تنفي الوجوب مع الشك تنفيه مع الظن ايضا.

الثالث ـ قال في المدارك : لو أحرم كذلك بالظن ثم تبينت الموافقة أو استمر الاشتباه أجزأ ، ولو تبين تقدمه قبل تجاوز محل المحاذاة اعاده ، ولو كان بعد التجاوز أو تبين تأخره عن محاذاة الميقات ففي الإعادة وجهان ، من المخالفة ، ومن تعبده بظنه المقتضي للإجزاء. انتهى.

أقول : وهو جيد لو ثبت أصل دليل المسألة ، إلا انه لا يلائم ما اختاره سابقا من الإحرام من ادنى الحل ، فان هذا انما يتفرع على المحاذاة كما لا يخفى. ثم لا يخفى ان ما علل به الإعادة في الصورة الأخيرة ـ من المخالفة ـ الظاهر ضعفه ، لما ذكر من انه متعبد بظنه. والمخالفة واقعا غير معتبرة ، إذ التكليف انما هو بما يظهر في نظر المكلف فلا تضر المخالفة الواقعية. إلا ان أصل المسألة ـ كما عرفت آنفا ـ خال من الدليل.

الرابع ـ المشهور بين الأصحاب ان من حج من البحر يلزمه الإحرام إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة ، وقال ابن إدريس : وميقات أهل مصر ومن صعد البحر جدة. ورده جملة من تأخر عنه بعدم الوقوف له على دليل. نعم ان كانت محاذية لأقرب المواقيت صح الإحرام منها لذلك لا لخصوصيتها. واما أهل مصر ومن سلك طريقهم فميقاتهم الجحفة كما يشير اليه بعض الاخبار السابقة (١) فخلافه غير ملتفت اليه.

__________________

(١) ص ٤٤٤.

٤٥٤

السادسة ـ قد صرح الأصحاب بأن كل من حج على ميقات لزمه الإحرام منه ، بمعنى ان هذه المواقيت المتقدمة لأهلها ولمن يمر بها من غير أهلها مريدا للحج أو العمرة ، فلو حج الشامي على طريق المدينة أو العراقي وجب عليه الإحرام من ذي الحليفة. وهذا الحكم مجمع عليه بينهم كما يفهم من المنتهى.

ويدل عليه من الاخبار ما رواه الكليني في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن ابي الحسن الرضا عليه‌السلام (١) في حديث : «انه كتب اليه : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقت المواقيت لأهلها ولمن اتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا يجاوز الميقات إلا من علة».

وقد تقدم (٢) في رواية إبراهيم بن عبد الحميد : «ان من دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من المدينة».

ولا فرق في وجوب الإحرام من هذه المواقيت المذكورة على الداخل إلى مكة بين ان يكون حاجا أو معتمرا ، حج افراد أو قران أو عمرة تمتع أو افراد ، أما حج التمتع فميقاته مكة.

واما العمرة المفردة بعد حجي القران والافراد فميقاتها ادنى الحل كما تقدم

ويدل عليه اخبار : منها ـ ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «من أراد ان يخرج من مكة ليعتمر أحرم من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما». قال ابن إدريس في السرائر : الحديبية اسم بئر وهو خارج الحرم ، يقال :

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من المواقيت.

(٢) ص ٤٤٥.

(٣) الوسائل الباب ٢٢ من المواقيت.

٤٥٥

الحديبية بالتخفيف والتشديد. وسألت ابن العصار الفوهي فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد. وخطه عندي بذلك وكان إمام اللغة ببغداد. انتهى.

وقال بعض الفضلاء بعد ذكر الجعرانة ما صورته : بفتح الجيم وكسر العين وفتح الراء المشددة ، هكذا سمعنا من بعض مشايخنا ، والصحيح ما قاله نفطويه في تأريخه ، قال : كان الشافعي يقول : الحديبية بالتخفيف ويقول أيضا : الجعرانة بكسر الجيم وسكون العين. وهو اعلم بهذين الموضعين. وقال ابن إدريس : وجدتهما كذلك بخط من أثق به. وقال ابن دريد في الجمهرة : الجعرانة بكسر الجيم والعين وفتح الراء وتشديدها. انتهى.

