الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

وروى الكشي في كتاب الرجال (١) بأسانيد فيها الصحيح وغيره عن عبد الله بن زرارة قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : اقرأ مني على والدك السلام وقل له : إنما أعيبك دفاعا مني عنك ، فان الناس والعدو يسارعون الى كل من قربناه وحمدنا مكانه بإدخال الأذى في من نحبه ونقربه. الى ان قال : وعليك بالصلاة الستة والأربعين ، وعليك بالحج ان تهل بالإفراد وتنوي الفسخ ، إذا قدمت مكة وطفت وسعيت فسخت ما أهللت به وقلبت الحج عمرة وأحللت إلى يوم التروية ، ثم استأنف الإهلال بالحج مفردا إلى منى واشهد المنافع بعرفات والمزدلفة ، فكذلك حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهكذا أمر أصحابه ان يفعلوا ان يفسخوا ما أهلوا به ويقلبوا الحج عمرة. الى ان قال : هذا الذي أمرناك به حج التمتع ، فالزم ذلك ولا يضيقن صدرك. والذي أتاك به أبو بصير من صلاة احدى وخمسين ، والإهلال بالتمتع بالعمرة إلى الحج ، وما أمرناه به من ان يهل بالتمتع ، فلذلك عندنا معان وتصاريف لذلك ما يسعنا ويسعكم ، ولا يخالف شي‌ء من ذلك الحق ولا يضاره. والحمد لله رب العالمين».

وروى الشيخ في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (٢) قال : «سألت

__________________

(١) ص ١٢٥ و ١٢٦ ، وفي الوسائل الباب ١٤ من أعداد الفرائض من كتاب الصلاة ، والباب ٥ من أقسام الحج.

(٢) الوسائل الباب ٢٢ من الإحرام. والشيخ يرويه عن موسى بن القاسم عن صفوان بن يحيى عن معاوية بن عمار. راجع التهذيب ج ٥ ص ٧٩ ، فالمسند صحيح ولا وجه ظاهرا للترديد بين الصحيح والحسن. نعم روى الكليني في الكافي ج ٤ ص ٢٩٨ شطرا من الحديث عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن ابي عمير عن معاوية بن عمار ، ونقله في الوسائل في الباب ٥ من أقسام الحج

٤٠١

أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل لبى بالحج مفردا ثم دخل مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة؟ قال : فليحل وليجعلها متعة إلا ان يكون ساق الهدى فلا يستطيع ان يحل حتى يبلغ الهدي محله».

واستدل في المدارك على ذلك أيضا بالأخبار الدالة على أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بالعدول بعد الطواف والسعي ممن لم يسق الهدى (١) وظني ان هذه الاخبار ليست من محل البحث في شي‌ء ، وذلك فان الظاهر من تلك الأخبار ان هذا العدول على سبيل الوجوب ، حيث انه نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام بوجوب التمتع على أهل الآفاق ، ومبدأ النزول كان بعد فراغه من السعي ، ونزلت الآية في ذلك المقام بذلك ، فأمرهم بجعل ما طافوا وسعوا عمرة ـ حيث ان جملة من كان معه من أهل الآفاق ـ وان يحلوا ويتمتعوا بها الى الحج. فهو ليس من ما نحن فيه من جواز العدول وعدمه في شي‌ء.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان في المسألة صورا :

إحداها ـ ان يحرم بالحج مفردا ولا يخطر بباله العدول بالكلية إلا انه بعد ان طاف وسعى عرض له العدول الى التمتع. وهذا يقصر ثم يحل ما لم يلب بعد طوافه وسعيه. وعلى هذه الصورة تدل موثقة أبي بصير المتقدمة هنا وصحيحة صفوان بن يحيى المتقدمة هنا ايضا. وفي حكمه ما لو عرض له العدول بعد دخول مكة قبل الطواف والسعي ، فإنه يطوف ويسعى بنية الحج الذي أحرم به ثم يقصر ويحل ويجعلها عمرة.

__________________

رقم (٤) ثم قال بعد الحديث رقم (٦) : ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب وكذا كل ما قبله.

(١) الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

٤٠٢

وثانيها ـ ان ينوي العدول في نفسه من أول الإحرام بالحج ، ومع ذلك أحرم بالحج وقدم طوافه وسعيه ، فإنه يقصر ويحل ويجعلها عمرة ، وعلى ذلك تدل صحيحة عبد الله بن زرارة وأمر الإمام عليه‌السلام أباه زرارة بان يهل بالحج وينوي الفسخ. ونحوها موثقة إسحاق بن عمار.

واما ما ذكره في المدارك ـ حيث قال : ولا يخفى ان العدول انما يتحقق إذا لم يكن ذلك في نية المفرد ابتداء وإلا لم يقع الحج من أصله صحيحا ، لعدم تعلق النية بحج الافراد ، فلا يتحقق العدول عنه كما هو واضح. انتهى ـ

فليس بشي‌ء بعد تصريح الاخبار بجواز ذلك ، لما عرفت من الخبرين المذكورين ، ولما سيأتي من الاخبار الدالة على ذلك في موضعها ان شاء الله تعالى (١)

ومنها ـ صحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر (٢) قال : «قلت لأبي الحسن على بن موسى الرضا عليه‌السلام : كيف أصنع إذا أردت أن أتمتع؟ فقال : لب بالحج وانو المتعة ، فإذا دخلت مكة طفت بالبيت وصليت الركعتين خلف المقام وسعيت بين الصفا والمروة وقصرت ، فنسختها وجعلتها متعة».

