الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

قال : نعم ما لم يحرم».

ويمكن ان يستدل على ذلك أيضا بموثقة إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يحرم بالحج من مكة ثم يرى البيت خاليا فيطوف به قبل ان يخرج ، عليه شي‌ء؟ فقال : لا» بناء على ان قوله عليه‌السلام : «لا». راجع الى الطواف قبل الخروج.

ومن المحتمل ـ بل ربما كان أظهر ـ انما هو تعلقه بقوله : «عليه شي‌ء» فيكون فيه دلالة على جواز الطواف. وظاهر إطلاقه شامل للواجب والمندوب ، إلا انه يكون في الواجب مخالفا لما تقدم نقله عن الأصحاب ، فالاحتمال فيها قائم ، وان كان الأقرب حمل الطواف على الطواف المستحب وانه يجوز ذلك ، بناء على رجوع «لا» الى قوله : «عليه شي‌ء».

وتؤيده رواية عبد الحميد بن سعيد عن ابي الحسن الأول عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن رجل أحرم يوم التروية من عند المقام بالحج ثم طاف بالبيت بعد إحرامه وهو لا يرى ان ذلك لا ينبغي ، أينقض طوافه بالبيت إحرامه؟ فقال : لا ولكن يمضي على إحرامه».

هذا. واما ما يدل من الاخبار على جواز التقديم مع الضرورة ـ مضافا الى الاتفاق عليه ـ

فمنه ـ ما رواه الشيخ عن إسماعيل بن عبد الخالق (٣) قال : «سمعت

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٤٥٧ ، والفقيه ج ٢ ص ٢٤٤ ، وفي الوسائل الباب ١٣ من أقسام الحج رقم ٧ ، وهو جزء من حديث يتضمن فروعا ثلاثة.

(٢) الوسائل الباب ٨٣ من الطواف.

(٣) التهذيب ج ٥ ص ١٣١ ، وفي الوسائل الباب ١٣ من أقسام الحج.

٣٨١

أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا بأس ان يجعل الشيخ الكبير والمريض والمرأة والمعلول طواف الحج قبل ان يخرجوا إلى منى».

وما رواه عن يحيى الأزرق عن ابي الحسن عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن امرأة تمتعت بالعمرة إلى الحج ففرغت من طواف العمرة ، وخافت الطمث قبل يوم النحر ، أيصلح لها ان تعجل طوافها طواف الحج قبل ان تأتي منى؟ قال : إذا خافت ان تضطر الى ذلك فعلت».

والمعنى فيها : إذا خافت ان تضطر الى عدم التمكن من الطواف ـ كما لو لم يقم عليها جمالها ورفقتها ـ قدمت الطواف.

وما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن الحلبي في الصحيح عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «لا بأس بتعجيل الطواف للشيخ الكبير والمرأة تخاف الحيض قبل ان تخرج إلى منى».

وما رواه في الموثق عن إسحاق بن عمار (٣) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن المتمتع إذا كان شيخنا كبيرا أو امرأة تخاف الحيض ، تعجل طواف الحج قبل ان تأتي منى؟ فقال : نعم من كان هكذا يعجل».

وما رواه ايضا عن علي بن أبي حمزة (٤) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٣٩٨ ، وفي الوسائل الباب ٦٤ و ٨٤ من الطواف ، وفيهما «صفوان بن يحيى الأزرق» نعم في الطبع القديم من التهذيب ج ١ ص ٥٦١ في نسخة «صفوان عن يحيى الأزرق» وفي الوافي أيضا باب (ترتيب المناسك والإقامة على الحائض) «صفوان عن يحيى الأزرق».

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٣ من أقسام الحج.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٤٥٧ ، والتهذيب ج ٥ ص ١٣٢ ، وفي الوسائل الباب ٦٤ من الطواف.

٣٨٢

عن رجل يدخل مكة ومعه نساء قد أمرهن فتمتعن قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة ، فخشي على بعضهن الحيض؟ فقال : إذا فرغن من متعتهن وأحللن فلينظر إلى التي يخاف عليها الحيض فيأمرها فتغتسل وتهل بالحج من مكانها ثم تطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، فإن حدث بها شي‌ء قضت بقية المناسك وهي طامث. فقلت : أليس قد بقي طواف النساء؟ قال : بلى. قلت : فهي مرتهنة حتى تفرغ منه؟ قال : نعم. قلت : فلم لا يتركها حتى تقضي مناسكها؟ قال : يبقى عليها منسك واحد أهون عليها من ان تبقى عليها المناسك كلها مخافة الحدثان. قلت : ابى الجمال ان يقيم عليها والرفقة؟ قال : ليس لهم ذلك تستعدي عليهم حتى يقيم عليها حتى تطهر وتقضي مناسكها».

وربما أشعر هذا الخبر بعدم جواز تقديم طواف النساء وان كان في مقام الضرورة ، مع ان ظاهر فتوى الأصحاب على خلافه ، لان ظاهرهم الاتفاق على عدم جواز التقديم اختيارا ـ وقد تقدم ذلك في موثقة إسحاق بن عمار قريبا ـ وجواز ذلك مع الضرورة ،

لما رواه الشيخ عن الحسن بن علي عن أبيه (١) قال : «سمعت أبا الحسن الأول عليه‌السلام يقول : لا بأس بتعجيل طواف الحج وطواف النساء قبل الحج يوم التروية قبل خروجه إلى منى. وكذلك لا بأس لمن خاف امرا لا يتهيأ له الانصراف إلى مكة ان يطوف ويودع البيت ثم يمر كما هو من منى إذا كان خائفا».