وفي كتاب مجمع البحرين : وفي الحديث : انه نزل الجعرانة. هي بتسكين العين والتخفيف وقد تكسر وتشدد الراء : موضع بين مكة والطائف على سبعة أميال من مكة ، وهي أحد حدود الحرم ، وميقات للإحرام ، سميت باسم ريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة ، وهي التي أشار إليها بقوله تعالى : «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها» (١) وعن ابن المدائني : العراقيون يثقلون الجعرانة والحديبية ، والحجازيون يخففونهما. انتهى.

وقال فيه ايضا : وقد تكرر في الحديث ذكر الحديبية بالتخفيف عند الأكثر ، وهي بئر بقرب مكة على طريق جدة دون مرحلة ثم أطلق على الموضع ، ويقال : نصفه في الحل ونصفه في الحرم. انتهى.

وبالجملة فإن الميقات هو ادنى الحل. والأفضل ان يكون من هذه المواضع : الحديبية أو الجعرانة أو التنعيم ، وهو ـ على ما في كتاب مجمع البحرين ـ موضع

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٩٢.

٤٥٦

قريب من مكة ، وهو أقرب أطراف الحل إلى مكة ، ويقال : بينه وبين مكة أربعة أميال ، ويعرف بمسجد عائشة. انتهى.

وفي بعض الحواشي : ان التنعيم مسجد زين العابدين عليه‌السلام ومسجد أمير المؤمنين عليه‌السلام ومسجد عائشة.

السابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجرد الصبيان من فخ ، وعلى ذلك دلت صحيحة أيوب بن الحر (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصبيان من اين نجردهم؟ فقال : كان ابي يجردهم من فخ». وفي الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام (٢) مثل ذلك.

وظاهر الأكثر ـ وبه صرح المحقق في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه ـ ان المراد بالتجريد هو الإحرام بهم ، وقد نص الشيخ وغيره على ان الأفضل الإحرام بهم من الميقات لكن رخص في تأخير الإحرام بهم حتى يصيروا الى فخ.

ومن ما يدل على الإحرام بهم من الميقات روايات : منها ـ صحيحة معاوية ابن عمار (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قدموا من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو الى بطن «مر» ثم يصنع بهم ما يصنع بالمحرم ، ويطاف بهم ويسعى بهم. الحديث».

وفي الموثق عن يونس بن يعقوب عن أبيه (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان معي صبية صغارا وانا أخاف عليهم البرد ، فمن اين يحرمون؟ فقال :

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٠٩ ، وفي الوسائل الباب ١٧ من أقسام الحج ، والباب ١٨ من المواقيت ، والباب ٤٧ من الإحرام.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ٤٠٩ ، وفي الوسائل الباب ١٧ من أقسام الحج ، والباب ١٨ من المواقيت ، والباب ٤٧ من الإحرام.

(٣) التهذيب ج ٥ ص ٤٠٩ وفي الوسائل الباب ١٧ من أقسام الحج.

(٤) الوسائل الباب ١٧ من أقسام الحج.

٤٥٧

ائت بهم العرج فليحرموا منها ، فإنك إذا أتيت العرج وقعت في تهامة. ثم قال : فان خفت عليهم فائت بهم الجحفة».

ونقل عن المحقق الشيخ على : ان المراد بالتجريد التجريد عن المخيط خاصة فيكون الإحرام بهم من الميقات كغيرهم ، لان الميقات موضع الإحرام فلا يتجاوزه أحد إلا محرما.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو ضعيف ، لمنع ما ادعاه من العموم بحيث يتناول غير المكلف ، وظهور التجريد في المعنى الذي ذكرناه. انتهى أقول : لا يخفى ان ما ذكره الشيخ علي (قدس‌سره) لا يخلو من قرب ، فان ظاهر لفظ التجريد يساعده. وما ادعاه (قدس‌سره) ـ من ظهور التجريد في معنى الإحرام ـ لا يخفى ما فيه ، فان التجريد لغة انما هو نزع شي‌ء من شي‌ء ، كما يقال : جردته عن ثيابه اي نزعتها عنه. والمعتبر في الإحرام أمور عديدة لا يدخل منها شي‌ء تحت هذا اللفظ سوى نزع المخيط. وما ادعاه من منع العموم لا يخلو من شي‌ء أيضا. ويؤيد ما ذكرناه تخصيص التأخير إلى فخ بمن كان على طريق المدينة ، فلو حج بهم على غيرها وجب الإحرام بهم من الميقات البتة. وبذلك صرح العلامة في القواعد فقال : ويجرد الصبيان من فخ ان حجوا على طريق المدينة وإلا فمن موضع الإحرام. قالوا : وفخ : بئر على نحو فرسخ من مكة.