واما ما تأوله في المدارك ـ من ان المراد بقوله : «لب بالحج وانو المتعة» يعني : يهل بحج التمتع وينوي الإتيان بعمرة التمتع قبله ـ فتعسف ظاهر فان الحج هنا بل حيث يطلق مع عدم القرينة انما يراد به حج الافراد كما لا يخفى على من له أنس بالاخبار ، وقوله هنا في آخر الخبر : «فنسختها وجعلتها متعة» ظاهر كالصريح في ما ذكرناه.

وبالجملة فإن ظهور هذا النوع من الاخبار أشهر من ان ينكر ، نعم يجب ان يكون مخصوصا بحال التقية كما ذكرنا.

__________________

(١) في الفائدة الرابعة من الفوائد الملحقة بنية الإحرام.

(٢) الوسائل الباب ٢٢ من الإحرام.

٤٠٣

وثالثها ـ ان يقصد البقاء على حجه ، وحينئذ فيجب عليه الإتيان بالتلبية بعد ركعتي الطواف أو السعي ، وعلى هذه الصورة تدل صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمتان (١).

ورابعها ـ ان يقصد البقاء على حجه ولكنه لم يأت بالتلبية عمدا أو جهلا أو نسيانا ، وهذا هو محل الخلاف المتقدم في أصل المسألة ، والأشهر الأظهر انقلاب حجه عمرة يتمتع بها الى الحج ، لدلالة الأخبار المتقدمة (٢) على حصول الإحلال بذلك أحب أو كره. ودلالة صحيحة معاوية بن عمار بالتقريب الذي قدمناه على صيرورة ما اتى به عمرة.

وكيف كان فينبغي ان يعلم ان جواز العدول للمفرد انما هو في ما إذا لم يتعين عليه الإفراد بأصل الشرع أو بنذر وشبهه ، لاستفاضة الاخبار (٣) ـ كما تقدم ـ بأن أهل مكة وحاضري المسجد الحرام لا يجزئهم التمتع يتوهم عن فرضهم ، وعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر وشبهه (٤) وما ربما يتوهم من العموم في بعض الروايات المتقدمة أو الإطلاق على وجه يتناول المعين وغيره فيجب تخصيصه بما ذكرنا من الأدلة.

وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني من ان تخصيص الحكم بمن لم يتعين عليه الافراد بعيد عن ظاهر النص.

__________________

(١) ص ٣٨٥ و ٣٨٦.

(٢) ص ٣٨٧ و ٣٨٨.

(٣) الوسائل الباب ٦ من أقسام الحج.

(٤) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية ٢٩ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ). وقوله تعالى في سورة المائدة الآية ٨٩ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ). وقوله تعالى في سورة النحل الآية ٩١ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ).

٤٠٤

ثم ان شيخنا المشار اليه ذكر ان هذه المتعة التي أنكرها الثاني. وقال في المعتبر : زعم فقهاء الجمهور ان نقل حج الافراد الى التمتع منسوخ (١).

أقول : الظاهر ان ما ذكروه هنا من النسخ ـ وتبعهم عليه أصحابنا فجعلوا التحريم الذي أحدثه عمر انما هو بالنسبة الى هذه المادة ـ تستر بالراح وإخماد لضوء المصباح لدفع الشنعة والافتضاح ، فان المفهوم من اخبارهم (٢) ـ كما نقلنا جملة منها في كتاب سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد ـ ان تحريم عمر انما هو لأصل حج التمتع لا لهذه الصورة ، ولكن علماءهم لما رأوا شناعة ذلك لتصريح القرآن العزيز بالمشروعية (٣) حاولوا تخصيص تحريمه بهذه الصورة وادعوا النسخ ليكون دليلا له ، مع ان كلمات عمر وتعليلاته للتحريم لا تلائم هذه الدعوى ولا أدلتها وكفاك قوله على المنبر كما استفاض وانتشر واشتهر (٤) : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلالا وانا محرمهما ومعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء» ولو لا ان البحث في ذلك خارج عن موضوع الكتاب لكنا أوردنا شطرا من تلك الاخبار لتعلم صدق ما قلناه وصحة ما ادعيناه ولكن من أحب ذلك فليرجع الى المجلد الثاني من الكتاب المذكور في الجزء الثاني عشر منه (٥).

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ٣ ص ٣٥٩.

(٢) ارجع الى التعليقة ٢ ص ٣٥٩.

(٣) بقوله تعالى في سورة البقرة ، الآية ١٩٥ : «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ...».

(٤) المحلى لابن حزم ج ٧ ص ١٠٧ ، وأحكام القران للجصاص ج ١ ص ٣٤٢ و ٣٤٥.

(٥) ومن أراد استيفاء البحث في هذا الموضوع بنحو يوافق تحقيق المصنف (قدس‌سره) فليرجع الى كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٣ ص ٢٧٦ الى ٢٨١ وص ٣٩٨ الى ٤٠١.