وظاهر هذا الخبر ـ كما ترى ـ انما هو جواز التقديم اختيارا ، فهو غير دال على ما ادعوه ، بل هو الى الدلالة على خلاف ما ادعوه أقرب. والظاهر انهم حملوا إطلاق الخبر على العذر والضرورة جمعا بينه وبين موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ١٣٣ ، وفي الوسائل الباب ٦٤ من الطواف.

٣٨٣

الصريحة في انه لا يجوز تقديمه على الخروج إلى منى.

ثم ان هذا الخبر قد دل على انه مع عدم اقامة الجمال والرفقة تستعدي عليهم ، مع انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن إبراهيم بن عيسى الخزاز قال : «كنت عند ابي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه رجل ليلا فقال : أصلحك الله (تعالى) امرأة معنا حاضت ولم تطف طواف النساء؟ فقال : لقد سئلت عن هذه المسألة اليوم. فقال : أصلحك الله انا زوجها وقد أحببت أن أسمع ذلك منك. فأطرق كأنه يناجي نفسه وهو يقول : لا يقيم عليها جمالها ولا تستطيع ان تتخلف عن أصحابها ، تمضى وقد تم حجها».

وفي رواية الصدوق في الفقيه (٢) مثله بزيادة ونقصان لا يضر بالمعنى ، وفي آخره : «ثم رفع رأسه وقال : تمضي وقد تم حجها».

ويمكن ان تقيد هذه الرواية بالرواية الأولى.

البحث الرابع ـ قد عرفت من ما تقدم انه يجوز للمفرد والقارن تقديم الطواف الواجب والمستحب ، وان المتمتع يجوز له ذلك مع الضرورة ، إلا ان المشهور بين الأصحاب انه لا بد من تجديد التلبية بعد كل طواف لئلا يحل من إحرامه ، وقد صرح جمع منهم بفورية الإتيان بها بعد الطواف وصلاته أو السعي. وقيل : انما يحل المفرد دون السائق. وقيل : انما يحل بالنية. قال الشيخ

__________________

(١) ج ٤ ص ٤٥١ ، وفي الوسائل الباب ٥٩ من الطواف. وفيهما هكذا : «عن أبي أيوب الخزاز» وفي الفقيه ج ٢ ص ٢٤٥ هكذا : «عن أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز».

(٢) ج ٢ ص ٢٤٥ ، وفيه هكذا : «ثم رفع رأسه اليه وقال تمضي فقد تم حجها» وفي الوسائل الباب ٨٤ من الطواف. وليس فيه : «ثم رفع رأسه».

٣٨٤

في النهاية وموضع من المبسوط : ان القارن إذا دخل مكة وأراد الطواف تطوعا فعل إلا انه كلما طاف بالبيت لبى عند فراغه من الطواف ليعقد إحرامه بالتلبية ، لأنه لو لم يفعل ذلك دخل في كونه محلا وبطلت حجته وصارت عمرة. وقال في التهذيب : ان المفرد يحل بترك التلبية دون القارن. وعن الشيخ المفيد والمرتضى ان التلبية بعد الطواف تلزم القارن لا المفرد. ولم يتعرضا للتحلل بترك التلبية وعدمه. وعن ابن إدريس إنكار ذلك كله وان التحليل انما يحصل بالنية لا بالطواف والسعي ، وليس تجديد التلبية بواجب ولا تركها مؤثرا في انقلاب الحج عمرة. واليه ذهب المحقق ، والعلامة في المختلف والإرشاد ، والشيخ في موضع من المبسوط والجمل.

واما الاخبار المتعلقة بهذه المسألة فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اني أريد الجوار بمكة فكيف اصنع؟ قال : إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج الى الجعرانة فأحرم منها بالحج. فقلت له : كيف أصنع إذا دخلت مكة؟ أقيم بها الى يوم التروية ولا أطوف بالبيت؟ قال : تقيم عشرا لا تأتي الكعبة ، ان عشرا لكثير ، ان البيت ليس بمهجور ، ولكن إذا دخلت فطف بالبيت واسع بين الصفا والمروة. فقلت : أليس كل من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل؟ قال : انك تعقد بالتلبية. ثم قال : كلما طفت طوافا وصليت ركعتين فاعقد بالتلبية».

ومنها ـ صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال :

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٥ و ٤٦ ، وفي الوسائل الباب ١٦ من أقسام الحج. والشيخ يرويه عن الكليني.

(٢) الوسائل الباب ١٦ من أقسام الحج.

٣٨٥

«سألته عن المفرد للحج ، هل يطوف بالبيت بعد طواف الفريضة؟ قال : نعم ما شاء ، ويجدد التلبية بعد الركعتين ، والقارن بتلك المنزلة ، يعقدان ما أحلا من الطواف بالتلبية».