المقام الثاني في الأحكام

وفيه أيضا مسائل :

الأولى ـ المشهور بين الأصحاب انه لا يجوز الإحرام قبل هذه المواقيت إلا في صورتين سيأتي التنبيه عليهما في المقام. اما عدم جواز الإحرام قبل

٤٥٨

الميقات في غير الصورتين المشار إليهما فهو من ما عليه الاتفاق نصا وفتوى.

ومن الاخبار الدالة على ذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي أو حسنته المتقدمة في أول المقام الأول (١) : «الإحرام من المواقيت خمسة وقتها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر ان يحرم قبلها ولا بعدها».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : من أحرم بالحج في غير أشهر الحج فلا حج له ، ومن أحرم دون الوقت فلا إحرام له».

وما رواه فيه ايضا عن ميسرة (٣) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) وانا متغير اللون ، فقال لي : من أين أحرمت؟ فقلت : من موضع كذا وكذا. فقال : رب طالب خير تزل قدمه. ثم قال : يسرك ان صليت الظهر في السفر أربعا؟ قلت : لا. قال : فهو والله ذاك».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن ميسر (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل أحرم من العقيق وآخر من الكوفة ، أيهما أفضل؟ فقال : يا ميسر أتصلي العصر أربعا أفضل أم تصليها ستا؟ فقلت : أصليها أربعا أفضل. فقال : فكذلك سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من غيرها».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن موسى بن القاسم عن حنان بن سدير (٥) قال : «كنت انا وابي وأبو حمزة الثمالي وعبد الرحيم القصير وزياد الأحلام حجاجا فدخلنا على ابي جعفر (عليه‌السلام) فرأى زيادا ـ وقد تسلخ

__________________

(١) ص ٤٣٥.

(٢) الوسائل الباب ١١ من أقسام الحج ، والباب ٩ من المواقيت.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١١ من المواقيت.

٤٥٩

جلده ـ فقال : من أين أحرمت؟ قال : من الكوفة. قال : ولم أحرمت من الكوفة؟ فقال : بلغني عن بعضكم انه قال : ما بعد من الإحرام فهو أعظم للأجر. فقال : ما بلغك هذا إلا كذاب. ثم قال لأبي حمزة : من أين أحرمت؟ قال : من الربذة. فقال : ولم؟ لأنك سمعت ان قبر ابي ذر بها فأحببت ان لا تجوزه؟ ثم قال لأبي ولعبد الرحيم : من أين أحرمتما؟ فقالا : من العقيق. فقال : أصبتما الرخصة واتبعتما السنة. ولا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت باليسير ، وذلك ان الله يسير يحب اليسير ويعطى على اليسير ما لا يعطى على العنف».

وما رواه في الكافي عن زرارة عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) في حديث قال : «ليس لأحد ان يحرم قبل الوقت الذي وقته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانما مثل ذلك مثل من صلى في السفر أربعا وترك الثنتين».

الى غير ذلك من الاخبار.

واما الصورتان المشار إلى استثنائهما آنفا فإحداهما ـ من أراد الإحرام بعمرة مفردة في رجب وخشي تقضيه ان هو أخر الإحرام حتى يصل الميقات ، وقد اتفقت الاخبار على جواز الإحرام له قبل الميقات لتقع عمرته في رجب ، وانه يدرك فضلها بذلك وان وقعت الأفعال في غيره ، وقد نقل في المعتبر والمنتهى اتفاق علمائنا على ذلك مع ان عبارة ابن إدريس الآتية ظاهرة في الخلاف ، ولعله اما مبني على الغفلة عن ملاحظة كلامه أو عدم الاعتداد بخلافه ، والظاهر الأول لنقلهم خلافه في مسألة النذر.

ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه الشيخ في الصحيح وثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من المواقيت.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من المواقيت.

٤٦٠