٤٠٥

البحث الخامس ـ لو بعد المكي عن اهله وحج حج الإسلام على ميقات أحرم منه وجوبا والكلام هنا في موضعين : الأول ـ في وجوب الإحرام عليه من الميقات ، وهذا من ما لا خلاف فيه ولا إشكال ، لأنه لا يجوز لقاصد مكة مجاوزة الميقات إلا محرما عدا ما استثني ، وقد صار هذا ميقاتا له باعتبار مروره عليه للأخبار الكثيرة :

ومنها ـ صحيحة صفوان بن يحيى عن ابي الحسن الرضا عليه‌السلام (١) «انه كتب اليه ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقت المواقيت لأهلها ولمن اتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا يجاوز الميقات إلا من علة».

الثاني ـ في النوع الذي يحرم به ، فالمشهور انه يجوز له التمتع ، ذهب اليه الشيخ في جملة من كتبه والمحقق في المعتبر ، والعلامة في المنتهى والتذكرة ، وغيرهم ونقل عن الحسن بن ابي عقيل عدم جواز التمتع له ، لانه لا متعة لأهل مكة لقول الله عزوجل (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢) والاخبار المتقدمة الصريحة في انه ليس لأهل مكة متعة (٣) والعلامة في المختلف اقتصر على نقل القولين ولم يرجح شيئا منهما في البين.

احتج الشيخ ومن تبعه بما رواه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج وعبد الرحمن بن أعين (٤) قالا : «سألنا أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن رجل من أهل مكة خرج الى بعض الأمصار ثم رجع فمر ببعض المواقيت التي وقت

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من المواقيت.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

(٣) ص ٣٢٢ الى ٣٢٤.

(٤) الوسائل الباب ٧ من أقسام الحج.

٤٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له ان يتمتع؟ قال : ما أزعم ان ذلك ليس له ، والإهلال بالحج أحب إلي. ورأيت من سأل أبا جعفر عليه‌السلام وذلك أول ليلة من شهر رمضان فقال له : جعلت فداك اني قد نويت ان أصوم بالمدينة ، قال : تصوم ان شاء الله تعالى. قال له : وأرجو ان يكون خروجي في عشر من شوال. فقال : تخرج ان شاء الله تعالى. فقال له : اني قد نويت ان أحج عنك أو عن أبيك فكيف اصنع؟ فقال له : تمتع. فقال له : ان الله ربما من علي بزيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارتك والسلام عليك ، وربما حججت عنك ، وربما حججت عن أبيك ، وربما حججت عن بعض إخواني أو عن نفسي ، فكيف اصنع؟ فقال له : تمتع. فرد عليه القول ثلاث مرات يقول : انى مقيم بمكة وأهلي بها ، فيقول : تمتع. فسأله بعد ذلك رجل من أصحابنا فقال : انى أريد ان أفرد عمرة هذا الشهر ، يعني : شوال؟ فقال له : أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل : ان أهلي ومنزلي بالمدينة ولي بمكة أهل ومنزل وبينهما أهل ومنازل؟ فقال له : أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل : ان لي ضياعا حول مكة وأريد ان اخرج حلالا فان كان ابان الحج حججت».

وللمحقق الشيخ حسن (طاب ثراه) في كتاب المنتقى كلام جيد على اثر هذا الحديث لا بأس بإيراده ، قال (قدس‌سره) بعد ذكره : قلت : لا يخفى ان قوله : «ورأيت من سأل أبا جعفر عليه‌السلام. الى قوله : وسأله بعد ذلك ...» من كلام موسى بن القاسم ، فهو حديث ثان عن ابى جعفر الثاني عليه‌السلام وأورده موسى على اثر حديث ابي الحسن موسى عليه‌السلام وقد تمسك جماعة من الأصحاب ـ منهم العلامة ـ بالخبر الأول في الحكم بجواز التمتع للمكي إذا بعد عن اهله ثم رجع ومر ببعض المواقيت ، وفهموا من الخبر ارادة التمتع في حج الإسلام واللازم من ذلك ان يكون الخروج موجبا لانتقال الفرض كالمجاورة ، لكنه هنا

٤٠٧

على وجه التخيير ، لقوله عليه‌السلام في الخبر : «والإهلال بالحج أحب الى» وكلام الشيخ في الاستبصار يعطي ذلك أيضا ، فإنه قال : ما يتضمن أول الخبر من حكم من يكون من أهل مكة وقد خرج منها ثم يريد الرجوع إليها وانه يجوز ان يتمتع فان هذا حكم يختص بمن هذه صفته لانه أجراه مجرى من كان من غير الحرم ويجري ذلك مجرى من اقام بمكة من غير أهل الحرم سنتين فان فرضه يصير الافراد والإقران وينتقل عنه فرض التمتع. وأضاف العلامة في المنتهى الى الخبر الأول شطرا من الثاني بتلخيص غير سديد واستدل بالمجموع على الحكم. وعندي في ذلك كله نظر للتصريح في حديث ابي جعفر عليه‌السلام ان مورد الحكم هو حج التطوع والخبر الأول وان كان مطلقا إلا ان في إيراد الثاني على أثره بصورة ما رأيت إشعارا بأن موسى بن القاسم فهم منهما اتحاد الموضوع ، مع معونة دلالة القرينة الحالية على ذلك ، فان بقاء المكي بغير حج إلى ان يخرج ويرجع من ما يستبعد عادة. والعجب ان العلامة جرد ما لخصه من الخبر الثاني عن موضع الدلالة على ارادة التطوع. وبما حررناه يظهر انه لا دلالة للحديثين على الجواز في حج الإسلام وانما يدلان عليه في التطوع. ولعل قوله في الأول : «والإهلال بالحج أحب الي» ناظر إلى مراعاة التقية لئلا ينافي ما وقع من التأكيد في الأمر بالتمتع في الخبر الثاني. انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو حسن رشيق قد طبق فيه مفصل التحقيق.