قال الشيخ : وفقه هذا الحديث انه قد رخص للقارن والمفرد ان يقدما طواف الزيارة قبل الوقوف بالموقفين ، فمتى فعلا ذلك فان لم يجددا التلبية يصيرا محلين ولا يجوز ذلك ، فلأجله أمر المفرد والسائق بتجديد التلبية بعد الطواف مع ان السائق لا يحل وان كان قد طاف ، لسياقه الهدي.

ومنها ـ ما رواه في الفقيه بسنده عن إسحاق بن عمار ، وفي التهذيب عن إسحاق المذكور عن ابي بصير (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يفرد الحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يبدو له ان يجعلها عمرة؟ قال : ان كان لبى بعد ما سعى قبل ان يقصر فلا متعة له».

ومنها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن رجل أفرد الحج فلما دخل مكة طاف بالبيت ، ثم اتى أصحابه وهم يقصرون فقصر ، ثم ذكر بعد ما قصر انه مفرد للحج؟ فقال : ليس عليه شي‌ء ، إذا صلى فليجدد التلبية».

ومنها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح إلى إبراهيم بن ميمون (٣)

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٠٤ ، والتهذيب ج ٥ ص ٩٠ ، وفي الوسائل الباب ٥ و ١٩ من أقسام الحج. وفي كليهما يرويه إسحاق عن ابي بصير. نعم في الوسائل الباب ١٩ من أقسام الحج نقله من الفقيه عن إسحاق بن عمار قال «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ...».

(٢) الوسائل الباب ١١ من التقصير.

(٣) الوسائل الباب ٩ من أقسام الحج.

٣٨٦

قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان أصحابنا مجاورون بمكة وهم يسألوني لو قدمت عليهم : كيف يصنعون؟ قال : قل لهم : إذا كان هلال ذي الحجة فليخرجوا الى التنعيم فليحرموا ، وليطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم يطوفوا فيعقدوا بالتلبية عند كل طواف. الحديث».

ومنها ـ ما رواه الشيخ والكليني عن زرارة في الموثق (١) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحل ، أحب أو كره».

ومنها ـ ما رواه عن يونس بن يعقوب في الموثق عن من أخبره عن ابي الحسن عليه‌السلام (٢) قال : «ما طاف بين هذين الحجرين ـ الصفا والمروة ـ أحد إلا أحل ، إلا سائق الهدي».

ومنها ـ ما رواه الشيخ وابن بابويه عن زرارة في الصحيح (٣) قال : «جاء رجل الى ابي جعفر عليه‌السلام وهو خلف المقام ، فقال : انى قرنت بين حجة وعمرة؟ فقال له : هل طفت بالبيت؟ فقال : نعم. قال : هل سقت الهدي؟ قال : لا. قال : فأخذ أبو جعفر عليه‌السلام بشعره ثم قال : أحللت والله». قال في الوافي : أريد بالأخذ بشعره التقصير ، أو تعليمه إياه.

ومنها ـ ما رواه الكليني عن معاوية بن عمار في الصحيح أو الحسن (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل لبى بالحج مفردا ، فقدم مكة وطاف بالبيت وصلى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام وسعى بين الصفا والمروة؟ قال : فليحل وليجعلها متعة ، إلا ان يكون ساق الهدي».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥ من أقسام الحج. والشيخ يرويه عن الكليني.

(٣) الوسائل الباب ٥ و ١٨ من أقسام الحج. ولم نقف على رواية الشيخ له.

(٤) الوسائل الباب ٥ من أقسام الحج.

٣٨٧

ومنها ـ ما رواه الصدوق عن زرارة في الموثق (١) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحل ، أحب أو كره ، إلا من اعتمر في عامه ذلك ، أو ساق الهدي وأشعره أو قلده».

والمستفاد من هذه الاخبار حصول التحلل بمجرد الطواف والسعي وان لم يقصر ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ودلت عليه الاخبار من توقف الإحلال على التقصير ، ولا يبعد تخصيص هذا الحكم بهذه الصورة فيحصل التحلل هنا بدون تقصير ، ويؤيد ذلك أخبار أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حج الوداع من لم يسق الهدي بالإحلال وان يجعلها عمرة (٢) مع انه لم يشتمل شي‌ء منها على الأمر بالتقصير ، وقضية البيان وتعليم الأحكام ذكره لو كان واجبا.

ولم أقف في كلام أحد من الأصحاب على طعن في هذه الاخبار بذلك بل ظاهرهم تلقيها بالقبول على إطلاقها.

ويمكن ان يقال : انه يجب تقييد إطلاقها بالأخبار الدالة على وجوب التقصير وانه لا يتحلل إلا به (٣) ولعله الأقرب. والاحتياط لا يخفى.

ومن هذه الاخبار يظهر ضعف قول ابن إدريس ومن تبعه ، والجواب عن ما احتج به العلامة في المختلف من انه دخل في الحج دخولا مشروعا فلا يجوز الخروج عنه إلا بدليل. وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) «إنما الأعمال بالنيات». فان الدليل

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٠٣ ، وفي الوسائل الباب ٥ من أقسام الحج. واللفظ موافق لنقل الوافي باب (أصناف الحج والعمرة وأفضلهما) وفي الفقيه والوسائل «وأشعره وقلده».

(٢) الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

(٣) الوسائل الباب ١ و ٣ من التقصير.

(٤) الوسائل الباب ٥ من مقدمة العبادات.

٣٨٨

على المدعى واضح من هذه الاخبار. وتوقف العمل على النية هنا لا معنى له بعد اتفاق الاخبار انه بالطواف والسعي أحل أحب أو كره ، وإذا كان الشارع قد حكم بالإحلال قهرا وان كره فأي مجال لاعتبار النية؟ وليس هذا الكلام إلا مجرد اجتهاد في مقابلة النصوص. وما نقلوه من الخبر مخصوص بغير موضع النزاع كما لا يخفى.

تنبيهات

الأول ـ قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك بعد ان نقل بعض هذه الروايات : قال الشهيد في الشرح بعد ان أورد هذه الروايات : وبالجملة فدليل التحلل ظاهر ، والفتوى مشهورة ، والمعارض منتف. وهو كذلك ، لكن ليس في الروايات دلالة على صيرورة الحجة مع التحلل عمرة ، كما ذكره الشيخ واتباعه. نعم ورد في روايات العامة التصريح بذلك ، فإنهم رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) انه قال : إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل ، وهي عمرة. انتهى.

أقول : ممن صرح بما ذكره الشيخ أيضا جده (قدس‌سرهما) في المسالك قال : ولو أخلا بالتلبية صار حجهما عمرة وانقلب تمتعا ، كما صرح به جماعة. انتهى.

وما ذكره ـ من المناقشة في صيرورة الحج عمرة ـ قد سبقه فيه شيخه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد.

__________________

(١) الظاهر انه نقل بالمعنى ، والمراد ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع من انه أمر أصحابه ممن لم يسق الهدي بان يحلوا بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ويجعلوا الذي قدموا به عمرة تمتع. راجع المغني ج ٣ ص ٢٧٧ وص ٣٩٨. وسنن ابي داود ج ٢ ص ١٥٤ وص ١٦٠.

٣٨٩

وفيه انه لا يخفى ان صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته المتقدمة (١) ـ وهي الثانية من روايتيه المتضمنة للسؤال عن رجل لبى بالحج مفردا ، فقدم مكة وطاف بالبيت وصلى ركعتين عند مقام إبراهيم (عليه‌السلام) وسعى بين الصفا والمروة فقال (عليه‌السلام) : فليحل وليجعلها متعة ـ عين ما دل عليه الخبر العامي الذي نقله ، غير انه ذكر في الخبر العامي لفظ : «وهي عمرة» وهو يرجع الى قوله في هذا الخبر : «وليجعلها متعة» فإن حاصل الخبر الأمر له بالإحلال وانه يجعلها عمرة يتمتع بها الى الحج ، بمعنى انه يعدل من حج الافراد الى التمتع ان لم يكن ساق الهدي ، فقد دل الخبر على انه مع الطواف والسعي وعدم العقد بالتلبية يبطل حجه ويصير ما اتى به من أفعال عمرة التمتع. اللهم إلا ان يكون قد فهم من كلام الشيخ ان مراده بالعمرة هنا يعني : العمرة المفردة ، إلا ان كلام الشيخ لا قرينة فيه على التخصيص بذلك. وايضا فكلامه في التنبيه الثاني من التنبيهات التي ذكرها صريح في ان المراد عمرة التمتع.

وبالجملة فإن ظاهر الخبر المذكور ـ كما عرفت ـ هو انه مع عدم العقد بالتلبية فالواجب عليه الإحلال ـ للأمر بذلك في الخبر الذي هو حقيقة في الوجوب ـ والعدول الى التمتع. والوجه في الوجوب ما تقدم من ان المتمتع متى أتى بالعمرة وان كان في حج مستحب فإنه يجب الإتيان بالحج بعدها ، لدخولها في الحج ، والحج من ما يجب بالشروع فيه وان كان في الأصل مستحبا.

ومن ما يؤيد ما ذكرناه الأخبار الواردة في حج الوداع المتضمنة لأمر الله (عزوجل) له صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يأمر الناس ممن لم يسق الهدى بالعدول الى التمتع بعد الطواف والسعي (٢).

__________________

(١) ص ٣٨٧.

(٢) الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

٣٩٠

والتقريب فيها ان أوامر الله (عزوجل) للوجوب اتفاقا إلا مع قيام قرينة عدمه ، وحينئذ فتدل هذه الاخبار بانضمام اخبار هذه المسألة إليها على ان كل من أحرم مفردا وطاف وسعى ولم يسق الهدي ولم يعقد إحرامه بالتلبية ، فإنه يصير محلا ويجب عليه ان يجعل ما اتى به عمرة يتمتع بها الى الحج. وهو عين ما دلت عليه صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة.

ولا ينافي ذلك الأخبار المتقدمة الدالة على ان كل من طاف بالبيت وسعى أحل أحب أو كره ، حيث انها ربما دلت على بطلان الحج خاصة ، واما انقلابه عمرة فلا ، لأنا نقول : غاية هذه الاخبار ان تكون مطلقة بالنسبة إلى صيرورة حجه بعد الإحلال عمرة ، ومقتضى القاعدة حملها على الاخبار التي ذكرناها وتقييد إطلاقها بها ، فلا منافاة.