وللمحقق المولى الأردبيلي أيضا هنا تفصيل حسن يجب ان نذكره ، قال (عطر الله مرقده) بعد كلام في المقام : واما انه بأي شي‌ء يحرم وانه بحج التمتع أو غيره ففيه التأمل ، والظاهر انه يفعل ما يجب عليه ، فلو كان الحج واجبا عليه قبل ان يخرج من مكة يحرم بالإفراد أو القران بناء على تعينهما عليه ، واما لو لم يكن واجبا عليه فوجب عليه بان صار نائبا فيحتمل انه مثل الأول ، لما مر

٤٠٨

من ما يدل على وجوبهما على أهل مكة وان التمتع لمن لم يكن اهله حاضريها والفرض ان أهل هذا من حاضريها. وهو ظاهر. ويحتمل اعتبار المجاورة في غيرها مثل ما اعتبر في مجاورة مكة كما سيجي‌ء. والظاهر العدم ، لعدم النص ، وعدم صحة القياس ، وجواز التمتع له مطلقا مع اولوية الافراد ، لصيرورته بالخروج من غير أهل مكة ، ولكون إحرامه من موضع إحرام التمتع ، ولصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وعبد الرحمن بن أعين. ثم ساق الرواية الاولى وملخص الثانية المروية عن ابي جعفر عليه‌السلام وقال : ولكن يحتمل كونها في غير حجة الإسلام. الى ان قال : فحكم بعض الأصحاب بجواز التمتع له مطلقا محل التأمل.

أقول : ظاهر كلام المحقق الأول هو رد القول المشهور ومنع دلالة الرواية عليه ، وظاهر كلام المحقق الثاني هو التوقف.

وكيف كان فينبغي ان يعلم ان هذه الرواية لما هي عليه من الإجمال وتطرق الاحتمال لا تصلح لان تخصص بها الآية (١) والروايات المتقدمة الدالة جميعه على انه لا يجوز لأهل مكة التمتع (٢) فالقول بما عليه ابن ابي عقيل هو المعتمد.

وبذلك يظهر لك ضعف ما ذكره السيد في المدارك ، حيث قال بعد نقل مذهب ابن ابي عقيل والاستدلال له بالآية : وهو جيد لو لا ورود الرواية الصحيحة بالجواز. فان فيه ان الرواية وان كانت صحيحة كما هو مطمح نظره ومدار فكره إلا انها غير صريحة في حج الإسلام ، بل لو ادعى عدم الظهور ايضا لكان متجها ، فان بقاء المكي بغير حج الإسلام مدة كونه في مكة أبعد بعيد

__________________

(١) وهو قوله تعالى في سورة البقرة ، الآية ١٩٥ (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

(٢) الوسائل الباب ٦ من أقسام الحج.

٤٠٩

فكيف تصلح لان تخصص بها الآية والاخبار الواردة بمعناها.

بقي الكلام في حكمه عليه‌السلام بالتمتع في الخبر الثالث وهو قوله : «فسأله بعد ذلك رجل من أصحابنا. الى آخره» وتأكيده بذلك ، وهو يحتمل وجهين : أحدهما ـ ان يكون الكلام في الحج المندوب ويكون الحكم بالتمتع على سبيل الاستحباب ، وثانيهما ـ ان يكون الغالب في حال السائل الإقامة بالمدينة فيكون فرضه التمتع ، ولعل في قوله : «ان أهلي ومنزلي بالمدينة ولي بمكة أهل ومنزل» اشعارا بذلك.

والشيخ أورده في موضع آخر مستقلا معلقا عن موسى بن القاسم ، وفي المتن زيادة يختلف بها المعنى ، قال (١) : «أخبرني بعض أصحابنا انه سأل أبا جعفر (عليه‌السلام) في عشر من شوال ، فقال : اني أريد ان أفرد عمرة هذا الشهر؟ فقال له : أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل : ان المدينة منزلي ومكة منزلي ولي بينهما أهل وبينهما أموال؟ فقال له : أنت مرتهن بالحج. فقال له الرجل : فإن لي ضياعا حول مكة واحتاج الى الخروج إليها؟ فقال : تخرج حلالا وترجع حلالا الى الحج».

ووجه الاختلاف في المعنى بين الخبرين ان المستفاد من هذا المتن كون السؤال عن افراد العمرة في أشهر الحج للحاجة إلى الخروج قبل وقت الحج ، فأجابه عليه‌السلام بالمنع من افراد العمرة وان ما يريده ممكن متى قصد التمتع بها ، وهو ان يخرج بعد عمرة التمتع بغير إحرام ويرجع الى الحج قبل الشهر. وقد تقدمت الأخبار الدالة عليه (٢).