الثاني ـ قال السيد السند (طاب ثراه) في المدارك : الظاهر ان المراد بالنية ـ في قول المصنف ومن قال بمقالته : ان المفرد لا يحل إلا بالنية ـ نية العدول إلى العمرة ، والمعنى ان المفرد لا يتحلل قبل إكمال أفعال الحج إلا بنية العدول إلى العمرة فيتحلل مع العدول بإتمام أفعالها. وعلى هذا فلا يتحقق التحلل بالنية إلا في موضع يسوغ فيه العدول إلى العمرة. وذكر المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في حواشيه ان المراد بالنية نية التحلل بالطواف. ثم قال : ان اعتبار النية لا يكاد يتحقق ، لان الطواف منهي عنه إذا قصد به التحلل ، فيكون فاسدا ، فلا يعتد به في كونه محللا ، لعدم صدق الطواف الشرعي حينئذ. ويتوجه عليه ايضا ان اعتبار النية لا دليل عليه أصلا ، بل العمل بالروايات المتضمنة للتحلل بترك التلبية يقتضي حصول التحلل بمجرد الترك ، وإطراحها يقتضي عدم التحلل بالطواف وان نوى به التحلل مع انتفاء نية العدول كما هو واضح.

ثم قال (قدس‌سره) : الثاني ـ حيث قلنا بانقلاب الحج عمرة فيجب الإتيان

٣٩١

بأفعالها ، قال المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في حواشي القواعد : وهل يحتاج الى طواف العمرة أم لا؟ وجهان كل منهما مشكل ، اما الأول فلأنه لو احتيج اليه لم يكن لهذا الطواف أثر في الإحلال. وهو باطل. واما الثاني فلان اجزاءه عن طواف العمرة بغير نية أيضا معلوم البطلان. وهذا الاشكال انما يتوجه على المعنى الذي ذكره ، اما على ما ذكرناه فلا ورود له. انتهى.

أقول : الظاهر هو ما استظهره (قدس‌سره) في معنى النية ، لأن هذا هو الذي يقع في مقام العدول الذي جوزه الأصحاب ودلت عليه الاخبار ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى.

واما ما نقله عن المحقق الشيخ علي (نور الله تعالى مرقده) فهذه صورة عبارته في شرحه على القواعد ، حيث قال بعد نقله القولين واختياره القول المشهور وطعنه في دليل القول الآخر : على ان اعتبار النية من ما لا يكاد يتحقق ، لان الطواف منهي عنه إذا قصد به التحلل ، فيكون فاسدا ، فلا يعتد به في كونه محللا ، لعدم صدق حصول الطواف حينئذ. والرواية بالفرق بين القارن والمفرد ضعيفة. فالأصح عدم الفرق. لكن على هذا القول لو تركا التلبية فالذي يلزمهما في الرواية وعبارة الشيخ ان حجهما يصير عمرة فينقلب تمتعا. وفي رواية أبي بصير (١) ان المفرد إذا نقل حجه الى التمتع فطاف ثم لبى بطلت متعته. وهي مبنية على ان بين الطواف والتلبية منافاة كما ان بين الطواف والإحرام منافاة ، فكما لا يبقى هذا مع الآخر كذا العكس ، وكما يصير هناك الحج افرادا كذا يصير في مسألتنا هذه تمتعا. فعلى هذا هل يحتاج الى طواف آخر للعمرة أم لا؟ كل منهما مشكل اما الأول فلأنه لو احتيج اليه لم يكن لهذا الطواف أثر في الإحلال وهو باطل.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ و ١٩ من أقسام الحج.

٣٩٢

واما الثاني فلان اجزاءه عن طواف العمرة بغير نية أيضا معلوم البطلان. انتهى.

وحاصل كلام المحقق المذكور انه حيث فسر النية التي لا يحل إلا بها بناء على ذلك القول بأنها نية التحلل بالطواف ـ وأورد عليه بأنه لا يكاد يتحقق على هذا التقدير ، لان الطواف منهي عنه إذا قصد به التحلل ـ حصل له الإشكال في صورة انقلاب حجه الى التمتع في انه هل يحتاج الى طواف آخر أم لا؟ اما في صورة احتياجه الى الطواف فلانه يجب ان لا يكون له أثر في هذا الإحلال ـ بمعنى انه لا يقع هذا الطواف إلا بعد حصول الإحلال من الإحرام المتقدم ـ ليكون هذا الطواف ابتداء للعمرة التي يريد التمتع بها ، والحال انه لم يحصل الإحلال بذلك الطواف السابق ، لبطلانه متى قصد به التحلل كما ذكره أولا ، فلا بد ان يكون لهذا الطواف أثر في ذلك ، هذا خلف. واما في صورة عدم الاحتياج اليه والاكتفاء بالطواف الأول فإنه يلزم منه الاجزاء عن طواف العمرة من غير نية كونه طواف العمرة ، لأنه انما اتى به أولا بنية كونه للحج.

وحاصل كلام السيد (عطر الله تعالى مرقده) هو انه لما قدم ان غاية ما يستفاد من النصوص بطلان ما فعله بترك التلبية ولزوم كونه محلا ، واما انه يصير حجه عمرة فلا لعدم الدليل عليه ، فعلى هذا إذا قلنا بانقلاب حجه عمرة فإنه يجب عليه الإتيان بأفعال العمرة.