بقي الكلام في المنع من افراد العمرة في الصورة المذكورة ، فإنه خلاف ما دلت

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٣٦ وفي الوسائل الباب ٢٢ من أقسام الحج.

(٢) ص ٣٦٢ و ٣٦٣ و ٣٦٥.

٤١٠

عليه جملة من الاخبار ، وان كان قد ورد فيها ايضا ما يوافقه كما سيجي‌ء بيانه ان شاء الله (تعالى) في محله.

والشيخ في التهذيب حمل هذا الخبر على من أراد افراد العمرة بعد ان دخل فيها بقصد التمتع ، وجوز في الاستبصار الحمل على الاستحباب ايضا.

والمستفاد من الخبر الأول ان السؤال عن افراد العمرة في شوال فلما لم يأذن له ذكر احتياجه الى الخروج من مكة ، وقال : انه يؤخر الأمر الى ابان الحج فيأتي بهما معا في ذلك الوقت ، حذرا عن محذور الامتناع من الخروج مع الحاجة إليه بتقدير تقديم العمرة.

قال بعض أصحابنا : وكأنه وقع في هذا المتن إسقاط أوجب اختلاف لمعنى بين الخبرين.

هذا. وقد روى ثقة الإسلام في الكافي عن موسى بن القاسم في الصحيح (١) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : يا سيدي إني أرجو أن أصوم بالمدينة شهر رمضان. فقال : تصوم بها ان شاء الله تعالى. قلت : وأرجو ان يكون خروجنا في عشر من شوال ، وقد عود الله زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارتك ، فربما حججت عن أبيك وربما حججت عن ابي وربما حججت عن الرجل من إخواني وربما حججت عن نفسي ، فكيف اصنع؟ فقال : تمتع. فقلت : انى مقيم بمكة منذ عشر سنين؟ فقال : تمتع».

وهذا الخبر من ما يدل على أفضلية تمتع المكي الخارج عن بلده في غير حج الإسلام.

البحث السادس ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان من فرضه التمتع إذا أقام بمكة إقامة لا تقتضي تغير فرضه فإنه يجب عليه التمتع

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٥ من النيابة في الحج ، والباب ٤ من أقسام الحج.

٤١١

وانه يخرج الى الميقات مع الإمكان فيحرم منه بعمرة التمتع ، فان تعذر خرج الى أدنى الحل ، وان تعذر أحرم من مكة.

أقول : انه قد وقع لي تحقيق سابق في هذه المسألة لسؤال بعض الطلبة عنها ، وانا مثبتة هنا لإحاطته بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام بما لم يسبق اليه سابق من الاعلام :

وهذه صورته : قد قطع الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان المجاور في مكة (شرفها الله تعالى) مدة لم ينتقل حكمه وفرضه عن حكم الآفاقي لو أراد حج الإسلام ، فإنه يجب عليه الخروج الى الميقات والإحرام بعمرة التمتع منه ، فان تعذر خرج الى أدنى الحل ، فان تعذر أحرم من مكة. وظاهر كلامهم ان الحكم إجماعي لم يظهر فيه مخالف.

وهل الميقات الذي يجب الخروج اليه هو ميقات أهل أفقه أو أي ميقات كان؟ قد صرح بعضهم بالأول ، ونقل عن المحقق في المعتبر والنافع ، والعلامة في المنتهى والتذكرة ، وبه صرح الشيخ المفيد في المقنعة ، وهو ظاهر الشيخ في التهذيب حيث استدل له برواية سماعة الآتية قريبا ، ومنهم من صرح بالثاني كالشهيد الأول في الدروس ، والثاني في المسالك والروضة ، قال في المسالك : لا يتعين عليه الخروج الى ميقات بلده بل يجوز له الخروج الى اي ميقات. ونحوه كلامه في الروضة. وبعضهم أطلق كالمحقق في الشرائع ، والعلامة في القواعد والإرشاد. واحتمل السيد السند (قدس‌سره) في المدارك الاكتفاء بالخروج إلى أدنى الحل مطلقا ، واستحسنه في الكفاية ، ونقل عن المحقق الأردبيلي انه استظهره ايضا ، ونقل بعض فضلاء متأخري المتأخرين انه قول الحلبي.

وحينئذ فقد تلخص ان في المسألة أقوالا ثلاثة : الأول ـ القول بوجوب الخروج الى ميقات أهل بلده ، الثاني ـ الخروج الى اي ميقات أراد من غير

٤١٢

تعيين ، الثالث ـ الاكتفاء بالخروج إلى أدنى الحل.

واستدل للقول الأول برواية سماعة عن ابى الحسن عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن المجاور أله أن يتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال : نعم يخرج الى مهل أرضه فيلبي ان شاء».

أقول : ويمكن الاستدلال عليه بالأخبار الدالة على ان من دخل مكة ناسيا للإحرام أو جاهلا به فإنه يجب عليه الخروج الى ميقات أهل أرضه :

مثل صحيحة الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل ترك الإحرام حتى دخل الحرم؟ فقال : يرجع الى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه فإن خشي ان يفوته الحج فليحرم من مكانه ، فان استطاع ان يخرج من الحرم فليخرج».