والى ما ذكرناه وأوضحناه من التفصيل اشارة السيد في آخر كلامه بقوله : وهذا الاشكال انما يتوجه على المعنى الذي ذكره ، اما على ما ذكرناه فلا ورود له.

وأنت خبير بما في الكلامين معا من النظر الظاهر كما لا يخفى على الخبير الماهر ، لما قدمنا بيانه من دلالة صحيحة معاوية بن عمار (١) على انقلاب الحج

__________________

(١) ص ٣٨٧.

٣٩٣

عمرة وانه يتمتع بها الى الحج ، واعتضادها باخبار حج الوداع.

وبه يظهر ان ما ذكره المحقق المذكور في صورة عدم الاحتياج الى الطواف ـ من انه يلزم اجزاؤه عن طواف العمرة بغير نية وانه معلوم البطلان ـ ليس في محله ، فإن أخبار حج الوداع التي أشرنا إليها قد دلت على اجزاء الطواف الأول الذي أوقعه بنية الحج عن الطواف للعمرة ، فإنه لم يذكر في شي‌ء من تلك الاخبار انهم أعادوا الطواف بعد أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بالإحلال من حجهم وجعله عمرة. على ان نظائر هذا الموضع في العبادات غير عزيز ، ومنه من صام يوم الشك بنية كونه من شعبان ثم ظهر كونه من رمضان ، فإنه يجزئ عنه مع ان النية إنما وقعت عن صوم شعبان. ومن ذكر في أثناء صلاة لاحقة فوت سابقة ، فإنه يعدل إليها ولو قبل التسليم بل بعده. ونحو ذلك من ما أوجب الشارع نقله الى خلاف ما افتتح عليه.

الثالث ـ قال السيد السند في المدارك : المستفاد من الروايات المتقدمة توقف البقاء على الإحرام على التلبية بعد ركعتي الطواف ، وعلى هذا فتكون التلبية مقتضية لعدم التحلل ، لا ان التحلل يتحقق بالطواف ثم ينعقد الإحرام بالتلبية كما توهمه بعض المتأخرين. وذكر الشارح ان محل التلبية بعد الطواف ولم نقف له على مستند. انتهى.

أقول : لا يخفى ان المستفاد من الروايات انما هو القول الثاني الذي نسب صاحبه الى التوهم دون ما ذكره (طاب ثراه) :

ومنها ـ حسنة معاوية بن عمار التي قدمها في كلامه وهي الاولى من روايتيه المتقدمتين في كلامنا (١) لقوله فيها : «يعقدان ما أحلا من الطواف بالتلبية». فإنه ظاهر في كونهما قد أحلا بالطواف ولكن يعقدان ما أحلاه بالتلبية.

__________________

(١) ص ٣٨٥ و ٣٨٦.

٣٩٤

وكذا قوله في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي قدمها في كلامه ايضا (١) لما قال له السائل : «أليس كل من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل؟ فقال عليه‌السلام : انك تعقد بالتلبية». فإنه في معنى التقرير له على ما ذكره من الإحلال ، لكن أخبره بأنك تعقد ذلك بعد الإحلال بالتلبية. ثم قال له : «كلما طفت طوافا وصليت ركعتين فاعقد بالتلبية» وقضية العقد حصول التحلل قبل ذلك ، إذ لا معنى لعقد شي‌ء معقود.

وسيأتي قريبا (٢) ان شاء الله (تعالى) في صحيحتي عمر بن أذينة وزرارة ما هو صريح في ما قلناه.

ومن ما يعضد ذلك أيضا الأخبار المتقدمة (٣) الدالة على انه ما طاف بالبيت والصفا والمروة أحد إلا أحل أحب أو كره ، فإنها صريحة في حصول الإحلال بذلك ، اتى بالتلبية أم لم يأت ، غاية الأمر أنه إذا اتى بها عقد ما أحله كما دلت عليه الاخبار المتقدمة.

وبمثل ما ذكره في المدارك صرح المحقق المولى الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث قال : ويفهم من قوله : «ولا يفتقر. الى آخره» انه حصل التحلل فلا بد من التلبية لعقد الإحرام ، وذلك غير واضح وان كان ظاهر الاخبار ذلك كما أشرنا إليه ، لأن الظاهر ان المراد انه يحصل التحلل بترك التلبية وهي مانعة عنه ، وهو المراد بالعقد بالتلبية ولو كان مجازا ، لا انه يحصل إحرام مجدد كما هو الظاهر من كلام الأصحاب ، وليس مرادهم ، لانه ليس بإحرام بالحج ولا بالعمرة ، لسبق بعض عمل الحج وعدم فعل العمرة ، وهو ظاهر مع حصر الإحرام في إحرامهما. ولانه ما ذكر له وقت ولا ميقات. ولانه ما ذكر له نية ، بل وما قال به أحد على

__________________

(١) ص ٣٨٥.

(٢) ٣٩٦ و ٣٩٧.

(٣) ص ٣٨٧ و ٣٨٨.

٣٩٥

الظاهر. مع انه لا بد في العبادات كلها من النية على ما قرروه ، ولا نية هنا ، لأن النية الأولى قد ارتفعت ، فإنها كانت للإحرام وقد أحل وخرج منه. الى آخر كلامه (زيد في إكرامه).