وصحيحته الأخرى عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في رجل نسي أن يحرم حتى دخل الحرم؟ قال : قال ابي عليه‌السلام : عليه ان يخرج الى ميقات أهل أرضه فإن خشي ان يفوته الحج أحرم من مكانه ، فان استطاع ان يخرج من الحرم فليخرج ثم ليحرم».

وصحيحة معاوية بن عمار (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة كانت مع قوم فطمثت ، فأرسلت إليهم فسألتهم ، فقالوا : ما ندري أعليك إحرام أم لا وأنت حائض؟ فتركوها حتى دخلت الحرم. قال : ان كان عليها مهلة فلترجع الى الوقت فلتحرم منه ، وان لم يكن عليها وقت فلترجع الى ما قدرت عليه بعد ما تخرج من الحرم ...».

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من أقسام الحج ، والباب ١٩ من المواقيت.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٤ من المواقيت.

٤١٣

وجه التقريب فيها انها قد اشتركت في الدلالة على ان هؤلاء يجب عليهم الرجوع الى ميقات أهل بلادهم ، وما ذاك إلا من حيث ان الواجب على الآفاقي الخروج الى مهل أهل أفقه ، والظاهر ان خصوصية الجهل والنسيان غير معتبرة وان وقع السؤال عن ذلك.

ويدل على ذلك أيضا الأخبار الدالة على تقسيم المواقيت وتخصيص كل أفق بميقات على حدة (١) فإنه يجب بمقتضى ذلك على أهل كل أرض الإحرام من الميقات المعين لهم والمخصوص بهم ، سواء كان بالمرور عليه أو الرجوع اليه ، خرج منه من توطن مكة المدة الموجبة لانتقال حكمه ومن مر على غير ميقاته وبقي الباقي

واما ما استدل به للقول الثالث وهو الاكتفاء بأدنى الحل ـ من صحيحة الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : لأهل مكة ان يتمتعوا؟ فقال : لا ليس لأهل مكة ان يتمتعوا. قال : قلت : فالقاطنون بها؟ قال : إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكة ، فإذا أقاموا شهرا فان لهم ان يتمتعوا. قلت : من اين؟ قال : يخرجون من الحرم. قلت : من اين يهلون بالحج؟ فقال : من مكة نحوا من ما يقول الناس».

ورواية حماد (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أهل مكة أيتمتعون؟ قال : ليس لهم متعة. قلت : فالقاطن بها؟ قال : إذا أقام بها سنة أو سنتين صنع صنع أهل مكة. قلت : فان مكث أشهرا؟ قال : يتمتع. قلت : من اين؟ قال : يخرج من الحرم. قلت : من اين يهل بالحج؟ قال : من

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من المواقيت.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ٣٥ وفي الوسائل الباب ٩ من أقسام الحج.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أقسام الحج.

٤١٤

مكة نحو من ما يقول الناس» ـ.

فيجب حمله على تعذر الرجوع الى الميقات هنا.

ونظيره ايضا ما ورد في الناسي والجاهل اللذين لا خلاف بينهم في وجوب رجوعهما الى الميقات ، كما دلت عليه الاخبار المتقدمة ـ من انهما يحرمان من موضعهما أو من ادنى الحل : كما رواه في الكافي بسنده عن الكناني (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل جهل ان يحرم حتى دخل الحرم ، كيف يصنع؟ قال : يخرج من الحرم ثم يهل بالحج».

وما رواه فيه ايضا عن سورة بن كليب (٢) «انه قال لأبي جعفر عليه‌السلام : خرجت معنا امرأة من أهلنا فجهلت الإحرام فلم تحرم حتى دخلنا مكة ونسينا أن نأمرها بذلك؟ قال : فمروها فلتحرم من مكانها من مكة أو من المسجد».

ولا ريب ان إطلاق هذين الخبرين غير معمول عليه عندهم بل يجب تقييده بتعذر الخروج الى الميقات ، وحينئذ فيجب ايضا تقييد ذينك الخبرين بما ذكرنا من الاخبار الدالة على وجوب الرجوع الى الميقات.

واما ما استدل به في المدارك لهذا القول ايضا ـ من صحيحة عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «من أراد ان يخرج من مكة ليعتمر أحرم من الجعرانة أو من الحديبية أو ما أشبههما». ـ

فلا دلالة فيها ، لوجوب حملها على العمرة المفردة كما استفاضت به الاخبار ، وقد صرح بذلك هو نفسه ، فقال ـ في شرح قول المصنف (قدس‌سره) : والحج

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٤ من المواقيت.

(٣) الوسائل الباب ٢٢ من المواقيت.

٤١٥

والعمرة متساويان في ذلك ـ ما لفظه : ولو أراد المفرد أو القارن الاعتمار بعد الحج لزمهما الخروج إلى أدنى الحل فيحرمان منه ثم يعودان إلى مكة للطواف والسعي وتدل عليه روايات : منها ـ ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليه‌السلام. ثم ساق الرواية المذكورة إلى آخرها.

واما ما ربما يتوهم ـ من إطلاق العمرة فيها وشمولها لعمرة التمتع ـ فهو توهم ناشى‌ء من قصور التتبع للاخبار والتأمل فيها بعين الفكر والاعتبار ، إذ لا يخفى على من راجعها كملا وقلبها بطن الظهر وظهر البطن ان الحديبية والتنعيم والجعرانة ونحوها من المواضع التي في خارج الحرم انما جعلت مواقيت للعمرة المفردة ولحج الافراد من المجاورين ، واما حج التمتع وعمرته فلا تعلق لهما بهذه المواضع بالكلية ، وانما هذه شبهة استولت على هؤلاء الأفاضل من هذين الخبرين المتقدمين وما فيهما من الإجمال في هذا المجال فاحدثوا هذا القول في المسألة أو الاحتمال.

واما الاستدلال على ذلك بموثقة سماعة عن ابي عبد الله عليه‌السلام ـ (١) قال : «المجاور بمكة إذا دخلها بعمرة في غير أشهر الحج في رجب أو شعبان أو شهر رمضان أو غير ذلك من الشهور إلا أشهر الحج ، فإن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة ، من دخلها بعمرة في غير أشهر الحج ثم أراد ان يحرم فليخرج إلى الجعرانة فيحرم منها ثم يأتي بمكة ، ولا يقطع التلبية حتى ينظر الى البيت ، ثم يطوف بالبيت ويصلي الركعتين عند مقام إبراهيم (عليه‌السلام) ثم يخرج الى الصفا والمروة فيطوف بينهما ، ثم يقصر ويحل ، ثم يعقد التلبية يوم التروية». ـ

فالجواب عنه ما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقله الرواية ، حيث قال : بيان : «ثم أراد ان يحرم» يعني : بعمرة اخرى مفردة ، وذلك لان

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من أقسام الحج.

٤١٦

المعتمر بعمرة التمتع لا بد له ان يخرج الى أحد المواقيت البعيدة كما سبق. انتهى ولا ينافي ذلك كون هذه العمرة في أشهر الحج ، لتكاثر الاخبار بجواز العمرة المفردة في أشهر الحج وان لم يحج (١).

والتحقيق في المقام ان الأصل في هذه المسألة أخبار المواقيت (٢) فان المستفاد من جعله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل أناس ميقاتا مخصوصا هو وجوب الإحرام من ذلك الميقات بعينه ، فقضية جعله لأهل مكة ومن حولهم ميقاتا مخصوصا ـ وللبعيد الخارج عن ذلك مواقيت مخصوصة ، وتقسيم تلك المواقيت على أهل الآفاق وتخصيص أهل كل أفق بما يليهم ـ هو وجوب الإحرام على أهل كل قطر بما خصهم به وعينه لهم كيف كان وعلى اي نحو كان إلا ما استثنى ، وتخرج الأخبار الدالة على وجوب الرجوع على الناسي والجاهل والمقيم في مكة دون المدة المعينة (٣) شاهدة على ذلك ، فان الظاهر ان وجوب الرجوع في الجميع انما هو لما ذكرنا لا من حيث خصوصية الجهل أو النسيان أو الإقامة.

فإن قيل : ان الخصم يدعي أيضا تخصيص هذا العموم بالروايتين المتقدمتين (٤) الدالتين على الإحرام من ادنى الحل للمقيم بمكة ، كما خصصتموه بالصورتين المذكورتين.

قلنا : انا انما صرنا الى التخصيص بالصورتين المذكورتين لصراحة الأخبار الدالة عليهما ، مضافا الى اتفاق الأصحاب على ذلك ، وهذا مفقود في الموضع المدعى

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من العمرة.

(٢) الوسائل الباب ١ من المواقيت.

(٣) الوسائل الباب ١٤ و ١٩ من المواقيت ، والباب ٩ من أقسام الحج.

(٤) ص ٤١٤.

٤١٧

من كلا الوجهين ، فاما من جهة قول الأصحاب فظاهر ، إذ لا قائل بذلك صريحا لا قديما ولا حديثا غير مجرد الاحتمال الذي ذكره هؤلاء المشار إليهم وجعلوا المسألة من اجله مشكلة وان استحسنه بعض واستظهره آخر. واما دلالة الأخبار فقد عرفت ما فيه من جواز الحمل على العذر عن الوصول الى الميقات ، بعين ما يقال في الخبرين الواردين في الناسي والجاهل وانهما يحرمان من ادنى الحل أو محلهما ، مع انه لا قائل بالعمل بهما على إطلاقهما بل لا بد من تخصيصهما بالعذر ، فكذا في ما نحن فيه.

وبالجملة فالخصم ان سلم دلالة أخبار المواقيت على ما قلناه فلا مندوحة له ، اما عن الرجوع الى ما ذكرنا والموافقة على ما سطرنا ، واما عن القول بجواز الإحرام من ادنى الحل في المقيم والناسي والجاهل وان لم يكن عن عذر ، عملا بإطلاق الروايات المذكورة ، ولا أراه يقوله ، واما قوله بذلك في المقيم خاصة دون الفردين الآخرين فهو تحكم محض. وان لم يسلم دلالة أخبار المواقيت على ما ذكرنا من الاختصاص فالبحث معه ثمة ، ولا أراه ايضا يتجشمه ، إذ لا خلاف في ذلك نصا وفتوى في ما عدا الصورتين المشار إليهما آنفا.