أقول : لا مانع من انه يكون بالطواف قد أحل ـ كما دلت عليه ظواهر الاخبار ـ وان هذه التلبية انما هي لتجديد الإحرام الأول لا لإنشاء إحرام جديد كما توهمه وسجل به ، ولا استبعاد في ذلك بعد دلالة النصوص عليه وقول معظم الأصحاب به كما اعترف به ، فلا يحتاج الى تجوز في الاخبار ولا تأويل لكلام الأصحاب.

الرابع ـ قد عرفت من ما تقدم اتفاق الاخبار وكلمة جمهور الأصحاب على العقد بالتلبية بعد الطواف والسعي وان الحج صحيح.

إلا انه روى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن على المشهور عن عمر بن أذينة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) : «انه قال في هؤلاء الذين يفردون الحج ، إذا قدموا مكة وطافوا بالبيت أحلوا ، وإذا لبوا أحرموا ، فلا يزال يحل ويعقد حتى يخرج إلى منى بلا حج ولا عمرة».

وظاهر هذا الحديث بل صريحه هو بطلان الحج بذلك ، وان تلك الأخبار الواردة بذلك انما خرجت مخرج التقية وان اشتهر الحكم بها بين الأصحاب

قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل هذا الخبر : بيان ـ كانوا يقدمون الطواف والسعي على مناسك منى (٢) وربما يكررون ، فحكم ببطلان

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من أقسام الحج ، والباب ٤٤ من الإحرام.

(٢) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٣ ص ٤٠٥ قال في إحرام الحج : ولا يسن ان يطوف بعد إحرامه. قال ابن عباس : لا أرى لأهل مكة ان يطوفوا بعد ان يحرموا بالحج ولا ان يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا

٣٩٦

حجهم بذلك ، وذلك لان طواف البيت للحاج وسعيه موجب للإحلال لأنهما آخر الأفعال ، فإذا طاف قبل الإتيان بمناسك منى فقد أحل من حجه قبل تمامه ، فإذا جدد التلبية فقد أحرم إحراما آخر ، فان لم يطف بعد ذلك فقد بقي حجه بلا طواف ، فلا حج ولا عمرة له ايضا ، لعدم نيته لها وعدم إتمامه إياها ، لأنه لم يأت بالتقصير بعد ، فقد خرج منها قبل كمالها فبطلت ، ثم إذا كرر الطواف والتلبية فقد كرر الحل والعقد. انتهى كلامه.

وقال ايضا بعد نقل كلام الشيخ المتقدم في فقه حسنة معاوية بن عمار : أقول : قد مضى ان من يفعل ذلك فلا حج له ولا عمرة ، فالصواب ان يحمل هذا الحديث على التقية.

أقول : ومن ما يؤيد ما ذكره من الحمل على التقية ما رواه الشيخ في التهذيب (١) في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال : «قلت له : ما أفضل ما حج الناس؟ فقال : عمرة في رجب وحجة مفردة في عامها.

__________________

وهذا مذهب عطاء ومالك وإسحاق. وان طاف بعد إحرامه ثم سعى لم يجزئه عن السعي الواجب. وهو قول مالك. وقال الشافعي : يجزئه. وفعله ابن الزبير ، واجازه القاسم بن محمد وابن المنذر ، لانه سعى في الحج مرة فأجزأه ، كما لو سعى بعد رجوعه من منى. ثم استدل لما اختاره من عدم المشروعية بما ورد في حديث حجة الوداع من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه ان يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى. وبحديث عن عائشة. ثم قال : ولو شرع لهم الطواف قبل الخروج لم يتفقوا على تركه.

(١) ج ٥ ص ٣١ ، وفي الوسائل الباب ٤ و ٥ و ٢٢ من أقسام الحج ، والباب ٣ من العمرة. واللفظ : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ...».

٣٩٧

فقلت : فما الذي يلي هذا؟ قال : المتعة. قلت : فكيف يتمتع؟ قال : يأتي الوقت فيلبي بالحج ، فإذا اتى مكة طاف وسعى وأحل من كل شي‌ء ، وهو محتبس وليس له ان يخرج من مكة حتى يحج. قلت : فما الذي يلي هذا؟ قال القران ، والقران ان يسوق الهدي. قلت : فما الذي يلي هذا؟ قال : عمرة مفردة ويذهب حيث شاء ، فإن أقام بمكة إلى الحج فعمرته تامة وحجته ناقصة مكية. قلت : فما الذي يلي هذا؟ قال : ما يفعل الناس اليوم ، يفردون الحج ، فإذا قدموا مكة وطافوا بالبيت أحلوا ، وإذا لبوا أحرموا ، فلا يزال يحل ويعقد حتى يخرج إلى منى بلا حج ولا عمرة».

وسياق الخبر ـ كما ترى ـ انما هو في ما يفعله العامة ، والسؤال انما هو عن أفضل ما هو المعروف بينهم ، وهذا الترتيب لا يوافق أخبارنا ولا يجري على مذهبنا وبالجملة فالصحيحان المذكوران صريحان في كون تقديم الطواف وعقده بالتلبية انما هو مذهب العامة (١) وانه موجب لبطلان الحج ، لقوله عليه‌السلام فيهما : «فيخرجون إلى منى بلا حج ولا عمرة».