وبما ذكرنا يظهر ان هذا القول ساقط عن درجة الاعتبار مخالف لصحاح الأخبار ، وان أوهمه الخبران المذكوران عند من لم يعط التأمل حقه في المقام ، وكفاك انه مخالف لما عليه كافة العلماء الاعلام قديما وحديثا ، وما نقل انه قول الحلبي فغير ثابت.

ومن الظاهر ان اتفاق الأصحاب ـ ولا سيما أصحاب الصدر الأول ـ من ما يؤذن بكون ذلك مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) فان مذهب كل إمام إنما يعلم بنقل شيعته واتباعه ، وأقوال أصحاب الصدر الأول وان لم تصل إلينا سوى عبارة الشيخ المفيد في المقنعة إلا ان من تقدمنا من الأصحاب الذين وصلت إليهم

٤١٨

الأقوال ممن تقدمهم ووقعت بأيديهم مصنفاتهم ـ ولا سيما من تصدى منهم لضبط الأقوال والخلاف في المسائل ـ لو اطلعوا على ما خالف هذا القول الذي اتفقت كلمتهم عليه لنقوله ، كما هي العادة الجارية والطريقة المستمرة في نقل الأقوال والتنبيه على الخلاف والوفاق في كل مسألة.

واما ما طول به بعض من مال الى هذا الاحتمال ممن قدمنا الإشارة إليه ـ من نقل أخبار أخر زعم دلالتها عليه ـ فليس فيه إلا تكثير السواد وإضاعة المداد ، وليس في التعرض لنقله ورده كثير فائدة.

واما من أطلق من أصحابنا الرجوع الى الميقات فالظاهر ان مراده ميقات أهل تلك البلاد ، فإنه المتبادر واللام فيه للعهد ، ولا سيما ان هؤلاء الذين قدمنا نقل الإطلاق عنهم في بعض كتبهم قد صرحوا بالتخصيص في الكتب الأخر ، وهي قرينة واضحة في حمل إطلاقهم في تلك الكتب على ما خصصوه في الكتب الأخر.

وربما استدل لهم بان كل واحد من المواقيت ميقات لمن اتى عليه بالنص الصحيح والإجماع ، وعند وصول المجاور الى الميقات يصدق عليه انه اتى عليه فيكون ميقاتا له بالعموم.

وبما رواه الكليني عن حريز عن من أخبره عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «من دخل مكة بحجة عن غيره ثم أقام سنة فهو مكي ، فإذا أراد ان يحج عن نفسه أو أراد ان يعتمر بعد ما انصرف من عرفة فليس له ان يحرم بمكة ولكن يخرج الى الوقت ، وكلما حول رجع الى الوقت».

أقول : لا يخفى عليك ما في هذين الدليلين العليلين من الضعف والقصور

اما الأول فلان محل البحث في المسألة ومطرح النزاع ان المجاور بمكة

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أقسام الحج.

٤١٩

دون المدة الموجبة لانتقال حكمه متى أراد الإحرام بعمرة التمتع ، فهل الواجب عليه الخروج الى مهل أرضه وميقات بلاده ، أو الخروج إلى أدنى الحل ، أو الى اي ميقات اتفق؟ فلا بد من قيام الدليل على أحد الثلاثة في تلك الحال ، وتعيين الفرض الواجب عليه حتى تجب المبادرة اليه ، ومقتضى كلام هذا القائل انه انما يجب عليه الإحرام بعد الوصول الى ذلك الميقات حتى يدخل في العموم الذي زعمه وهذا ليس من محل البحث في شي‌ء. وعلى اي تقدير فهو غير مجزئ ما لم يقم الدليل قبل الخروج على ان الواجب في تلك الحال هو الخروج الى اي ميقات كان.

واما ما أجاب به بعض الأفاضل عن ذلك ـ من ان المتبادر من الإتيان عليه هو المرور به ، وهو لا يصدق على الواصل الى أحد المواقيت ـ فظني انه لا يحسم مادة النزاع ، لان ما ذكره وان كان كذلك إلا ان باب المجاز واسع ، والمنع من الصدق على تقدير ذلك ممنوع ، بل الحق في الجواب هو ما ذكرناه.

واما الرواية المذكورة فهي لما عليه من الإجمال بل الاختلاف لا تصلح للاستدلال.

وهذه الرواية قد استدل بها الشيخ في التهذيب (١) للشيخ المفيد في ما ذهب اليه من وجوب الإحرام من ميقات أهل بلاده ، فإنه أورد موثقة سماعة المتقدمة وثنى بهذه الرواية بعدها.

والحق انه لا دلالة فيها على شي‌ء من هذين القولين بل ولا غيرهما في البين لعدم وضوح معناها ، إلا انه يمكن حملها على حج الافراد وعمرته ، لانه حكم فيها بان من اقام سنة فهو مكي ، ثم قال : «فإذا أراد ان يحج عن نفسه» يعني : بعد ان حج عن غيره في السنة التي دخل فيها بالحجة عن الغير ، وحينئذ يكون

__________________

(١) ج ٥ ص ٦٠.

٤٢٠