وأنت خبير بما فيه من الاشكال والداء العضال ، ومقتضاهما حمل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة ان حمل الطواف المقدم فيها على الطواف الواجب ـ وحسنة معاوية بن عمار المتضمنتين لعقد الإحرام بالتلبية ونحوهما من ما في معناهما ـ على التقية مع فتوى معظم الأصحاب بذلك ، بل الأخبار الدالة على جواز تقديم الطواف للمفرد والقران وقد تقدمت في أول البحث الثالث ، فإنه متى كان من طاف

__________________

(١) في المغني ج ٣ ص ٤٣٠ : وممن قال يلبي حتى يرمي الجمرة ابن مسعود وابن عباس وميمونة. الى ان قال : وروي عن سعد بن ابي وقاص وعائشة : يقطع التلبية إذا راح الى الموقف. الى آخر كلامه في نقل الأقوال.

٣٩٨

وسعى أحل وبطل حجه وان العقد بالتلبية لا يفيد فائدة ، فكيف خرجت هذه الاخبار عنهم (عليهم‌السلام) مصرحة بالجواز ، وان تقديمه وتأخيره سواء في صحة الحج؟ وحملها على التقية كما هو ظاهر الصحيحين المتقدمين مشكل.

والعجب من المحدث الكاشاني أنه ظن انحصار المنافاة في صحيحتي عبد الرحمن ومعاوية ولم يتنبه للمنافاة ايضا للأخبار المذكورة حيث انه قال بمضمونها في كتبه ، ووجه المنافاة فيها ظاهر ، لأن صحيحتي عمر بن أذينة وزرارة صريحتان في حصول الإحلال بالطواف وتؤيدهما الأخبار المتقدمة ، وحينئذ فإذا قدم طواف الحج وسعيه كما تضمنته هذه الاخبار ، فإن لبى بعده كما يقول الأصحاب لزم ما ذكره عليه‌السلام في الصحيحتين المشار إليهما ، وان لم يلب فكيف يجوز ان يعتد بهما في حجه والحال انه أحل بعدهما.

على ان المفهوم من الاخبار المتقدمة ان العقد بالتلبية انما هو لبقاء الإحرام الأول على حاله ، ولهذا ذهب في المدارك وقبله شيخه الأردبيلي ـ كما تقدم ـ الى ان الغرض من التلبية هو البقاء على الإحرام الأول فتكون التلبية مقتضية لعدم التحلل والمفهوم من هاتين الصحيحتين هو انه بالطواف يصير محلا ويخرج عن إحرامه السابق وبالتلبية يعقد إحراما جديدا ، ولهذا سجل عليهم انهم يخرجون إلى منى بغير حج ولا عمرة ، بالتقريب الذي قدمنا نقله عن المحدث الكاشاني. وهذان الخبران لا ينطبقان إلا على مذهب ابن إدريس المانع من تقديم الطواف كما تقدم.

وبالجملة فالمسألة عندي محل اشكال ، عجل الله (تعالى) بالفرج لمن على يديه حل هذه الرتج.

الخامس ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان المفرد متى قدم مكة جاز له العدول الى التمتع دون القارن.

٣٩٩

ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان بن يحيى (١) قال : «قلت لأبي الحسن على بن موسى عليه‌السلام : ان ابن السراج روى عنك أنه سألك عن الرجل يهل بالحج ثم يدخل مكة فطاف بالبيت سبعا وسعى بين الصفا والمروة ، فينفسخ ذلك ويجعلها متعة. فقلت له : لا؟ فقال : قد سألني عن ذلك فقلت له : لا ، وله ان يحل ويجعلها متعة وآخر عهدي بأبي انه دخل على الفضل ابن الربيع وعليه ثوبان وساج ، فقال له الفضل بن الربيع. يا أبا الحسن لنا بك أسوة ، أنت مفرد للحج وانا مفرد للحج. فقال له ابى : لا ما انا مفرد انا متمتع. فقال له الفضل بن الربيع : فلي الآن ان أتمتع وقد طفت بالبيت؟ فقال له ابي : نعم. فذهب بها محمد بن جعفر الى سفيان بن عيينة وأصحابه فقال لهم : ان موسى بن جعفر عليه‌السلام قال للفضل بن الربيع : كذا وكذا ، يشنع بها على ابى».

وروى الصدوق عن ابي بصير في الموثق (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يفرد الحج فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يبدو له ان يجعلها عمرة؟ فقال : ان كان لبى بعد ما سعى قبل ان يقصر فلا متعة له».

وروى الكليني والشيخ عنه عن إسحاق بن عمار في الموثق (٣) قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : ان أصحابنا يختلفون في وجهين من الحج ، يقول بعضهم : أحرم بالحج مفردا فإذا طفت بالبيت وسعيت بين الصفا والمروة فأحل واجعلها عمرة. وبعضهم يقول : أحرم وانو المتعة بالعمرة إلى الحج. اي هذين أحب إليك؟ قال : انو المتعة».

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٢ من الإحرام.

(٢) الوسائل الباب ٥ و ١٩ من أقسام الحج.

(٣) الوسائل الباب ٤ من أقسام الحج ، والباب ٢١ من الإحرام.

٤٠٠